الباحث القرآني
﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدَلْوِكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾
كانَ شَرْعُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ لِلْأُمَّةِ لَيْلَةَ الإسْراءِ، كَما ثَبَتَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، ولَكِنَّهُ كانَ غَيْرَ مُثْبَتٍ في التَّشْرِيعِ المُتَواتِرِ، إنَّما أبْلَغَهُ النَّبِيءُ أصْحابَهُ فَيُوشِكُ أنْ لا يَعْلَمَهُ غَيْرُهم مِمَّنْ يَأْتِي مِنَ المُسْلِمِينَ، وأيْضًا فَقَدْ عَيَّنَتِ الآيَةُ أوْقاتًا لِلصَّلَواتِ بَعْدَ تَقَرُّرِ فَرْضِها، فَلِذَلِكَ جاءَتْ هَذِهِ الآيَةُ في هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نَزَلَتْ عَقِبَ حادِثِ الإسْراءِ؛ جَمْعًا لِلتَّشْرِيعِ الَّذِي شُرِعَ لِلْأُمَّةِ أيّامَئِذٍ المُبْتَدَأِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وقَضى رَبُّكَ أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] الآياتِ، فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، ومُناسَبَةُ مَوْقِعِها عَقِبَ ما قَبْلَها أنَّ اللَّهَ لَمّا امْتَنَّ عَلى النَّبِيءِ ﷺ بِالعِصْمَةِ وبِالنُّصْرِ ذَكَّرَهُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ بِأنْ أمَرَهُ بِأعْظَمِ عِبادَةٍ يَعْبُدُهُ بِها، وبِالزِّيادَةِ مِنها طَلَبًا لِازْدِيادِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في آخِرِ الآيَةِ ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: ٧٩] .
فالخِطابُ بِالأمْرِ لِلنَّبِيءِ ﷺ، ولَكِنْ قَدْ تَقَرَّرَ مِنِ اصْطِلاحِ القُرْآنِ أنَّ خِطابَ النَّبِيءِ بِتَشْرِيعٍ تَدْخُلُ فِيهِ أُمَّتُهُ إلّا إذا دَلَّ دَلِيلٌ عَلى اخْتِصاصِهِ بِذَلِكَ الحُكْمِ، وقَدْ عَلِمَ المُسْلِمُونَ ذَلِكَ، وشاعَ بَيْنَهم بِحَيْثُ ما كانُوا يَسْألُونَ عِنْدَ اخْتِصاصِ حُكْمٍ إلّا في مَقامِ الِاحْتِمالِ القَوِيِّ، كَمَن سَألَهُ: ألَنا هَذِهِ أمْ لِلْأبَدِ ؟ فَقالَ: بَلْ لِلْأبَدِ.
(p-١٨٢)والإقامَةُ: مَجازٌ في المُواظَبَةِ والإدامَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [البقرة: ٣] في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ.
واللّامُ في ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ لامُ التَّوْقِيتِ، وهي بِمَعْنى (عِنْدَ) .
والدُّلُوكُ: مِن أحْوالِ الشَّمْسِ، فَوَرَدَ بِمَعْنى زَوالِ الشَّمْسِ عَنْ وسَطِ قَوْسٍ فَرْضِيٍّ في طَرِيقِ مَسِيرِها اليَوْمِيِّ، ووَرَدَ بِمَعْنى: مَيْلُ الشَّمْسِ عَنْ مِقْدارِ ثَلاثَةِ أرْباعِ القَوْسِ، وهو وقْتُ العَصْرِ، ووَرَدَ بِمَعْنى غُرُوبِها؛ فَصارَ لَفْظُ الدُّلُوكِ مُشْتَرَكًا في المَعانِي الثَّلاثَةِ.
والغَسَقُ: الظُّلْمَةُ، وهي انْقِطاعُ بَقايا شُعاعِ الشَّمْسِ حِينَ يُماثِلُ سَوادُ أُفُقِ الغُرُوبِ سَوادَ بَقِيَّةِ الأُفُقِ وهو وقْتُ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وذَلِكَ وقْتَ العَشاءِ، ويُسَمّى العَتَمَةَ، أيِ الظُّلْمَةَ.
وقَدْ جَمَعَتِ الآيَةُ أوْقاتًا أرْبَعَةً، فالدُّلُوكُ يَجْمَعُ ثَلاثَةَ أوْقاتٍ بِاسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في مَعانِيهِ، والقَرِينَةُ واضِحَةٌ، وفُهِمَ مِن حَرْفِ (إلى) الَّذِي لِلِانْتِهاءِ أنَّ في تِلْكَ الأوْقاتِ صَلَواتٍ؛ لِأنَّ الغايَةَ كانَتْ لِفِعْلِ أقِمِ الصَّلاةَ فالغايَةُ تَقْتَضِي تَكَرُّرَ إقامَةِ الصَّلاةِ، ولَيْسَ المُرادُ غايَةَ لِصَلاةٍ واحِدَةٍ جَعَلَ وقْتَها مُتَّسِعًا؛ لِأنَّ هَذا فَهْمٌ يَنْبُو عَنْهُ ما تَدُلُّ عَلَيْهِ اللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ مِن وُجُوبِ إقامَةِ الصَّلاةِ عِنْدَ الوَقْتِ المَذْكُورِ؛ لِأنَّهُ الواجِبُ أوِ الأكْمَلُ، وقَدْ زادَ عَمَلُ النَّبِيءِ ﷺ بَيانًا لِلْآيَةِ.
وأمّا مِقْدارُ الِاتِّساعِ فَيُعْرَفُ مِن أدِلَّةٍ أُخْرى، وفِيهِ خِلافٌ بَيْنِ الفُقَهاءِ، فَكَلِمَةُ دُلُوكٍ لا تُعادِلُها كَلِمَةٌ أُخْرى.
وقَدْ ثَبَتَ في حَدِيثِ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصارِيِّ في المُوَطَّأِ: أنَّ أوَّلَ الوَقْتِ هو المَقْصُودُ، وثَبَتَ في حَدِيثِ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ مُرْسَلًا في المُوَطَّأِ ومَوْصُولًا عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ البَرِّ وغَيْرِهِ: «أنَّ لِلصُّبْحِ وقْتًا لَهُ ابْتِداءٌ ونِهايَةٌ»، وهو أيْضًا ثابِتٌ لِكُلِّ صَلاةٍ بِآثارٍ كَثِيرَةٍ عَدا المَغْرِبِ فَقَدْ سَكَتَ عَنْها الأثَرُ؛ فَتَرَدَّدَتْ (p-١٨٣)أنْظارُ الفُقَهاءِ فِيها بَيْنَ وُقُوفٍ عِنْدَ المَرْوِيِّ، وبَيْنَ قِياسِ وقْتِها عَلى أوْقاتِ غَيْرِها، وهَذا الثّانِي أرْجَحُ؛ لِأنَّ امْتِدادَ وقْتِ الصَّلاةِ تَوْسِعَةٌ عَلى المُصَلِّي، وهي تُناسِبُ تَيْسِيرَ الدِّينِ.
وجُعِلَ الغَسَقُ نِهايَةً لِلْأوْقاتِ، فَعُلِمَ أنَّ المُرادَ أوَّلُ الغَسَقِ كَما هو الشَّأْنُ المُتَعارَفُ في الغايَةِ بِحَرْفِ (إلى) فَعُلِمَ أنَّ ابْتِداءَ الغَسَقِ وقْتُ صَلاةٍ، وهَذا جَمْعٌ بَدِيعٌ.
ثُمَّ عَطَفَ ﴿قُرْآنَ الفَجْرِ﴾ عَلى الصَّلاةِ، والتَّقْدِيرُ: وأقِمْ قُرْآنَ الفَجْرِ، أيِ الصَّلاةَ بِهِ، كَذا قَدَّرَ القُرّاءُ وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ؛ لِيُعْلَمَ أنَّ لِكُلِّ صَلاةٍ مِن تِلْكَ الصَّلَواتِ قُرْآنًا كَقَوْلِهِ ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠]، أيْ صَلُّوا بِهِ نافِلَةَ اللَّيْلِ.
وخُصَّ ذِكْرُ ذَلِكَ بِصَلاةِ الفَجْرِ دُونَ غَيْرِها؛ لِأنَّها يُجْهَرُ بِالقُرْآنِ في جَمِيعِ رُكُوعِها، ولِأنَّ سُنَّتَها أنْ يُقْرَأ بِسُوَرٍ مِن طُوالِ المُفَصَّلِ فاسْتِماعُ القُرْآنِ لِلْمَأْمُومِينَ أكْثَرُ فِيها وقِراءَتُهُ لِلْإمامِ والفَذُّ أكْثَرُ أيْضًا.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفُ ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ عَطْفَ جُمْلَةٍ والكَلامُ عَلى الإغْراءِ، والتَّقْدِيرُ: والزَمْ قُرْآنَ الفَجْرِ، قالَهُ الزَّجّاجُ، فَيُعْلَمُ أنَّ قِراءَةَ القُرْآنِ في كُلِّ صَلاةٍ حَتْمٌ.
وهَذا مُجْمَلٌ في كَيْفِيَّةِ الصَّلَواتِ، ومَقادِيرِ ما تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ المُتَواتِرَةُ والعُرْفُ في مَعْرِفَةِ أوْقاتِ النَّهارِ واللَّيْلِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ لِوَجْهِ تَخْصِيصِ صَلاةِ الصُّبْحِ بِاسْمِ القُرْآنِ بِأنَّ صَلاةَ الفَجْرِ مَشْهُودَةٌ، أيْ مَحْضُورَةٌ، وفُسِّرَ ذَلِكَ بِأنَّها تَحْضُرُها مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ، كَما ورَدَ في الحَدِيثِ: وتَجْتَمِعُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ في صَلاةِ الصُّبْحِ، وذَلِكَ زِيادَةٌ في (p-١٨٤)فَضْلِها وبَرَكَتِها، وأيْضًا فَهي يَحْضُرُها أكْثَرُ المُصَلِّينَ؛ لِأنَّ وقْتَها وقْتُ النَّشاطِ، وبَعْدَها يَنْتَظِرُ النّاسُ طُلُوعَ الشَّمْسِ لِيَخْرُجُوا إلى أعْمالِهِمْ فَيَكْثُرَ سَماعُ القُرْآنِ حِينَئِذٍ.
{"ayah":"أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّیۡلِ وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق