الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنّا فاعِلِينَ﴾ . ذَكَرَ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّهُ سَخَّرَ الجِبالَ، أيْ: ذَلَّلَها، وسَخَّرَ الطَّيْرَ تُسَبِّحُ مَعَ داوُدَ. وما ذَكَرَهُ - جَلَّ وعَلا - في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مِن تَسْخِيرِهِ الطَّيْرَ والجِبالَ تُسْبِّحُ مَعَ نَبِيِّهِ داوُدَ بَيَّنَهُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلًا ياجِبالُ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ﴾ الآيَةَ [سبإ: ١٠] . وقَوْلِهِ: أوِّبِي مَعَهُ أيْ: رَجِّعِي مَعَهُ التَّسْبِيحَ. والطَّيْرَ أيْ: ونادَيْنا الطَّيْرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِن تَرْجِيعِ التَّسْبِيحِ مَعَهُ. وقَوْلُ مَن قالَ أوِّبِي مَعَهُ: أيْ: سِيرِي مَعَهُ، وأنَّ التَّأْوِيبَ سَيْرُ النَّهارِ - ساقِطٌ كَما تَرى. وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذا الأيْدِ إنَّهُ أوّابٌ إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْراقِ والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أوّابٌ﴾ [ص: ١٧ - ١٨] . والتَّحْقِيقُ: أنَّ تَسْبِيحَ الجِبالِ والطَّيْرِ مَعَ داوُدَ المَذْكُورَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ؛ لِأنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعَلا - يَجْعَلُ لَها إدْراكاتٍ تُسَبِّحُ بِها، يَعْلَمُها هو - جَلَّ وعَلا - ونَحْنُ لا نَعْلَمُها. كَما قالَ: (p-٢٣٢)﴿وَإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الأعراف: ٤٤] وقالَ تَعالى: ﴿وَإنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأنْهارُ وإنَّ مِنها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ مِنها لَما يَهْبِطُ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٧٤] وقالَ تَعالى: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٧٢] . وقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ أنَّ الجِذْعَ الَّذِي كانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ لَمّا انْتَقَلَ عَنْهُ بِالخُطْبَةِ إلى المِنبَرِ سُمِعَ لَهُ حَنِينٌ. وقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنِّي لَأعْرِفُ حَجْرًا بِمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ، إنِّي لَأعْرِفُهُ الآنَ» وأمْثالُ هَذا كَثِيرَةٌ. والقاعِدَةُ المُقَرَّرَةُ عِنْدَ العُلَماءِ أنَّ نُصُوصَ الكِتابِ، والسُّنَّةِ لا يَجُوزُ صَرْفُها عَنْ ظاهِرِها المُتَبادِرِ مِنها إلّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ. والتَّسْبِيحُ في اللُّغَةِ: الإبْعادُ عَنِ السُّوءِ، وفي اصْطِلاحِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ - جَلَّ وعَلا - عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِكَمالِهِ وجَلالِهِ. وَقالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] أيْ: جَعَلْناها بِحَيْثُ تُطِيعُهُ إذا أمَرَها بِالتَّسْبِيحِ، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: وكُنّا فاعِلِينَ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ﴾ [الأنبياء: ٧٩] والمُوجِبُ لِهَذا التَّأْكِيدِ أنَّ تَسْخِيرَ الجِبالِ وتَسْبِيحَها أمْرٌ عَجَبٌ خارِقٌ لِلْعادَةِ، مَظِنَّةٌ لِأنْ يُكَذِّبَ بِهِ الكَفَرَةُ الجَهَلَةُ. وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وكُنّا فاعِلِينَ أيْ: قادِرِينَ عَلى أنَّ نَفْعَلَ هَذا. وقِيلَ: كُنّا نَفْعَلُ بِالأنْبِياءِ مِثْلَ ذَلِكَ. وكِلا القَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قالَ ظاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ تَأْوِيلَ وكُنّا فاعِلِينَ بِمَعْنى كُنّا قادِرِينَ بَعِيدٌ، ولا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَما لا دَلِيلَ عَلى الآخَرِ كَما تَرى. وَقالَ أبُو حَيّانَ وكُنّا فاعِلِينَ أيْ: فاعِلِينَ هَذِهِ الأعاجِيبَ مِن تَسْخِيرِ الجِبالِ وتَسْبِيحِهِنَّ والطَّيْرِ لِمَن نَخُصُّهُ بِكَرامَتِنا. ا هـ. وأظْهَرُها عِنْدِي هو ما تَقَدَّمَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب