الباحث القرآني
.
لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ الإلَهِيّاتِ والمَعادَ والجَزاءَ أرْدَفَها بِذِكْرِ أشْرَفِ الطّاعاتِ، وهي الصَّلاةُ، فَقالَ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ . وقَدْ أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ المُرادُ بِها الصَّلَواتُ المَفْرُوضَةُ.
وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الدُّلُوكِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما أنَّهُ زَوالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّماءِ، قالَهُ عُمَرُ وابْنُهُ وأبُو هُرَيْرَةَ وأبُو بَرْزَةَ وابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ والشَّعْبِيُّ وعَطاءُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ وأبُو جَعْفَرٍ الباقِرُ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، قالَهُ عَلِيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ وأُبِيُّ بْنُ كَعْبٍ، ورُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
قالَ الفَرّاءُ: دُلُوكُ الشَّمْسِ: مِن لَدُنْ زَوالِها إلى غُرُوبِها.
قالَ الأزْهَرِيُّ: ومَعْنى الدُّلُوكِ في كَلامِ العَرَبِ الزَّوالُ، ولِذَلِكَ قِيلَ لِلشَّمْسِ إذا زالَتْ نِصْفَ النَّهارِ: دالِكَةٌ، وقِيلَ لَها إذا أفَلَتْ: دالِكَةٌ، لِأنَّها في الحالَتَيْنِ زائِلَةٌ.
قالَ: والقَوْلُ عِنْدِي أنَّهُ زَوالُها نِصْفَ النَّهارِ لِتَكُونَ الآيَةُ جامِعَةً لِلصَّلَواتِ الخَمْسِ، والمَعْنى: أقِمِ الصَّلاةَ مِن وقْتِ دُلُوكِ الشَّمْسِ ﴿إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ فَيَدْخُلُ فِيها الظُّهْرُ والعَصْرُ وصَلاتا غَسَقِ اللَّيْلِ، وهُما العِشاءانِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ هَذِهِ خَمْسُ صَلَواتٍ.
وقالَ أبُو عُبِيدٍ: دُلُوكُها غُرُوبُها، ودَلَكَتْ بِراحٍ: يَعْنِي الشَّمْسَ أيْ: غابَتْ، وأنْشَدَ قُطْرُبٌ عَلى هَذا قَوْلَ الشّاعِرِ:
؎هَذا مَقامُ قَدَمَيْ رَباحْ دَبَّتْ حَتّى دَلَكَتْ بَراحْ
اسْمٌ مِن أسْماءِ الشَّمْسِ عَلى وزْنِ حَذامٍ وقَطامٍ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
؎مَصابِيحٌ لَيْسَتْ بِاللَّواتِي تَقُودُها ∗∗∗ نُجُومٌ ولا بِالآفِلاتِ الدَّوالِكِ
أيِ: الغَوارِبِ.
وغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِماعُ الظُّلْمَةِ.
قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: يُقالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ وأغْسَقَ: إذا أقْبَلَ بِظَلامِهِ، قالَ أبُو عُبَيْدٍ: الغَسَقُ سَوادُ اللَّيْلِ.
قالَ قَيْسُ بْنُ الرُّقَيّاتِ:
؎إنَّ هَذا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقا ∗∗∗ واشْتَكَيْتُ الهَمَّ والأرَقا
وقِيلَ: غَسَقُ اللَّيْلِ: مَغِيبُ الشَّفَقِ، ومِنهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
؎ظَلَّتْ تَجُودُ يَداها وهي لاهِيَةٌ ∗∗∗ حَتّى إذا جَعْجَعَ الإظْلامُ والغَسَقُ
وأصْلُ الكَلِمَةِ مِنَ السَّيَلانِ يُقالُ: غَسَقَتْ: إذا سالَتْ.
وحَكى الفَرّاءُ غَسَقَ اللَّيْلُ وأغْسَقَ، وظَلِمَ وأظْلَمَ، ودَجى وأدْجى وغَبِشَ وأغْبَشَ، وقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الغايَةِ أعْنِي قَوْلَهُ: ﴿إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ مَن قالَ: إنَّ صَلاةَ الظُّهْرِ يَتَمادى وقْتُها مِنَ الزَّوالِ إلى الغُرُوبِ، رُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ الأوْزاعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ وجَوَّزَهُ مالِكٌ والشّافِعِيُّ في حالِ الضَّرُورَةِ، وقَدْ ورَدَتِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ المُتَواتِرَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في تَعْيِينِ أوْقاتِ الصَّلَواتِ، فَيَجِبُ حَمْلُ مُجْمَلِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى ما بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ. فَلا نُطِيلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ انْتِصابُ ( قُرْآنَ ) لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلى الصَّلاةِ أيْ: وأقِمْ قُرْآنَ الفَجْرِ، قالَهُ الفَرّاءُ.
وقالَ الزَّجّاجُ والبَصْرِيُّونَ: انْتِصابُهُ عَلى الإغْراءِ أيْ: فَعَلَيْكَ قُرْآنَ الفَجْرِ.
قالَ المُفَسِّرُونَ: المُرادُ بِقُرْآنِ الفَجْرِ صَلاةُ الصُّبْحِ.
قالَ الزَّجّاجُ: وفي هَذِهِ فائِدَةٌ عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّلاةَ لا تَكُونُ إلّا بِقِراءَةٍ حَتّى سُمِّيَتِ الصَّلاةُ قُرْآنًا، وقَدْ دَلَّتِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلى أنَّهُ لا صَلاةَ إلّا بِفاتِحَةِ الكِتابِ، وفي بَعْضِ الأحادِيثِ الخارِجَةِ مِن مَخْرَجٍ حَسَنٍ: وقُرْآنٍ مَعَها، ووَرَدَ ما يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الفاتِحَةِ في كُلِّ رَكْعَةٍ، وقَدْ حَرَّرْتُهُ في مُؤَلَّفاتِي تَحْرِيرًا مُجَوَّدًا. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ أيْ: تَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ، كَما ورَدَ ذَلِكَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، (p-٨٣٨)وبِذَلِكَ قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ.
﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ﴾ ( مِن ) لِلتَّبْعِيضِ، وانْتِصابُهُ عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِمُضْمَرٍ أيْ: قُمْ بَعْضَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ، والضَّمِيرُ المَجْرُورُ راجِعٌ إلى القُرْآنِ، وما قِيلَ مِن أنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلى الإغْراءِ، والتَّقْدِيرُ عَلَيْكَ بَعْضَ اللَّيْلِ. فَبِعِيدٌ جِدًّا، والتَّهَجُّدُ مَأْخُوذٌ مِنَ الهُجُودِ.
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وابْنُ الأعْرابِيِّ: هو مِنَ الأضْدادِ؛ لِأنَّهُ يُقالُ: هَجَدَ الرَّجُلُ: إذا نامَ، وهَجَدَ: إذا سَهِرَ، فَمِنِ اسْتِعْمالِهِ في السَّهَرِ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎ألا زارَتْ وأهْلُ مِنًى هُجُودُ ∗∗∗ فَلَيْتَ خَيالَها بِمِنًى يَعُودُ
يَعْنِي مُنْتَبِهِينَ، ومِنِ اسْتِعْمالِهِ في النَّوْمِ قَوْلُ آخَرَ:
؎ألا طَرَقَتْنا والرِّفاقُ هُجُودُ ∗∗∗ فَباتَتْ بِعِلّاتِ النَّوالِ تَجُودُ
يَعْنِي نِيامًا.
وقالَ الأزْهَرِيُّ: الهُجُودُ في الأصْلِ هو النَّوْمُ بِاللَّيْلِ، ولَكِنْ جاءَ التَّفَعُّلُ فِيهِ لِأجْلِ التَّجَنُّبِ ومِنهُ تَأثَّمَ وتَحَرَّجَ: أيْ: تَجَنَّبَ الإثْمَ والحَرَجَ، فالمُتَهَجِّدُ مَن تَجَنَّبَ الهُجُودَ، فَقامَ بِاللَّيْلِ.
ورُوِيَ، عَنِ الأزْهَرِيِّ أيْضًا أنَّهُ قالَ: المُتَهَجِّدُ القائِمُ إلى الصَّلاةِ مِنَ النَّوْمِ هَكَذا حَكى عَنْهُ الواحِدِيُّ، فَقَيَّدَ التَّهَجُّدَ بِالقِيامِ مِنَ النَّوْمِ، وهَكَذا قالَ مُجاهِدٌ وعَلْقَمَةُ والأسْوَدُ فَقالُوا: التَّهَجُّدُ بَعْدَ النَّوْمِ.
قالَ اللَّيْثُ: تَهَجَّدَ: إذا اسْتَيْقَظَ لِلصَّلاةِ ( نافِلَةً لَكَ ) مَعْنى النّافِلَةِ في اللُّغَةِ الزِّيادَةُ عَلى الأصْلِ، فالمَعْنى أنَّها لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - نافِلَةٌ زائِدَةٌ عَلى الفَرائِضِ، والأمْرُ بِالتَّهَجُّدِ وإنْ كانَ ظاهِرُهُ الوُجُوبَ لَكِنَّ التَّصْرِيحَ بِكَوْنِهِ نافِلَةً قَرِينَةٌ صارِفَةٌ لِلْأمْرِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالنّافِلَةِ هُنا أنَّها فَرِيضَةٌ زائِدَةٌ عَلى الفَرائِضِ الخَمْسِ في حَقِّهِ، صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. ويَدْفَعُ ذَلِكَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ النّافِلَةِ، وقِيلَ: كانَتْ صَلاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً في حَقِّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ثُمَّ نُسِخَ الوُجُوبُ فَصارَ قِيامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا، وعَلى هَذا يُحْمَلُ ما ورَدَ في الحَدِيثِ أنَّها عَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، ولِأُمَّتِهِ تَطَوُّعٌ.
قالَ الواحِدِيُّ: إنَّ صَلاةَ اللَّيْلِ كانَتْ زِيادَةً لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - خاصَّةً لِرَفْعِ الدَّرَجاتِ، لا لِلْكَفّاراتِ؛ لِأنَّهُ غُفِرَ لَهُ مِن ذَنْبِهِ ما تَقَدَّمَ وما تَأخَّرَ، ولَيْسَ لَنا بِنافِلَةٍ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِنا إنَّما نَعْمَلُ لِكَفّارَتِها، قالَ: وهو قَوْلُ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ.
والحاصِلُ أنَّ الخِطابَ في هَذِهِ الآيَةِ وإنْ كانَ خاصًّا بِالنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ( ﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾ ) فالأمْرُ لَهُ أمْرٌ لِأُمَّتِهِ، فَهو شَرْعٌ عامٌّ، ومِن ذَلِكَ التَّرْغِيبُ في صَلاةِ اللَّيْلِ، فَإنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الأُمَّةِ، والتَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ نافِلَةً يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الوُجُوبِ، فالتَّهَجُّدُ مِنَ اللَّيْلِ مَندُوبٌ إلَيْهِ ومَشْرُوعٌ لِكُلَّ مُكَلَّفٍ.
ثُمَّ وعَدَهُ سُبْحانَهُ عَلى إقامَةِ الفَرائِضِ والنَّوافِلِ فَقالَ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ قَدْ ذَكَرْنا في مَواضِعَ أنَّ ( عَسى ) مِنَ الكَرِيمِ إطْماعٌ واجِبُ الوُقُوعِ. وانْتِصابُ ( مَقامًا ) عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِإضْمارِ فِعْلٍ، أوْ بِتَضْمِينِ البَعْثِ مَعْنى الإقامَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ انْتِصابُهُ عَلى الحالِ أيْ: يَبْعَثَكَ ذا مَقامٍ مَحْمُودٍ، ومَعْنى كَوْنِ المَقامِ مَحْمُودًا: أنَّهُ يَحْمَدُهُ كُلُّ مَن عَلِمَ بِهِ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في تَعْيِينِ هَذا المَقامِ عَلى أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ المَقامُ الَّذِي يَقُومُهُ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - لِلشَّفاعَةِ يَوْمَ القِيامَةِ لِلنّاسِ لِيُرِيحَهم رَبُّهم سُبْحانَهُ مِمّا هم فِيهِ، وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ، وحَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أكْثَرِ أهْلِ التَّأْوِيلِ.
قالَ الواحِدِيُّ: وإجْماعُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المَقامَ المَحْمُودَ هو مَقامُ الشَّفاعَةِ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المَقامَ المَحْمُودَ إعْطاءُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - لِواءَ الحَمْدِ يَوْمَ القِيامَةِ.
ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذا لا يُنافِي القَوْلَ الأوَّلَ؛ إذْ لا مُنافاةَ بَيْنَ كَوْنِهِ قائِمًا مَقامَ الشَّفاعَةِ وبِيَدِهِ لِواءُ الحَمْدِ.
القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المَقامَ المَحْمُودَ هو أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يُجْلِسُ مُحَمَّدًا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مَعَهُ عَلى كُرْسِيِّهِ. حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ فِرْقَةٍ، مِنهم مُجاهِدٌ، وقَدْ ورَدَ في ذَلِكَ حَدِيثٌ.
وحَكى النَّقّاشُ، عَنْ أبِي داوُدَ السِّجِسْتانِيِّ أنَّهُ قالَ: مَن أنْكَرَ هَذا الحَدِيثَ فَهو عِنْدَنا مُتَّهَمٌ، ما زالَ أهْلُ العِلْمِ يَتَحَدِّثُونَ بِهَذا الحَدِيثِ.
قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: مُجاهِدٌ وإنْ كانَ أحَدَ الأئِمَّةِ بِالتَّأْوِيلِ، فَإنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ مَهْجُورَيْنِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ، أحَدُهُما هَذا، والثّانِي في تَأْوِيلِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢، ٢٣] قالَ: مَعْناهُ تَنْتَظِرُ الثَّوابَ، ولَيْسَ مِنَ النَّظَرِ. انْتَهى. وعَلى كُلِّ حالٍ فَهَذا القَوْلُ غَيْرُ مُنافٍ لِلْقَوْلِ الأوَّلِ لِإمْكانِ أنْ يُقْعِدَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ هَذا المَقْعَدَ ويَشْفَعَ تِلْكَ الشَّفاعَةَ.
القَوْلُ الرّابِعُ: أنَّهُ مُطْلَقٌ في كُلِّ مَقامٍ يَجْلِبُ الحَمْدَ مِن أنْواعِ الكَراماتِ، ذَكَرَهُ صاحِبُ الكَشّافِ والمُقْتَدُونَ بِهِ في التَّفْسِيرِ، ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ الأحادِيثَ الصَّحِيحَةَ الوارِدَةَ في تَعْيِينِ هَذا المَقامِ المَحْمُودِ مُتَواتِرَةٌ، فالمَصِيرُ إلَيْها مُتَعَيِّنٌ، ولَيْسَ في الآيَةِ عُمُومٌ في اللَّفْظِ حَتّى يُقالَ: الِاعْتِبارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، ومَعْنى قَوْلِهِ: وهو مُطْلَقٌ في كُلِّ ما يَجْلِبُ الحَمْدَ، أنَّهُ عامٌّ في كُلِّ ما هو كَذَلِكَ، ولَكِنَّهُ يُعَبَّرُ عَنِ العامِّ بِلَفْظِ المُطْلَقِ، كَما ذَكَرَهُ في ذَبْحِ البَقَرَةِ، ولِهَذا قالَ هُنا.
وقِيلَ: المُرادُ الشَّفاعَةُ، وهي نَوْعٌ واحِدٌ مِمّا يَتَناوَلُهُ يَعْنِي لَفْظَ المَقامِ.
والفَرْقُ بَيْنَ العُمُومِ البَدَلِيِّ والعُمُومِ الشُّمُولِيِّ مَعْرُوفٌ، فَلا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ.
﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ( مُدْخَلَ صِدْقٍ، ومُخْرَجَ صِدْقٍ ) بِضَمِّ المِيمَيْنِ.
وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو العالِيَةِ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ بِفَتْحِهِما، وهُما مَصْدَرانِ بِمَعْنى الإدْخالِ والإخْراجِ، والإضافَةُ إلى الصِّدْقِ لِأجْلِ المُبالَغَةِ نَحْوَ: حاتِمُ الجُودِ، أيْ إدْخالًا يَسْتَأْهِلُ أنْ يُسَمّى إدْخالًا، ولا يَرى فِيهِ ما يَكْرَهُ.
قالَ الواحِدِيُّ: وإضافَتُهُما إلى الصِّدْقِ مَدْحٌ لَهُما، وكُلُّ شَيْءٍ أضَفْتَهُ إلى الصِّدْقِ فَهو مَدْحٌ.
وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى الآيَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ، يُرِيدُ إدْخالَ المَدِينَةِ والإخْراجَ مِن مَكَّةَ واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وقِيلَ: المَعْنى: أمِتْنِي إماتَةَ صِدْقٍ وابْعَثْنِي يَوْمَ القِيامَةِ مَبْعَثَ صِدْقٍ، وقِيلَ: المَعْنى: أدْخِلْنِي فِيما أمَرْتَنِي بِهِ، وأخْرِجْنِي مِمّا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، وقِيلَ: إدْخالُهُ مَوْضِعَ الأمْنِ وإخْراجُهُ مِن بَيْنِ المُشْرِكِينَ، وهو كالقَوْلِ الأوَّلِ، وقِيلَ: المُرادُ إدْخالُ عِزٍّ وإخْراجُ نَصْرٍ، وقِيلَ: المَعْنى: أدْخِلْنِي القَبْرَ عِنْدَ المَوْتِ مُدْخَلَ صِدْقٍ، وأخْرِجْنِي مِنهُ عِنْدَ البَعْثِ مُخْرَجَ صِدْقٍ، وقِيلَ: أدْخِلْنِي حَيْثُما أدْخَلْتَنِي بِالصِّدْقِ وأخْرِجْنِي بِالصِّدْقِ، وقِيلَ: الآيَةُ عامَّةٌ في كُلِّ ما تَتَناوَلُهُ مِنَ الأُمُورِ، فَهي دُعاءٌ، ومَعْناها: رَبِّ أصْلِحْ لِي وِرْدِي في كُلِّ الأُمُورِ وصَدْرِيِ عَنْها (p-٨٣٩)﴿واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ أيْ: حُجَّةً ظاهِرَةً قاهِرَةً تَنْصُرُنِي بِها عَلى جَمِيعِ مَن خالَفَنِي، وقِيلَ: اجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ مُلْكًا وعِزًّا قَوِيًّا وكَأنَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلِمَ أنَّهُ لا طاقَةَ لَهُ بِهَذا الأمْرِ إلّا بِسُلْطانٍ فَسَألَ سُلْطانًا نَصِيرًا. وبِهِ قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وهو الأرْجَحُ؛ لِأنَّهُ لا بُدَّ مَعَ الحَقِّ مِن قَهْرٍ لِمَن عاداهُ وناوَأهُ، ولِهَذا يَقُولُ تَعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ وأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالغَيْبِ﴾ [الحديد: ٢٥] وفي الحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطانِ ما لا يَزَعُ بِالقُرْآنِ» أيْ: لَيَمْنَعُ بِالسُّلْطانِ عَنِ ارْتِكابِ الفَواحِشِ والآثامِ ما لا يَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِالقُرْآنِ، وما فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ الأكِيدِ والتَّهْدِيدِ الشَّدِيدِ، وهَذا هو الواقِعُ. انْتَهى.
﴿وقُلْ جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ﴾ المُرادُ بِالحَقِّ الإسْلامُ، وقِيلَ: القُرْآنُ، وقِيلَ: الجِهادُ. ولا مانِعَ مِن حَمْلِ الآيَةِ عَلى جَمِيعِ ذَلِكَ وعَلى ما هو حَقٌّ كائِنًا ما كانَ، والمُرادُ بِالباطِلِ الشِّرْكُ، وقِيلَ: الشَّيْطانُ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُحْمَلَ عَلى كُلِّ ما يُقابِلُ الحَقَّ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ باطِلٍ وباطِلٍ.
ومَعْنى ( زَهَقَ ) بَطَلَ واضْمَحَلَّ، ومِنهُ زُهُوقُ النَّفْسِ وهو بُطْلانُها ﴿إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا﴾ أيْ: إنَّ هَذا شَأْنُهُ فَهو يَبْطُلُ ولا يَثْبُتُ، والحَقُّ ثابِتٌ دائِمًا.
﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ( نُنَزِّلُ ) بِالنُّونِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِالتَّخْفِيفِ.
وقَرَأ مُجاهِدٌ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ والتَّخْفِيفِ، ورَواها المَرْوَزِيُّ عَنْ حَفْصٍ، و( مِن ) لِابْتِداءِ الغايَةِ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ لِبَيانِ الجِنْسِ، وقِيلَ: لِلتَّبْعِيضِ، وأنْكَرَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ لِاسْتِلْزامِهِ أنَّ بَعْضَهُ لا شِفاءَ فِيهِ، ورَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّ المُبَعَّضَ هو إنْزالُهُ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في مَعْنى كَوْنِهِ شِفاءً عَلى قَوْلَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ شِفاءٌ لِلْقُلُوبِ بِزَوالِ الجَهْلِ عَنْها وذَهابِ الرَّيْبِ، وكَشْفِ الغِطاءِ عَنِ الأُمُورِ الدّالَّةِ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ شِفاءٌ مِنَ الأمْراضِ الظّاهِرَةِ بِالرُّقى والتَّعَوُّذِ ونَحْوِ ذَلِكَ، ولا مانِعَ مِن حَمْلِ الشِّفاءِ عَلى المَعْنَيَيْنِ مِن بابِ عُمُومِ المَجازِ، أوْ مِن بابِ حَمْلِ المُشْتَرَكِ عَلى مَعْنَيَيْهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِما فِيهِ مِنَ العُلُومِ النّافِعَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلى ما فِيهِ صَلاحُ الدِّينِ والدُّنْيا، ولِما في تِلاوَتِهِ وتَدَبُّرِهِ مِنَ الأجْرِ العَظِيمِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ ومَغْفِرَتِهِ ورِضْوانِهِ، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: ٤٤] . ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما في القُرْآنِ مِنَ المَنفَعَةِ لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ ذَكَرَ ما فِيهِ لِمَن عَداهم مِنَ المَضَرَّةِ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلّا خَسارًا﴾ أيْ: ولا يَزِيدُ القُرْآنُ كُلُّهُ أوْ كُلُّ بَعْضٍ مِنهُ الظّالِمِينَ الَّذِينَ وضَعُوا التَّكْذِيبَ مَوْضِعَ التَّصْدِيقِ، والشَّكَّ والِارْتِيابَ مَوْضِعَ اليَقِينِ والِاطْمِئْنانِ ( إلّا خَسارًا )، أيْ: هَلاكًا؛ لِأنَّ سَماعَ القُرْآنِ يَغِيظُهم ويَحْنِقُهم ويَدْعُوهم إلى زِيادَةِ ارْتِكابِ القَبائِحِ تَمَرُّدًا وعِنادًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُهْلَكُونَ، وقِيلَ: الخَسارُ النَّقْصُ كَقَوْلِهِ: ﴿فَزادَتْهم رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٥] .
ثُمَّ نَبَّهَ سُبْحانَهُ عَلى فَتْحِ بَعْضِ ما جُبِلَ عَلَيْهِ الإنْسانُ مِنَ الطَّبائِعِ المَذْمُومَةِ فَقالَ: ﴿وإذا أنْعَمْنا عَلى الإنْسانِ﴾ أيْ: عَلى هَذا الجِنْسِ بِالنِّعَمِ الَّتِي تُوجِبُ الشُّكْرَ كالصِّحَّةِ والغِنى ( أعْرَضَ ) عَنِ الشُّكْرِ لِلَّهِ والذِّكْرِ لَهُ ( ونَأى بِجانِبِهِ ) النَّأْيُ البُعْدُ والباءُ لِلتَّعْدِيَةِ أوْ لِلْمُصاحَبَةِ، وهو تَأْكِيدٌ لِلْإعْراضِ؛ لِأنَّ الإعْراضَ عَنِ الشَّيْءِ هو أنْ يُوَلِّيَهُ عَرْضَ وجْهِهِ، أيْ: ناحِيَتِهِ، والنَّأْيُ بِالجانِبِ أنْ يَلْوِيَ عَنْهُ عِطْفَهُ ويُوَلِّيَهُ ظَهْرَهُ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُرادَ بِالإعْراضِ هُنا الإعْراضُ عَنِ الدُّعاءِ والِابْتِهالِ الَّذِي كانَ يَفْعَلُهُ عِنْدَ نُزُولِ البَلْوى والمِحْنَةِ بِهِ، ويُرادُ بِالنَّأْيِ بِجانِبِهِ التَّكَبُّرُ والبُعْدُ بِنَفْسِهِ عَنِ القِيامِ بِحُقُوقِ النِّعَمِ.
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ في رِوايَةِ ابْنِ ذَكْوانِ وأبُو جَعْفَرٍ ( ناءَ ) مِثْلَ باعَ بِتَأْخِيرِ الهَمْزَةِ، عَلى القَلْبِ، وقَرَأ حَمْزَةُ: ( ناءى ) بِإمالَةِ الفَتْحَتَيْنِ ووافَقَهُ الكِسائِيُّ، وأمالَ شُعْبَةُ والسُّوسِيُّ الهَمْزَةَ فَقَطْ.
وقَرَأ الباقُونَ بِالفَتْحِ فِيهِما ﴿وإذا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ مِن مَرَضٍ أوْ فَقْرٍ كانَ يَئُوسًا شَدِيدَ اليَأْسِ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، والمَعْنى: أنَّهُ إنْ فازَ بِالمَطْلُوبِ الدُّنْيَوِيِّ، وظَفِرَ بِالمَقْصُودِ نَسِيَ المَعْبُودَ، وإنْ فاتَهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ اسْتَوْلى عَلَيْهِ الأسَفُ، وغَلَبَ عَلَيْهِ القُنُوطُ، وكِلْتا الخَصْلَتَيْنِ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ ولا يُنافِي ما في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ﴾ [فصلت: ٥١]، ونَظائِرَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ شَأْنُ بَعْضٍ آخَرَ مِنهم غَيْرِ البَعْضِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: لا مُنافاةَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ شِدَّةِ يَأْسِهِ وكَثْرَةِ قُنُوطِهِ كَثِيرَ الدُّعاءِ بِلِسانِهِ.
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ الشّاكِلَةُ قالَ الفَرّاءُ: الطَّرِيقَةُ، وقِيلَ: النّاحِيَةُ، وقِيلَ: الطَّبِيعَةُ، وقِيلَ: الدِّينُ، وقِيلَ: النِّيَّةُ، وقِيلَ: الجِبِلَّةُ، وهي مَأْخُوذَةٌ مِنَ الشَّكْلِ، يُقالُ: لَسْتَ عَلى شَكْلِي ولا عَلى شاكِلَتِي، والشَّكْلُ: هو المِثْلُ والنَّظِيرُ.
والمَعْنى: أنَّ كُلَّ إنْسانٍ يَعْمَلُ عَلى ما يُشاكِلُ أخْلاقَهُ الَّتِي ألِفَها، وهَذا ذَمٌّ لِلْكافِرِ ومَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِ ﴿فَرَبُّكم أعْلَمُ بِمَن هو أهْدى سَبِيلًا﴾ لِأنَّهُ الخالِقُ لَكُمُ العالِمُ بِما جُبِلْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الطَّبائِعِ وما تَبايَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الطَّرائِقِ، فَهو الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ المُؤْمِنَ الَّذِي لا يُعْرِضُ عِنْدَ النِّعْمَةِ ولا يَيْأسُ عِنْدَ المِحْنَةِ، وبَيْنَ الكافِرِ الَّذِي شَأْنُهُ البَطَرُ لِلنِّعَمِ والقُنُوطُ عِنْدَ النِّقَمِ.
ثُمَّ لَمّا انْجَرَّ الكَلامُ إلى ذِكْرِ الإنْسانِ وما جُبِلَ عَلَيْهِ، ذَكَرَ سُبْحانَهُ سُؤالَ السّائِلِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَنِ الرُّوحِ فَقالَ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ قَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في الرُّوحِ المَسْئُولِ عَنْهُ، فَقِيلَ هو الرُّوحُ المُدَبِّرُ لِلْبَدَنِ الَّذِي تَكُونُ بِهِ حَياتُهُ، وبِهَذا قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ.
قالَ الفَرّاءُ: الرُّوحُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الإنْسانُ لَمْ يُخْبِرِ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِهِ أحَدًا مِن خَلْقِهِ، ولَمْ يُعْطِ عِلْمَهُ أحَدًا مِن عِبادِهِ فَقالَ:﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ أيْ: إنَّكم لا تَعْلَمُونَهُ، وقِيلَ: الرُّوحُ المَسْئُولُ عَنْهُ جِبْرِيلُ، وقِيلَ: عِيسى، وقِيلَ: (p-٨٤٠)القُرْآنُ، وقِيلَ: مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ عَظِيمُ الخَلْقِ، وقِيلَ: خَلْقٌ كَخَلْقِ بَنِي آدَمَ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا لا طائِلَ تَحْتَهُ ولا فائِدَةَ في إيرادِهِ، والظّاهِرُ القَوْلُ الأوَّلُ، وسَيَأْتِي ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، وبَيانُ السّائِلِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَنِ الرُّوحِ، ثُمَّ الظّاهِرُ أنَّ السُّؤالَ عَنْ حَقِيقَةِ الرُّوحِ؛ لِأنَّ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ أهَمُّ وأقْدَمُ مِن مَعْرِفَةِ حالٍ مِن أحْوالِهِ، ثُمَّ أمَرَهُ سُبْحانَهُ أنْ يُجِيبَ عَلى السّائِلِينِ لَهُ عَنِ الرُّوحِ فَقالَ: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ ( مِن ) بَيانِيَّةٌ، والأمْرُ: الشَّأْنُ، والإضافَةُ لِلِاخْتِصاصِ، أيْ: هو مِن جِنْسِ ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي لَمْ يُعْلِمُ بِها عِبادَهُ، وقِيلَ: مَعْنى ( ﴿مِن أمْرِ رَبِّي﴾ ) مِن وحْيِهِ وكَلامِهِ لا مِن كَلامِ البَشَرِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ ما يَزْجُرُ الخائِضِينَ في شَأْنِ الرُّوحِ المُتَكَلِّفِينَ لِبَيانِ ما هَيْئَتُهُ وإيضاحِ حَقِيقَتِهِ أبْلَغَ زَجْرٍ ويَرْدَعُهم أعْظَمَ رَدْعٍ، وقَدْ أطالُوا المَقالَ في هَذا البَحْثِ بِما لا يَتِمُّ لَهُ المَقامُ، وغالِبُهُ بَلْ كُلُّهُ مِنَ الفُضُولِ الَّذِي لا يَأْتِي بِنَفْعٍ في دِينٍ ولا دُنْيا.
وقَدْ حَكى بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ أقْوالَ المُخْتَلِفِينَ في الرُّوحِ بَلَغَتْ إلى ثَمانِيَةَ عَشَرَ مِائَةَ قَوْلٍ، فانْظُرْ إلى هَذا الفُضُولِ الفارِغِ والتَّعَبِ العاطِلِ عَنِ النَّفْعِ، بَعْدَ أنْ عَلِمُوا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَدِ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ ولَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أنْبِياءَهُ ولا أذِنَ لَهم بِالسُّؤالِ عَنْهُ ولا البَحْثِ عَنْ حَقِيقَتِهِ فَضْلًا عَنْ أُمَمِهِمُ المُقْتَدِينَ بِهِمْ، فَيالَلَّهِ العَجَبَ، حَيْثُ تَبْلُغُ أقْوالُ أهْلِ الفُضُولِ إلى هَذا الحَدِّ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ ولا بَعْضَهُ في غَيْرِ هَذِهِ المَسْألَةِ مِمّا أذِنَ اللَّهُ بِالكَلامِ فِيهِ، ولَمْ يَسْتَأْثِرْ بِعِلْمِهِ.
ثُمَّ خَتَمَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ أيْ: أنَّ عِلْمَكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ اللَّهُ لَيْسَ إلّا المِقْدارُ القَلِيلُ بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِ الخالِقِ سُبْحانَهُ، وإنْ أُوتِيَ حَظًّا مِنَ العِلْمِ وافِرًا، بَلْ عِلْمُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لَيْسَ هو بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِ اللَّهِ سُبْحانَهُ إلّا كَما يَأْخُذُ الطّائِرُ في مِنقارِهِ مِنَ البَحْرِ، كَما في حَدِيثِ مُوسى والخَضِرِ عَلَيْهِما السَّلامُ.
وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: دُلُوكِ الشَّمْسِ غُرُوبِها، تَقُولُ العَرَبُ إذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ: دَلَكَتِ الشَّمْسُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: دُلُوكُها غُرُوبُها.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ لِزَوالِ الشَّمْسِ، وأخْرَجَ البَزّارُ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والدَّيْلَمِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: دُلْوُكُ الشَّمْسِ زَوالُها» وضَعَّفَ السُّيُوطِيُّ إسْنادَهُ، وأخْرَجَهُ مالِكٌ في المُوَطَّأِ وعَبْدُ الرَّزّاقِ والفِرْيابِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِن قَوْلِهِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْهُ قالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ زِياغُها بَعْدَ نِصْفِ النَّهارِ.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: دُلُوكُها زَوالُها.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ قالَ: إذا فاءَ الفَيْءُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أبِي مَسْعُودٍ وعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قالا: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «أتانِي جِبْرِيلُ لِدُلُوِكِ الشَّمْسِ حِينَ زالَتْ فَصَلّى بِيَ الظُّهْرَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يُصَلِّي الظُّهْرَ إذا زالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ تَلا: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ أنَسٍ نَحْوَهُ، ومِمّا يُسْتَشْهَدُ بِهِ عَلى أنَّ الدُّلُوكَ الزَّوالُ وسَطَ النَّهارِ ما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ «عَنْ جابِرٍ قالَ: دَعَوْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ومَن شاءَ مِن أصْحابِهِ يُطْعَمُونَ عِنْدِي، ثُمَّ خَرَجُوا حِينَ زالَتِ الشَّمْسُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: اخْرُجْ يا أبا بَكْرٍ فَهَذا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ» وفي إسْنادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ ولَكِنَّهُ أخْرَجَهُ عَنْهُ مِن طَرِيقٍ أُخْرى عَنْ سَهْلِ بْنِ بَكّارٍ، عَنْ أبِي عَوانَةَ، عَنِ الأسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبِيحٍ العَنْبَرِيِّ، عَنْ جابِرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ قالَ: إلى العِشاءِ الآخِرَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ( ﴿غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ) اجْتِماعِ اللَّيْلِ وظُلْمَتِهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: ( ﴿غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ) بُدُوِّ اللَّيْلِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ: إذا زالَتِ الشَّمْسُ عَنْ بَطْنِ السَّماءِ، وغَسَقُ اللَّيْلِ: غُرُوبُ الشَّمْسِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ( ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ ) قالَ: صَلاةُ الصُّبْحِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَه وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ .
قالَ: تَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ تَجْتَمِعُ فِيها»، وهو في الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: «تَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ في صَلاةِ الفَجْرَ، ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾» وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنِ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، «عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ قالَ: تَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارٍ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ( ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ ) يَعْنِي خاصَّةً لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، أُمِرَ بِقِيامِ اللَّيْلِ وكُتُبَ عَلَيْهِ» .
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عائِشَةَ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «ثَلاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرائِضُ وهُنَّ لَكَمَ سُنَّةٌ: الوِتْرُ، والسِّواكُ، وقِيامُ اللَّيْلِ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي أُمامَةَ في قَوْلِهِ: ( ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ ) قالَ: كانَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - نافِلَةً ولَكم فَضِيلَةً، وفي لَفْظٍ: إنَّما كانَتِ النّافِلَةُ خاصَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ وسُئِلَ عَنْهُ قالَ: هو المَقامُ المَحْمُودُ الَّذِي أشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ (p-٨٤١)وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ حِبّانَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «يُبْعَثُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ فَأكُونُ أنا وأُمَّتِي عَلى تَلٍّ ويَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْراءَ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي فَأقُولُ ما شاءَ اللَّهُ أنْ أقُولَ، فَذَلِكَ المَقامُ المَحْمُودُ» .
وأخْرَجَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «إنَّ كُلَّ أُمَّةٍ يَوْمَ القِيامَةِ تَتْبَعُ نَبِيَّها، يَقُولُونَ: يا فُلانُ اشْفَعْ، يا فُلانُ اشْفَعْ حَتّى تَنْتَهِيَ الشَّفاعَةُ إلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَلِكَ يَوْمُ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقامًا مَحْمُودًا» .
وأخْرَجَ عَنْهُ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، والأحادِيثُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ثابِتَةٌ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما فَلا نُطِيلُ بِذِكْرِها، ومَن رامَ الِاسْتِيفاءَ نَظَرَ في أحادِيثِ الشَّفاعَةِ في الأُمَّهاتِ وغَيْرِها.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في قَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ قالَ: يُجْلِسُهُ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ جِبْرِيلَ ويَشْفَعُ لِأُمَّتِهِ، فَذَلِكَ المَقامُ المَحْمُودُ.
وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: ( ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾، قالَ: يُجْلِسُنِي مَعَهُ عَلى السَّرِيرِ ) . ويَنْبَغِي الكَشْفُ عَنْ إسْنادِ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ والبَيْهَقِيُّ والضِّياءُ في المُخْتارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِمَكَّةَ ثُمَّ أُمِرَ بِالهِجْرَةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾» .
وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ «عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ( ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي﴾ ) الآيَةَ، قالَ: أخْرَجَهُ اللَّهُ مِن مَكَّةَ مُخْرَجَ صِدْقٍ، وأدْخَلَهُ المَدِينَةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ» .
قالَ: وعَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ أنَّهُ لا طاقَةَ لَهُ بِهَذا الأمْرِ إلّا بِسُلْطانٍ فَسَألَ سُلْطانًا نَصِيرًا لِكِتابِ اللَّهِ وحُدُودِهِ وفَرائِضِهِ ولِإقامَةِ كِتابِ اللَّهِ، فَإنَّ السُّلْطانَ عِزَّةٌ مِنَ اللَّهِ جَعَلَها بَيْنَ أظْهُرِ عِبادِهِ، ولَوْلا ذَلِكَ لَأغارَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ، وأكَلَ شَدِيدُهم ضَعِيفَهم.
وأخْرَجَ الخَطِيبُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ: «واللَّهِ لَما يَزَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطانِ أعْظَمُ مِمّا يَزَعُ بِالقُرْآنِ» .
وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مَكَّةَ وحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وثَلاثُمِائَةِ نُصْبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُها بِعُودٍ في يَدِهِ ويَقُولُ: ﴿جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا﴾، ﴿جاءَ الحَقُّ وما يُبْدِئُ الباطِلُ وما يُعِيدُ﴾» [سبأ: ٤٩] . وفي البابِ أحادِيثُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ( ﴿ونَأى بِجانِبِهِ﴾ ) قالَ: تَباعَدَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ( ﴿كانَ يَئُوسًا﴾ ) قالَ: قَنُوطًا، وفي قَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ﴾ قالَ: عَلى ناحِيَتِهِ.
وأخْرَجَ هَنّادٌ وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الحَسَنِ قالَ: عَلى شاكِلَتِهِ، عَلى نِيَّتِهِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: كُنْتُ أمْشِي مَعَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في خِرَبِ المَدِينَةِ وهو مُتَّكِئٌ عَلى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ مِنَ اليَهُودِ فَقالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: اسْألُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقالَ بَعْضُهم: لا تَسْألُوهُ، فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ ما الرُّوحُ ؟ فَما زالَ مُتَّكِئًا عَلى العَسِيبِ فَظَنَنْتُ أنَّهُ يُوحى إلَيْهِ، فَقالَ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، والنَّسائِيُّ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ حِبّانَ وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ والبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ: أعْطُونا شَيْئًا نَسْألُ هَذا الرَّجُلَ، قالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَنَزَلَتْ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ قالُوا: أُوتِينا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينا التَّوْراةَ، ومَن أُوتِيَ التَّوْراةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قُلْ لَوْ كانَ البَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: ١٠٩] . وفي البابِ أحادِيثُ وآثارٌ.
{"ayahs_start":78,"ayahs":["أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّیۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودࣰا","وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةࣰ لَّكَ عَسَىٰۤ أَن یَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامࣰا مَّحۡمُودࣰا","وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِی مُدۡخَلَ صِدۡقࣲ وَأَخۡرِجۡنِی مُخۡرَجَ صِدۡقࣲ وَٱجۡعَل لِّی مِن لَّدُنكَ سُلۡطَـٰنࣰا نَّصِیرࣰا","وَقُلۡ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَـٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقࣰا","وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَاۤءࣱ وَرَحۡمَةࣱ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ وَلَا یَزِیدُ ٱلظَّـٰلِمِینَ إِلَّا خَسَارࣰا","وَإِذَاۤ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ یَـُٔوسࣰا","قُلۡ كُلࣱّ یَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِیلࣰا","وَیَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّی وَمَاۤ أُوتِیتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِیلࣰا"],"ayah":"أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّیۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق