الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ ﴿وقُلْ جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا﴾ في الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في النَّظْمِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا قَرَّرَ أمْرَ الإلَهِيّاتِ والمَعادِ والنُّبُوّاتِ أرْدَفَها بِذِكْرِ الأمْرِ بِالطّاعاتِ بَعْدَ الإيمانِ، وأشْرَفُ الطّاعاتِ بَعْدَ الإيمانِ الصَّلاةُ فَلِهَذا السَّبَبِ أمْرَ بِها. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿وإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ﴾ أمَرَهُ تَعالى بِالإقْبالِ عَلى عِبادَتِهِ لِكَيْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ لا تُبالِ بِسَعْيِهِمْ في إخْراجِكَ مِن بَلْدَتِكَ ولا تَلْتَفِتْ إلَيْهِمْ واشْتَغِلْ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وداوِمْ عَلى أداءِ الصَّلَواتِ فَإنَّهُ تَعالى يَدْفَعُ مَكْرَهم وشَرَّهم عَنْكَ ويَجْعَلُ يَدَكَ فَوْقَ أيْدِيهِمْ ودِينَكَ غالِبًا عَلى أدْيانِهِمْ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ في سُورَةِ طه: ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها ومِن آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى﴾ (طه: ١٣٠) وقالَ: ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ ﴿واعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ (الحِجْرِ: ٩٩) . والوَجْهُ الثّالِثُ: في تَقْرِيرِ النَّظْمِ: أنَّ اليَهُودَ لَمّا قالُوا لَهُ اذْهَبْ إلى الشّامِ فَإنَّهُ مَسْكَنُ الأنْبِياءِ عَزَمَ ﷺ عَلى الذَّهابِ إلَيْهِ فَكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ المَعْبُودُ واحِدٌ في كُلِّ البِلادِ وما النُّصْرَةُ والدَّوْلَةُ إلّا بِتَأْيِيدِهِ ونُصْرَتِهِ فَداوِمْ عَلى الصَّلَواتِ وارْجِعْ إلى مَقَرِّكَ ومَسْكَنِكَ، وإذا دَخَلْتَهُ ورَجَعْتَ إلَيْهِ فَقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجْعَلْ لِي في هَذا البَلَدِ سُلْطانًا نَصِيرًا في تَقْرِيرِ دِينِكَ وإظْهارِ شَرْعِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ أهْلُ اللُّغَةِ والمُفَسِّرُونَ في مَعْنى دُلُوكِ الشَّمْسِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ دُلُوكَها غُرُوبُها وهَذا القَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ، فَنَقَلَ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ: غُرُوبُها، ورَوى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قالَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ: غُرُوبُها، ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ هَذا القَوْلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وهَذا القَوْلُ اخْتِيارُ الفَرّاءِ وابْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ المُتَأخِّرِينَ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ هو زَوالُها عَنْ كَبِدِ السَّماءِ وهو اخْتِيارُ الأكْثَرِينَ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ عَلى صِحَّتِهِ بِوُجُوهٍ: الحُجَّةُ الأُولى: رَوى الواحِدِيُّ في البَسِيطِ عَنْ جابِرٍ أنَّهُ قالَ: ”«طَعِمَ عِنْدِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ ثُمَّ خَرَجُوا حِينَ زالَتِ الشَّمْسُ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ هَذا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ» “ . الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: رَوى صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«أتانِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زالَتِ الشَّمْسُ فَصَلّى بِيَ الظَّهْرَ» “ . الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: قالَ أهْلُ اللُّغَةِ مَعْنى الدُّلُوكِ في كَلامِ العَرَبِ الزَّوالُ ولِذَلِكَ (p-٢٢)قِيلَ لِلشَّمْسِ إذا زالَتْ نِصْفَ النَّهارِ دالِكَةٌ، وقِيلَ لَها إذا أفَلَتْ دالِكَةٌ لِأنَّها في الحالَتَيْنِ زائِلَةٌ، هَكَذا قالَهُ الأزْهَرِيُّ، وقالَ القَفّالُ: أصْلُ الدُّلُوكِ المَيْلُ، يُقالُ: مالَتِ الشَّمْسُ لِلزَّوالِ، ويُقالُ: مالَتْ لِلْغُرُوبِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الدُّلُوكِ هَهُنا الزَّوالُ عَنْ كَبِدِ السَّماءِ وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى عَلَّقَ إقامَةَ الصَّلاةِ بِالدُّلُوكِ، والدُّلُوكُ عِبارَةٌ عَنِ المَيْلِ والزَّوالِ، فَوَجَبَ أنْ يُقالَ إنَّهُ أوَّلُ ما حَصَلَ المَيْلُ والزَّوالُ تَعَلَّقَ بِهِ هَذا الحُكْمُ فَلَمّا حَصَلَ هَذا المَعْنى حالَ مَيْلِها مِن كَبِدِ السَّماءِ وجَبَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الصَّلاةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الدُّلُوكِ في هَذِهِ الآيَةِ مَيْلُها عَنْ كَبِدِ السَّماءِ وهَذِهِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ في هَذا البابِ اسْتَنْبَطْتُها بِناءً عَلى ما اتَّفَقَ عَلَيْهِ أهْلُ اللُّغَةِ: أنَّ الدُّلُوكَ عِبارَةٌ عَنِ المَيْلِ والزَّوالِ واللَّهُ أعْلَمُ. الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: قالَ الأزْهَرِيُّ: الأوْلى حَمْلُ الدُّلُوكِ عَلى الزَّوالِ في نِصْفِ النَّهارِ، والمَعْنى ﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾ أيْ أدِمْها مِن وقْتِ زَوالِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الظَّهْرُ والعَصْرُ والمَغْرِبُ والعَشاءُ، ثُمَّ قالَ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾ فَإذا حَمَلْنا الدُّلُوكَ عَلى الزَّوالِ دَخَلَتِ الصَّلَواتُ الخَمْسُ في هَذِهِ الآيَةِ، وإنْ حَمَلْناهُ عَلى الغُرُوبِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إلّا ثَلاثُ صَلَواتٍ وهي المَغْرِبُ والعِشاءُ والفَجْرُ، وحَمْلُ كَلامِ اللَّهِ تَعالى عَلى ما يَكُونُ أكْثَرَ فائِدَةً أوْلى فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الدُّلُوكِ الزَّوالَ، واحْتَجَّ الفَرّاءُ عَلى قَوْلِهِ الدُّلُوكُ هو الغُرُوبُ بِقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎هَذا مَقامُ قَدَمَيْ رَباحٍ وقَفَتْ حَتّى دَلَكَتْ بَراحُ وبَراحُ اسْمُ الشَّمْسِ أيْ حَتّى غابَتْ، واحْتَجَّ ابْنُ قُتَيْبَةَ بِقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ: ؎مَصابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّواتِي يَقُودُها ∗∗∗ نُجُومٌ ولا أفَلاكُّهُنَّ الدَّوالِكُ واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ ضَعِيفٌ لِأنَّ عِنْدَنا الدُّلُوكَ عِبارَةٌ عَنِ المَيْلِ والتَّغَيُّرِ، وهَذا المَعْنى حاصِلٌ في الغُرُوبِ فَكانَ الغُرُوبُ نَوْعًا مِن أنْواعِ الدُّلُوكِ، فَكانَ وُقُوعُ لَفْظِ الدُّلُوكِ عَلى الغُرُوبِ لا يُنافِي وُقُوعَهُ عَلى الزَّوالِ كَما أنَّ وُقُوعَ لَفْظِ الحَيَوانِ عَلى الإنْسانِ لا يُنافِي وُقُوعَهُ عَلى الفَرَسِ، ومِنهم مَنِ احْتَجَّ أيْضًا عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ بِأنَّ الدُّلُوكَ اشْتِقاقُهُ مِنَ الدَّلْكِ لِأنَّ الإنْسانَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ عِنْدَ النَّظَرِ إلَيْها وهَذا إنَّما يَصِحُّ في الوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ النَّظَرُ إلَيْها ومَعْلُومٌ أنَّها عِنْدَ كَوْنِها في وسَطِ السَّماءِ لا يُمْكِنُ النَّظَرُ إلَيْها، أمّا عِنْدَ قُرْبِها مِنَ الغُرُوبِ فَيُمْكِنُ النَّظَرُ إلَيْها [ و] عِنْدَما يَنْظُرُ الإنْسانُ إلَيْها في ذَلِكَ الوَقْتِ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ، فَثَبَتَ أنَّ لَفْظَ الدُّلُوكِ مُخْتَصٌّ بِالغُرُوبِ. والجَوابُ أنَّ الحاجَةَ إلى ذَلِكَ التَّبْيِينِ عِنْدَ كَوْنِها في وسَطِ السَّماءِ أتَمُّ فَهَذا الَّذِي ذَكَرْتُهُ بِأنْ يَدُلَّ عَلى أنَّ الدُّلُوكَ عِبارَةٌ عَنِ الزَّوالِ مِن وسَطِ السَّماءِ أوْلى واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: اللّامُ في قَوْلِهِ ”﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾“ لامُ الأجَلِ والسَّبَبُ، وذَلِكَ لِأنَّ الصَّلاةَ إنَّما تَجِبُ بِزَوالِ الشَّمْسِ فَيَجِبُ عَلى المُصَلِّي إقامَتُها لِأجْلِ دُلُوكِ الشَّمْسِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ غَسَقُ اللَّيْلِ سَوادُهُ وظُلْمَتُهُ، قالَ الكِسائِيُّ: غَسَقَ اللَّيْلُ غُسُوقًا، والغَسَقُ: الِاسْمُ، بِفَتْحِ السِّينِ، وقالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: غَسَقُ اللَّيْلِ: دُخُولُ أوَّلِهِ، وأتَيْتُهُ حِينَ غَسَقَ اللَّيْلُ، أيْ حِينَ يَخْتَلِطُ ويَسُدُّ المَناظِرَ، وأصْلُ هَذا الحَرْفِ مِنَ السَّيَلانِ يُقالُ: غَسَقَتِ العَيْنُ تَغْسِقُ. وهو هَمَلانُ العَيْنِ بِالماءِ، والغاسِقُ السّائِلُ، ومِن هَذا يُقالُ لِما يَسِيلُ مِن أهْلِ النّارِ: الغَسّاقُ، فَمَعْنى غَسَقَ اللَّيْلُ أيِ انْصَبَّ بِظَلامِهِ، وذَلِكَ أنَّ الظُّلْمَةَ كَأنَّها تَنْصَبُّ عَلى العالَمِ، وأمّا قَوْلُ المُفَسِّرِينَ، قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: ما غَسَقُ اللَّيْلِ ؟ قالَ أوَّلُهُ حِينَ يَدْخُلُ. وسَألَ نافِعُ بْنُ الأزْرَقِ ابْنَ عَبّاسٍ ما الغَسَقُ: قالَ: دُخُولُ اللَّيْلِ (p-٢٣)بِظُلْمَتِهِ، وقالَ الأزْهَرِيُّ: غَسَقُ اللَّيْلِ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ عِنْدَ تَراكُمِ الظُّلْمَةِ واشْتِدادِها، يُقالُ: غَسَقَتِ العَيْنُ إذا امْتَلَأتْ دَمْعًا، وغَسَقَتِ الجِراحَةُ إذا امْتَلَأتْ دَمًا، قالَ: لِأنّا لَوْ حَمَلْنا الغَسَقُ عَلى هَذا المَعْنى دَخَلَتِ الصَّلَواتُ الأرْبَعُ فِيهِ وهي الظُّهْرُ والعَصْرُ والمَغْرِبُ والعِشاءُ، ولَوْ حَمَلْنا الغَسَقَ عَلى ظُهُورِ أوَّلِ الظُّلْمَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إلّا الظَّهْرُ والمَغْرِبُ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الأوَّلُ أوْلى، واعْلَمْ أنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ بِحْثٌ شَرِيفٌ، فَإنْ فَسَّرْنا الغَسَقَ بِظُهُورِ أوَّلِ الظُّلْمَةِ كانَ الغَسَقُ عِبارَةٌ عَنْ أوَّلِ المَغْرِبِ وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ المَذْكُورُ في الآيَةِ ثَلاثَةَ أوْقاتٍ وقْتَ الزَّوالِ ووَقْتَ أوَّلِ المَغْرِبِ ووَقْتَ الفَجْرِ وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الزَّوالُ وقْتًا لِلظُّهْرِ والعَصْرِ فَيَكُونُ هَذا الوَقْتُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ هاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ، وأنَّ يَكُونَ أوَّلُ المَغْرِبِ وقْتًا لِلْمَغْرِبِ والعِشاءِ فَيَكُونُ هَذا الوَقْتُ مُشْتَرِكًا أيْضًا بَيْنَ هاتَيْنِ الصَّلاتَيْنِ فَهَذا يَقْتَضِي جَوازَ الجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ وبَيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ مُطْلَقًا إلّا أنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلى أنَّ الجَمْعَ في الحَضَرِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ لا يَجُوزُ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الجَمْعُ جائِزًا بِعُذْرِ السَّفَرِ وعُذْرِ المَطَرِ وغَيْرِهِ، أمّا إنْ فَسَّرْنا الغَسَقَ بِالظُّلْمَةِ المُتَراكِمَةِ فَنَقُولُ: الظُّلْمَةُ المُتَراكِمَةُ إنَّما تَحْصُلُ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الأبْيَضِ، وكَلِمَةُ إلى لِانْتِهاءِ الغايَةِ والحُكْمُ المَمْدُودُ إلى غايَةٍ يَكُونُ مَشْرُوعًا قَبْلَ حُصُولِ تِلْكَ الغايَةِ فَوَجَبَ جَوازُ إقامَةِ الصَّلَواتِ كُلِّها قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الأبْيَضِ وهَذا إنَّما يَصِحُّ إذا قُلْنا إنَّها تَجِبُ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الأحْمَرِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ ”﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾“ أجْمَعُوا عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ صَلاةُ الصُّبْحِ، وانْتِصابُهُ بِالعَطْفِ عَلى الصَّلاةِ في قَوْلِهِ ”﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾“ والتَّقْدِيرُ أقِمِ الصَّلاةَ وأقِمْ قُرْآنَ الفَجْرِ وفِيهِ فَوائِدُ: الأُولى: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّلاةَ لا تَتِمُّ إلّا بِالقِراءَةِ. الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى أضافَ القُرْآنَ إلى الفَجْرِ، والتَّقْدِيرُ أقِمْ قُرْآنَ الفَجْرِ فَوَجَبَ أنْ تَتَعَلَّقَ القِراءَةُ بِحُصُولِ الفَجْرِ، وفي أوَّلِ طُلُوعِ الصُّبْحِ قَدْ حَصَلَ الفَجْرُ؛ لِأنَّ الفَجْرَ سُمِّي فَجْرًا لِانْفِجارِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَنْ نُورِ الصَّباحِ، وظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ فَمُقْتَضى هَذا اللَّفْظِ وُجُوبُ إقامَةِ صَلاةِ الفَجْرِ مِن أوَّلِ طُلُوعِهِ إلّا أنّا أجْمَعْنا عَلى أنَّ هَذا الوُجُوبَ غَيْرُ حاصِلٍ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى النَّدْبُ لِأنَّ الوُجُوبَ عِبارَةٌ عَنْ رُجْحانِ مانِعٍ مِنَ التَّرْكِ فَإذا مَنَعَ مانِعٌ مِن تَحْقُّقِ الوُجُوبِ وجَبَ أنْ يَرْتَفِعَ المَنعُ مِنَ التَّرْكِ وأنْ يَبْقى أصْلُ الرُّجْحانِ حَتّى تُنْقَلَ مُخالَفَةُ الدَّلِيلِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَقْتَضِي أنَّ إقامَةَ الفَجْرِ في أوَّلِ الوَقْتِ أفْضَلُ، وهَذا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ في أنَّ التَّغْلِيسَ أفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ، واللَّهُ أعْلَمُ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ الفُقَهاءَ بَيَّنُوا أنَّ السُّنَّةَ أنْ تَكُونَ القِراءَةُ في هَذِهِ الصَّلاةِ أطْوَلَ مِنَ القِراءَةِ في سائِرِ الصَّلَواتِ فالمَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ ”وقُرْآنَ الفَجْرِ“ الحَثُّ عَلى أنَّ تَطْوِيلَ القِراءَةِ في هَذِهِ الصَّلاةِ مَطْلُوبٌ لِأنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ أكْمَلَ مِن غَيْرِهِ. الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: أنَّهُ وصَفَ قُرْآنَ الفَجْرِ بِكَوْنِهِ مَشْهُودًا. قالَ الجُمْهُورُ: مَعْناهُ أنَّ مَلائِكَةَ اللَّيْلِ ومَلائِكَةَ النَّهارِ يَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الصُّبْحِ خَلْفَ الإمامِ تَنْزِلُ مَلائِكَةُ النَّهارِ عَلَيْهِمْ وهم في صَلاةِ الغَداةِ وقَبْلَ أنْ تَعْرُجَ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ فَإذا فَرَغَ الإمامُ مِن صِلاتِهِ عَرَجَتْ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَكَثَتْ مَلائِكَةُ النَّهارِ ثُمَّ إنَّ مَلائِكَةَ اللَّيْلِ إذا صَعَدَتْ قالَتْ: يا رَبِّ إنّا تَرَكْنا عِبادَكَ يُصَلُّونَ لَكَ وتَقُولُ مَلائِكَةُ النَّهارِ رَبَّنا أتَيْنا عِبادَكَ وهم يُصْلُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعالى لِلْمَلائِكَةِ اشْهَدُوا أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهم. وأقُولُ هَذا أيْضًا دَلِيلٌ قَوِيٌّ في أنَّ التَّغْلِيسَ أفْضَلُ مِنَ التَّنْوِيرِ لِأنَّ الإنْسانَ إذا شَرَعَ فِيها مِن أوَّلِ الصُّبْحِ فَفي ذَلِكَ الوَقْتِ الظُّلْمَةُ باقِيَةٌ فَتَكُونُ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ حاضِرِينَ ثُمَّ إذا امْتَدَّتِ الصَّلاةُ بِسَبَبِ تَرْتِيلِ القِراءَةِ وتَكْثِيرِها زالَتِ الظُّلْمَةُ وظَهَرَ الضَّوْءُ وحَضَرَتْ مَلائِكَةُ النَّهارِ فَبِهَذا الطَّرِيقِ تَحْضُرُ في هَذِهِ الصَّلاةِ مَلائِكَةُ اللَّيْلِ ومَلائِكَةُ النَّهارِ أمّا إذا ابْتَدَأ بِهَذِهِ الصَّلاةِ في وقْتِ التَّنْوِيرِ فَهُناكَ ما بَقِيَتْ (p-٢٤)الظُّلْمَةُ فَلَمْ يَبْقَ في ذَلِكَ الوَقْتِ أحَدٌ مِن مَلائِكَةِ اللَّيْلِ فَلا يَحْصُلُ المَعْنى المَذْكُورُ فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (إنَّهُ كانَ مَشْهُودًا) دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلى أنَّ التَّغْلِيسَ أفْضَلُ وعِنْدِي في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: (إنَّهُ كانَ مَشْهُودًا) احْتِمالٌ آخَرُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ كُلَّما كانَتِ الحَوادِثُ الحادِثَةُ أعْظَمَ وأكْمَلَ كانَ الِاسْتِدْلالُ بِها عَلى كَمالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى أكْمَلَ فالإنْسانُ إذا شَرَعَ في أداءِ صَلاةِ الصُّبْحِ مِن أوَّلِ هَذا الوَقْتِ كانَتِ الظُّلْمَةُ القَوِيَّةُ باقِيَةً في العالَمِ، فَإذا امْتَدَّتِ القِراءَةُ في أثْناءِ هَذا الوَقْتِ يَنْقَلِبُ العالَمُ مِنَ الظُّلْمَةِ إلى الضَّوْءِ، والظُّلْمَةُ مُناسِبَةٌ لِلْمَوْتِ والعَدَمِ، والضَّوْءُ مُناسِبٌ لِلْحَياةِ والوُجُودِ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالإنْسانُ لَمّا قامَ مِن مَنامِهِ فَكَأنَّهُ انْتَقَلَ مِنَ المَوْتِ إلى الحَياةِ ومِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُشاهِدُ في أثْناءِ صِلاتِهِ انْقِلابَ كُلِّيَّةِ هَذا العالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ إلى الضَّوْءِ ومِنَ المَوْتِ إلى الحَياةِ ومِنَ السُّكُونِ إلى الحَرَكَةِ ومِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ، وهَذِهِ الحالَةُ حالَةٌ عَجِيبَةٌ تَشْهَدُ العُقُولُ والأرْواحُ بِأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى هَذا التَّقْلِيبِ والتَّحْوِيلِ والتَّبْدِيلِ إلّا الخالِقُ المُدَبِّرُ بِالحِكْمَةِ البالِغَةِ والقُوَّةِ الغَيْرِ المُتَناهِيَةِ وحِينَئِذٍ يَسْتَنِيرُ العَقْلُ بِنُورِ هَذِهِ المَعْرِفَةِ ويَنْفَتِحُ عَلى العَقْلِ والرُّوحِ أبْوابُ المُكاشَفاتِ الرُّوحانِيَّةِ الإلَهِيَّةِ فَتَصِيرُ الصَّلاةُ الَّتِي هي عِبارَةٌ عَنْ أعْمالِ الجَوارِحِ مَشْهُودًا عَلَيْها بِهَذِهِ المُكاشَفاتِ الإلَهِيَّةِ المُقَدَّسَةِ ولِذَلِكَ فَكُلُّ مَن لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وطَبْعٌ مُسْتَقِيمٌ إذا قامَ مِن مَنامِهِ وأدّى صَلاةَ الصُّبْحِ في أوَّلِ الوَقْتِ واعْتَبَرَ اخْتِلافَ أحْوالِ العالَمِ مِنَ الظُّلْمَةِ الحاصِلَةِ إلى النُّورِ ومِنَ السُّكُونِ إلى الحَرَكَةِ فَإنَّهُ يَجِدُ في قَلْبِهِ رَوْحًا وراحَةً ومَزِيدًا في نُورِ المَعْرِفَةِ وقُوَّةِ اليَقِينِ فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ وظَهَرَ أنَّ هَذا الِاعْتِبارَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ أداءِ صَلاةِ الفَجْرِ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيسِ فَهَذا ما خَطَرَ بِالبالِ واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ. وفِي الآيَةِ احْتِمالٌ ثالِثٌ وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ التَّرْغِيبَ في أنْ تُؤَدّى هَذِهِ الصَّلاةُ بِالجَماعَةِ، ويَكُونُ المَعْنى كَوْنُهُ مَشْهُودًا بِالجَماعَةِ الكَثِيرَةِ، ومَزِيدُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أنّا بَيَّنّا أنَّ تَأْثِيرَ هَذِهِ الصَّلاةِ في تَصْفِيَةِ القَلْبِ وفي تَنْوِيرِهِ أكْثَرُ مِن تَأْثِيرِ سائِرِ الصَّلَواتِ، فَإذا حَضَرَ جَمْعٌ مِنَ المُسْلِمِينَ في المَسْجِدِ لِأداءِ هَذِهِ العِبادَةِ اسْتَنارَ قَلْبُ كُلِّ واحِدٍ مِنهم ثُمَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاجْتِماعِ كَأنَّهُ يَنْعَكِسُ نُورُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، ونُورُ طاعَتِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ مِن قَلْبِ كُلِّ واحِدٍ إلى قَلْبِ الآخَرِ فَتَصِيرُ أرْواحُهم كالمَرايا المُشْرِقَةِ المُتَقابِلَةِ إذا وقَعَتْ عَلَيْها أنْوارُ الشَّمْسِ فَإنَّهُ يَنْعَكِسُ النُّورُ مِن كُلِّ واحِدَةٍ مِن تِلْكَ المَرايا إلى الأُخْرى فَكَذا في هَذِهِ الصُّورَةِ، ولِهَذا السَّبَبِ فَإنَّ كُلَّ مَن لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ وأدّى هَذِهِ الصَّلاةَ في هَذا الوَقْتِ بِالجَماعَةِ وجَدَ مِن قَلْبِهِ فُسْحَةً ونُورًا وراحَةً. الفائِدَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ السَّبَبُ في كَوْنِهِ مَشْهُودًا هو أنَّ الإنْسانَ لَمّا نامَ طُولَ اللَّيْلِ فَصارَ كالغافِلِ في هَذِهِ المُدَّةِ عَنْ مُراقَبَةِ أحْوالِ الدُّنْيا فَزالَتْ صُورَةُ الحَوادِثِ الجُسْمانِيَّةِ عَنْ لَوْحِ خَيالِهِ وفِكْرِهِ وعَقْلِهِ وصارَتْ هَذِهِ الألْواحُ كَألْواحٍ سُطِّرَتْ فِيها نُقُوشٌ فاسِدَةٌ ثُمَّ غُسِلَتْ وأُزِيلَتْ تِلْكَ النُّقُوشُ عَنْها، فَفي أوَّلِ وقْتِ القِيامِ مِنَ المَنامِ صارَتْ ألْواحُ عَقْلِهِ وفِكْرِهِ وخَيالِهِ مُطَهَّرَةً عَنِ النُّقُوشِ الفاسِدَةِ الباطِلَةِ. فَإذا تَسارَعَ الإنْسانُ في ذَلِكَ الوَقْتِ إلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وقِراءَةِ الكَلَمّاتِ الدّالَّةِ عَلى تَنْزِيهِهِ والإقْدامِ عَلى الأفْعالِ الدّالَّةِ عَلى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى انْتَقَشَ في لَوْحِ عَقْلِهِ وفِكْرِهِ وخَيالِهِ هَذِهِ النُّقُوشُ الطّاهِرَةُ المُقَدَّسَةُ، ثُمَّ إنَّ حُصُولَ هَذِهِ النُّقُوشِ يَمْنَعُ مِنَ اسْتِحْكامِ النُّقُوشِ الفاسِدَةِ، وهي النُّقُوشُ المُتَوَلِّدَةُ مِنَ المَيْلِ إلى الدُّنْيا وشَهَواتِها فَبِهَذا الطَّرِيقِ يَتَرَشَّحُ المَيْلُ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ومَحَبَّتِهِ وطاعَتِهِ ويَضْعُفُ المَيْلُ إلى الدُّنْيا وشَهَواتِها. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ هَذِهِ الحِكْمَةُ إنَّما تَحْصُلُ إذا شَرَعَ الإنْسانُ في الصَّلاةِ مِن أوَّلِ قِيامِهِ مِنَ النَّوْمِ عِنْدَ التَّغْلِيسِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى المَقْصُودِ، واعْلَمْ أنَّ أكْثَرَ الخَلْقِ وقَعُوا في أمْراضِ القُلُوبِ وهي حُبُّ (p-٢٥)الدُّنْيا والحِرْصُ والحَسَدُ والتَّفاخُرُ والتَّكاثُرُ وهَذِهِ الدُّنْيا مِثْلُ دارِ المَرْضى إذا كانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ المَرْضى، والأنْبِياءُ كالأطِبّاءِ الحاذِقِينَ، والمَرِيضُ رُبَّما قَدْ قَوِيَ مَرَضُهُ فَلا يَعُودُ إلى الصِّحَّةِ إلّا بِمُعالَجاتٍ قَوِيَّةٍ ورُبَّما كانَ المَرِيضُ جاهِلًا فَلا يَنْقادُ لِلطَّبِيبِ ويُخالِفُهُ في أكْثَرِ الأمْرِ، إلّا أنَّ الطَّبِيبَ إذا كانَ مُشْفِقًا حاذِقًا فَإنَّهُ يَسْعى في إزالَةِ ذَلِكَ المَرَضِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى إزالَتِهِ فَإنَّهُ يَسْعى في تَقْلِيلِهِ وتَخْفِيفِهِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: مَرَضُ حُبِّ الدُّنْيا مُسْتَوْلٍ عَلى الخَلْقِ ولا عِلاجَ لَهُ إلّا بِالدَّعْوَةِ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى وخِدْمَتِهِ وطاعَتِهِ وهَذا عِلاجٌ شاقٌّ عَلى النُّفُوسِ، وقَلَّ مَن يَقْبَلُهُ ويَنْقادُ لَهُ، لا جَرَمَ [ أنَّ ] الأنْبِياءَ اجْتَهَدُوا في تَقْلِيلِ هَذا المَرَضِ وحَمْلِ الخَلْقِ عَلى الشُّرُوعِ في الطّاعَةِ والعُبُودِيَّةِ مِن أوَّلِ وقْتِ القِيامِ مِنَ النَّوْمِ مِمّا يَنْفَعُ في إزالَةِ هَذا المَرَضِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْناهُ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ كَلامِهِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالصَّلَواتِ الخَمْسِ عَلى سَبِيلِ الرَّمْزِ والإشارَةِ أرْدَفَهُ بِالحَثِّ عَلى صَلاةِ اللَّيْلِ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: التَّهَجُّدُ عِبارَةٌ عَنْ صَلاةِ اللَّيْلِ فَقَوْلُهُ فَتَهَجَّدْ بِهِ أيْ بِالقُرْآنِ كَما قالَ: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ (المُزَّمِّلِ: ٢) إلى قَوْلِهِ: ﴿ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المُزَّمِّلِ: ٤) . البَحْثُ الثّانِي: قالَ الواحِدِيُّ: الهُجُودُ في اللُّغَةِ النَّوْمُ وهو مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ في الشِّعْرِ يُقالُ: أهْجَدْتُهُ وهَجَّدْتُهُ أيْ أنَمْتُهُ ومِنهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: ؎هَجِّدْنا فَقَدْ طالَ السُّرى كَأنَّهُ قالَ: نَوِّمْنا فَإنَّ السُّرى قَدْ طالَ عَلَيْنا حَتّى غَلَبَنا النَّوْمُ، ورَوى أبُو عُبَيْدٍ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ: الهاجِدُ النّائِمُ والهاجِدُ المُصَلِّي بِاللَّيْلِ، ورَوى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ مِثْلَ هَذا القَوْلِ كَأنَّهُ قالَ هَجَدَ الرَّجُلُ إذا صَلّى مِنَ اللَّيْلِ وهَجَدَ إذا نامَ بِاللَّيْلِ فَعِنْدَ هَؤُلاءِ هَذا اللَّفْظُ مِنَ الأضْدادِ، وأمّا الأزْهَرِيُّ فَإنَّهُ تَوَسَّطَ في تَفْسِيرِ هَذا اللَّفْظِ وقالَ: المَعْرُوفُ في كَلامِ العَرَبِ أنَّ الهاجِدَ هو النّائِمُ، ثُمَّ رَأيْنا أنَّ في الشَّرْعِ يُقالُ لِمَن قامَ مِنَ النَّوْمِ إلى الصَّلاةِ إنَّهُ مُتَهَجِّدٌ فَوَجَبَ أنَّ يُحْمَلَ هَذا عَلى أنَّهُ سُمِّيَ مُتَهَجِّدًا لِإلْقائِهِ الهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ كَما قِيلَ لِلْعابِدِ مُتَحَنِّثٌ لِإلْقائِهِ الحِنْثَ عَنْ نَفْسِهِ وهو الإثْمُ، ويُقالُ فُلانٌ رَجُلٌ مُتَحَرِّجٌ ومُتَأثِّمٌ ومُتَحَوِّبٌ أيْ: يُلْقِي الحَرَجَ والإثْمَ والحُوبَ عَنْ نَفْسِهِ، وأقُولُ فِيهِ احْتِمالٌ آخَرُ وهو أنَّ الإنْسانَ إنَّما يَتْرُكُ لَذَّةَ النَّوْمِ ويَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ القِيامِ إلى الصَّلاةِ لِيَطِيبَ رُقادُهُ وهُجُودُهُ عِنْدَ المَوْتِ، فَلَمّا كانَ غَرَضُهُ مِن تَرْكِ هَذا الهُجُودِ أنْ يَصِلَ إلى الهُجُودِ اللَّذِيذِ عِنْدَ المَوْتِ كانَ هَذا القِيامُ طَلَبًا لِذَلِكَ الهُجُودِ فَسُمِّيَ تَهَجُّدًا لِهَذا السَّبَبِ. وفِيهِ وجْهٌ ثالِثٌ: وهو ما رُوِيَ أنَّ الحَجّاجَ بْنَ عَمْرٍو المازِنِيَّ قالَ: أيَحْسَبُ أحَدُكم إذا قامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلّى حَتّى يُصْبِحَ أنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ إنَّما التَّهَجُّدُ الصَّلاةُ بَعْدَ الرُّقادِ ثُمَّ صَلاةٌ أُخْرى بَعْدَ رَقْدَةٍ ثُمَّ صَلاةٌ أُخْرى بَعْدَ رَقْدَةٍ هَكَذا كانَتْ صَلاةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ كُلَّما صَلّى الإنْسانُ طَلَبَ هُجُودًا ورُقادًا فَلا يَبْعُدُ أنَّهُ سُمِّيَ تَهَجُّدًا لِهَذا السَّبَبِ. البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: (مِنَ) في قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ اللَّيْلِ﴾ لا بُدَّ لَهُ مِن مُتَعَلِّقٍ، والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَتَهَجَّدْ﴾ لا بُدَّ لَهُ مِن مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ، والتَّقْدِيرُ: قُمْ مِنَ اللَّيْلِ أيْ في بَعْضِ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ، وقَوْلُهُ: (بِهِ) أيْ بِالقُرْآنِ، والمُرادُ مِنهُ الصَّلاةُ المُشْتَمِلَةُ عَلى القُرْآنِ. (p-٢٦)البَحْثُ الرّابِعُ: مَعْنى النّافِلَةِ في اللُّغَةِ ما كانَ زِيادَةً عَلى الأصْلِ ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ﴾ (الأنْفالِ: ١) ومَعْناها أيْضًا في هَذِهِ الآيَةِ الزِّيادَةُ، وفي تَفْسِيرِ كَوْنِها زِيادَةً قَوْلانِ مَبْنِيّانِ عَلى أنَّ صَلاةَ اللَّيْلِ هَلْ كانَتْ واجِبَةً عَلى النَّبِيِّ ﷺ أمْ لا فَمِنَ النّاسِ مَن قالَ إنَّها كانَتْ واجِبَةً عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَتْ فَصارَتْ نافِلَةً، أيْ تَطَوُّعًا وزِيادَةً عَلى الفَرائِضِ، وذَكَرَ مُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ في تَفْسِيرِ كَوْنِها (نافِلَةً) وجْهًا حَسَنًا قالا: إنَّهُ تَعالى غَفَرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأخَّرَ، فَكُلُّ طاعَةٍ يَأْتِي بِها سِوى المَكْتُوبَةِ فَإنَّهُ لا يَكُونُ تَأْثِيرُها في كَفّارَةِ الذُّنُوبِ البَتَّةَ بَلْ يَكُونُ تَأْثِيرُها في زِيادَةِ الدَّرَجاتِ وكَثْرَةِ الثَّوابِ، وكانَ المَقْصُودُ مِن تِلْكَ العِبادَةِ زِيادَةَ الثَّوابِ فَلِهَذا سُمِّيَتْ نافِلَةً، بِخِلافِ الأُمَّةِ فَإنَّ لَهم ذُنُوبًا مُحْتاجَةً إلى الكَفّاراتِ فَهَذِهِ الطّاعَةُ مُحْتاجُونَ إلَيْها لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ والسَّيِّئاتِ فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الطّاعاتِ إنَّما تَكُونُ زَوائِدَ ونَوافِلَ في حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ لا في حَقِّ غَيْرِهِ فَلِهَذا السَّبَبِ قالَ: ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ يَعْنِي أنَّها زَوائِدُ ونَوافِلُ في حَقِّكَ لا في حَقِّ غَيْرِكَ، وتَقْرِيرُهُ ما ذَكَرْناهُ، وأمّا الَّذِينَ قالُوا: إنَّ صَلاةَ اللَّيْلِ كانَتْ واجِبَةً عَلى النَّبِيِّ ﷺ قالُوا مَعْنى كَوْنِها نافِلَةً لَهُ عَلى التَّخْصِيصِ أنَّها فَرِيضَةٌ عَلَيْكَ زائِدَةٌ عَلى الصَّلَواتِ الخَمْسِ خُصِّصْتَ بِها مِن بَيْنِ أُمَّتِكَ ويُمْكِنُ نُصْرَةُ هَذا القَوْلِ بِأنَّ قَوْلَهُ ”﴿فَتَهَجَّدْ﴾“ أمْرٌ وصِيغَةُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ فَوَجَبَ كَوْنُ هَذا التَّهَجُّدُ واجِبًا، فَلَوْ حَمَلْنا قَوْلَهُ ”نافِلَةً لَكَ“ عَلى عَدَمِ الوُجُوبِ لَزِمَ التَّعارُضُ وهو خِلافُ الأصْلِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَعْنى كَوْنِها نافِلَةً لَهُ ما ذَكَرْناهُ مِن كَوْنِ وُجُوبِها زائِدًا عَلى وُجُوبِ الصَّلَواتِ الخَمْسِ واللَّهُ أعْلَمُ. البَحْثُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ وإنْ كانَ ظاهِرُ الأمْرِ فِيهِ مُخْتَصًّا بِالرَّسُولِ ﷺ إلّا أنَّهُ في المَعْنى عامٌّ في حَقِّ الأُمَّةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ قالَ ”﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ﴾“ فَبَيَّنَ أنَّ الأمْرَ بِالتَّهَجُّدِ مَخْصُوصٌ بِالرَّسُولِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالصَّلاةِ الخَمْسِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وإلّا لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِ الأمْرِ بِالتَّهَجُّدِ بِهَذا القَيْدِ فائِدَةً أصْلًا واللَّهُ أعْلَمُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ اتَّفَقَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ كَلِمَةَ عَسى مِنَ اللَّهِ واجِبٌ، قالَ أهْلُ المَعانِي: لِأنَّ لَفْظَةَ عَسى تُفِيدُ الإطْماعَ، ومَن أطْمَعَ إنْسانًا في شَيْءٍ ثُمَّ حَرَمَهُ كانَ عارًا واللَّهُ تَعالى أكْرَمُ مِن أنْ يُطْمِعَ أحَدًا في شَيْءٍ ثُمَّ لا يُعْطِيهِ ذَلِكَ * * * وقَوْلُهُ: ﴿مَقامًا مَحْمُودًا﴾ فِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: في انْتِصابِ قَوْلِهِ مَحْمُودًا وجْهانِ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ انْتِصابُهُ عَلى الحالِ مِن قَوْلِهِ يَبْعَثُكَ أيْ: يَبْعَثُكَ مَحْمُودًا. والثّانِي: أنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَقامِ وهو ظاهِرٌ. البَحْثُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ المَقامِ المَحْمُودِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ الشَّفاعَةُ، قالَ الواحِدِيُّ: أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّهُ مَقامُ الشَّفاعَةِ كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ في هَذِهِ الآيَةِ ”«هُوَ المَقامُ الَّذِي أشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي» “ وأقُولُ: اللَّفْظُ مُشْعِرٌ بِهِ، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ إنَّما يَصِيرُ مَحْمُودًا إذا حَمِدَهُ حامِدٌ، والحَمْدُ إنَّما يَكُونُ عَلى الإنْعامِ فَهَذا المَقامُ المَحْمُودُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَقامًا أنْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهِ عَلى قَوْمٍ فَحَمِدُوهُ عَلى ذَلِكَ الإنْعامِ، وذَلِكَ الإنْعامُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو تَبْلِيغُ الدِّينِ وتَعْلِيمُ الشَّرْعِ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ حاصِلًا في الحالِ وقَوْلُهُ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ تَطْمِيعٌ وتَطْمِيعُ الإنْسانِ في الشَّيْءِ الَّذِي وعَدَهُ في الحالِ مُحالٌ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الإنْعامُ الَّذِي لِأجْلِهِ يَصِيرُ مَحْمُودًا إنْعامًا سَيَصِلُ مِنهُ حَصَلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلى النّاسِ وما ذاكَ إلّا شَفاعَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ لَفْظَ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ يَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى وأيْضًا التَّنْكِيرُ في قَوْلِهِ مَقامًا مَحْمُودًا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَحْصُلُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في ذَلِكَ المَقامِ حَمْدٌ بالِغٌ عَظِيمٌ كامِلٌ ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ حَمْدَ (p-٢٧)الإنْسانِ عَلى سَعْيِهِ في التَّخْلِيصِ عَنِ العِقابِ أعْظَمُ مِن حَمْدِهِ في السَّعْيِ في زِيادَةٍ مِنَ الثَّوابِ لا حاجَةَ بِهِ إلَيْها لِأنَّ احْتِياجَ الإنْسانِ إلى دَفْعِ الآلامِ العَظِيمَةِ عَنِ النَّفْسِ فَوْقَ احْتِياجِهِ إلى تَحْصِيلِ المَنافِعِ الزّائِدَةِ الَّتِي لا حاجَةَ بِهِ إلى تَحْصِيلِها وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ هو الشَّفاعَةُ في إسْقاطِ العِقابِ عَلى ما هو مَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ، ولَمّا ثَبَتَ أنَّ لَفْظَ الآيَةِ مُشْعِرٌ بِهَذا المَعْنى إشْعارًا قَوِيًّا ثُمَّ ورَدَتِ الأخْبارُ الصَّحِيحَةُ في تَقْرِيرِ هَذا المَعْنى وجَبَ حَلُّ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا الوَجْهَ الدُّعاءُ المَشْهُورُ وابْعَثْهُ المَقامَ المَحْمُودَ الَّذِي وعَدْتَهُ يَغْبِطُهُ بِهِ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ، واتَّفَقَ النّاسُ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ الشَّفاعَةُ. والقَوْلُ الثّانِي: قالَ حُذَيْفَةُ: ”يُجْمَعُ النّاسُ في صَعِيدٍ فَلا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ فَأوَّلُ مَدْعُوٍّ مُحَمَّدٌ ﷺ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ والمَهْدِيُّ مَن هَدَيْتَ وعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وبِكَ وإلَيْكَ لا مَلْجَأ ولا مَنجا مِنكَ إلّا إلَيْكَ تَبارَكْتَ وتَعالَيْتَ سُبْحانَكَ رَبَّ البَيْتِ“ فَهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ وأقُولُ القَوْلُ الأوَّلُ أوْلى لِأنَّ سَعْيَهُ في الشَّفاعَةِ يُفِيدُهُ إقْدامُ النّاسِ عَلى حَمْدِهِ فَيَصِيرُ مَحْمُودًا، وأمّا ذِكْرُ هَذا الدُّعاءِ فَلا يُفِيدُ إلّا الثَّوابَ أمّا الحَمْدُ فَلا، فَإنْ قالُوا: لِمَ لا يَجُوزُ أنَّ يُقالَ إنَّهُ تَعالى يَحْمَدُهُ عَلى هَذا القَوْلِ ؟ قُلْنا: لِأنَّ الحَمْدَ في اللُّغَةِ مُخْتَصٌّ بِالثَّناءِ المَذْكُورِ في مُقابَلَةِ الإنْعامِ فَقَطْ، فَإنْ ورَدَ لَفْظُ الحَمْدِ في غَيْرِ هَذا المَعْنى فَعَلى سَبِيلِ المَجازِ. القَوْلُ الثّالِثُ: المُرادُ مَقامٌ تُحْمَدُ عاقِبَتُهُ وهَذا أيْضًا ضَعِيفٌ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ في القَوْلِ الثّانِي. القَوْلُ الرّابِعُ: قالَ الواحِدِيُّ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: ”يُقْعِدُ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلى العَرْشِ“ وعَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلى العَرْشِ، ثُمَّ قالَ الواحِدِيُّ: وهَذا قَوْلٌ رَذْلٌ مُوحِشٌ فَظِيعٌ ونَصُّ الكِتابِ يُنادِي بِفَسادِ هَذا التَّفْسِيرِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: ضِدُّ الإجْلاسِ يُقالُ بَعَثْتُ النّازِلَ والقاعِدَ فانْبَعَثَ، ويُقالُ بَعْثَ اللَّهُ المَيِّتَ أيْ أقامَهُ مِن قَبْرِهِ، فَتَفْسِيرُ البَعْثِ بِالإجْلاسِ تَفْسِيرٌ لِلضِّدِّ بِالضِّدِّ وهو فاسِدٌ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ مَقامًا مَحْمُودًا ولَمْ يَقُلْ مَقْعَدًا، والمَقامُ مَوْضِعُ القِيامِ لا مَوْضِعَ القُعُودِ. والثّالِثُ: لَوْ كانَ تَعالى جالِسًا عَلى العَرْشِ بِحَيْثُ يَجْلِسُ عِنْدَهُ مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لَكانَ مَحْدُودًا مُتَناهِيًا ومَن كانَ كَذَلِكَ فَهو مُحْدَثٌ. والرّابِعُ: يُقالُ إنَّ جُلُوسَهُ مَعَ اللَّهِ عَلى العَرْشِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ إعْزازٍ لِأنَّ هَؤُلاءِ الجُهّالَ والحَمْقى يَقُولُونَ في كُلِّ أهْلِ الجَنَّةِ إنَّهم يَزُورُونَ اللَّهَ تَعالى وإنَّهم يَجْلِسُونَ مَعَهُ وإنَّهُ تَعالى يَسْألُهم عَنْ أحْوالِهِمُ الَّتِي كانُوا فِيها في الدُّنْيا، وإذا كانَتْ هَذِهِ الحالَةُ حاصِلَةً عِنْدَهم لِكُلِّ المُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِها مَزِيدُ شَرَفٍ ورُتْبَةٍ. والخامِسُ: أنَّهُ إذا قِيلَ السُّلْطانُ بَعَثَ فُلانًا فُهِمَ مِنهُ أنَّهُ أرْسَلَهُ إلى قَوْمٍ لِإصْلاحِ مُهِمّاتِهِمْ ولا يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ أجْلَسَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَثَبَتَ أنَّ هَذا القَوْلَ كَلامٌ رَذْلٌ ساقِطٌ لا يَمِيلُ إلَيْهِ إلّا إنْسانٌ قَلِيلُ العَقْلِ عَدِيمُ الدِّينِ واللَّهُ أعْلَمُ * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنّا ذَكَرْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ﴾ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: المُرادُ مِنهُ سَعْيُ كُفّارِ مَكَّةَ في إخْراجِهِ مِنها. والثّانِي: المُرادُ مِنهُ أنَّ اليَهُودَ قالُوا لَهُ الأوْلى لَكَ أنَّ تَخْرُجَ مِنَ المَدِينَةِ إلى الشّامِ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ لَهُ: ﴿أقِمِ الصَّلاةَ﴾ واشْتَغِلْ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى ولا تَلْتَفِتْ إلى هَؤُلاءِ الجُهّالِ فَإنَّهُ تَعالى ناصِرُكَ ومُعِينُكَ ثُمَّ عادَ بَعْدَ هَذا الكَلامِ إلى شَرْحِ تِلْكَ الواقِعَةِ فَإنْ فَسَّرْنا تِلْكَ الآيَةَ أنَّ المُرادَ مِنها أنَّ كُفّارَ مَكَّةَ أرادُوا إخْراجَهُ مِن مَكَّةَ كانَ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِالهِجْرَةِ إلى المَدِينَةِ وقالَ لَهُ: ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ وهو المَدِينَةُ ﴿وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ وهو مَكَّةُ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ وقَتادَةَ، وإنْ فَسَّرْنا تِلْكَ الآيَةَ بِأنَّ المُرادَ مِنها أنَّ اليَهُودَ حَمَلُوهُ عَلى الخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ والذَّهابِ إلى الشّامِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنها (p-٢٨)ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يَرْجِعَ إلَيْها كانَ المُرادُ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عِنْدَ العَوْدِ إلى المَدِينَةِ قالَ: ﴿رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ وهو المَدِينَةُ ﴿وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ يَعْنِي أخْرِجْنِي مِنها إلى مَكَّةَ مُخْرَجَ صِدْقٍ أيِ:افْتَحْها لِي. والقَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ وهو أكْمَلُ مِمّا سَبَقَ: أنَّ المُرادَ ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي﴾ في الصَّلاةِ ﴿وأخْرِجْنِي﴾ مِنها مَعَ الصِّدْقِ والإخْلاصِ وحُضُورِ ذِكْرِكَ والقِيامِ بِلَوازِمِ شُكْرِكَ. والقَوْلُ الثّالِثُ: وهو أكْمَلُ مِمّا سَبَقَ أنِ المُرادَ: ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي﴾ في القِيامِ بِمُهِمّاتِ أداءِ دَيْنِكَ وشَرِيعَتِكَ ﴿وأخْرِجْنِي﴾ مِنها بَعْدَ الفَراغِ مِنها إخْراجًا لا يَبْقى عَلَيَّ مِنها تَبِعَةً رِبْقِيَّةً. والقَوْلُ الرّابِعُ: وهو أعْلى مِمّا سَبَقَ: ﴿وقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي﴾ في بِحارِ دَلائِلِ تَوْحِيدِكِ وتَنْزِيهِكِ وقُدْسِكَ ثُمَّ أخْرِجْنِي مِنَ الِاشْتِغالِ بِالدَّلِيلِ إلى ضِياءِ مَعْرِفَةِ المَدْلُولِ ومِنَ التَّأمُّلِ في آثارِ حُدُوثِ المُحْدَثاتِ إلى الِاسْتِغْراقِ في مَعْرِفَةِ الأحَدِ الفَرْدِ المُنَزَّهِ عَنِ التَّكْثِيراتِ والتَّغَيُّراتِ. والقَوْلُ الخامِسُ: أدْخِلْنِي في كُلِّ ما تُدْخِلُنِي فِيهِ مَعَ الصِّدْقِ في عُبُودِيَّتِكَ والِاسْتِغْراقِ بِمَعْرِفَتِكَ وأخْرِجْنِي عَنْ كُلِّ ما تُخْرِجُنِي عَنْهُ مَعَ الصِّدْقِ في العُبُودِيَّةِ والمَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ، والمَقْصُودُ مِنهُ أنْ يَكُونَ صِدْقُ العُبُودِيَّةِ حاصِلًا في كُلِّ دُخُولٍ وخُرُوجٍ وحَرَكَةٍ وسُكُونٍ. والقَوْلُ السّادِسُ: أدْخِلْنِي القَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِي مِنهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. البَحْثُ الثّانِي: ”مُدْخَلَ“ بِضَمِّ المِيمِ مَصْدَرٌ كالإدْخالِ يُقالُ أدْخَلْتُهُ مُدْخَلًا كَما قالَ: ﴿وقُلْ رَبِّ أنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكًا﴾ (المُؤْمِنُونَ: ٢٩) ومَعْنى إضافَةِ المُدْخَلِ والمُخْرَجِ إلى الصِّدْقِ مَدْحُهُما كَأنَّهُ سَألَ اللَّهَ تَعالى إدْخالًا حَسَنًا وإخْراجًا حَسَنًا لا يَرى فِيهِما ما يَكْرَهُ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واجْعَلْ لِي مِن لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا﴾ أيْ حُجَّةً بَيِّنَةً ظاهِرَةً تَنْصُرُنِي بِها عَلى جَمِيعِ مَن خالَفَنِي، وبِالجُمْلَةِ فَقَدْ سَألَ اللَّهَ تَعالى أنْ يَرْزُقَهُ التَّقْوِيَةَ عَلى مَن خالَفَهُ بِالحُجَّةِ وبِالقَهْرِ والقُدْرَةِ وقَدْ أجابَ اللَّهُ تَعالى دُعاءَهُ وأعْلَمَهُ بِأنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النّاسِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ﴾ (المائِدَةِ: ٦٧) وقالَ: ﴿ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ (المُجادَلَةِ: ٢٢) وقالَ: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التَّوْبَةِ: ٣٣) ولَمّا سَألَ اللَّهَ النُّصْرَةَ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ أنَّهُ أجابَ دُعاءَهُ فَقالَ: ﴿وقُلْ جاءَ الحَقُّ﴾ وهو دِينُهُ وشَرْعُهُ ﴿وزَهَقَ الباطِلُ﴾ وهو كُلُّ ما سِواهُ مِنَ الأدْيانِ والشَّرائِعِ، وزَهَقَ: بَطَلَ واضْمَحَلَّ، وأصْلُهُ مِن زَهَقَتْ نَفْسُهُ تَزْهَقُ أيْ هَلَكَتْ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ”«أنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ وحَوْلَ البَيْتِ ثَلاثُمِائَةٍ وسِتُّونَ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنُها بِعُودٍ في يَدِهِ ويَقُولُ جاءَ الحَقُّ وزَهَقَ الباطِلُ فَجَعَلَ الصَّنَمُ يَنْكَبُّ عَلى وجْهِهِ» “ . وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقًا﴾ يَعْنِي أنَّ الباطِلَ وإنِ اتَّفَقَتْ لَهُ دَوْلَةٌ وصَوْلَةٌ إلّا أنَّها لا تَبْقى بَلْ تَزُولُ عَلى أسْرَعِ الوُجُوهِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب