(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أي هو أحق بهم، وأرأف، وأشفق في كل ما دعاهم إليه من أمور الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، وهو يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم، وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم. وبالجملة فإذا دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم وتطلبه خواطرهم.
وقيل: المراد بأنفسهم في الآية بعضهم فيكون المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وقيل هي خاصة بالقضاء أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى بينهم، وقيل أولى بهم في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه. وقيل: أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وفي قراءة ابن مسعود: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبوهم في الدين، والأول أولى.
وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئم: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالاً فلترثه عصبته من كانوا فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه ".
وقد ثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين ".
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت علياً فنقصته فرأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغير وقال، يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كنت مولاه فعليّ مولاه. "
(وأزواجه) - صلى الله عليه وسلم - سواء دخل بهن أو لا وسواء مات عنهن أو طلقهن (أمهاتهم) أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم ومنزَّلات منزلتهن في استحقاق التعظيم، فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن، كما لا يحل له أن يتزوج بأمه، فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن تحريماً مؤبداً، وبالتعظيم لجنابهن لا في النظر إليهن، والخلوة بهن فإنه حرام في حقهن، كما في حق سائر الأجانب، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات نساء [[إن أبسط مبادىء اللغة تقتضي شمول الذكران والإناث للتغليب، وهي قضية من البداهة حيث
-[48]-
لا تحتاج إلى هذه الفنقيلات اللجوج فإذا قال الله " يا أيها الذين آمنوا " تناول نداؤه اللائي آمن، وإذا قال: " إنما المؤمنون إخوة " دل على إخوة المؤمنات فأزواجه - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنات كما هن أمهات ذكران المؤمنين. المطيعي.]] المؤمنين، ولا بناتهن أخوات المؤمنين ولا إخوتهن أخوال المؤمنين.
وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء كما يدل عليه قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، قال: ثم إن في مصحف أبيّ بن كعب وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم، وقرأ ابن عباس بعد لفظ أنفسهم، وهو أب وأزواجه أمهاتهم.
عن عائشة أن امرأة قالت لها يا أمه، فقالت: " أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ". وعن أم سلمة قالت أنا: " أم الرجال منكم والنساء ".
وعن بجالة قال: مر عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، فقال: يا غلام حكّها، فقال: هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات، ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن ثم بين سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم البعض فقال:
(وأولو الأرحام) جمع رحم وهو القرابة (بعضهم أولى) أي أحق (ببعض) في الميراث، وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنفال وهي ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وكذا قال غيره.
ويحتمل أن يكون النسخ بآية الأنفال وهو قوله: (وأولو لأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) قال الشهاب: وهذا الاحتمال أولى، لأن سورة الأنفال متقدمة نزولاً على هذه السورة فنسبة النسخ إليها أولى، وتكون هذه الآية مؤكدة لتلك، وقيل إن هذه الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين؛ وقيل معنى الآية لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر.
(في كتاب الله) أي هذه الأولوية وهذا الاستحقاق كائن وثابت فيه والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن، أو آية المواريث (من المؤمنين والمهاجرين) المعنى إن ذوي القرابات من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض، أو أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب.
وقيل إن معنى الآية: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) إلا ما يجوز لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من كونهن كالأمهات في تحريم النكاح، وفي هذا من الضعف ما لا يخفى (إلا) هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام، والتقدير أولى ببعض في كل شيء من الإرث وغيره إلا.
(أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً) من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز، قاله قتادة، والحسن، وعطاء، ومحمد بن الحنفية قال ابن الحنفية نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني، فالكافر وليّ في النسب لا في الدين فتجوز الوصية له، قال في الخازن: إن الله لما نسخ التوارث بالحلف، والإخاء، والهجرة، أباح أن يوصي الرجل لمن تولاه بما أحب من ثلث ماله، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به وضمن (تفعلوا) معنى توصلوا أو تسدوا، فعُدّي بإلى. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة (كان ذلك) أي نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والعاقدة ورده إلى ذوي الأرحام من القرابات (في الكتاب) أي في اللوح المحفوظ، أو في التوراة أو في القرآن (مسطوراً) مكتوباً.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9))
{"ayah":"ٱلنَّبِیُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَ ٰجُهُۥۤ أُمَّهَـٰتُهُمۡۗ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضࣲ فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ إِلَّاۤ أَن تَفۡعَلُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕكُم مَّعۡرُوفࣰاۚ كَانَ ذَ ٰلِكَ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ مَسۡطُورࣰا"}