الباحث القرآني

(ففهمناها سليمان) وعن مسروق نحوه، وكذا عن ابن عباس لكنه لم يذكر الكرم، وعنه بأطول منه، والضمير المنصوب يعود إلى القضية المفهومة من الكلام أو إلى الحكومة المدلول عليها بذكر الحكم. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينما امرأتان معهما ابنان جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينهما فقالت الصغرى: رحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى " [[مسلم 1720 - البخاري 1611.]] وهذا الحديث وإن لم يكن داخلاً فيما حكته الآية لكنه من جملة ما وقع لهما. قال المفسرون: دخل رجلان على داود وعنده ابنه سليمان، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئاً، فقال: لك رقاب الغنم فقال سليمان: أو غير ذلك ينطلق أصحاب الكرم بالغنم فيصيبوا من ألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى إذا كان كليلة نفشت فيه دفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ودفع هؤلاء إلى هؤلاء كَرْمهم، فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك. قال النحاس: إنما قضى داود بالغنم لصاحب الحرث، لأن ثمنها كان قريباً منه، وأما في حكم سليمان فقد قيل كانت قيمة ما نال من الغنم وقيمة ما أفسدت الغنم سواء، قال جماعة من العلماء: إن داود حكم بوحي، وحكم سليمان بوحي نسخ الله به حكم داود، فيكون التفهيم على هذا بطريق الوحي، وقال الجمهور: إن حكمهما كان باجتهاد وكلام أهل العلم في حكم اجتهاد الأنبياء معروف وهكذا ما ذكروه في اختلاف المجتهدين، وهل كل مجتهد مصيب؟ أو الحق مع واحد؟. وقد استدل المستدلون بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب ولا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطئ، وأما كون كل واحد منهما مصيباً فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما " أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " [[مسلم 1716 - البخاري 2593.]] فسماه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال أنه مصيب لحكم الله موافق له فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين، وإلا لزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين واللازم باطل فالملزوم مثله. وأيضاً يستلزم أن تكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين بالحل والحرمة حلالاً وحراماً في حكم الله سبحانه، وهذا اللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله؛ وأيضاً يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد، له اجتهاده في تلك الحادثة، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه فيها إلا بانقطاع المجتهدين، واللازم باطل فالملزوم مثله. والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة، لكن لا يصرون على الخطأ كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان لما ظهر له أنه الصواب. وقد أوضح الشوكاني هذه المسألة بما لا مزيد عليه في القول المفيد وأدب الطلب، فمن أحب الوقوف على تحقيق الحق فليرجع إليهما وإلى المؤلف الذي سميناه حصول المأمول من علم الأصول، وإلى كتابنا الجنة في الأسوة الحسن بالسنة، ففيهما ما يغني عن غيرهما. قال الحسن: لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده. وقال مجاهد: كان هذا صلحاً وما فعله داود كان حكماً والصلح خير، فإن قلت فما حكم هذه الحادثة التي حكم فيها داوود وسليمان في هذه الشريعة المحمدية والملة الإسلامية؟. قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث البراء أنه شرع لأمته أن على أهل الماشية حفظها بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها [[الموطأ كتاب الأقضية 36 - الإمام أحمد 5/ 436.]]، وهذا الضمان هو مقدار الذاهب عنها أو قيمته وقد ذهب جمهور العلماء إلى العمل بما تضمنه هذا الحديث. وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ وأن البهائم إذا أفسدت زرعاً في ليل أو نهار لا يلزم صاحبها شيء، وأدخلوا فسادها في عموم قول النبي: " جرح العجماء جبار " [[مسلم 1710 - البخاري 802 بلفظ: " العجماء وجرحها جبار ".]]؛ قياساً لجميع أفعالها على جرحها. ويجاب عنه بأن هذا القياس فاسد الاعتبار لأنه في مقابلة النص. ومن أهل العلم من ذهب إلى أنه يضمن رب الماشية ما أفسدته من غير فرق بين الليل والنهار ويجاب عنه بحديث البراء، وقد بسط الشوكاني رحمه الله الكلام عليه في شرحه للمنتقى، ومما يدل على أن هذين الحكمين من داوود وسليمان كانا بوحي من الله سبحانه لا باجتهاد، قوله: ففهمناها سليمان. (وكلا آتينا حكماً وعلماً) فإن الله سبحانه أخبرنا بأنه أعطى كل واحد منهما هذين الأمرين وهما إن كانا خاصين فصدقهما على هذه القضية التي حكاها الله سبحانه عنهما مقدم على صدقهما على غيرهما، وإن كانا عامين فهذا الفرد من الحكم والعلم، وهو ما وقع من كل واحد منهما في هذه القضية أحق أفراد ذلك العام بدخوله تحته ودلالته عليه. ومما يستفاد من ذلك دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم من عدم كون حكم داوود حكماً شرعياً، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً، لا سليمان وحده، ولما مدح داوود وسليمان على سبيل الاشتراك ذكر ما. يختص بكل واحد منهما فبدأ بداود فقال: (وسخرنا) التسخير التكليف للعمل بلا أجرة، وسخره تسخيراً كلفه عملاً بلا أجرة، والمراد هنا التذليل أي ذللنا (مع داود الجبال يسبحن) التسبيح إما حقيقة أو مجاز، وقد قال بالأول جماعة وهو الظاهر، وذلك أن داوود كان إذا سبح سبحت الجبال معه. وقيل إنها كانت تصلي معه إذا صلى. قاله قتادة، وهو معنى التسبيح. وقال بالمجاز جماعة آخرون، وحملوا التسبيح على تسبيح من رآها تعجباً من عظيم خلقها وقدرة خالقها. وقيل كانت الجبال تسير مع داوود حيث سار، وكان من رآها سائرة معه سبح، والظاهر وقوع التسبيح منها بالنطق، خلق الله فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الناس ذلك، وكان داوود هو الذي يسمع وحده. قاله أبو حيان. (و) كذا سخرنا (الطير) للتسبيح معه (وكنا فاعلين) ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير، وقدم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق وهو جمع طائر، وجمع الطير طيور وأطيار، ويقع الطير على الواحد والجمع. وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير، ولا يقال للواحد طير بل طائر، وقلما يقال للأنثى طائرة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب