الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٧٨] ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ . ﴿أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى، قَبْلُ، كَيْدَ اَلْمُشْرِكِينَ وكَيْدُودَتَهُمُ اِسْتِفْزازَهُ مِنَ اَلْأرْضِ، أمَرَهُ بِأنْ يَسْتَعِينَ بِإقامَةِ اَلصَّلَواتِ والإقْبالِ عَلى عِبادَتِهِ تَعالى، والِابْتِهالِ إلَيْهِ عَلى دَفْعِ كَيْدِهِمْ ومَكْرِهِمْ، وتَأْيِيدِهِ عَلَيْهِمْ. ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ﴾ [الحجر: ٩٧] ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٩٨] وقَوْلُهُ: ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها ومِن آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى﴾ [طه: ١٣٠] وقَوْلُهُ: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ [البقرة: ٤٥] هَذا مِن حَيْثُ نَظْمُ اَلْآيَةِ مَعَ ما قَبْلَها. وأمّا مَعْناها، فَقَوْلُهُ: ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ أيْ: لِزَوالِها. قالَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ: اَلدُّلُوكُ: اَلزَّوالُ عِنْدَ أكْثَرِ اَلسَّلَفِ، وهو اَلصَّوابُ. واللّامُ لِلتَّأْقِيتِ. أيْ: بَيانُ اَلْوَقْتِ بِمَعْنى (بَعْدَ) وتَكُونُ بِمَعْنى (عِنْدَ) أيْضًا. وقِيلَ: لِلتَّعْلِيلِ؛ لِأنَّ دُخُولَ اَلْوَقْتِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ اَلصَّلاةِ. وأمّا: ﴿غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ فَهو اِجْتِماعُ اَللَّيْلِ وظُلْمَتُهُ. وأمّا: ﴿قُرْآنَ الفَجْرِ﴾ فَهو صَلاةُ اَلصُّبْحِ. سُمِّيَتْ قَرْآنًا لِأنَّهُ رَكَنَها. كَما سُمِّيَتْ رُكُوعًا وسُجُودًا. فَهو مِن تَسْمِيَةِ اَلْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ اَلْمُهِمِّ. فَيَدُلُّ عَلى وُجُوبِ اَلْقِراءَةِ فِيها صَرِيحًا، وفي غَيْرِها بِدَلالَةِ اَلنَّصِّ والقِياسِ. ومَعْنى: ﴿مَشْهُودًا﴾ يَشْهَدُهُ مَلائِكَةُ اَللَّيْلِ والنَّهارِ. يَنْزِلُ هَؤُلاءِ ويَصْعَدُ هَؤُلاءِ، فَهو في آخِرِ دِيوانِ اَللَّيْلِ وأوَّلِ دِيوانِ اَلنَّهارِ. أوْ يَشْهَدُهُ اَلْكَثِيرُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ في اَلْعادَةِ ! ومِن حَقِّهِ أنْ يَكُونَ مَشْهُودًا بِالجَماعَةِ اَلْكَثِيرَةِ. والأكْثَرُونَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وقُرْآنَ الفَجْرِ﴾ (p-٣٩٦٠)مَنصُوبٌ بِالعَطْفِ عَلى (اَلصَّلاةَ) أيْ: وأقِمْ صَلاةَ اَلْفَجْرِ. وجَوَّزَ بَعْضُ اَلنُّحاةِ نَصْبَهُ عَلى اَلْإغْراءِ. أيْ: وعَلَيْكَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ، أوِ اِلْزَمْ. تَنْبِيهاتٌ: اَلْأوَّلُ: هَذِهِ اَلْآيَةُ جامِعَةٌ لِلصَّلَواتِ اَلْخَمْسِ ومَواقِيتِها، فَدَلُّوكُ اَلشَّمْسِ يَتَناوَلُ اَلظُّهْرَ والعَصْرَ تَناوُلًا واحِدًا. وغَسَقُ اَللَّيْلِ يَتَناوَلُ اَلْمَغْرِبَ والعِشاءَ تَناوُلًا واحِدًا. وقُرْآنُ اَلْفَجْرِ هي صَلاةٌ مُفْرَدَةٌ لا تُجْمَعُ ولا تُقْصَرُ. قِيلَ: هَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ اَلدُّلُوكُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اَلظُّهْرِ والعَصْرِ. والغَسَقُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ اَلْمَغْرِبِ والعِشاءِ. فَيَدُلُّ عَلى جَوازِ اَلْجَمْعِ مُطْلَقًا بَيْنَ اَلْأوَّلَيْنِ، وكَذا بَيْنَ اَلْأخِيرَيْنِ. فالجَوابُ: هو كَذَلِكَ بِعُذْرِ اَلسَّفَرِ أوِ اَلْمَطَرِ ونَحْوِها. وأمّا في غَيْرِها فَلا، وذَلِكَ لِما بَيَّنَتْهُ اَلسُّنَّةُ مِن فِعْلِ كُلِّ واحِدَةٍ في اَلْوَقْتِ اَلْخاصِّ بِها، إلّا بِعُذْرٍ. قالَ اَلْحافِظُ اِبْنُ كَثِيرٍ: قَدْ بَيَّنَتِ اَلسُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَواتُرًا مِن أفْعالِهِ وأقْوالِهِ، تَفاصِيلَ هَذِهِ اَلْأوْقاتِ عَلى ما عَلَيْهِ أهْلُ اَلْإسْلامِ اَلْيَوْمَ، مِمّا تَلَقَّوْهُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، كَما هو مُقَرَّرٌ في مَواضِعِهِ. وقالَ اَلْعَلّامَةَ أبُو اَلسُّعُودِ: لَيْسَ اَلْمُرادُ إقامَتَها فِيما بَيْنَ اَلْوَقْتَيْنِ عَلى وجْهِ اَلِاسْتِمْرارِ، بَلْ إقامَةَ كُلِّ صَلاةٍ في وقْتِها اَلَّذِي عُيِّنَ لَها بِبَيانِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ اَلسَّلامُ. كَما أنَّ أعْدادَ رَكَعاتِ كُلِّ صَلاةٍ مَوْكُولَةٌ إلى بَيانِهِ عَلَيْهِ اَلسَّلامُ. ولَعَلَّ اَلِاكْتِفاءَ بِبَيانِ اَلْمَبْدَأِ والمُنْتَهى في أوْقاتِ اَلصَّلَواتِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِها؛ لِما أنَّ اَلْإنْسانَ فِيما بَيْنَ هَذِهِ اَلْأوْقاتِ عَلى اَلْيَقَظَةِ. فَبَعْضُها مُتَّصِلٌ بِبَعْضٍ، بِخِلافِ أوَّلِ وقْتِ اَلْعِشاءِ والفَجْرِ فَإنَّهُ بِاشْتِغالِهِ فِيما بَيْنَهُما بِالنَّوْمِ يَنْقَطِعُ أحَدُهُما عَنِ اَلْآخَرِ. ولِذَلِكَ فُصِلَ وقْتُ اَلْفَجْرِ عَنْ سائِرِ اَلْأوْقاتِ. اِنْتَهى. والظّاهِرُ أنَّ مُسْتَنَدَ مَن جَوَّزَ اَلْجَمْعَ في اَلْحَضَرِ مُطْلَقًا هَذِهِ اَلْآيَةُ مَعَ أثَرِ اِبْنِ عَبّاسٍ. جاءَ في " رَحْمَةِ اَلْأُمَّةِ " ما مِثالُهُ: وعَنِ اِبْنِ سِيرِينَ أنَّهُ يَجُوزُ اَلْجَمْعُ مِن غَيْرِ خَوْفٍ ولا مَرَضٍ لِحاجَةٍ، ما لَمْ يَتَّخِذْهُ عادَةً. واخْتارَ اِبْنُ اَلْمُنْذِرِ وجَماعَةٌ جَوازَ اَلْجَمْعِ في اَلْحَضَرِ مِن غَيْرِ خَوْفٍ ولا مَطَرٍ ولا مَرَضٍ. اِنْتَهى. (p-٣٩٦١)وقَدْ رَوى اَلشَّيْخانِ وغَيْرُهُما عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ قالَ: «صَلّى اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالمَدِينَةِ سَبْعًا وثَمانِيًا: اَلظُّهْرُ والعَصْرُ، والمَغْرِبُ والعِشاءُ» . ومِن رِوايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «صَلّى اَلظُّهْرَ والعَصْرَ جَمِيعًا، والمَغْرِبَ والعِشاءَ جَمِيعًا، مِن غَيْرِ خَوْفٍ ولا سَفَرٍ» . وكَثِيرٌ مِنَ اَلرُّواةِ حَمَلُوا ذَلِكَ عَلى لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ. والمَسْألَةُ شَهِيرَةٌ. اَلثّانِي: قُلْنا: إنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ إحْدى اَلْآياتِ اَلَّتِي جَمَعَتِ اَلصَّلَواتِ اَلْخَمْسَ، ومِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ١١٤] فالطَّرَفُ اَلْأوَّلُ صَلاةُ اَلْفَجْرِ، فَإنَّ صَلاةَ اَلْفَجْرِ في اَلنَّهارِ. فَإنَّ اَلصّائِمَ يَصُومُ اَلنَّهارَ. وهو يَصُومُ مِن طُلُوعِ اَلْفَجْرِ. والوِتَرُ تُصَلّى بِاللَّيْلِ، وقَدْ قالَ اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««صَلاةُ اَللَّيْلِ مَثْنى مَثْنى فَإذا خِفْتَ اَلصُّبْحَ فَأوْتِرْ بِرَكْعَةٍ»» . وإذا قِيلَ: نِصْفُ اَلنَّهارِ؛ فالمُرادُ بِهِ اَلنَّهارُ اَلْمُبْتَدِئُ مِن طُلُوعِ اَلشَّمْسِ. فَهَذا في هَذا اَلْمَوْضُوعِ، ولَفْظُ (اَلنَّهارِ) يُرادُ بِهِ مِن طُلُوعِ اَلْفَجْرِ، ويُرادُ بِهِ مِن طُلُوعِ اَلشَّمْسِ. لَكِنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ﴾ [هود: ١١٤] أُرِيدَ بِهِ مِن طُلُوعِ اَلْفَجْرِ بِلا رَيْبٍ، لِأنَّ ما بَعْدَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ لَيْسَ عَلى اَلْمُسْلِمِينَ فِيهِ صَلاةٌ واجِبَةٌ، بَلْ ولا مُسْتَحَبَّةٌ. بَلِ اَلصَّلاةُ في أوَّلِ اَلطُّلُوعِ مَنهِيٌّ عَنْها حَتّى تَرْتَفِعَ اَلشَّمْسُ. وهَلْ تُسْتَحَبُّ اَلصَّلاةُ لِوَقْتِ اَلضُّحى أوْ لا تُسْتَحَبُّ إلّا لِأمْرٍ عارِضٍ ؟ فِيهِ نِزاعٌ لَيْسَ هَذا مَوْضِعَهُ. فَعُلِمَ أنَّهُ أرادَ بِالطَّرَفِ اَلْأوَّلِ: مِن طُلُوعِ اَلْفَجْرِ. وأمّا اَلطَّرَفُ اَلثّانِي: (p-٣٩٦٢)فَمِنَ اَلزَّوالِ إلى اَلْغُرُوبِ. فَجَعَلَ اَلصَّلاةَ في هَذا اَلْوَقْتِ صَلاةً في اَلطَّرَفِ اَلثّانِي وأشْرَكَ بَيْنَهُما فِيهِ. ثُمَّ قالَ: ﴿وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ [هود: ١١٤] فَأجْمَلَ اَلْمَغْرِبَ والعِشاءَ في (زُلَفٍ مِنَ اَللَّيْلِ) وهو ساعاتٌ مِنَ اَللَّيْلِ. فالمَواقِيتُ هُنا ثَلاثَةٌ. وقالَ تَعالى: ﴿لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أيْمانُكم والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكم ثَلاثَ مَرّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكم مِنَ الظَّهِيرَةِ ومِن بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ﴾ [النور: ٥٨] فَذَكَرَ اَلْفَجْرَ وذَكَرَ اَلظُّهْرَ وذَكَرَ صَلاةَ اَلْعِشاءِ. فَمِنَ اَلظَّهِيرَةِ إلى ما بَعْدَ صَلاةِ اَلْعِشاءِ وقْتانِ لِلصَّلاةِ. وقَدْ ذَكَرَ اَلْأوَّلَ مِن هَذا اَلْوَقْتِ والآخِرَ مِن هَذا اَلْوَقْتِ. وقَدْ دَلَّ عَلى اَلْمَواقِيتِ في آياتٍ أُخُرَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: ١٧] ﴿ولَهُ الحَمْدُ في السَّماواتِ والأرْضِ وعَشِيًّا وحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ [الروم: ١٨] فَتَبَيَّنَ أنَّ لَهُ اَلتَّسْبِيحَ والحَمْدَ في اَلسَّماواتِ والأرْضِ حِينَ اَلْمَساءِ وحِينَ اَلصَّباحِ وعَشِيًّا وحِينَ اَلْإظْهارِ. فالمَساءُ يَتَناوَلُ اَلْمَغْرِبَ والعِشاءَ، والصَّباحُ يَتَناوَلُ اَلْفَجْرَ، والعَشِيُّ يَتَناوَلُ اَلْعَصْرَ، والإظْهارُ يَتَناوَلُ اَلظُّهْرَ. وقالَ تَعالى: ﴿وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها ومِن آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى﴾ [طه: ١٣٠] وفي اَلْآيَةِ اَلْأُخْرى: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ الغُرُوبِ﴾ [ق: ٣٩] ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وأدْبارَ السُّجُودِ﴾ [ق: ٤٠] فَقَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ هي صَلاةُ اَلْفَجْرِ. وقَبْلَ غُرُوبِها هي اَلْعَصْرُ، وبِذَلِكَ فَسَّرَها اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في اَلْحَدِيثِ اَلْمُتَّفَقِ عَلى صِحَّتِهِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اَللَّهِ قالَ: «كُنّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذْ نَظَرَ إلى اَلْقَمَرِ لَيْلَةَ اَلْبَدْرِ فَقالَ: (p-٣٩٦٣)«إنَّكم سَتَرَوْنَ رَبَّكم كَما تَرَوْنَ اَلْقَمَرَ لَيْلَةَ اَلْبَدْرِ، فَإنِ اِسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تَغْلِبُوا عَلى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا» . ثُمَّ قَرَأ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها﴾ [طه: ١٣٠]» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِنَ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ٧٩] ﴿ومِن آناءِ اللَّيْلِ﴾ [طه: ١٣٠] مُطْلَقٌ في آناءِ اَللَّيْلِ، يَتَناوَلُ اَلْمَغْرِبَ والعِشاءَ. أفادَ ذَلِكَ تَقِيُّ اَلدِّينِ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ في فَتْواهُ في (اَلْمَواقِيتِ اَلْكُبْرى) . اَلثّالِثُ: هَذِهِ اَلْآيَةُ مِنَ اَلْآياتِ اَلَّتِي أمَرَ تَعالى فِيها بِإقامَةِ اَلصَّلاةِ لِوَقْتِها. قالَ اِبْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَيْهِ اَلرَّحْمَةُ، في فَتْواهُ اَلْمُتَقَدِّمَةِ: وقْتُ اَلصَّلاةِ وقْتانِ. وقْتُ اَلرَّفاهِيَةِ والِاخْتِيارِ. ووَقْتُ اَلْحاجَةِ والعُذْرِ. فالوَقْتُ في حالِ اَلرَّفاهِيَةِ خَمْسَةُ أوْقاتٍ كَما في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ««وقْتُ اَلظُّهْرِ ما لَمْ يَصِرْ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ. ووَقْتُ اَلْعَصْرِ ما لَمْ تَصْفَرَّ اَلشَّمْسُ. ووَقْتُ اَلْمَغْرِبِ ما لَمْ يَغِبْ نُورُ اَلشَّفَقِ. ووَقْتُ اَلْعِشاءِ إلى نِصْفِ اَللَّيْلِ. ووَقْتُ اَلْفَجْرِ ما لَمْ تَطْلُعِ اَلشَّمْسُ»» . وقَدْ رُوِيَ هَذا اَلْحَدِيثُ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ في اَلسُّنَنِ. ولَمْ يُرْوَ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في اَلْمَواقِيتِ حَدِيثٌ مِن قَوْلِهِ إلّا هَذا. وسائِرُ ما رُوِيَ فُعِلَ مِنهُ، والأحادِيثُ اَلصَّحِيحَةُ اَلْمُتَأخِّرَةُ مِن فِعْلِهِ تُوافِقُ هَذا اَلْحَدِيثَ. ولِهَذا ما في هَذا اَلْحَدِيثِ مِنَ اَلْمَواقِيتِ هو اَلصَّحِيحُ عِنْدَ اَلْفُقَهاءِ اَلْعارِفِينَ بِالحَدِيثِ. والنِّزاعُ بَيْنَ اَلْعُلَماءِ في آخِرِ وقْتِ اَلظُّهْرِ، وأوَّلِ وقْتِ اَلْعَصْرِ وآخِرِهِ، وآخِرِ وقْتِ اَلْمَغْرِبِ، وآخِرِ وقْتِ اَلْعِشاءِ، وآخِرِ وقْتِ اَلْفَجْرِ، فالجَماهِيرُ مِنَ اَلسَّلَفِ والخَلَفِ مِن فُقَهاءِ اَلْحَدِيثِ وأهْلِ اَلْحِجازِ وقْتُ اَلظُّهْرِ عِنْدَهم مِنَ اَلزَّوالِ إلى أنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ. سِوى اَلْفَيْءِ اَلَّذِي زالَتْ عَلَيْهِ اَلشَّمْسُ، وهَذا مَذْهَبُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إلى أنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ يَدْخُلُ وقْتُ اَلْعَصْرِ عِنْدَ اَلْجُمْهُورِ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ إنَّما يَدْخُلُ إذا صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ونُقِلَ عَنْهُ، أنَّ ما بَيْنَ اَلْمِثْلِ إلى اَلْمِثْلَيْنِ لَيْسَ وقْتًا لا لِلظُّهْرِ ولا (p-٣٩٦٤)لِلْعَصْرِ. وعَلى قَوْلِ اَلْجُمْهُورِ، فَهَلْ آخِرُ هَذا أوَّلُ هَذا، أوْ بَيْنَهُما قَدْرُ أرْبَعِ رَكَعاتٍ مُشْتَرِكٌ ؟ فِيهِ نِزاعٌ. فالجُمْهُورُ عَلى اَلْأوَّلِ، والثّانِي مَنقُولٌ عَنْ مالِكٍ. وإذا صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، خَرَجَ وقْتُ اَلْعَصْرِ في إحْدى اَلرِّوايَتَيْنِ عَنْ أحْمَدَ. وهو مَنقُولٌ عَنْ مالِكٍ والشّافِعِيِّ مَعَ خِلافٍ في مَذْهَبِهِما. والصَّحِيحُ أنَّ وقْتَها مُمْتَدٌّ بِلا كَراهَةٍ إلى اِصْفِرارِ اَلشَّمْسِ. وهو اَلرِّوايَةُ اَلثّانِيَةُ عَنْ أحْمَدَ، كَما نَطَقَ بِهِ حَدِيثُ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِمّا عَمِلَ بِهِ اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالمَدِينَةِ، بَعْدَ عَمَلِهِ بِمَكَّةَ. وهَذا قَوْلُ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ. فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَصْرِ وقْتٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ولَكِنَّ اَلصَّوابَ اَلْمَقْطُوعَ بِهِ، اَلَّذِي تَواتَرَتْ بِهِ اَلسُّنَنُ واتَّفَقَ عَلَيْهِ اَلْجَماهِيرُ؛ أنَّ وقْتَها يَدْخُلُ إذا صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ. ولَيْسَ مَعَ اَلْقَوْلِ اَلْآخَرِ نَقْلٌ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا صَحِيحٌ ولا ضَعِيفٌ. ولَكِنَّ اَلْأُمَراءَ اَلَّذِينَ كانُوا يُؤَخِّرُونَ اَلصَّلاةَ؛ لَمّا اِعْتادُوا تَأْخِيرَ اَلصَّلاةِ، واشْتَهَرَ ذَلِكَ، صارَ يَظُنُّ مَن يَظُنُّ أنَّهُ اَلسُّنَّةُ. وقَدِ اِحْتَجَّ لَهُ بِالمَثَلِ اَلْمَضْرُوبِ لِلْمُسْلِمِينَ وأهْلِ اَلْكِتابِ. ولا حُجَّةَ فِيهِ لِاتِّفاقِ أهْلِ اَلْحِسابِ عَلى أنَّ وقْتَ اَلظُّهْرِ أطْوَلُ مِن وقْتِ اَلْعَصْرِ. اَلَّذِي أوَّلُهُ إذا صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ. وأمّا أوْقاتُ اَلْحاجَةِ والعُذْرِ فَهي ثَلاثَةٌ: مِنَ اَلزَّوالِ إلى اَلْغُرُوبِ. ومِنَ اَلْغُرُوبِ إلى اَلْفَجْرِ ومِنَ اَلْفَجْرِ إلى طُلُوعِ اَلشَّمْسِ. فالأوَّلُ وقْتُ اَلظُّهْرِ والعَصْرِ عِنْدَ اَلْعُذْرِ. واتَّسَعَ فِيها وفِيهِما مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: تَقْدِيمُ اَلْعَصْرِ إلى وقْتِ اَلظُّهْرِ، كَما قَدَّمَها اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ. وكَما كانَ يُقَدِّمُها في سَفْرَةِ تَبُوكٍ، إذا اِرْتَحَلَ بَعْدَ أنْ تَزِيغَ اَلشَّمْسُ. وتَقْدِيمُ اَلْعِشاءِ إلى اَلْمَغْرِبِ في اَلْمَطَرِ. فَهَذا جَمْعُ تَقْدِيمٍ، والثّانِي جَمْعُ تَأْخِيرٍ، اَلْعَصْرُ فِيها إلى اَلْغُرُوبِ؛ لِقَوْلِهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ: ««مَن أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ اَلْفَجْرِ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أدْرَكَ اَلْفَجْرَ. ومَن أدْرَكَ (p-٣٩٦٥)رَكْعَةً مِنَ اَلْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أدْرَكَ اَلْعَصْرَ»» . مَعَ قَوْلِهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ: ««وقْتُ اَلْعَصْرِ ما لَمْ تَصْفَرَّ اَلشَّمْسُ»» وأنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرِ اَلصَّلاةَ قَطُّ إلى اَلِاصْفِرارِ. ويَوْمُ اَلْخَنْدَقِ كانَ اَلتَّأْخِيرُ إلى بَعْدِ اَلْغُرُوبِ. وهو مَنسُوخٌ في أشْهَرِ قَوْلَيِ اَلْعُلَماءِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الوُسْطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وهَذا مَذْهَبُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ في أشْهَرِ اَلرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ. وقِيلَ: يُخَيَّرُ حالَ اَلْقِتالِ في اَلتَّأْخِيرِ والصَّلاةِ في اَلْوَقْتِ بِحَسَبِ اَلْإمْكانِ. وهو اَلرِّوايَةُ اَلْأُخْرى عَنْهُ. وقِيلَ: بَلْ يُؤَخِّرُها. وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ أيْضًا. فَفي اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ عَنْهُ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ««تِلْكَ صَلاةُ اَلْمُنافِقِ، تِلْكَ صَلاةُ اَلْمُنافِقِ، تِلْكَ صَلاةُ اَلْمُنافِقِ، يَرْقُبُ اَلشَّمْسَ حَتّى إذا كانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ اَلشَّيْطانِ، قامَ فَنَقَرَ أرْبَعًا، لا يَذْكُرُ اَللَّهَ فِيها إلّا قَلِيلًا»» . فَوَصَفَ صَلاةَ اَلْمُنافِقِ بِالتَّأْخِيرِ إلى حِينِ اَلْغُرُوبِ والنَّقْرِ. فَدَلَّ عَلى اَلْمَنعِ مِن هَذا وهَذا. فَلَمّا قالَ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هَذا وهَذا، عُلِمَ أنَّ اَلْوَقْتَ وقْتانِ. فَمَن أدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ اَلْعَصْرِ قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ اَلشَّمْسُ فَقَدْ أدْرَكَ مُطْلَقًا. ولَيْسَ لَهُ أنْ يُؤَخِّرَ إلى ذَلِكَ اَلْوَقْتِ مَعَ إمْكانِ اَلصَّلاةِ قَبْلَهُ. بِخِلافِ مَن لا يُمْكِنُهُ اَلصَّلاةُ قَبْلَ ذَلِكَ. كالحائِضِ إذا طَهُرَتْ، والمَجْنُونِ يُفِيقُ، والنّائِمِ يَسْتَيْقِظُ، والنّاسِي يَذْكُرُ، ودَلَّ تَقْدِيمُ اَلْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلى أنَّها تُفْعَلُ في مَوْضِعٍ مَعَ اَلظُّهْرِ عُقَيْبَ اَلزَّوالِ. ودَلَّ هَذا اَلْحَدِيثُ عَلى أنَّها يُدْرَكُ وقْتُها بِإدْراكِ رَكْعَةٍ مِنها قَبْلَ اَلْغُرُوبِ. مَعَ أنَّهُ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ وفِعْلِهِ؛ أنَّ وقْتَها إذا صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، ما لَمْ تَصْفَرَّ اَلشَّمْسُ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذا اَلْوَقْتَ اَلْمُخْتَصَّ بِها، وقْتٌ مَعَ اَلتَّمَكُّنِ والرَّفاهِيَةِ. لَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يُؤَخِّرَها عَنْهُ ولا يُقَدِّمَها عَلَيْهِ. وقَدْ عُرِفَ مِنَ اَلصَّحابَةِ كَعَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وأبِي هُرَيْرَةَ وابْنِ عَبّاسٍ؛ أنَّهم قالُوا (في اَلْحائِضِ إذا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ اَلشَّمْسِ): تُصَلِّي اَلظُّهْرَ والعَصْرَ. وإذا طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ، صَلَّتِ (p-٣٩٦٦)اَلْمَغْرِبَ والعِشاءَ. ولَمْ يُعْرَفْ عَنْ صَحابِيٍّ خِلافُ ذَلِكَ. وبِذَلِكَ أخَذَ اَلْجُمْهُورُ كَمالِكٍ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ. وهَذا مِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَتِ اَلصَّحابَةُ تَرى أنَّ اَللَّيْلَ عِنْدَ اَلْعُذْرِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ اَلْمَغْرِبِ والعِشاءِ إلى اَلْفَجْرِ. والنِّصْفَ اَلثّانِي عِنْدَ اَلْعُذْرِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ اَلظُّهْرِ والعَصْرِ مِنَ اَلزَّوالِ إلى اَلْغُرُوبِ. كَما دَلَّ عَلى ذَلِكَ اَلسُّنَّةُ والقُرْآنُ - يَعْنِي اَلْآيَةَ اَلْمَذْكُورَةَ وأمْثالَها مِمّا سُقْناهُ قَبْلُ - واَلَّذِينَ يُنازِعُونَ اَلْجُمْهُورَ في اَلْوَقْتِ اَلْمُشْتَرَكِ، ويَقُولُونَ لَيْسَ لِكُلٍّ مِنهُما إلّا وقْتٌ يَخُصُّها، يَقُولُونَ: اَلْغَرَضُ إنَّما ثَبَتَ بِالقُرْآنِ. والقُرْآنُ أوْجَبَ مُطْلَقَ اَلذِّكْرِ في قَوْلِهِ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن تَزَكّى﴾ [الأعلى: ١٤] ﴿وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى﴾ [الأعلى: ١٥] فَلا مُوجِبَ لِخُصُوصِ اَلتَّكْبِيرِ عِنْدَهم، بَلْ مُطْلَقُ اَلذِّكْرِ. وإنْ كانَ اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ إلّا بِتَكْبِيرٍ. ولا أحَدَ مِن خُلَفائِهِ ولا أحَدَ مِن أئِمَّةِ اَلْمُسْلِمِينَ ولا آحادَهُمُ اَلْمَعْرُوفِينَ يُعْرَفُ أنَّهُ صَلّى إلّا بِتَكْبِيرٍ. ومَعَ هَذا فَيُجَوِّزُونَهُ بِمُطْلَقِ اَلذِّكْرِ. لِأنَّ اَلْقُرْآنَ مُطْلَقٌ في اَلذِّكْرِ. فَيُقالُ لَهُمُ: اَلْقُرْآنُ مُطْلَقٌ في آناءِ اَللَّيْلِ وفي غَسَقِ اَللَّيْلِ. ومُطْلَقٌ في اَلطَّرَفِ اَلْأوَّلِ وفي اَلطَّرَفِ اَلثّانِي، فَدَلَّ عَلى جَوازِ اَلصَّلاةِ في هَذا وهَذا لَوْ قُدِّرَ أنَّ اَلنَّبِيَّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ داوَمَ عَلى اَلتَّفْرِيقِ، فَكَيْفَ إذا ثَبَتَ عَنْهُ أنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُما في اَلْوَقْتِ غَيْرَ مَرَّةٍ ؟ ! وكَذَلِكَ يَقُولُونَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ارْكَعُوا واسْجُدُوا﴾ [الحج: ٧٧] مُطْلَقٌ. فَهو اَلْفَرْضُ، والطُّمَأْنِينَةُ إنَّما جاءَ بِها خَبَرٌ واحِدٌ فَيُفِيدُ اَلْوُجُوبَ دُونَ اَلْفَرْضِيَّةِ. وكَذَلِكَ يَقُولُونَ في اَلْفاتِحَةِ: إنَّ اَلْقُرْآنَ مُطْلَقٌ في إيجابِ قِراءَةِ ما تَيَسَّرَ مِنهُ، مَعَ أنَّ اَلنَّبِيَّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُسْلِمِينَ مِن بَعْدِهِ لَمْ يُصَلُّوا إلّا بِالفاتِحَةِ. ومَعَ قَوْلِهِ: ««لا صَلاةَ إلّا بِأُمِّ اَلْقُرْآنِ»» . و««إنَّ كُلَّ صَلاةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيها (p-٣٩٦٧)بِأُمِّ اَلْقُرْآنِ فَهي خِداجٌ، فَهي خِداجٌ، فَهي خِداجٌ»» . ويَقُولُونَ: هَذا يُفِيدُ اَلْوُجُوبَ دُونَ اَلْفَرْضِيَّةِ. أوْ هَذا خَبَرٌ واحِدٌ فَلا يُقَيَّدُ بِهِ مُطْلَقُ اَلْقُرْآنِ. ومَعْلُومٌ أنَّ اَلْقُرْآنَ مُطْلَقٌ في اَلْوَقْتِ اَلْمُشْتَرَكِ أعْظَمَ مِن هَذا، ولَيْسَ مَعَهم عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ما يُوجِبُ فِعْلَ كُلِّ واحِدَةٍ مِنَ اَلْأرْبَعِ في اَلْوَقْتِ اَلْخاصِّ إلّا فِعْلُهُ اَلْمُتَواتِرُ، وقَوْلُهُ اَلَّذِي هو مِن أخْبارِ اَلْآحادِ. مَعَ ما فِيهِ مِنَ اَلْإجْمالِ، كَقَوْلِهِ لَمّا بَيَّنَ اَلْمَواقِيتَ اَلْخَمْسَةَ: ««اَلْوَقْتُ ما بَيْنَ هَذَيْنِ»» وقَوْلُهُ: ««ما بَيْنَ هَذَيْنِ وقْتٌ»» دَلالَتُهُ عَلى وُجُوبِ اَلصَّلاةِ في هَذا اَلْوَقْتِ دُونَ دَلالَةِ قَوْلِهِ: ««لا صَلاةَ إلّا بِأُمِّ اَلْكِتابِ»» وقَوْلُهُ: ««مَن صَلّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيها بِأُمِّ اَلْكِتابِ فَهي خِداجٌ»» وكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ: ««سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَراءٌ يُؤَخِّرُونَ اَلصَّلاةَ عَنْ وقْتِها، فَصَلُّوا اَلصَّلاةَ لِوَقْتِها، ثُمَّ اِجْعَلُوا صَلاتَكم مَعَهم نافِلَةً»» . ولِهَذا اِحْتَجَّ أحْمَدُ عَلى وُجُوبِ فِعْلِها في اَلْوَقْتِ عِنْدَ اَلرَّفاهِيَةِ بِقَوْلِهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««فَصَلُّوا اَلصَّلاةَ لِوَقْتِها»» وهو اَلْوَقْتُ اَلَّذِي بَيَّنَهُ لَهم. والأُمَراءُ لَمْ يَكُونُوا يُؤَخِّرُونَ صَلاةَ اَلنَّهارِ إلى اَللَّيْلِ. ولا صَلاةَ اَللَّيْلِ إلى اَلنَّهارِ. وإنَّما كانُوا يُؤَخِّرُونَ اَلظُّهْرَ إلى وقْتِ اَلْعَصْرِ والعَصْرِ إلى آخِرِ اَلنَّهارِ. ودَلَّ هَذا عَلى أنَّ مَن فَعَلَ هَذا لَمْ يُقاتَلْ؛ لِأنَّهم سَألُوهُ عَنِ اَلْأُمَراءِ، أنُقاتِلُهم ؟ قالَ: ««لا، ما صَلُّوا»» وهَذِهِ كانَتْ صَلاتَهم. ودَلَّ عَلى أنَّ هَذِهِ اَلصَّلاةَ لا تَجُوزُ بِحالٍ، وتَفْوِيتُ يَوْمِ اَلْخَنْدَقِ مَنسُوخٌ. وأمّا اَلْجَمْعُ بَيْنَهُما في اَلْوَقْتِ اَلْمُشْتَرِكِ فَهو ثابِتٌ في اَلسُّنَّةِ في مَواضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ. وبَعْضُها مِمّا أجْمَعَ عَلَيْهِ اَلْمُسْلِمُونَ، والآثارُ اَلْمَشْهُورَةُ عَنِ اَلصَّحابَةِ تُبَيِّنُ أنَّ اَلْوَقْتَ اَلْمُشْتَرِكَ وقْتٌ في حالِ اَلْعُذْرِ. كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطّابِ: (اَلْجَمْعُ بَيْنَ (p-٣٩٦٨)اَلصَّلاتَيْنِ، مِن غَيْرِ عُذْرٍ، مِنَ اَلْكَبائِرِ)، فَدَلَّ عَلى أنَّ اَلْجَمْعَ بَيْنَهُما لِلْعُذْرِ جائِزٌ. وقالَ عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وابْنُ عَبّاسٍ وأبُو هُرَيْرَةَ ) فِيمَن طَهُرَتْ في آخِرِ اَلنَّهارِ ): إنَّها تُصَلِّي اَلظُّهْرَ والعَصْرَ، ) وفِيمَن طَهُرَتْ آخِرِ اَللَّيْلِ ): إنَّها تُصَلِّي اَلْمَغْرِبَ والعِشاءَ. وهو قَوْلُ اَلثَّلاثَةِ: مالِكٌ والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ، وأمّا اَلتَّفْوِيتُ فَلا يَجُوزُ بِحالٍ، فَمَن جَوَّزَ اَلتَّفْوِيتَ في بَعْضِ اَلصُّوَرِ، فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ، وإنْ جَوَّزَ اَلْجَمْعَ. وأمّا مَن أوْجَبَ اَلتَّفْوِيتَ ومَنَعَ اَلْجَمْعَ، فَقَدْ جَمَعَ في قَوْلِهِ بَيْنَ أصْلَيْنِ ضَعِيفَيْنِ: بَيْنَ إباحَةِ ما حَرَّمَهُ اَللَّهُ ورَسُولُهُ، وتَحْرِيمِهِ ما شَرَعَهُ اَللَّهُ ورَسُولُهُ. فَإنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أنَّ اَلْجَمْعَ خَيْرٌ مِنَ اَلتَّفْوِيتِ. فَهَذا اَلْأصْلُ يُنَظِّمُ كَثِيرًا مِنَ اَلْمَواقِيتِ. وتَفْوِيتُ اَلْعَصْرِ إلى حِينِ اَلِاصْفِرارِ. وتَفْوِيتُ اَلْعِشاءِ إلى اَلنِّصْفِ اَلثّانِي أيْضًا لا يَجُوزُ إلّا لِضَرُورَةٍ، والجَمْعُ بَيْنَ اَلصَّلاتَيْنِ خَيْرٌ مِنَ اَلصَّلاةِ في هَذا اَلْوَقْتِ، بَلِ اَلصَّلاةُ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ دُخُولِ وقْتِ اَلضَّرُورَةِ خَيْرٌ مِنَ اَلصَّلاةِ بِالوُضُوءِ في وقْتِ اَلضَّرُورَةِ. وقَدْ نَصَّ عَلى ذَلِكَ اَلْفُقَهاءُ مِن أصْحابِ أحْمَدَ وغَيْرِهِ. وقالُوا: لا يَجُوزُ تَأْخِيرُها إلى اَلِاصْفِرارِ. بَلْ إذا لَمْ يَجِدِ اَلْماءَ إلّا فِيهِ، فَإنَّهُ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ اَلِاصْفِرارِ، ولا يُصَلِّيها حِينَ اَلِاصْفِرارِ بِالوُضُوءِ. اِنْتَهى كَلامُهُ عَلَيْهِ اَلرَّحْمَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب