الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُها: أنَّهُ كانَ زَرْعًا وقَعَتْ فِيهِ الغَنَمُ لَيْلًا، قالَهُ قَتادَةُ. الثّانِي: كانَ كَرْمًا نَبَتَتْ عَناقِيدُهُ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وشُرَيْحٌ. ﴿إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ﴾ قالَ قَتادَةُ: النَّفْشُ رَعْيُ اللَّيْلِ، والهَمَلُ: رَعْيُ النَّهارِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ مُتَعَلِّقَةٌ بِأفْناءِ البُيُوتِ نافِشًا في عَشا التُّرابِ (p-٤٥٧)﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ وفي حُكْمِهِما قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ كانَ مُتَّفِقًا لَمْ يَخْتَلِفا فِيهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ حِينَ أثْنى عَلَيْهِمْ دَلَّ عَلى اتِّقاقِهِما في الصَّوابِ ويُحْتَمَلُ قَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿فَفَهَّمْناها﴾ عَلى أنَّهُ فَضِيلَةٌ لَهُ عَلى داوُدَ؛ لِأنَّهُ أُوتِيَ الحُكْمَ في صِغَرِهِ، وأُوتِيَ داوُدُ الحُكْمُ في كِبَرِهِ، وإنِ اتَّفَقا عَلَيْهِ ولَمْ يَخْتَلِفا فِيهِ؛ لِأنَّ الأنْبِياءَ مَعْصُومُونَ مِنَ الغَلَطِ والخَطَأِ لِئَلّا يَقَعَ الشَّكُّ في أُمُورِهِمْ وأحْكامِهِمْ، وهَذا قَوْلٌ شاذٌّ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ. والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ مِنَ العُلَماءِ والمُفَسِّرِينَ أنَّ حُكْمَهُما كانَ مُخْتَلِفًا أصابَ فِيهِ سُلَيْمانُ، وأخْطَأ داوُدُ، فَأمّا حُكْمُ سُلَيْمانَ فَإنَّهُ قَضى لِصاحِبِ الحَرْثِ، وأمّا حُكْمِ سُلَيْمانَ فَإنَّهُ رَأى أنْ يَدْفَعَ الغَنَمَ إلى صاحِبِ الحَرْثِ لِيَنْتَفِعَ بِدَرِّها ونَسْلِها، ويَدْفَعَ الحَرْثَ إلى صاحِبِ الغَنَمِ لِيَأْخُذَ بِعِمارَتِهِ، فَإذا عادَ في السَّنَةِ المُقْبِلَةِ إلى مِثْلِ حالِهِ رُدَّتِ الغَنَمُ إلى صاحِبِها، ورُدَّ الحَرْثُ إلى صاحِبِهِ، حَكاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، ومُجاهِدٌ. فَرَجَعَ داوُدُ إلى قَضاءِ سُلَيْمانَ فَحَكَمَ بِهِ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ فَجَعَلَ الحَقِّ مَعَهُ وفي حُكْمِهِ، ولا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الغَلَطِ والخَطَأِ مِنَ الأنْبِياءِ كَوُجُودِهِ مِن غَيْرِهِمْ. لَكِنْ لا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ وإنْ أقَرَّ عَلَيْهِ غَيْرُهم؛ لِيَعُودَ اللَّهُ بِالحَقائِقِ لَهم دُونَ خَلْقِهِ؛ ولِذَلِكَ تُسَمّى بِالحَقِّ وتُمَيَّزُ بِهِ عَنِ الخَلْقِ. واخْتَلَفَ القائِلُونَ بِهَذا في حَمْلِهِ عَلى العُمُومِ في جَمِيعِ الأنْبِياءِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ نَبِيَّنا مُحَمَّدًا ﷺ مَخْصُوصٌ مِنهم بِجَوازِ الخَطَأِ عَلَيْهِمْ دُونَهُ قالَهُ أبُو عَلِيِّ بْنُ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وفَرَّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ مِن جَمِيعِ الأنْبِياءِ؛ لِأنَّهُ خاتَمُ الأنْبِياءِ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ مَن يَسْتَدْرِكُ غَلَطَهُ؛ ولِذَلِكَ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنهُ، وقَدْ بُعِثَ بَعْدَ غَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ مَن يَسْتَدْرِكُ غَلَطَهُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ عَلى العُمُومِ في جَمِيعِ الأنْبِياءِ، وأنَّ نَبِيَّنا وغَيْرَهُ مِنَ الأنْبِياءِ في تَجْوِيزِ الخَطَأِ عَلى سَواءٍ، إلّا أنَّهم لا يُقَرُّونَ عَلى إمْضائِهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ اسْتِدْراكُ مَن بَعْدَهم مِنَ الأنْبِياءِ، فَهَذا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ «سَألَتْهُ امْرَأةٌ عَنِ العِدَّةِ، (p-٤٥٨)فَقالَ لَها: (اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ) ثُمَّ قالَ: (يا سُبْحانَ اللَّهِ، امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ)» «وَقالَ رَجُلٌ: أرَأيْتَ إنْ قُتِلْتُ صابِرًا مُحْتَسِبًا أيَحْجُزُنِي عَنِ الجَنَّةِ شَيْءٌ؟ فَقالَ: (لا)، ثُمَّ دَعاهُ فَقالَ: (إلّا الدَّيْنُ كَما أخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ)» . ولا يُوجَدُ مِنهُ إلّا ما جازَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وَكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ قالَ الحَسَنُ: لَوْلا هَذِهِ الآيَةُ لَرَأيْتُ أنَّ القُضاةَ قَدْ هَلَكُوا، ولَكِنَّهُ أثْنى عَلى سُلَيْمانَ عَلى صَوابِهِ وعَذَرَ داوُدَ بِاجْتِهادِهِ. فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ نَقَضَ داوُدُ حُكْمَهُ بِاجْتِهادِ سُلَيْمانَ؟ فالجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ داوُدُ ذَكَرَ حُكْمَهُ عَلى الإطْلاقِ وكانَ ذَلِكَ مِنهُ عَلى طَرِيقِ الفُتْيا فَذَكَرَهُ لَهم لِيُلْزِمَهم إيّاهُ، فَلَمّا ظَهَرَ لَهُ ما هو أقْوى في الِاجْتِهادِ مِنهُ عادَ إلَيْهِ. الثّانِي: أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ أوْحى بِهَذا الحُكْمِ إلى سُلَيْمانَ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ، ولِأجْلِ النَّصِّ الوارِدِ بِالوَحْيِ رَأى أنْ يَنْقُضَ اجْتِهادَهُ؛ لِأنَّ عَلى الحاكِمِ أنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ بِالِاجْتِهادِ إذا خالَفَ نَصًّا. عَلى أنَّ العُلَماءَ قَدِ اخْتَلَفُوا في الأنْبِياءِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهادُ في الأحْكامِ؟ فَقالَتْ طائِفَةٌ يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهادُ لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الِاجْتِهادَ في الِاجْتِهادِ فَضِيلَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ أنْ يُحْرَمَها الأنْبِياءُ. (p-٤٥٩)الثّانِي: أنَّ الِاجْتِهادَ أقْوى فَكانَ أحَبَّها، وهم [فِي] التِزامِ الحُكْمِ بِهِ أوْلى، وهَذا قَوْلُ مَن جَوَّزَ مِنَ الأنْبِياءِ وُجُودَ الغَلَطِ. وَقالَ الآخَرُونَ: لا يَجُوزُ لِلْأنْبِياءِ أنْ يَجْتَهِدُوا في الأحْكامِ؛ لِأنَّ الِاجْتِهادَ إنَّما يَلْجَأُ إلَيْهِ الحاكِمُ لِعَدَمِ النَّصِّ، والأنْبِياءُ لا يُعْدَمُونَ النَّصَّ لِنُزُولِ الوَحْيِ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ الِاجْتِهادُ وهَذا قَوْلُ مَن قالَ بِعِصْمَةِ الأنْبِياءِ مِنَ الغَلَطِ والخَطَأِ، فَأمّا ما اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ شَرْعُنا فِيما أفْسَدَتْهُ البَهائِمُ مِنَ الزَّرْعِ فَقَدْ رَوى سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ «أنَّ ناقَةَ البَراءِ بْنِ عازِبٍ دَخَلَتْ حائِطًا وأفْسَدَتْهُ، فَقَضى النَّبِيُّ ﷺ عَلى أهْلِ المَواشِي بِحِفْظِ مَواشِيهِمْ لَيْلًا، وعَلى أهْلِ الحَوائِطِ بِحِفْظِ حَوائِطِهِمْ نَهارًا»، فَصارَ ما أفْسَدَتْهُ البَهائِمُ بِاللَّيْلِ مَضْمُونًا، وما أفْسَدَتْهُ نَهارًا غَيْرَ مَضْمُونٍ لِأنَّ حِفْظَها شاقٌّ عَلى أرْبابِها، ولا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ حِفْظُها نَهارًا، فَصارَ الحِفْظُ في اللَّيْلِ واجِبًا عَلى أرْبابِ المَواشِي فَضَمِنُوا ما أفْسَدَتْهُ مَواشِيهِمْ، والحِفْظُ في النَّهارِ واجِبًا عَلى أرْبابِ الزُّرُوعِ، فَلَمْ يَحْكم لَهم - مَعَ تَقْصِيرِهِمْ - بِضَمانِ زَرْعِهِمْ، وهَذا مِن أصَحِّ قَضاءٍ وأعْدَلِ حُكْمٍ، رِفْقًا بِالفَرِيقَيْنِ، وتَسْهِيلًا عَلى الطّائِفَتَيْنِ، فَلَيْسَ يُنافِي هَذا ما حَكَمَ داوُدُ [بِهِ] وسُلَيْمانُ عَلَيْهِما السَّلامُ مَن أصْلِ الضَّمانِ؛ لِأنَّهُما حَكَما بِهِ في رَعْيِ اللَّيْلِ، وإنَّما يُخالَفُ مِن صِفَتِهِ، فَإنَّ الزَّرْعَ في شَرْعِنا مَضْمُونٌ لِأنَّهُما حَكَما بِنُقْصانِهِ مِن زائِدٍ وناقِصٍ، ولا تَعْرِضُ لِلْبَهائِمِ المَفْسَدَةُ إذا وصَلَ الضَّمانُ إلى المُسْتَحِقِّ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وَكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أتى كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِنَ الحُكْمِ والعِلْمِ مِثْلَ ما آتى الآخَرَ، وفي المُرادِ بِالحُكْمِ والعِلْمِ وجْهانِ مُحْتَمَلانِ: أحَدُهُما: أنَّ الحُكْمَ القَضاءُ، والعِلْمَ الفُتْيا. الثّانِي: أنَّ الحُكْمَ الِاجْتِهادُ، والعِلْمَ النَّصُّ. (p-٤٦٠)قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: ذَلَّلْنا. الثّانِي: ألْهَمْنا. ﴿يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ﴾ وفي تَسْبِيحِها ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّ سَيْرَها مَعَهُ هو تَسْبِيحُها، قالَهُ ابْنُ عِيسى، والتَّسْبِيحُ مَأْخُوذٌ مِنَ السِّباحَةِ. الثّانِي: أنَّها صَلَواتُها مَعَهُ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَسْبِيحٌ مَسْمُوعٌ كانَ يَفْهَمُهُ، وهَذا قَوْلُ يَحْيى بْنِ سَلامٍ. قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: اللَّبُوسُ الدِّرْعُ المَلْبُوسُ، قالَهُ قَتادَةُ. الثّانِي: أنَّ جَمِيعَ السِّلاحِ لَبُوسٌ عِنْدَ العَرَبِ. ﴿لِتُحْصِنَكم مِن بَأْسِكُمْ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: مِن سِلاحِكم، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّانِي: حَرْبُ أعْدائِكم، قالَهُ الضَّحّاكُ. قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً﴾ مَعْناهُ وسَخَّرْنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، والعُصُوفُ شِدَّةُ حَرَكَتِها والعَصْفُ التِّبْنُ، فَسُمِّيَ بِهِ شِدَّةُ الرِّيحِ لِأنَّها تَعْصِفُهُ لِشِدَّةِ تَكْسِيرِها لَهُ. ﴿تَجْرِي بِأمْرِهِ إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها﴾ هي أرْضُ الشّامِ، وفي بَرَكَتِها ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: بِمَن بُعِثَ فِيها مِنَ الأنْبِياءِ. الثّانِي: أنَّ مِياهَ أنْهارِ الأرْضِ تَجْرِي مِنها. الثّالِثُ: بِما أوْدَعَها اللَّهُ مِنَ الخَيْراتِ، قالَهُ قَتادَةُ: ما نَقَصَ مِنَ الأرْضِ زِيدَ في أرْضِ الشّامِ، وما نَقَصَ مِنَ الشّامِ زِيدَ في فِلَسْطِينَ، وكانَ يُقالُ هي أرْضُ المَحْشَرِ والمَنشَرِ. (p-٤٦١)وَكانَتِ الرِّيحُ تَجْرِي بِسُلَيْمانَ وأصْحابِهِ إلى حَيْثُ شاءَ. قالَ مُقاتِلٌ: وسُلَيْمانُ أوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ اللُّؤْلُؤَ بِغَوْصِ الشَّياطِينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب