الباحث القرآني
وقْتُ المَغْرِبِ أوَّلُ وقْتِ المَغْرِبِ مِن حِينِ تَغْرُبُ الشَّمْسُ لا اخْتِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في ذَلِكَ، وقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ وهو يَقَعُ عَلى الغُرُوبِ لِما بَيَّنّاهُ فِيما سَلَفَ وقالَ تَعالى: ﴿وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ١١٤] وهو ما قَرُبَ مِنهُ مِنَ النَّهارِ، وهو أوَّلُ أوْقاتِهِ واَللَّهُ أعْلَمُ.
وقالَ تَعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ [الروم: ١٧] قِيلَ فِيهِ إنَّهُ وقْتُ المَغْرِبِ. وفي أخْبارِ المَواقِيتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ وجابِرٍ وأبِي سَعِيدٍ وغَيْرِهِمْ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلّى المَغْرِبَ في اليَوْمَيْنِ جَمِيعًا حِينَ غابَتِ الشَّمْسُ» . وقالَ سَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ: «كُنّا نُصَلِّي المَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذا تَوارَتْ بِالحِجابِ» .
وقَدْ ذَهَبَ شَواذٌّ مِنَ النّاسِ إلى أنَّ أوَّلَ وقْتِ المَغْرِبِ حِينَ يَطْلُعُ النَّجْمُ، واحْتَجُّوا بِما رَوى أبُو تَمِيمٍ الجَيَشانِيُّ عَنْ أبِي بُصْرَةَ الغِفارِيِّ قالَ: «صَلّى بِنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلاةَ العَصْرِ فَقالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ عُرِضَتْ عَلى مَن كانَ قَبْلَكم فَضَيَّعُوها، فَمَن حافَظَ عَلَيْها مِنكم أُوتِيَ أجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، ولا صَلاةَ بَعْدَها حَتّى يَطْلُعَ الشّاهِدُ؛ والشّاهِدُ النَّجْمُ» . وهَذا حَدِيثٌ شاذٌّ لا تُعارَضُ بِهِ الأخْبارُ المُتَواتِرَةُ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في أوَّلِ وقْتِ المَغْرِبِ أنَّهُ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ»
؛ وقَدْ رَوى ذَلِكَ أيْضًا عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ مِنهم عُمَرُ وعَبْدُ اللَّهِ وعُثْمانُ وأبُو هُرَيْرَةَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرُ أبِي بُصْرَةَ في ذِكْرِ طُلُوعِ الشّاهِدِ غَيْرُ مُخالِفٍ لِهَذِهِ الأخْبارِ وذَلِكَ؛ لِأنَّ النَّجْمَ قَدْ يُرى في بَعْضِ الأوْقاتِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ اخْتِلاطِ الظَّلامِ، فَلَمّا كانَ الغالِبُ في ذَلِكَ أنَّهُ لا يَكادُ يَخْلُو مِن أنْ يُرى بَعْضُ النُّجُومِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جُعِلَ ذَلِكَ عِبارَةً عَنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ.
وأيْضًا فَلَوْ كانَ الِاعْتِبارُ بِرُؤْيَةِ النَّجْمِ لَوَجَبَ أنْ تُصَلّى قَبْلَ الغُرُوبِ إذا رُئِيَ النَّجْمُ؛ لِأنَّ بَعْضَ النُّجُومِ قَدْ يُرى في بَعْضِ الأوْقاتِ قَبْلَ الغُرُوبِ، ولا خِلافَ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ فِعْلُها قَبْلَ (p-٢٥٨)الغُرُوبِ مَعَ رُؤْيَةِ الشّاهِدِ، فَسَقَطَ بِذَلِكَ اعْتِبارُ طُلُوعِ الشّاهِدِ.
وأمّا آخِرُ وقْتِ المَغْرِبِ فَإنَّ أهْلَ العِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " لِوَقْتِ المَغْرِبِ أوَّلٌ وآخِرٌ كَسائِرِ الصَّلَواتِ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إلّا وقْتٌ واحِدٌ " . ثُمَّ اخْتَلَفَ مَن قالَ بِأنَّ لَهُ أوَّلًا وآخِرًا في آخِرِ وقْتِها، فَقالَ أصْحابُنا والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " آخِرُ وقْتِها أنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ " . ثُمَّ اخْتَلَفُوا في الشَّفَقِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " الشَّفَقُ البَياضُ " . وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وابْنُ أبِي لَيْلى ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والشّافِعِيُّ: " الشَّفَقُ الحُمْرَةُ " .
وقالَ مالِكٌ: " وقْتُ المَغْرِبِ والعِشاءِ إلى طُلُوعِ الفَجْرِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ أيْضًا في الشَّفَقِ ما هو، فَقالَ بَعْضُهم: " هو البَياضُ " وقالَ بَعْضُهم: " الحُمْرَةُ " . فَمِمَّنْ قالَ إنَّهُ الحُمْرَةُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ وعُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ وشَدّادُ بْنُ أوْسٍ.
حَدَّثَنا أبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ شُعَيْبٍ المُؤَذِّنُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عِمْرانَ مُوسى بْنُ القاسِمِ العَصّارُ والحُسَيْنُ بْنُ الفَرَجِ البَزّازُ قالا: حَدَّثَنا هِشامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا هَيّاجٌ عَمَّنْ ذُكِرَ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " الشَّفَقُ الحُمْرَةُ " .
قالَ هِشامٌ: وحَدَّثَنا أبُو سُفْيانَ عَنِ العُمَرِيِّ عَنْ نافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قالَ: " الشَّفَقُ الحُمْرَةُ " . قالَ هِشامٌ: وحَدَّثَنا أبُو سُفْيانَ عَنِ العُمَرِيِّ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: " كانَ عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ وشَدّادُ بْنُ أوْسٍ يُصَلِّيانِ العِشاءَ إذا غابَتِ الحُمْرَةُ ويَرَيانِها الشَّفَقَ " . فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمُ الحُمْرَةُ.
ومِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّ الشَّفَقَ البَياضُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ ومُعاذُ بْنُ جَبَلٍ وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ؛ حَدَّثَنا يُوسُفُ بْنُ شُعَيْبٍ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ القاسِمِ والحُسَيْنُ بْنُ الفَرْجِ قالا: حَدَّثَنا هِشامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قالَ: حَدَّثَنا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ الكَلاعِيُّ قالَ: حَدَّثَنِي قَتادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ كَتَبَ: " إنَّ أوَّلَ وقْتِ العِشاءِ مَغِيبُ الشَّفَقِ "، ومَغِيبُهُ إذا اجْتَمَعَ البَياضُ مِنَ الأُفُقِ فَيَنْقَطِعُ، فَذَلِكَ أوَّلُ وقْتِها.
قالَ هِشامٌ: حَدَّثَنا أبُو عُثْمانَ عَنْ خالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ قالَ: " الشَّفَقُ البَياضُ " . قالَ هِشامٌ: وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ عَمَّنْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: " الشَّفَقُ البَياضُ " .
* فَصْلٌ
وأمّا الدَّلالَةُ عَلى أنَّ لِوَقْتِ المَغْرِبِ أوَّلًا وآخِرًا وأنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِفِعْلِ الصَّلاةِ فَحَسْبُ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا مَن (p-٢٥٩)قالَ مِنَ السَّلَفِ إنَّهُ الغُرُوبُ واحْتِمالُ اللَّفْظِ لَهُ، فاقْتَضَتِ الآيَةُ أنْ يَكُونَ لِوَقْتِ المَغْرِبِ أوَّلٌ وآخِرٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ غايَةٌ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ اجْتِماعُ الظُّلْمَةِ، فَثَبَتَ بِدَلالَةِ الآيَةِ أنَّ وقْتَ المَغْرِبِ مِن حِينِ الغُرُوبِ إلى اجْتِماعِ الظُّلْمَةِ، وفي ذَلِكَ ما يَقْضِي بِبُطْلانِ قَوْلِ مَن جَعَلَ لَها وقْتًا واحِدًا مُقَدَّرًا بِفِعْلِ الصَّلاةِ.
ورَوى الأعْمَشُ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أوَّلُ وقْتِ المَغْرِبِ حِينَ تَسْقُطُ الشَّمْسُ وإنَّ آخِرَ وقْتِها حِينَ يَغِيبُ الأُفُقُ» وفي حَدِيثِ أبِي بَكْرَةَ عَنْ أبِي مُوسى عَنْ أبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّ سائِلًا سَألَهُ عَنْ مَواقِيتِ الصَّلاةِ، فَذَكَرَ الحَدِيثَ وقالَ فِيهِ: وصَلّى المَغْرِبَ في اليَوْمِ الأوَّلِ حِينَ وقَعَتِ الشَّمْسُ وآخِرُها في اليَوْمِ الثّانِي حَتّى كانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ، ثُمَّ قالَ: الوَقْتُ فِيما بَيْنَ هَذَيْنِ» .
وفِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّ رَجُلًا سَألَهُ عَنْ وقْتِ الصَّلاةِ فَقالَ: صَلِّ مَعَنا فَأقامَ المَغْرِبَ حِينَ غابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلّى المَغْرِبَ في اليَوْمِ الثّانِي قَبْلَ أنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ»؛ وكَذَلِكَ في حَدِيثِ جابِرٍ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ لِوَقْتِ المَغْرِبِ أوَّلًا وآخِرًا.
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا هَمّامٌ عَنْ قَتادَةَ عَنْ أبِي أيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «وقْتُ المَغْرِبِ ما لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ» .
ورَوى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ قالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ في صَلاةِ المَغْرِبِ بِأطْوَلِ الطُّوَلِ وهي المص» . وهَذا يَدُلُّ عَلى امْتِدادِ الوَقْتِ، ولَوْ كانَ الوَقْتُ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ ثَلاثِ رَكَعاتٍ لَكانَ مَن قَرَأ: " المص " قَدْ أخَّرَها عَنْ وقْتِها.
فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ في حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي سَعِيدٍ: أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ صَلّى المَغْرِبَ في اليَوْمَيْنِ جَمِيعًا في وقْتٍ واحِدٍ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» . قِيلَ لَهُ: هَذا لا يُعارِضُ ما ذَكَرْنا؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ فَعَلَهُ كَذَلِكَ لِيُبَيِّنَ الوَقْتَ المُسْتَحَبَّ؛ وفي الأخْبارِ الَّتِي رَوَيْناها بَيانُ أوَّلِ الوَقْتِ وآخِرِهِ، وإخْبارٌ مِنهُ بِأنَّ ما بَيْنَ هَذَيْنِ وقْتٌ، فَهو أوْلى؛ لِأنَّ فِيهِ اسْتِعْمالَ الخَبَرَيْنِ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ فِعْلَهُ لَها في اليَوْمَيْنِ في وقْتٍ واحِدٍ لَوِ انْفَرَدَ عَمّا يُعارِضُهُ مِنَ الأخْبارِ الَّتِي ذَكَرْنا لَمْ تَكُنْ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنْ لا وقْتَ لَها غَيْرُهُ، كَما لَمْ يَدُلَّ فِعْلُهُ لِلْعَصْرِ في اليَوْمَيْنِ قَبْلَ اصْفِرارِ الشَّمْسِ عَلى أنَّهُ لا وقْتَ لَها غَيْرُهُ، وكَفِعْلِهِ لِلْعِشاءِ الآخِرَةِ في اليَوْمَيْنِ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَدُلَّ عَلى أنَّ ما بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَها.
ومِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ سائِرَ الصَّلَواتِ المَفْرُوضاتِ لَمّا كانَ لِأوْقاتِها أوَّلٌ وآخِرٌ ولَمْ تَكُنْ أوْقاتُها (p-٢٦٠)مُقَدَّرَةً بِفِعْلِ الصَّلاةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ المَغْرِبُ كَذَلِكَ؛ فَقَوْلُ مَن جَعَلَ الوَقْتَ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ الصَّلاةِ خارِجٌ عَنِ الأُصُولِ مُخالِفٌ لِلْأثَرِ والنَّظَرِ جَمِيعًا. ومِمّا يَلْزَمُ الشّافِعِيَّ في هَذا أنَّهُ يُجِيزُ الجَمْعَ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ في وقْتٍ واحِدٍ إمّا لِمَرَضٍ أوْ سَفَرٍ كَما يُجِيزُهُ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ، فَلَوْ كانَ بَيْنَهُما وقْتٌ لَيْسَ مِنهُما لَما جازَ الجَمْعُ بَيْنَهُما، كَما لا يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ الفَجْرِ والظُّهْرِ إذا كانَ بَيْنَهُما وقْتٌ لَيْسَ مِنهُما.
فَإنْ قِيلَ: لَيْسَ عِلَّةُ الجَمْعِ تَجاوُرَ الوَقْتَيْنِ؛ لِأنَّهُ لا يَجْمَعُ المَغْرِبَ إلى العَصْرِ مَعَ تَجاوُرِ الوَقْتَيْنِ.
قِيلَ لَهُ: لَمْ نُلْزِمْهُ أنْ يَجْعَلَ تَجاوُرَ الوَقْتَيْنِ عِلَّةً لِلْجَمْعِ، وإنَّما ألْزَمْناهُ المَنعَ مِنَ الجَمْعِ إذا لَمْ يَكُنِ الوَقْتانِ مُتَجاوِرَيْنِ؛ لِأنَّ كُلَّ صَلاتَيْنِ بَيْنَهُما وقْتٌ لَيْسَ مِنهُما لا يَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَهُما واَللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
ذِكْرُ القَوْلِ في الشَّفَق والِاحْتِجاجِ لَهُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا اخْتَلَفَ النّاسُ في الشَّفَقِ، فَقالَ مِنهم قائِلُونَ: " هو الحُمْرَةُ " وقالَ آخَرُونَ: " البَياضُ " . عَلِمْنا أنَّ الِاسْمَ يَتَناوَلُهُما ويَقَعُ عَلَيْهِما في اللُّغَةِ لَوْلا ذَلِكَ لَما تَأوَّلُوهُ عَلَيْهِما؛ إذْ كانُوا عالِمِينَ بِمَعانِي الأسْماءِ اللُّغَوِيَّةِ والشَّرْعِيَّةِ ألا تَرى أنَّهم لَمّا اخْتَلَفُوا في مَعْنى القُرْءِ فَتَأوَّلَهُ بَعْضُهم عَلى الحَيْضِ وبَعْضُهم عَلى الطُّهْرِ ثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِما ؟ وإنَّما نَحْتاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلى أنْ نَسْتَدِلَّ عَلى المُرادِ مِنهُما بِالآيَةِ.
وحَدَّثَنا أبُو عُمَرَ غُلامُ ثَعْلَبٍ قالَ: سُئِلَ ثَعْلَبٌ عَنِ الشَّفَقِ ما هو ؟ فَقالَ: البَياضُ؛ فَقالَ لَهُ السّائِلُ: الشَّواهِدُ عَلى الحُمْرَةِ أكْثَرُ، فَقالَ ثَعْلَبٌ: إنَّما يُحْتاجُ إلى الشّاهِدِ ما خَفِيَ فَأمّا البَياضُ فَهو أشْهَرُ في اللُّغَةِ مِن أنْ يَحْتاجَ إلى الشّاهِدِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: ويُقالُ إنَّ أصْلَ الشَّفَقِ الرِّقَّةُ، ومِنهُ يُقالُ ثَوْبٌ شَفَقٌ، ومِنهُ الشَّفَقَةُ وهي رِقَّةُ القَلْبِ. وإذا كانَ أصْلُهُ كَذَلِكَ فالبَياضُ أخَصُّ بِهِ؛ لِأنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ الأجْزاءِ الرَّقِيقَةِ الباقِيَةِ مِن ضِياءِ الشَّمْسِ، وهو في البَياضِ أرَقُّ مِنهُ في الحُمْرَةِ؛ ويَشْهَدُ لِمَن قالَ بِالحُمْرَةِ قَوْلُ أبِي النَّجْمِ:
؎حَتّى إذا الشَّمْسُ اجْتَلاها المُجْتَلِي بَيْنَ سِماطَيْ شَفَقٍ مُهْوَلِ
؎فَهِيَ عَلى الأُفْقِ كَعَيْنِ الأحْوَلِ
ومَعْلُومٌ أنَّهُ أرادَ الحُمْرَةَ؛ لِأنَّهُ وصَفَها عِنْدَ الغُرُوبِ. ومِمّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْبَياضِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ [الإنشقاق: ١٦] قالَ مُجاهِدٌ: " هو النَّهارُ " .
ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿واللَّيْلِ وما وسَقَ﴾ [الإنشقاق: ١٧] فَأقْسَمَ (p-٢٦١)بِاللَّيْلِ والنَّهارِ، فَهَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ الشَّفَقُ البَياضَ؛ لِأنَّ أوَّلَ النَّهارِ هو طُلُوعُ بَياضِ الفَجْرِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الباقِيَ مِنَ البَياضِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ هو الشَّفَقُ ومِمّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى أنَّ المُرادَ البَياضُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ الدُّلُوكَ اسْمٌ يَقَعُ عَلى الغُرُوبِ، ثُمَّ جُعِلَ غَسَقُ اللَّيْلِ غايَتَهُ. ورُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ في غَسَقِ اللَّيْلِ: " أنَّهُ اجْتِماعُ الظُّلْمَةِ " وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا مَعَ غَيْبُوبَةِ البَياضِ لِأنَّ البَياضَ ما دامَ باقِيًا فالظُّلْمَةُ مُتَفَرِّقَةٌ في الأُفُقِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ وقْتَ المَغْرِبِ إلى غَيْبُوبَةِ البَياضِ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ البَياضُ.
فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي هُرَيْرَةَ أنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ هو غُرُوبُ الشَّمْسِ. قِيلَ لَهُ: المَشْهُورُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ هو غُرُوبُها، ومُحالٌ إذا كانَ الدُّلُوكُ عِنْدَهُ الغُرُوبَ أنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ غُرُوبَ الشَّمْسِ أيْضًا؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ فَجَعَلَ الدُّلُوكَ أوَّلَ الوَقْتِ وغَسَقَ اللَّيْلِ آخِرَهُ، ويَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ ما جَعَلَهُ ابْتِداءً هو الَّذِي جَعَلَهُ غايَةً وإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فالرّاوِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ هو غُرُوبُ الشَّمْسِ غالَطَ في رِوايَتِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِوايَةٌ مَشْهُورَةٌ أنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ غُرُوبُها وأنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ؛ وهَذِهِ الرِّوايَةُ مُسْتَقِيمَةٌ عَلى ما ثَبَتَ عَنْهُ مِن تَأْوِيلِ الآيَةِ.
وقَدْ رَوى لَيْثٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: " أنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ حِينَ تَزُولُ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ حِينَ تَجِبُ الشَّمْسُ "، وهَذا غَيْرُ بَعِيدٍ عَلى ما ثَبَتَ عَنْهُ في تَأْوِيلِ الدُّلُوكِ أنَّهُ الزَّوالُ؛ إلّا أنَّهُ قَدْ رَوى عَنْهُ مالِكٌ عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ قالَ: أخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: " غَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِماعُ اللَّيْلِ وظُلْمَتُهُ "، وهَذا يَنْفِي أنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ وقْتَ الغُرُوبِ، مِن قِبَلِ أنَّ وقْتَ الغُرُوبِ لا يَكُونُ ظُلْمَةً مُجْتَمِعَةً.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ في غَسَقِ اللَّيْلِ أنَّهُ انْتِصافُهُ، وعَنْ إبْراهِيمَ: غَسَقُ اللَّيْلِ العِشاءُ الآخِرَةُ. وأوْلى هَذِهِ المَعانِي بِلَفْظِ الآيَةِ اجْتِماعُ الظُّلْمَةِ وذَهابُ البَياضِ وذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ غَسَقُ اللَّيْلِ هو غُرُوبُ الشَّمْسِ لَكانَتِ الغايَةُ المَذْكُورَةُ لِلْوَقْتِ هي وُجُودُ اللَّيْلِ فَحَسْبُ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الآيَةِ: أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى اللَّيْلِ؛ وتَسْقُطُ مَعَهُ فائِدَةُ ذِكْرِ الغَسَقِ مَعَ اللَّيْلِ.
ولَمّا وجَبَ حَمْلُ كُلِّ لَفْظٍ مِنهُ عَلى فائِدَةٍ مُجَدَّدَةٍ وجَبَ أنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ قَدْ أفادَ ما لَمْ يُفِدْناهُ لَوْ قالَ: إلى اللَّيْلِ؛ فَتَكُونُ الفائِدَةُ فِيهِ اجْتِماعَ الظُّلْمَةِ دُونَ وُجُودِ اللَّيْلِ عارِيًّا مِنَ اجْتِماعِها.
ومِمّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى أنَّ الشَّفَقَ هو البَياضُ حَدِيثُ بَشِيرِ بْنِ أبِي مَسْعُودٍ عَنْ أبِيهِ: أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ صَلّى العِشاءَ اليَوْمَ الأوَّلَ حِينَ اسْوَدَّ الأُفُقُ (p-٢٦٢)ورُبَّما أخَّرَها حَتّى يَجْتَمِعَ النّاسُ»، فَأخْبَرَ عَنْ صَلاةِ النَّبِيِّ ﷺ في أوائِلِ أوْقاتِها، وأخْبَرَ عَنْها في أواخِرِها، وذَكَرَ في أوَّلِ وقْتِ العِشاءِ الآخِرَةِ اسْوِدادَ الأُفُقِ؛ ومَعْلُومٌ أنَّ بَقاءَ البَياضِ يَمْنَعُ إطْلاقَ الِاسْمِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
فَثَبَتَ أنَّ أوَّلَ وقْتِ العِشاءِ الآخِرَةِ غَيْبُوبَةُ البَياضِ. ومَن يَأْبى هَذا القَوْلَ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ: " حِينَ اسْوَدَّ الأُفُقُ " لا يَنْفِي بَقاءَ البَياضِ؛ لِأنَّهُ إنَّما أخْبَرَ عَنِ اسْوِدادِ أُفُقٍ مِنَ الآفاقِ لا عَنْ جَمِيعِها، ولَوْ أرادَ غَيْبُوبَةَ البَياضِ لَقالَ: حِينَ اسْوَدَّتِ الآفاقُ؛ ولَيْسَ يُمْتَنَعُ أنْ يَبْقى البَياضُ وتَكُونَ سائِرُ الآفاقِ غَيْرَ مَوْضِعِ البَياضِ مُسَوَّدَةً.
ويَحْتَجُّ القائِلُونَ بِالبَياضِ أيْضًا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «كانَ يُصَلِّي العِشاءَ الآخِرَةَ حِينَ يَسْتَوِي الأُفُقُ، ورُبَّما أخَّرَها حَتّى يَجْتَمِعَ النّاسُ»؛ وهَذا اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ مِنَ المَعْنى ما احْتَمَلَهُ قَوْلُهُ في الحَدِيثِ الأوَّلِ " حِينَ اسْوَدَّ الأُفُقُ " .
ومِمّا يَحْتَجُّ بِهِ القائِلُونَ بِالحُمْرَةِ ما رَوى ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ مُوسى عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «سَألَ رَجُلٌ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ عَنْ وقْتِ الصَّلاةِ فَقالَ: صَلِّ مَعِي. فَصَلّى في اليَوْمِ الأوَّلِ العِشاءَ الآخِرَةَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ» . قالُوا: ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُصَلِّها قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الحُمْرَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ أرادَ البَياضَ؛ ولا تَكُونُ رِوايَةُ مَن رَوى أنَّهُ صَلّاها بَعْدَما غابَ الشَّفَقُ مُعارِضَةً لِحَدِيثِ جابِرٍ هَذا، مِن قِبَلِ أنَّ مَعْناهُ: بَعْدَما غابَ الشَّفَقُ الَّذِي هو الحُمْرَةُ؛ إذْ كانَ الِاسْمُ يَقَعُ عَلَيْهِما جَمِيعًا لِيَتَّفِقَ الحَدِيثانِ ولا يَتَضادّا، ومَن يَجْعَلُ الشَّفَقَ البَياضَ يَجْعَلُ خَبَرَ جابِرٍ مَنسُوخًا عَلى نَحْوِ ما رُوِيَ في خَبَرِ ابْنِ عَبّاسٍ في المَواقِيتِ أنَّهُ صَلّى الظُّهْرَ في اليَوْمِ الثّانِي وقْتَ العَصْرِ بِالأمْسِ.
ومِمّا يَحْتَجُّ بِهِ القائِلُونَ بِالحُمْرَةِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أوَّلُ وقْتِ المَغْرِبِ إذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وآخِرُهُ غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ» . وفي بَعْضِ أخْبارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: " إذا غابَتِ الشَّمْسُ فَهو وقْتُ المَغْرِبِ إلى أنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ " وفي لَفْظٍ آخَرَ: " وقْتُ المَغْرِبِ ما لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ " قالُوا: فالواجِبُ حَمْلُهُ عَلى أوَّلِهِما وهو الحُمْرَةُ؛ ومَن يَقُولُ بِالبَياضِ يُجِيبُ عَنْ هَذا بِأنَّ ظاهِرَ ذَلِكَ يَقْتَضِي غَيْبُوبَةَ جَمِيعِهِ وهو بِالبَياضِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلى اعْتِبارِ البَياضِ دُونَ الحُمْرَةِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُقالَ قَدْ غابَ الشَّفَقُ إلّا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ جَمِيعِهِ، كَما لا يُقالُ غابَتِ الشَّمْسُ إلّا بَعْدَ غَيْبُوبَةِ جَمِيعِها دُونَ بَعْضِها.
ولِمَن قالَ بِالحُمْرَةِ أنْ يَقُولَ: إنَّ البَياضَ والحُمْرَةَ لَيْسا شَفَقًا واحِدًا بَلْ هُما شَفَقانِ فَيَتَناوَلُ الِاسْمُ أوَّلَهُما غَيْبُوبَةً؛ كَما أنَّ (p-٢٦٣)الفَجْرَ الأوَّلَ والثّانِيَ هُما فَجْرانِ ولَيْسا فَجْرًا واحِدًا، فَيَتَناوَلُهُما إطْلاقُ الِاسْمِ مَعًا كَذَلِكَ الشَّفَقُ. ومِمّا يُحْتَجُّ بِهِ لِلْقائِلَيْنِ بِالبَياضِ، حَدِيثُ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «كانَ يُصَلِّي العِشاءَ لِسُقُوطِ القَمَرِ اللَّيْلَةَ الثّالِثَةَ»، وظاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي غَيْبُوبَةَ البَياضِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا لا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ في الصَّيْفِ والشِّتاءِ ولا يَمْتَنِعُ بَقاءُ البَياضِ بَعْدَ سُقُوطِ القَمَرِ في اللَّيْلَةِ الثّالِثَةِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ قَدْ غابَ قَبْلَ سُقُوطِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وحَكى ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنِ الخَلِيلِ بْنِ أحْمَدَ قالَ: راعَيْتُ البَياضَ فَرَأيْتُهُ لا يَغِيبُ ألْبَتَّةَ وإنَّما يَسْتَدِيرُ حَتّى يَرْجِعَ إلى مَطْلَعِ الفَجْرِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا غَلَطٌ؛ والمِحْنَةُ بَيْنَنا وبَيْنَهم؛ وقَدْ راعَيْتُهُ في البَوادِي في لَيالِيِ الصَّيْفِ والجَوُّ نَقِيٌّ والسَّماءُ مُصْحِيَةٌ فَإذا هو يَغِيبُ قَبْلَ أنْ يَمْضِيَ مِنَ اللَّيْلِ رُبُعُهُ بِالتَّقْرِيبِ، ومَن أرادَ أنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ فَلْيُجَرِّبْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُ غَلَطُ هَذا القَوْلِ.
ومِمّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالشَّفَقِ البَياضُ، أنّا وجَدْنا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حُمْرَةً وبَياضًا قَبْلَها وكانا جَمِيعًا مِن وقْتِ صَلاةٍ واحِدَةٍ؛ إذْ كانا جَمِيعًا مِن ضِياءِ الشَّمْسِ دُونَ ظُهُورِ جُرْمِها؛ كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ تَكُونَ الحُمْرَةُ والبَياضُ جَمِيعًا بَعْدَ غُرُوبِها مِن وقْتِ صَلاةٍ واحِدَةٍ، لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْناها.
* * *
وقْتُ العِشاءِ الآخِرَةِ وأوَّلُ وقْتِ العِشاءِ الآخِرَةِ مِن حِينِ يَغِيبُ الشَّفَقُ عَلى اخْتِلافِهِمْ فِيهِ إلى أنْ يَذْهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ في الوَقْتِ المُخْتارِ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى: حَتّى يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ؛ ويُكْرَهُ تَأْخِيرُها إلى بَعْدِ نِصْفِ اللَّيْلِ، ولا تَفُوتُ إلّا بِطُلُوعِ الفَجْرِ (p-٢٦٤)وأنَّ مَن أدْرَكَ أوْ أسْلَمَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ أنَّهُ تَلْزَمُهُ العِشاءُ الآخِرَةُ، وكَذَلِكَ المَرْأةُ إذا طَهُرَتْ مِنَ الحَيْضِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السِّلْمِيِّ قالا: " دُلُوكُها غُرُوبُها " . وعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ وجابِرٍ وابْنِ عُمَرَ: " دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُها " وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَؤُلاءِ الصَّحابَةُ قالُوا: إنَّ الدُّلُوكَ المَيْلُ، وقَوْلُهم مَقْبُولٌ فِيهِ لِأنَّهم مِن أهْلِ اللُّغَةِ وإذا كانَ كَذَلِكَ جازَ أنْ يُرادَ بِهِ المَيْلُ لِلزَّوالِ والمَيْلُ لِلْغُرُوبِ، فَإنْ كانَ المُرادُ الزَّوالَ فَقَدِ انْتَظَمَ صَلاةَ الظُّهْرِ والعَصْرِ والمَغْرِبِ والعِشاءِ الآخِرَةِ؛ إذْ كانَتْ هَذِهِ أوْقاتًا مُتَّصِلَةً بِهَذِهِ الفُرُوضِ، فَجازَ أنْ يَكُونَ غَسَقُ اللَّيْلِ غايَةً لِفِعْلِ هَذِهِ الصَّلَواتِ في مَواقِيتِها. وقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ أنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ انْتِصافُهُ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ آخِرُ الوَقْتِ المُسْتَحَبِّ لِصَلاةِ العِشاءِ الآخِرَةِ وأنَّ تَأْخِيرَها إلى ما بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ المُرادُ بَيانَ وقْتِ المَغْرِبِ أنَّهُ مِن غُرُوبِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في غَسَقِ اللَّيْلِ، فَرَوى مالِكٌ عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ قالَ: أخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: " غَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِماعُ اللَّيْلِ وظُلْمَتُهُ " .
ورَوى لَيْثٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقُولُ: " دُلُوكُ الشَّمْسِ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ حِينَ تَجِبُ (p-٣٢)الشَّمْسُ " . قالَ: وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " دُلُوكُ الشَّمْسِ حِينَ تَجِبُ الشَّمْسُ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ " . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أيْضًا أنَّهُ لَمّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قالَ: " هَذا غَسَقُ اللَّيْلِ " . وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: " غَسَقُ اللَّيْلِ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ " . وعَنِ الحَسَنِ: " غَسَقُ اللَّيْلِ صَلاةُ المَغْرِبِ والعِشاءِ " . وعَنْ إبْراهِيمَ: " غَسَقُ اللَّيْلِ العِشاءُ الآخِرَةُ " . وقالَ أبُو جَعْفَرٍ: " غَسَقُ اللَّيْلِ انْتِصافُهُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: مَن تَأوَّلَ دُلُوكَ الشَّمْسِ عَلى غُرُوبِها فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ غَسَقِ اللَّيْلِ عِنْدَهُ غُرُوبَها أيْضًا لِأنَّهُ جَعَلَ الِابْتِداءَ الدُّلُوكَ وغَسَقُ اللَّيْلِ غايَةٌ لَهُ، وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ غايَةً لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ هو الِابْتِداءَ وهو الغايَةُ، فَإنْ كانَ المُرادُ بِالدُّلُوكِ غُرُوبَها فَغَسَقُ اللَّيْلِ هو إمّا الشَّفَقُ الَّذِي هو آخِرُ وقْتِ المَغْرِبِ أوِ اجْتِماعُ الظُّلْمَةِ وهو أيْضًا غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ لِأنَّهُ لا يَجْتَمِعُ إلّا بِغَيْبُوبَةِ البَياضِ، وإمّا أنْ يَكُونَ آخِرَ وقْتِ العِشاءِ الآخِرَةِ المُسْتَحَبِّ وهو انْتِصافُ اللَّيْلِ، فَيَنْتَظِمُ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ المَغْرِبَ والعِشاءَ الآخِرَةَ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ وتَقْدِيرُهُ: أقِمْ قُرْآنَ الفَجْرِ وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى وُجُوبِ القِراءَةِ في صَلاةِ الفَجْرِ لِأنَّ الأمْرَ عَلى الوُجُوبِ ولا قِراءَةَ في ذَلِكَ الوَقْتِ واجِبَةٌ إلّا في الصَّلاةِ.
فَإنْ قِيلَ: مَعْناهُ صَلاةُ الفَجْرِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ تَجْعَلَ القِراءَةَ عِبارَةً عَنِ الصَّلاةِ لِأنَّهُ صَرْفُ الكَلامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلى المَجازِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. والثّانِي: قَوْلُهُ في نَسَقِ التِّلاوَةِ: ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ﴾ [الإسراء: ٧٩] ويَسْتَحِيلُ التَّهَجُّدُ بِصَلاةِ الفَجْرِ لَيْلًا، والهاءُ في قَوْلِهِ " بِهِ " كِنايَةٌ عَنْ قُرْآنِ الفَجْرِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ حَقِيقَةُ القِراءَةِ لا مَكانُ التَّهَجُّدِ بِالقُرْآنِ المَقْرُوءِ في صَلاةِ الفَجْرِ واسْتِحالَةُ التَّهَجُّدِ بِصَلاةِ الفَجْرِ. وعَلى أنَّهُ لَوْ صَحَّ أنَّ المُرادَ ما ذَكَرْتَ لَكانَتْ دَلالَتُهُ قائِمَةً عَلى وُجُوبِ القِراءَةِ في الصَّلاةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمْ يَجْعَلِ القِراءَةَ عِبارَةً عَنِ الصَّلاةِ إلّا وهي مِن أرْكانِها وفُرُوضِها.
{"ayah":"أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّیۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق