الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: وداوُدَ مَعْطُوفٌ عَلى نُوحًا ومَعْمُولٌ لِعامِلِهِ المَذْكُورِ، أوِ المُقَدَّرِ كَما مَرَّ وسُلَيْمانُ مَعْطُوفٌ عَلى داوُدَ، والظَّرْفُ في ﴿إذْ يَحْكُمانِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِما عَمِلَ في داوُدَ: أيْ واذْكُرْهُما وقْتَ حُكْمِهِما. والمُرادُ مِن ذِكْرِهِما ذِكْرُ خَبَرِهِما. ومَعْنى ﴿فِي الحَرْثِ﴾ في شَأْنِ الحَرْثِ، وقِيلَ: كانَ زَرْعًا، وقِيلَ: كَرْمًا، واسْمُ الحَرْثِ يُطْلَقُ عَلَيْهِما ﴿إذْ نَفَشَتْ فِيهِ﴾ أيْ تَفَرَّقَتْ وانْتَشَرَتْ فِيهِ ﴿غَنَمُ القَوْمِ﴾ قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: النَّفَشُ بِالتَّحْرِيكِ أنْ تَنْتَشِرَ الغَنَمُ بِاللَّيْلِ مِن غَيْرِ راعٍ ﴿وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ أيْ لِحُكْمِ الحاكِمَيْنِ، وفِيهِ جَوازُ إطْلاقِ الجَمْعِ عَلى الِاثْنَيْنِ، وهو مَذْهَبُ طائِفَةٍ مِن أهْلِ العَرَبِيَّةِ كالزَّمَخْشَرِيِّ والرَّضِيِّ، وتَقَدَّمَهُما إلى القَوْلِ بِهِ الفَرّاءُ. وقِيلَ: (p-٩٤٢)المُرادُ الحاكِمانِ والمَحْكُومُ عَلَيْهِ، ومَعْنى شاهِدِينَ حاضِرِينَ، والجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ. وجُمْلَةُ ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى إذْ يَحْكُمانِ، لِأنَّهُ في حُكْمِ الماضِي، والضَّمِيرُ في فَفَهَّمْناها يَعُودُ إلى القَضِيَّةِ المَفْهُومَةِ مِنَ الكَلامِ، أوِ الحُكُومَةِ المَدْلُولِ عَلَيْها بِذِكْرِ الحُكْمِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: دَخَلَ رَجُلانِ عَلى داوُدَ، وعِنْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمانَ: أحَدُهُما صاحِبُ حَرْثٍ، والآخَرُ صاحِبُ غَنَمٍ فَقالَ صاحِبُ الحَرْثِ: إنَّ هَذا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا فَوَقَعَتْ في حَرْثِي فَلَمْ تُبْقِ مِنهُ شَيْئًا، فَقالَ: لَكَ رِقابُ الغَنَمِ، فَقالَ سُلَيْمانُ: أوْ غَيْرُ ذَلِكَ، يَنْطَلِقُ أصْحابُ الكَرْمِ بِالغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِن ألْبانِها ومَنافِعِها ويَقُومُ أصْحابُ الغَنَمِ عَلى الكَرْمِ، حَتّى إذا كانَ كَلَيْلَةِ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلاءِ إلى هَؤُلاءِ غَنَمَهم، ودَفَعَ هَؤُلاءِ إلى هَؤُلاءِ كَرْمَهم، فَقالَ داوُدُ: القَضاءُ ما قَضَيْتَ، وحَكَمَ بِذَلِكَ. قالَ النَّحّاسُ: إنَّما قَضى داوُدُ بِالغَنَمِ لِصاحِبِ الحَرْثِ لِأنَّ ثَمَنَها كانَ قَرِيبًا مِنهُ، وأمّا في حُكْمِ سُلَيْمانَ فَقَدْ قِيلَ: كانَتْ قِيمَةُ ما نالَ مِنَ الغَنَمِ، وقِيمَةُ ما أفْسَدَتِ الغَنَمُ سَواءً. قالَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: إنَّ داوُدَ حَكَمَ بِوَحْيٍ، وحَكَمَ سُلَيْمانُ بِوَحْيٍ نَسَخَ اللَّهُ بِهِ حُكْمَ داوُدَ، فَيَكُونُ التَّفْهِيمُ عَلى هَذا بِطْرِيقِ الوَحْيِ. وقالَ الجُمْهُورُ: إنَّ حُكْمَهُما كانَ بِاجْتِهادٍ، وكَلامُ أهْلِ العِلْمِ في حُكْمِ اجْتِهادِ الأنْبِياءِ مَعْرُوفٌ، وهَكَذا ما ذَكَرَهُ أهْلُ العِلْمِ في اخْتِلافِ المُجْتَهِدِينَ، وهَلْ كَلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أوِ الحَقُّ مَعَ واحِدٍ ؟ وقَدِ اسْتَدَلَّ المُسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَلا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ ولا غَيْرُها، بَلْ صَرَّحَ الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما أنَّ الحاكِمَ إذا اجْتَهَدَ فَأصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإنِ اجْتَهَدَ فَأخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ، فَسَمّاهُ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مُخْطِئًا، فَكَيْفَ يُقالُ إنَّهُ مُصِيبٌ لِحُكْمِ اللَّهِ مُوافِقٌ لَهُ، فَإنَّ حُكْمَ اللَّهِ سُبْحانَهُ واحِدٌ لا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ المُجْتَهِدِينَ، وإلّا لَزِمَ تَوَقُّفُ حُكْمِهِ - عَزَّ وجَلَّ - عَلى اجْتِهاداتِ المُجْتَهِدِينَ، واللّازِمُ باطِلٌ فالمَلْزُومُ مِثْلُهُ. أيْضًا يُسْتَلْزَمُ أنْ تَكُونَ العَيْنُ الَّتِي اخْتَلَفَ اجْتِهادُ المُجْتَهِدِينَ فِيها بِالحِلِّ والحُرْمَةِ حَلالًا في حُكْمِ اللَّهِ سُبْحانَهُ. وهَذا اللّازِمُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ لَهُ اجْتِهادٌ في تِلْكَ الحادِثَةِ، ولا يَنْقَطِعُ ما يُرِيدُهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ فِيها إلّا بِانْقِطاعِ المُجْتَهِدِينَ واللّازِمُ باطِلٌ فالمَلْزُومُ مِثْلُهُ. وقَدْ أوْضَحْنا هَذِهِ المَسْألَةَ بِما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ في المُؤَلَّفِ الَّذِينَ سَمَّيْناهُ القَوْلَ المُفِيدَ في حُكْمِ التَّقْلِيدِ وفي أدَبِ الطَّلَبِ ومُنْتَهى الأرَبِ فَمَن أحَبَّ الوُقُوفَ عَلى تَحْقِيقِ الحَقِّ فَلْيَرْجِعْ إلَيْهِما. فَإنْ قُلْتَ: فَما حُكْمُ هَذِهِ الحادِثَةِ الَّتِي حَكَمَ فِيها داوُدُ وسُلَيْمانُ في هَذِهِ الشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، والمِلَّةِ الإسْلامِيَّةِ ؟ قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِن حَدِيثِ البَراءِ أنَّهُ شَرَّعَ لِأُمَّتِهِ أنَّ عَلى أهْلِ الماشِيَةِ حِفْظَها بِاللَّيْلِ، وعَلى أصْحابِ الحَوائِطِ حِفْظَها بِالنَّهارِ، وأنَّ ما أفْسَدَتِ المَواشِي بِاللَّيْلِ مَضْمُونٌ عَلى أهْلِها، وهَذا الضَّمانُ هو مِقْدارُ الذّاهِبِ عَيْنًا أوْ قِيمَةً. وقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ إلى العَمَلِ بِما تَضَمَّنَهُ هَذا الحَدِيثُ. وذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ وجَماعَةٌ مِنَ الكُوفِيِّينَ إلى أنَّ هَذا الحُكْمَ مَنسُوخٌ، وأنَّ البَهائِمَ إذا أفْسَدَتْ زَرْعًا في لَيْلٍ أوْ نَهارٍ أنَّهُ لا يَلْزَمُ صاحِبَها شَيْءٌ، وأدْخَلُوا فَسادَها في عُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «جُرْحُ العَجْماءِ جُبارٌ» قِياسًا لِجَمِيعِ أفْعالِها عَلى جُرْحِها. ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ هَذا القِياسَ فاسِدُ الِاعْتِبارِ، لِأنَّهُ في مُقابَلَةِ النَّصِّ، ومِن أهْلِ العِلْمِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الماشِيَةِ ما أفْسَدَتْهُ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ. ويُجابُ عَنْهُ بِحَدِيثِ البَراءِ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذَيْنِ الحُكْمَيْنِ مِن داوُدَ وسُلَيْمانَ كانا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لا بِاجْتِهادٍ. قَوْلُهُ: ﴿وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أخْبَرَنا بِأنَّهُ أعْطى كُلَّ واحِدٍ مِنهُما هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، وهُما إنْ كانا خاصَّيْنِ فَصِدْقُهُما عَلى هَذِهِ القَضِيَّةِ الَّتِي حَكاها اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْهُما مُقَدَّمٌ عَلى صِدْقِهِما عَلى غَيْرِها، وإنْ كانا عامَّيْنِ فَهَذا الفَرْدُ مِنَ الحُكْمِ والعِلْمِ، وهو ما وقَعَ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهُما في هَذِهِ القَضِيَّةِ أحَقُّ أفْرادِ ذَلِكَ العامِّ بِدُخُولِهِ تَحْتَهُ ودَلالَتِهِ عَلَيْهِ، ومِمّا يُسْتَفادُ مِن ذَلِكَ دَفْعُ ما عَسى يُوهِمُهُ تَخْصِيصُ سُلَيْمانَ بِالتَّفْهِيمِ، مِن عَدَمِ كَوْنِ حُكْمِ داوُدَ حُكْمًا شَرْعِيًّا: أيْ وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما أعْطَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا كَثِيرًا، لا سُلَيْمانَ وحْدَهُ. ولَمّا مَدَحَ داوُدَ وسُلَيْمانَ عَلى سَبِيلِ الِاشْتِراكِ، ذَكَرَ ما يَخْتَصُّ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، فَبَدَأ بِداوُدَ فَقالَ: ﴿وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ﴾ التَّسْبِيحُ إمّا حَقِيقَةٌ أوْ مَجازٌ، وقَدْ قالَ بِالأوَّلِ جَماعَةٌ وهو الظّاهِرُ. وذَلِكَ أنَّ داوُدَ كانَ إذا سَبَّحَ سَبَّحَتِ الجِبالُ مَعَهُ، وقِيلَ: إنَّها كانَتْ تُصَلِّي مَعَهُ إذا صَلّى، وهو مَعْنى التَّسْبِيحِ. وقالَ بِالمَجازِ جَماعَةٌ آخَرُونَ، وحَمَلُوا التَّسْبِيحَ عَلى تَسْبِيحِ مَن رَآها تَعَجُّبًا مِن عَظِيمِ خَلْقِها وقُدْرَةِ خالِقِها، وقِيلَ: كانَتِ الجِبالُ تَسِيرُ مَعَ داوُدَ، فَكانَ مَن رَآها سائِرَةً مَعَهُ سَبَّحَ والطَّيْرُ مَعْطُوفٌ عَلى الجِبالِ، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ: أيْ والطَّيْرُ مُسَخَّراتٌ، ولا يَصِحُّ العَطْفُ عَلى الضَّمِيرِ في يُسَبِّحْنَ لِعَدَمِ التَّأْكِيدِ والفَصْلِ وكُنّا فاعِلِينَ يَعْنِي ما ذُكِرَ مِنَ التَّفْهِيمِ، وإيتاءِ الحُكْمِ والتَّسْخِيرِ. ﴿وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكم﴾ اللَّبُوسُ عِنْدَ العَرَبِ السِّلاحُ كُلُّهُ دِرْعًا كانَ أوْ جَوْشَنًا، أوْ سَيْفًا، أوْ رُمْحًا، قالَ الهُذَلِيُّ: وعِنْدِي لَبُوسٌ في اللِّباسِ كَأنَّهُ إلَخْ والمُرادُ في الآيَةِ الدُّرُوعُ خاصَّةً، وهو بِمَعْنى المَلْبُوسِ، كالرَّكُوبِ والحَلُوبُ، والجارُّ والمَجْرُورُ أعْنِي لَكم مُتَعَلِّقٌ بِعَلَّمْنا ﴿لِتُحْصِنَكم مِن بَأْسِكُمْ﴾ قَرَأ الحَسَنُ وأبُو جَعْفَرٍ وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ ورَوْحٌ لِتُحَصِّنَكم بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ، بِإرْجاعِ الضَّمِيرِ إلى الصَّنْعَةِ، أوْ إلى اللَّبُوسِ بِتَأْوِيلِ الدِّرْعِ. وقَرَأ شَيْبَةُ وأبُو بَكْرٍ والمُفَضَّلُ وابْنُ أبِي إسْحاقَ ( لِنُحَصِّنَكم ) بِالنُّونِ بِإرْجاعِ الضَّمِيرِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ. وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ بِإرْجاعِ الضَّمِيرِ إلى اللَّبُوسِ، أوْ إلى داوُدَ، أوْ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ. ومَعْنى مِن بَأْسِكم مِن حَرْبِكم، أوْ مِن وقْعِ السِّلاحِ فِيكم ﴿فَهَلْ أنْتُمْ شاكِرُونَ﴾ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي (p-٩٤٣)أنْعَمْنا بِها عَلَيْكم، والِاسْتِفْهامُ في مَعْنى الأمْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما خَصَّ بِهِ سُلَيْمانَ. فَقالَ: ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ﴾ أيْ وسَخَّرَنا لَهُ الرِّيحَ عاصِفَةً أيْ شَدِيدَةَ الهُبُوبِ. يُقالُ عَصَفَتِ الرِّيحُ: أيِ اشْتَدَّتْ، فَهي رِيحٌ عاصِفٌ وعَصُوفٌ، وانْتِصابُ الرِّيحِ عَلى الحالِ. وقَرَأ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأعْرَجِ والسُّلَمِيُّ وأبُو بَكْرٍ ( ولِسُلَيْمانَ الرِّيحُ ) بِرَفْعِ الرِّيحِ عَلى القَطْعِ مِمّا قَبْلَهُ، ويَكُونُ مُبْتَدَأً وخَبَرُهُ تَجْرِي. وأمّا عَلى قِراءَةِ النَّصْبِ فَيَكُونُ مَحَلُّ ﴿تَجْرِي بِأمْرِهِ﴾ النَّصْبَ أيْضًا عَلى الحالِيَّةِ، أوْ عَلى البَدَلِيَّةِ ﴿إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها﴾ وهي أرْضُ الشّامِ كَما تَقَدَّمَ ﴿وكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ﴾ أيْ بِتَدْمِيرِ كُلِّ شَيْءٍ. ﴿ومِنَ الشَّياطِينِ﴾ أيْ وسَخَّرْنا مِنَ الشَّياطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ في البِحارِ ويَسْتَخْرِجُونَ مِنها ما يَطْلُبُهُ مِنهم، وقِيلَ: إنَّ مِن مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ما قَبْلَهُ، والغَوْصُ النُّزُولُ تَحْتَ الماءِ، يُقالُ غاصَ في الماءِ، والغَوّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ في البَحْرِ عَلى اللُّؤْلُؤِ ﴿ويَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ قالَ الفَرّاءُ: أيْ سِوى ذَلِكَ، وقِيلَ: أرادَ بِذَلِكَ المَحارِيبَ والتَّماثِيلَ وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا يُسَخِّرُهم فِيهِ ﴿وكُنّا لَهم حافِظِينَ﴾ أيْ لِأعْمالِهِمْ. وقالَ الفَرّاءُ: حافِظِينَ لَهم مِن أنْ يَهْرُبُوا أوْ يَتَمَنَّعُوا، أوْ حَفِظْناهم مِن أنْ يَخْرُجُوا عَنْ أمْرِهِ. قالَ الزَّجّاجُ: كانَ يَحْفَظُهم مِن أنْ يُفْسِدُوا ما عَمِلُوا، وكانَ دَأْبُهم أنْ يُفْسِدُوا بِاللَّيْلِ ما عَمِلُوا بِالنَّهارِ. ﴿وأيْوبَ إذْ نادى رَبَّهُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، والعامِلُ فِيهِ: إمّا المَذْكُورُ أوِ المُقَدَّرُ كَما مَرَّ، والعامِلُ في الظَّرْفِ وهو إذْ نادى رَبَّهُ هو العامِلُ في أيْوبَ ﴿أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ أيْ بِأنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ. وقُرِئَ بِكَسْرِ ( إنِّي ) . واخْتُلِفَ في الضُّرِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ ماذا هو فَقِيلَ إنَّهُ قامَ لِيُصَلِّيَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلى النُّهُوضِ، وقِيلَ: إنَّهُ أقَرَّ بِالعَجْزِ، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ مُنافِيًا لِلصَّبْرِ، وقِيلَ: انْقَطَعَ الوَحْيُ عَنْهُ أرْبَعِينَ يَوْمًا، وقِيلَ: إنَّ دُودَةً سَقَطَتْ مِن لَحْمِهِ، فَأخَذَها ورَدَّها في مَوْضِعِها فَأكَلَتْ مِنهُ، فَصاحَ مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وقِيلَ: كانَ الدُّودُ تَناوَلَ بَدَنَهُ فَيَصْبِرُ حَتّى تَناوَلَتْ دُودَةٌ قَلْبَهُ، وقِيلَ: إنَّ ضُرَّهُ قَوْلُ إبْلِيسَ لِزَوْجَتِهِ اسْجُدِي لِي، فَخافَ ذَهابَ إيمانِها، وقِيلَ: إنَّهُ تَقَذَّرَهُ قَوْمُهُ، وقِيلَ: أرادَ بِالضُّرِّ الشَّماتَةَ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. ولَمّا نادى رَبَّهُ مُتَضَرِّعًا إلَيْهِ وصَفَهُ بِغايَةِ الرَّحْمَةِ فَقالَ: ﴿وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ . فَأخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِاسْتِجابَتِهِ لِدُعائِهِ، فَقالَ: ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ﴾ أيْ شَفاهُ اللَّهُ مِمّا كانَ بِهِ وأعاضَهُ بِما ذَهَبَ عَلَيْهِ، ولِهَذا قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وآتَيْناهُ أهْلَهُ ومِثْلَهم مَعَهُمْ﴾ قِيلَ تَرَكَهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - لَهُ، وأعْطاهُ مِثْلَهم في الدُّنْيا. قالَ النَّحّاسُ: والإسْنادُ بِذَلِكَ صَحِيحٌ، وقَدْ كانَ ماتَ أهْلُهُ جَمِيعًا إلّا امْرَأتَهُ، فَأحْياهُمُ اللَّهُ في أقَلَّ مِن طَرْفِ البَصَرِ، وآتاهُ مِثْلَهم مَعَهم، وقِيلَ: كانَ ذَلِكَ بِأنْ وُلِدَ لَهُ ضِعْفُ الَّذِينَ أماتَهُمُ اللَّهُ، فَيَكُونُ مَعْنى الآيَةِ عَلى هَذا: آتَيْناهُ مِثْلَ أهْلِهِ ومِثْلَهم مَعَهم، وانْتِصابُ ﴿رَحْمَةً مِن عِنْدِنا﴾ عَلى العِلَّةِ: أيْ آتَيْناهُ ذَلِكَ لِرَحْمَتِنا لَهُ ﴿وذِكْرى لِلْعابِدِينَ﴾ أيْ وتَذْكِرَةً لِغَيْرِهِ مِنَ العابِدِينَ لِيَصْبِرُوا كَما صَبَرَ. واخْتُلِفَ في مُدَّةِ إقامَتِهِ عَلى البَلاءِ: فَقِيلَ سَبْعُ سِنِينَ وسَبْعَةُ أشْهُرٍ وسَبْعَةُ أيامٍ وسَبْعُ لَيالٍ، وقِيلَ: ثَلاثِينَ سَنَةً، وقِيلَ: ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. ﴿وإسْماعِيلَ وإدْرِيسَ وذا الكِفْلِ﴾ أيْ واذْكُرْ هَؤُلاءِ، وإدْرِيسَ هو أخْنُوخُ، وذا الكِفْلِ إلْياسُ، وقِيلَ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وقِيلَ: زَكَرِيّا. والصَّحِيحُ أنَّهُ رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ كانَ لا يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ المَعاصِي، فَتابَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وقِيلَ: إنَّ اليَسَعَ لَمّا كَبِرَ قالَ: مَن يَتَكَفَّلُ لِي بِكَذا وكَذا مِن خِصالِ الخَيْرِ حَتّى أسْتَخْلِفَهُ ؟ فَقالَ رَجُلٌ أنا، فاسْتَخْلَفَهُ وسُمِّيَ ذا الكِفْلِ. وقِيلَ: كانَ رَجُلًا يَتَكَفَّلُ بِشَأْنِ كُلِّ إنْسانٍ إذا وقَعَ في شَيْءٍ مِنَ المُهِمّاتِ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وقَدْ ذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ. وقالَ جَماعَةٌ: هو نَبِيٌّ. ثُمَّ وصَفَ اللَّهُ سُبْحانَهُ هَؤُلاءِ بِالصَّبْرِ فَقالَ: ﴿كُلٌّ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ أيْ كُلُّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ مِنَ الصّابِرِينَ عَلى القِيامِ بِما كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. ﴿وأدْخَلْناهم في رَحْمَتِنا﴾ أيْ في الجَنَّةِ، أوْ في النُّبُوَّةِ، أوْ في الخَيْرِ عَلى عُمُومِهِ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهم مِنَ الصّالِحِينَ﴾ أيِ الكامِلِينَ في الصَّلاحِ. وذا النُّونِ أيْ واذْكُرْ ذا النُّونِ، وهو يُونُسُ بْنُ مَتّى، ولُقِّبَ ذا النُّونِ لِابْتِلاعِ الحُوتِ لَهُ، فَإنَّ النُّونَ مِن أسْماءِ الحُوتِ، وقِيلَ: سُمِّيَ ذا النُّونِ لِأنَّهُ رَأى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقالَ دَسِّمُوا نُونَتَهُ، لِئَلّا تُصِيبَهُ العَيْنُ. وحَكى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ أنَّ نُونَةَ الصَّبِيِّ هي الثُّقْبَةُ الَّتِي تَكُونُ في ذَقَنِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، ومَعْنى دَسِّمُوا سَوِّدُوا ﴿إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا﴾ أيِ اذْكُرْ ذا النُّونِ وقْتَ ذَهابِهِ مُغاضِبًا: أيْ مُراغِمًا. قالَ الحَسَنُ والشَّعْبِيُّ وسَعْدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذَهَبَ مُغاضِبًا لِرَبِّهِ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ والقُتَيْبِيُّ والمَهْدَوِيُّ. وحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: قالَ النَّحّاسُ: ورُبَّما أنْكَرَ هَذا مِن لا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وهو قَوْلٌ صَحِيحٌ. والمَعْنى: مُغاضِبًا مِن أجْلِ رَبِّهِ، كَما تَقُولُ غَضِبْتُ لَكَ: أيْ مِن أجْلِكَ. وقالَ الضَّحّاكُ: ذَهَبَ مُغاضِبًا لِقَوْمِهِ. وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهُمُ الأخْفَشُ: إنَّما خَرَجَ مُغاضِبًا لِلْمَلِكِ الَّذِي كانَ في وقْتِهِ واسْمُهُ حِزْقِيا، وقِيلَ: لَمْ يُغاضِبْ رَبَّهُ ولا قَوْمَهُ ولا المَلِكَ، ولَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن غَضِبَ إذا أنِفَ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا وعَدَ قَوْمَهُ بِالعَذابِ وخَرَجَ عَنْهم تابُوا وكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ العَذابَ فَلَمّا رَجَعَ وعَلِمَ أنَّهم لَمْ يُهْلَكُوا أنِفَ مِن ذَلِكَ فَخَرَجَ عَنْهم، ومِنِ اسْتِعْمالِ الغَضَبِ في هَذا المَعْنى قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وأغْضَبُ أنْ تُهْجى تَمِيمٌ بِعامِرٍ أيْ آنَفُ ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ نَقْدِرَ بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ الدّالِ. واخْتُلِفَ في مَعْنى الآيَةِ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، فَقِيلَ مَعْناها: أنَّهُ وقَعَ في ظَنِّهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَقْدِرُ عَلى مُعاقَبَتِهِ. وقَدْ حُكِيَ هَذا القَوْلُ عَنِ الحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وهو قَوْلٌ مَرْدُودٌ، فَإنَّ هَذا الظَّنَّ بِاللَّهِ كُفْرٌ، ومِثْلُ ذَلِكَ لا يَقَعُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وذَهَبَ جُمْهُورُ العُلَماءِ أنَّ مَعْناها: فَظَنَّ أنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ [الرعد: ٢٦] أيْ يُضَيِّقُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ (p-٩٤٤)[الطلاق: ٧] يُقالُ قَدَرَ وقَدَّرَ وقَتَرَ وقَتَّرَ: أيْ ضَيَّقَ، وقِيلَ: هو مِنَ القَدَرِ الَّذِي هو القَضاءُ والحُكْمُ: أيْ فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ العُقُوبَةَ: قالَهُ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ، واخْتارَهُ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ، مَأْخُوذٌ مِنَ القَدَرِ وهو الحُكْمُ دُونَ القُدْرَةِ والِاسْتِطاعَةِ. قالَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى ثَعْلَبٌ: هو مِنَ التَّقْدِيرِ لَيْسَ مِنَ القُدْرَةِ، يُقالُ مِنهُ: قَدَّرَ اللَّهُ لَكَ الخَيْرَ يُقَدِّرُهُ قَدَرًا، وأنْشَدَ ثَعْلَبٌ: ؎فَلَيْسَتْ عَشِيّاتُ اللَّوى بِرَواجِعٍ ∗∗∗ لَنا أبَدًا ما أبْرَمَ السَّلْمَ النَّضِرُ ؎ولا عائِدٌ ذاكَ الزَّمانُ الَّذِي مَضى ∗∗∗ تَبارَكْتَ ما تُقَدِّرُ مَعَ ذَلِكَ الشُّكْرِ أيْ ما تُقَدِّرُهُ وتَقْضِي بِهِ، ومِمّا يُؤَيِّدُ ما قالَهُ هَؤُلاءِ قِراءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ والزُّهَرِيِّ فَظَنَّ أنْ نُقَدِّرَ بِضَمِّ النُّونِ وتَشْدِيدِ الدّالِ مِنَ التَّقْدِيرِ. وحَكى هَذِهِ القِراءَةَ الماوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أيْضًا قِراءَةُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وقَتادَةَ والأعْرَجِ ( أنْ لَنْ يُقَدَّرَ ) بِضَمِّ الياءِ والتَّشْدِيدِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ يَعْقُوبُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي إسْحاقَ والحَسَنُ ( يُقْدَرُ ) بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الدّالِ مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَأْوِيلِ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ في قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ لِأهْلِهِ أنْ يَحْرِقُوهُ إذا ماتَ، ثُمَّ قالَ: فَواللَّهِ لَئِنْ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ، الحَدِيثَ كَما اخْتَلَفُوا في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، والكَلامُ في هَذا يَطُولُ وقَدْ ذَكَرْنا هاهُنا ما لا يَحْتاجُ مَعَهُ النّاظِرُ إلى غَيْرِهِ، والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَنادى في الظُّلُماتِ﴾ فَصِيحَةٌ: أيْ كانَ ما كانَ مِنِ التِقامِ الحُوتِ لَهُ، فَنادى في الظُّلُماتِ، والمُرادُ بِالظُّلُماتِ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وظُلْمَةُ البَحْرِ، وظُلْمَةُ بَطْنِ الحُوتِ، وكانَ نِداؤُهُ: هو قَوْلُهُ: ﴿أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ أيْ بِأنْ لا إلَهَ إلَخْ، ومَعْنى سُبْحانَكَ: تَنْزِيهًا لَكَ مِن أنْ يُعْجِزَكَ شَيْءٌ، إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أنْفُسَهم، قالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ هَذا القَوْلُ مِن يُونُسَ اعْتِرافٌ بِذَنْبِهِ وتَوْبَةٌ مِن خَطِيئَتِهِ، قالَ ذَلِكَ وهو في بَطْنِ الحُوتِ. ثُمَّ أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِأنَّهُ اسْتَجابَ لَهُ فَقالَ: ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ﴾ دُعاءَهُ الَّذِي دَعانا بِهِ في ضِمْنِ اعْتِرافِهِ بِالذَّنْبِ عَلى ألْطَفِ وجْهٍ ﴿ونَجَّيْناهُ مِنَ الغَمِّ﴾ بِإخْراجِنا لَهُ مَن بَطْنِ الحُوتِ حَتّى قَذَفَهُ إلى السّاحِلِ ﴿وكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ نُخَلِّصُهم مَن هَمِّهِمْ بِما سَبَقَ مِن عَمَلِهِمْ وما أعْدَدْناهُ لَهم مِنَ الرَّحْمَةِ، وهَذا هو مَعْنى الآيَةِ الأُخْرى، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَلَوْلا أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ﴾ ﴿لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: ١٤٣ - ١٤٤] قَرَأ الجُمْهُورُ نُنْجِي بِنُونَيْنِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ نُجِّي بِنُونٍ واحِدَةٍ وجِيمٍ مُشَدَّدَةٍ وتَسْكِينُ الياءِ عَلى الفِعْلِ الماضِي وإضْمارُ المَصْدَرِ، وكَذَلِكَ نُجِّي النَّجاةَ المُؤْمِنِينَ كَما تَقُولُ ضَرَبَ زَيْدًا: أي ضَرَبَ الضَّرْبَ زَيْدًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ولَوْ ولَدَتْ فُقَيْرَةٌ جِرْوَ كَلْبٍ ∗∗∗ لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِرْوِ الكِلابا هَكَذا قالَ في تَوْجِيهِ هَذِهِ القِراءَةِ الفَرّاءُ وأبُو عُبَيْدٍ وثَعْلَبٌ، وخَطَّأهم أبُو حاتِمٍ والزَّجّاجُ وقالا: هي لَحْنٌ لِأنَّهُ نَصَبَ اسْمَ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وإنَّما يُقالُ نُجِّيَ المُؤْمِنُونَ. ولِأبِي عُبَيْدَةَ قَوْلٌ آخَرُ، وهو أنْ أدْغَمَ النُّونَ في الجِيمِ وبِهِ قالَ القُتَيْبِيُّ. واعْتَرَضَهُ النَّحّاسُ فَقالَ: هَذا القَوْلُ لا يَجُوزُ عِنْدَ أحَدٍ مِنَ النَّحْوِيِّينَ لِبُعْدِ مَخْرَجِ النُّونِ مِن مَخْرَجِ الجِيمِ فَلا يُدْغَمُ فِيها، ثُمَّ قالَ النَّحّاسُ: لَمْ أسْمَعْ في هَذا أحْسَنَ مِن شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مَن عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمانَ الأخْفَشِ قالَ: الأصْلُ نُنْجِي، فَحُذِفَ إحْدى النُّونَيْنِ لِاجْتِماعِهِما كَما يُحْذَفُ إحْدى التّاءَيْنِ لِاجْتِماعِهِما نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ( ولا تَفَرَّقُوا ) [آل عمران: ١٠٣] والأصْلُ ولا تَتَفَرَّقُوا. قُلْتُ: وكَذا الواحِدِيُّ عَنْ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ أنَّهُ قالَ: إنَّ النُّونَ الثّانِيَةَ تَخْفى مَعَ الجِيمِ، ولا يَجُوزُ تَبْيِينِها، فالتَبَسَ عَلى السّامِعِ الإخْفاءُ بِالإدْغامِ، فَظَنَّ أنَّهُ إدْغامٌ، ويَدُلُّ عَلى هَذا إسْكانُهُ الياءَ مِن نَجّى ونَصْبُ المُؤْمِنِينَ، ولَوْ كانَ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ ما سَكَّنَ الياءَ ولَوَجَبَ أنْ يَرْفَعَ المُؤْمِنِينَ. قُلْتُ: ولا نُسَلِّمُ قَوْلَهُ إنَّهُ لا يَجُوزُ تَبْيِينُها فَقَدْ بُيِّنَتْ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ السُّمَيْفِعِ وأبُو العالِيَةِ ( وكَذَلِكَ نَجّى المُؤْمِنِينَ ) عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ: أيْ نَجّى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُرَّةَ في قَوْلِهِ: ﴿إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ﴾ قالَ: كانَ الحَرْثُ نَبْتًا فَنَفَشَتْ فِيهِ لَيْلًا فاخْتَصَمُوا فِيهِ إلى داوُدَ، فَقَضى بِالغَنَمِ لِأصْحابِ الحَرْثِ، فَمَرُّوا عَلى سُلَيْمانَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقالَ: لا، تُدْفَعُ الغَنَمُ فَيُصِيبُونَ مِنها ويَقُومُ هَؤُلاءِ عَلى حَرْثِهِمْ، فَإذا كانَ كَما كانَ رَدُّوا عَلَيْهِمْ فَنَزَلَتْ ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ وقَدْ رُوِيَ هَذا عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والحاكِمُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿وداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ﴾ قالَ: كَرْمٌ قَدْ أنْبَتَتْ عَناقِيدُهُ فَأفْسَدَتْهُ الغَنَمُ، فَقَضى داوُدُ بِالغَنَمِ لِصاحِبِ الكَرْمِ، فَقالَ سُلَيْمانُ: غَيْرُ هَذا يا نَبِيَّ اللَّهِ، قالَ: وما ذاكَ ؟ قالَ: يُدْفَعُ الكَرْمُ إلى صاحِبِ الغَنَمِ فَيَقُومُ عَلَيْهِ حَتّى يَعُودَ كَما كانَ، وتُدْفَعُ الغَنَمُ إلى صاحِبِ الكَرْمِ فَيُصِيبُ مِنها، حَتّى إذا عادَ الكَرْمُ كَما كانَ دَفَعْتَ الكَرْمَ إلى صاحِبِهِ والغَنَمَ إلى صاحِبِها، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوَهُ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الكَرْمَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ بِأطْوَلَ مِنهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا نَفَشَتْ قالَ: رَعَتْ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وأبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ حَرامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ: «أنَّ ناقَةً لِلْبَراءِ بْنِ عازِبٍ دَخَلَتْ حائِطًا فَأفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنَّ عَلى أهْلِ الحَوائِطِ حِفْظَها بِالنَّهارِ، وأنَّ ما أفْسَدَتِ المَواشِي بِاللَّيْلِ ضامِنٌ عَلى أهْلِها» وقَدْ عُلِّلَ هَذا الحَدِيثُ، وقَدْ بَسَطْنا الكَلامَ عَلَيْهِ في شَرْحِ المُنْتَقى. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ نَحْوَهُ. وزادَ في آخِرِهِ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ ﴿وداوُدَ وسُلَيْمانَ﴾ الآيَةَ. وفي الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «بَيْنَما امْرَأتانِ مَعَهُما ابْنانِ جاءَ الذِّئْبُ فَأخَذَ (p-٩٤٥)أحَدَ الِاثْنَيْنِ، فَتَحاكَما إلى داوُدَ فَقَضى بِهِ لِلْكُبْرى، فَخَرَجَتا فَدَعاهُما سُلَيْمانُ فَقالَ: هاتُوا السِّكِّينَ أشُقُّهُ بَيْنَهُما، فَقالَتِ الصُّغْرى: رَحِمَكَ اللَّهُ، هو ابْنُها لا تَشُقَّهُ، فَقَضى بِهِ لِلصُّغْرى» . وهَذا الحَدِيثُ وإنْ لَمْ يَكُنْ داخِلًا فِيما حَكَتْهُ الآيَةُ مِن حُكْمِهِما لَكِنَّهُ مِن جُمْلَةِ ما وقَعَ لَهُما. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ﴾ قالَ: يُصَلِّينَ مَعَ داوُدَ إذا صَلّى ﴿وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكم﴾ قالَ: كانَتْ صَفائِحَ، فَأوَّلُ مَن سَرَدَها وحَلَقَها داوُدُ عَلَيْها السَّلامُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ سُلَيْمانُ يُوضَعُ لَهُ سِتُّمِائَةُ ألْفِ كُرْسِيِّ، ثُمَّ يَجِيءُ أشْرافُ الإنْسِ فَيَجْلِسُونَ مِمّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَجِيءُ أشْرافُ الجِنِّ فَيَجْلِسُونَ مِمّا يَلِي أشْرافَ الإنْسِ ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْرَ فَتُظِلُّهم، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيحَ فَتَحْمِلُهم تَسِيرُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ في الغَداةِ الواحِدَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ والدَّيْلَمِيُّ وابْنُ النَّجّارِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «قالَ اللَّهُ لِأيُّوبَ: تَدْرِي ما جُرْمَكَ عَلَيَّ حَتّى ابْتَلَيْتُكَ ؟ قالَ: لا يا رَبِّ، قالَ: لِأنَّكَ دَخَلْتَ عَلى فِرْعَوْنَ فَداهَنْتَ عِنْدَهُ في كَلِمَتَيْنِ» . وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّما كانَ ذَنْبُ أيُّوبَ أنَّهُ اسْتَعانَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلى ظالِمٍ يَدْرَؤُهُ فَلَمْ يُعِنْهُ، ولَمْ يَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ، ولَمْ يَنْهَ الظّالِمَ عَنْ ظُلْمِ المِسْكِينِ فابْتَلاهُ اللَّهُ. وفي إسْنادِهِ جُوَيْبِرٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ في الزُّهْدِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ: كانَ لِأيُّوبَ أخَوانِ جاءا يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعا أنْ يَدْنُوا مِنهُ مِن رِيحِهِ، فَقاما مِن بَعِيدٍ، فَقالَ أحَدُهُما لِلْآخَرِ: لَوْ كانَ عَلِمَ اللَّهُ مِن أيُّوبَ خَيْرًا ما ابْتَلاهُ بِهَذا، فَجَزِعَ أيْوبُ مِن قَوْلِهِما جَزَعًا لَمْ يَجْزَعْ مِن شَيْءٍ قَطُّ مِثْلَهُ، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي لَمْ أبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعانَ، وأنا أعْلَمُ مَكانَ جائِعٍ فَصَدِّقْنِي فَصُدِّقَ مِنَ السَّماءِ وهُما يَسْمَعانِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي لَمْ ألْبَسْ قَمِيصًا قَطُّ وأنا أعْلَمُ مَكانَ عارٍ فَصَدِّقْنِي، فَصُدِّقَ مِنَ السَّماءِ وهُما يَسْمَعانِ ثُمَّ خَرَّ ساجِدًا وقالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لا أرْفَعُ رَأْسِي حَتّى تَكْشِفَ عَنِّي، فَما رَفَعَ رَأْسَهُ حَتّى كَشْفَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَدْ رَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن وجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِ هَذا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وآتَيْناهُ أهْلَهُ ومِثْلَهم مَعَهم﴾ قالَ: قِيلَ لَهُ يا أيُّوبُ إنَّ أهْلَكَ لَكَ في الجَنَّةِ، فَإنْ شِئْتَ أتَيْناكَ لَهم، وإنْ شِئْتَ تَرَكْناهم لَكَ في الجَنَّةِ بَلِ اتْرُكْهم لِي في الجَنَّةِ وعُوِّضَ مِثْلَهم في الدُّنْيا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ عَنِ الضَّحّاكِ قالَ: بَلَغَ ابْنَ مَسْعُودٍ أنَّ مَرْوانَ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ ﴿وآتَيْناهُ أهْلَهُ ومِثْلَهم مَعَهُمْ﴾ قالَ: أُوتِيَ أهْلًا غَيْرَ أهْلِهِ، فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: بَلْ أُوتِيَ أهْلَهُ بِأعْيانِهِمْ ومِثْلَهم مَعَهم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا وأبُو يَعْلى وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والرُّويانِيُّ وابْنُ حِبّانَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «إنَّ أيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلاؤُهُ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، فَرَفَضَهُ القَرِيبُ والبَعِيدُ إلّا رَجُلَيْنِ مِن إخْوانِهِ كانا مِن أخَصِّ إخْوانِهِ، كانا يَغْدُوانِ إلَيْهِ ويَرُوحانِ، فَقالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ ذاتَ يَوْمٍ: تَعْلَمُ واللَّهِ لَقَدْ أذْنَبَ أيُّوبُ ذَنْبًا ما أذَنَبَهُ أحَدٌ، قالَ: وما ذاكَ ؟ قالَ مُنْذُ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةٍ لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفْ عَنْهُ ما بِهِ، فَلَمّا راحا إلى أيُّوبَ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتّى ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ أيُّوبُ: لا أدْرِي ما يَقُولُ غَيْرَ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أنِّي أمُرُّ بِالرَّجُلَيْنِ يَتَنازَعانِ يَذْكُرانِ اللَّهَ فَأرْجِعُ إلى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُما كَراهَةَ أنْ يُذْكَرَ اللَّهُ إلّا في حَقٍّ وكانَ يَخْرُجُ لِحاجَتِهِ فَإذا قَضى حاجَتَهُ أمْسَكَتِ امْرَأتُهُ بِيَدِهِ حَتّى يَبْلُغَ، فَلَمّا كانَ ذاتَ يَوْمٍ أبْطَأ عَلَيْها، فَأوْحى اللَّهُ إلى أيُّوبَ في مَكانِهِ أنِ ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ﴾ [ص: ٤٢] فاسْتَبْطَأتْهُ فَتَلَقَّتْهُ وأقْبَلَ عَلَيْها قَدْ أذْهَبَ اللَّهُ ما بِهِ مِنَ البَلاءِ وهو أحْسَنُ ما كانَ، فَلَمّا رَأتْهُ قالَتْ: أيْ بارَكَ اللَّهُ فِيكَ هَلْ رَأيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ المُبْتَلى، واللَّهِ عَلى ذَلِكَ ما رَأيْتُ رَجُلًا أشْبَهَ بِهِ مِنكَ إذْ كانَ صَحِيحًا ؟ قالَ: فَإنِّي أنا هو، قالَ: وكانَ لَهُ أنْدَرانِ: أنْدَرٌ لِلْقَمْحِ، وأنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحابَتَيْنِ، فَلَمّا كانَتْ إحْداهُما عَلى أنْدَرِ القَمْحِ أفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتّى فاضَ، وأفْرَغَتِ الأُخْرى في أنْدَرِ الشَّعِيرِ الوَرِقَ حَتّى فاضَ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وذا الكِفْلِ﴾ قالَ: رَجُلٌ صالِحٌ غَيْرُ نَبِيٍّ تَكَفَّلَ لِنَبِيِّ قَوْمِهِ أنْ يَكْفِيَهُ أمْرَ قَوْمِهِ ويُقَيِّمَهم بِهِ ويَقْضِيَ بَيْنَهم بِالعَدْلِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَسُمِّيَ ذا الكِفْلِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ قاضٍ فَحَضَرَهُ المَوْتُ، فَقالَ: مَن يَقُومُ مَقامِي عَلى أنْ لا يَغْضَبَ، فَقالَ رَجُلٌ: أنا، فَسُمِّيَ ذا الكِفْلِ، فَكانَ لَيْلُهُ جَمِيعًا يُصَلِّي، ثُمَّ يُصْبِحُ قائِمًا فَيَقْضِي بَيْنَ النّاسِ، وذَكَرَ القِصَّةَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: ما كانَ ذُو الكِفْلِ نَبِيًّا، ولَكِنْ كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ رَجُلٌ صالِحٌ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلاةٍ فَتُوُفِّيَ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الكِفْلِ مِن بَعْدِهِ، فَكانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلاةٍ، فَسُمِّيَ ذا الكِفْلِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ حِبّانَ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ مِن طَرِيقِ سَعْدٍ مَوْلى طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «كانَ الكِفْلُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ لا يَتَوَرَّعُ مِن ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأتَتْهُ امْرَأةٌ فَأعْطاها سِتِّينَ دِينارًا عَلى أنْ يَطَأها، فَلَمّا قَعَدَ مِنها مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأتِهِ ارْتَعَدَتْ وبَكَتْ، فَقالَ: ما يُبْكِيكِ أكْرَهْتُكِ ؟ قالَتْ: لا ولَكِنَّهُ عَمَلٌ ما عَمِلْتُهُ قَطُّ، وما حَمَلَنِي عَلَيْهِ إلّا الحاجَةُ، فَقالَ: تَفْعَلِينَ أنْتِ هَذا وما فَعَلْتِهِ اذْهَبِي فَهي لَكِ، وقالَ: واللَّهِ لا أعْصِي اللَّهَ بَعْدَها أبَدًا، فَماتَ مِن لَيْلَتِهِ فَأصْبَحَ مَكْتُوبٌ عَلى بابِهِ: إنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ» . وأخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ والحاكِمُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ سَعْدٍ مَوْلى طَلْحَةَ. (p-٩٤٦)وأخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قالَ: فِيهِ ذُو الكِفْلِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وذا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا﴾ يَقُولُ: غَضِبَ عَلى قَوْمِهِ ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ يَقُولُ: أنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً ولا بَلاءً فِيما صَنَعَ بِقَوْمِهِ في غَضَبِهِ عَلَيْهِمْ وفِرارِهِ، قالَ: وعُقُوبَتُهُ أخَذُ النُّونِ إيّاهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ قالَ: ظَنَّ أنْ لَنْ يَأْخُذَهُ العَذابُ الَّذِي أصابَهُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ وابْنُ أبِي الدُّنْيا وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿فَنادى في الظُّلُماتِ﴾ قالَ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وظُلْمَةُ بَطْنِ الحُوتِ، وظُلْمَةُ البَحْرِ. وأخْرَجَ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ والحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصُولِ والبَزّارُ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إذْ هو في بَطْنِ الحُوتِ: لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بِها مُسْلِمٌ رَبَّهُ في شَيْءٍ قَطُّ إلّا اسْتَجابَ لَهُ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقُولُ: «اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إذا دُعِيَ بِهِ أجابَ، وإذا سُئِلَ بِهِ أعْطى دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتّى، قَلَّتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لِيُونُسَ خاصَّةً أمْ لِجَماعَةِ المُسْلِمِينَ ؟ قالَ: هي لِيُونُسَ خاصَّةً ولِلْمُؤْمِنِينَ عامَّةً إذا دَعَوْا بِهِ، ألَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ ﴿وكَذَلِكَ نُنْجِي المُؤْمِنِينَ﴾ فَهو شَرْطٌ مِنَ اللَّهِ لِمَن دَعاهُ» . وأخْرَجَ الحاكِمُ مِن حَدِيثِهِ أيْضًا نَحْوَهُ، وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ أنا خَيْرٌ مِن يُونُسَ ابْنِ مَتّى» . ورُوِيَ أيْضًا في الصَّحِيحِ وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ورُوِيَ أيْضًا في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب