الباحث القرآني

﴿وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنّا فاعِلِينَ﴾ هَذِهِ مَزِيَّةٌ اخْتُصَّ بِها داوُدُ هي تَسْخِيرُ الجِبالِ لَهُ وهو الَّذِي بَيَّنَتْهُ جُمْلَةُ (يُسَبِّحْنَ) فَهي إمّا بَيانٌ لِجُمْلَةِ (سَخَّرْنا) أوْ حالٌ مُبَيِّنَةٌ. وذِكْرُها هُنا اسْتِطْرادٌ وإدْماجٌ. (والطَّيْرَ) عَطْفٌ عَلى (الجِبالِ) أوْ مَفْعُولٌ مَعَهُ، أيْ مَعَ الطَّيْرِ يَعْنِي طَيْرَ الجِبالِ. و(مَعَ) ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (يُسَبِّحْنَ)، وقُدِّمَ عَلى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمامِ بِهِ لِإظْهارِ كَرامَةِ داوُدَ، فَيَكُونُ المَعْنى: أنَّ داوُدَ كانَ إذا سَبَّحَ بَيْنَ الجِبالِ سَمِعَ الجِبالَ تُسَبِّحُ مِثْلَ تَسْبِيحِهِ. وهَذا مَعْنى التَّأْوِيبِ في قَوْلِهِ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿يا جِبالُ أوِّبِي مَعَهُ﴾ [سبإ: ١٠] إذِ التَّأْوِيبُ التَّرْجِيعُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الأوْبِ وهو الرُّجُوعُ. وكَذَلِكَ الطَّيْرُ إذا سَمِعَتْ تَسْبِيحَهُ تُغَرِّدُ تَغْرِيدًا مِثْلَ تَسْبِيحِهِ وتِلْكَ كُلُّها مُعْجِزَةٌ لَهُ. ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ هَذا التَّسْخِيرُ حاصِلًا لَهُ بَعْدَ أنْ أُوتِيَ النُّبُوءَةَ كَما يَقْتَضِيهِ سِياقُ تَعْدادِهِ في (p-١٢٠)عِدادِ ما أُوتِيَهُ الأنْبِياءُ مِن دَلائِلِ الكَرامَةِ عَلى اللَّهِ، ولا يُعْرَفُ لِداوُدَ بَعْدَ أنْ أُوتِيَ النُّبُوءَةَ مُزاوَلَةُ صُعُودِ الجِبالِ ولا الرَّعْيِ فِيها وقَدْ كانَ مِن قَبْلِ النُّبُوءَةِ راعِيًا. فَلَعَلَّ هَذا التَّسْخِيرَ كانَ أيّامَ سِياحَتِهِ في جَبَلِ بَرِّيَّةِ ”زَيْفٍ“ الَّذِي بِهِ كَهْفٌ كانَ يَأْوِي إلَيْهِ داوُدُ مَعَ أصْحابِهِ المُلْتَفِّينَ حَوْلَهُ في تِلْكَ السِّياحَةِ أيّامَ خُرُوجِهِ فارًّا مِنَ المَلِكِ ”شاوَلَ طالُوتَ“ حِينَ تَنَكَّرَ لَهُ شاوَلُ بِوِشايَةِ بَعْضِ حُسّادِ داوُدَ، كَما حُكِيَ في الإصْحاحَيْنِ ٢٣ - ٢٤ مِن سِفْرِ صَمْوِيلَ الأوَّلِ. وهَذا سِرُّ التَّعْبِيرِ بِـ (مَعَ) مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ (سَخَّرْنا) هُنا. وفي آيَةِ سُورَةِ ص إشارَةٌ إلى أنَّهُ تَسْخِيرُ مُتابَعَةٍ لا تَسْخِيرُ خِدْمَةٍ بِخِلافِ قَوْلِهِ الآتِي ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ﴾ [الأنبياء: ٨١] إذْ عُدِّيَ فِعْلُ التَّسْخِيرِ الَّذِي نابَتْ عَنْهُ واوُ العَطْفِ بِلامِ المِلْكِ. وكَذَلِكَ جاءَ لَفْظُ (مَعَ) في آيَةِ سُورَةِ سَبَأٍ ﴿يا جِبالُ أوِّبِي مَعَهُ﴾ [سبإ: ١٠] . وفي هَذا التَّسْخِيرِ لِلْجِبالِ والطَّيْرِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزَةً لَهُ كَرامَةٌ وعِنايَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ إذْ آنَسَهُ بِتِلْكَ الأصْواتِ في وحْدَتِهِ في الجِبالِ وبُعْدِهِ عَنْ أهْلِهِ وبَلَدِهِ. وجُمْلَةُ (﴿وكُنّا فاعِلِينَ﴾) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الإخْبارِ عَمّا أُوتِيَهُ داوُدُ، وفاعِلُ هُنا بِمَعْنى قادِرٍ لِإزالَةِ اسْتِبْعادِ تَسْبِيحِ الجِبالِ والطَّيْرِ مَعَهُ. وفي اجْتِلابِ فِعْلِ الكَوْنِ إشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ شَأْنٌ ثابِتٌ لِلَّهِ مِن قَبْلُ، أيْ وكُنّا قادِرِينَ عَلى ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب