الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وأُولُو الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ إلاَّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا كانَ ذَلِكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورًا ۝﴾ [الأحزاب: ٦]. في هذا: عِظَمُ حقِّ النبيِّ ﷺ على المؤمنينَ، وأنّه أوْلى منهم بأنفُسِهم، فيجبُ طاعتُهُ وتعظيمُهُ فوقَ كلِّ طاعةٍ وإجلالٍ لكلِّ مخلوقٍ، وإنْ أمَرَهم بشيءٍ يُخالِفُ أهواءَهم وما يَرْغَبونَ، فيجبُ عليهم طاعتُه، لأنّه أولى بهم مِن أنفُسِهم. وذِكْرُ هذه الآيةِ بعدَ الآيةِ السابقةِ في تحريمِ أُبُوَّةِ غيرِ النَّسَبِ تنبيهٌ على أنّ ما كان مِن أبوابِ الإجلالِ ـ كأنْ يقولَ الرجُلُ لأحدٍ: والدُنا، إجلالًا، والسامعُ يَعلَمُ قصدَ الإجلالِ ـ أنّ ذلك جائزٌ، ولهذا قال في هذه الآيةِ: ﴿وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾، يعني: لَسْنَ أُمَّهاتِ رَحِمٍ، ولكنَّهُنَّ أُمَّهاتُ إجلالٍ وإكرامٍ. أُمَّهاتُ المؤمنينَ ومَقامُهُنَّ: قال تعالى: ﴿وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾، فكلُّ زوجةٍ للنبيِّ ﷺ، فهي أمٌّ للمؤمنينَ، لعمومِ الآيةِ، على خلافٍ عندَ الفقهاءِ في حدِّ ذلك، وقد ذهَبَ الشافعيُّ: إلى أنّ كلَّ زوجةٍ له: أمٌّ للمؤمنينَ ولو طلَّقَها، وبعضُهم خَصَّ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالمدخولِ بِهِنَّ، وهو قولُ إمامِ الحَرَمَيْنِ. وقد رُوِيَ أنّ الأشعثَ بنَ قَيْسٍ نكَحَ المُستعيذةَ في زمنِ عمرَ رضي الله عنه، فهَمَّ برَجْمِه، فأخبَرَه أنّها لم تكنْ مدخولًا بها، فكَفَّ عنه، وفي روايةٍ: أنّه هَمَّ برَجْمِها، فقالتْ: ولِمَ هذا وما ضُرِبَ عَلَيَّ حجابٌ، ولا سُمِّيتُ للمُسْلِمينَ أُمًّا؟! فكَفَّ عنها[[«التلخيص الحبير» (٣ /١٣٩)، و«تفسير الآلوسي» (٢١ /١٥١).]]. ورُوي كذلك عن ابنِ عباسٍ مِثلُه مع أسماءَ بنتِ النُّعمان[[أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤ /٣٧).]]. وإنّما أخَذْنَ الأُمُومةَ مِن أُبُوَّتِهِ ﷺ، فهو أبو المؤمنينَ، كما جاء في قراءةِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ في هذه الآيةِ، قال: (وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهُوَ أبُوهُمْ)[[«فضائل القرآن» لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص٣٢٢)، و«الدر المنثور» (٨ /١٠٨).]]، والأنبياءُ آباءٌ للمؤمنينَ أبوَّةً دينيَّةً، كما قال تعالى عن إبراهيمَ: ﴿مِلَّةَ أبِيكُمْ إبْراهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨]، وحُرْمةُ النبيِّ كحُرْمةِ الوالدِ وأعظَمُ. وإنّما سُمِّيَتْ أزواجُ النبيِّ ﷺ بـ(أُمَّهاتِ المؤمنينَ)، ولم يُسَمَّ النبيُّ ﷺ بـ(أبي المؤمنينَ)، مع أنّ أُمُومَتَهُنَّ منه، لأنّ الرجلَ يُسمّى بأعظَمِ أوصافِهِ وأشرفِها، فأشرفُ الأسماءِ والأوصافِ هو النبوَّةُ، وأشرفُ أوصافِ أزواجِهِ هو أمَّهاتُ المؤمِنِين، وعندَ نِدائِهِ يُسمّى بأشرفِها وأَسْماها، وإن جاز أدْناها اعتراضًا لا التِزامًا. وأمّا قولُهُ تعالى: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكُمْ﴾ [الأحزاب: ٤٠]، فالمرادُ به تحريمُ الانتسابِ إليه أُبُوَّةَ نسَبٍ، فقد كان هناك مَن يَنْتسِبُ إليه بالتبنِّي، وقد كان النبيُّ ﷺ قد تبنّى قبلَ النبوَّةِ زيدَ بنَ حارثةَ، فلم يكنْ أباه، وإن كان قد تبنّاه. وفي هذه الآيةِ: تحريمُ نكاحِ أمَّهاتِ المؤمنينَ بعدَ النبيِّ ﷺ بلا خلافٍ، فلا يجوزُ للرجُلِ أن يتزوَّجَ أمَّه. وبعضُ الفقهاءِ يَرى أنّ الخِطابَ للذكورِ مقصودٌ في قولِه: ﴿وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾، وأنّهُنَّ أمَّهاتُ رجالِ المؤمنينَ لا نسائِهم، وفي هذه المسألةِ خلافٌ. وقد رَوى مسروقٌ، قال: قالتِ امرأةٌ لعائشةَ: يا أُمَّهْ، فقالتْ لها عائشةُ: «أنا أمُّ رجالِكم، ولستُ أُمَّ نِسائِكم»، رواهُ ابنُ سَعْدٍ والبيهقيُّ بسندٍ صحيحٍ[[أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (٨ /٦٧)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧ /٧٠).]]. ورَوى ابنُ سعدٍ، عن مصعبِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أبي أميَّةَ، عن أمِّ سَلَمةَ زوجِ النبيِّ ﷺ، أنّها قالتْ: «أنا أمُّ الرِّجالِ منكم والنِّساءِ»[[«الطبقات الكبرى» (٨ /١٧٩ و٢٠٠).]]. والأظهرُ: العمومُ، وأنّهُنَّ أمَّهاتُ المؤمنينَ رجالًا ونساءً، لأنّهُنَّ أخَذْنَ أمومتَهُنَّ مِن أُبوَّتِه ﷺ، وأبوَّتُهُ هي للمؤمنينَ كافَّةً، وقراءةُ أُبَيِّ بنِ كعبٍ: (وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ، وهُوَ أبٌ لَهُمْ)[[«تفسير القرطبي» (١٧ /٦٣)، و«تفسير ابن كثير» (٦ /٣٨١).]] إشارةٌ إلى ذلك، ولعلَّ مرادَ عائشةَ بقولها: «أنا أمُّ رجالِكم»: أنّ الحُرْمةَ مع الرِّجالِ أعظَمُ وأشَدُّ مِن جهةِ النِّكاحِ وميلِ القلبِ والطمعِ فيهنَّ، بخلافِ النِّساءِ، فهذا ليس موجودًا فِيهِنَّ. وقولُه تعالى: ﴿النَّبِيُّ أوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِن أنْفُسِهِمْ وأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وأُولُو الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجِرِينَ إلاَّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا كانَ ذَلِكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورًا ۝﴾: هذه الآيةُ ناسخةٌ لكلِّ ما كانتْ تفعلُهُ العربُ مِن التوريثِ بالتبنِّي والمؤاخاةِ والحِلْفِ، وأنّ المِيراثَ يكونُ لأُولِي الأرحامِ بحَسَبِ مَراتبِهم المذكورةِ، وقد تقدَّم الكلامُ على شيءٍ مِن ذلك عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ولِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأَقْرَبُونَ والَّذِينَ عَقَدَتْ أيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ۝﴾ [النساء: ٣٣]. وفي قولِه تعالى: ﴿إلاَّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفًا﴾ جوازُ فعلِ المعروفِ لِمَن يُوالُونَهم، ويُحْبَوْنَ في حالِ الحياةِ بالهديَّةِ والعطيَّةِ والصَّدَقةِ، ولكنْ لا يدخُلُونَ في المِيراثِ بعدَ الموتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب