الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا وسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ والطَيْرَ وكُنّا فاعِلِينَ﴾ المَعْنى: واذْكُرْ داوُدَ وسُلَيْمانَ، هَكَذا قَدَّرَهُ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَحْتَمِلُ عِنْدِي ويَقْوى أنْ يَكُونَ المَعْنى: "وَآتَيْنا داوُدَ" عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: "وُنُوحًا"، وذَلِكَ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وَلُوطًا آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٤]، والمَعْنى عَلى هَذا التَأْوِيلِ مُتَّسِقٌ. وسُلَيْمانُ هو ابْنُ داوُدَ عَلَيْهِما السَلامُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ مَلِكًا عَدْلًا نَبِيًّا يَحْكم بَيْنَ الناسِ فَوَقَعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَذِهِ النازِلَةُ، وكانَ ابْنُهُ إذْ ذاكَ قَدْ كَبُرَ، وكانَ يَجْلِسُ عَلى البابِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنهُ الخُصُومُ، وكانُوا يَدْخُلُونَ إلى داوُدَ عَلَيْهِ السَلامُ مِن بابٍ آخَرَ، فَتَخاصَمَ إلى داوُدَ عَلَيْهِ السَلامُ رَجُلٌ لَهُ زَرْعٌ، وقِيلَ: كَرْمٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: و"الحَرْثُ" يُقالُ فِيهِما، وهو في الزَرْعِ أبْعَدُ عَنِ الِاسْتِعِارَةِ، دَخَلَتْ حَرْثَهُ غَنَمُ رَجُلٍ (p-١٨٤)آخَرَ فَأفْسَدَتْ، فَرَأى داوُدُ عَلَيْهِ السَلامُ أنْ يَدْفَعَ الغَنَمَ إلى صاحِبِ الحَرْثِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: عَلى أنْ يَبْقى كَرْمُهُ بِيَدِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ دَفَعَ الغَنَمَ إلى صاحِبِ الحَرْثِ والحَرْثَ إلى صاحِبِ الغَنَمِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَيُشْبِهُ عَلى هَذا القَوْلِ الواحِدِ أنَّهُ رَأى الغَنَمَ تُقاوِمُ الغَلَّةَ الَّتِي أُفْسِدَتْ، وعَلى القَوْلِ الثانِي رَآها تُقاوِمُ الحَرْثَ وغَلَّتَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا يُظَنُّ بِداوُدَ عَلَيْهِ السَلامُ إلّا أنَّ حُكْمَهُ بِنَظَرٍ مُتَوَجِّهٍ. فَلَمّا خَرَجَ الخَصْمانِ عَلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ تَشَكّى لَهُ صاحِبُ الغَنَمِ، فَجاءَ سُلَيْمانُ إلى داوُدَ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ، إنَّكَ حَكَمْتَ بِكَذا، وإنِّي رَأيْتُ ما هو أرْفَقُ بِالجَمِيعِ، قالَ: وما هُوَ؟ قالَ: أنْ يَأْخُذَ صاحِبُ الغَنَمِ الحَرْثَ يَقُومُ عَلَيْهِ ويُصْلِحُهُ حَتّى يَعُودَ كَما كانَ، ويَأْخُذَ صاحِبُ الحَرْثِ الغَنَمَ في تِلْكَ المُدَّةِ يَنْتَفِعُ بِمَرافِقِها مِن لَبَنٍ وصُوفٍ ونَسْلٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، فَإذا كَمُلَ الحَرْثُ وعادَ إلى حالِهِ صَرَفَ كُلُّ واحِدٍ مالَ صاحِبِهِ، فَرَجَعَتِ الغَنَمُ إلى رَبِّها والحَرْثُ إلى رَبِّهِ، فَقالَ داوُدُ عَلَيْهِ السَلامُ: وُفِّقْتَ يا بُنَيَّ، وقَضى بَيْنَهُما بِذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا شَكَّ أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ رَأى ما يَتَحَمَّلُهُ صاحِبُ الغَنَمِ مِن فَقْدِ مَرافِقِ غَنَمَهِ تِلْكَ المُدَّةَ، ومِن مَؤُونَةِ إصْلاحِ الحَرْثِ، يُوازِي ما فَسَدَ في الحَرْثِ، وفَضَلَ حُكْمُهُ حُكْمَ أبِيهِ في أنَّهُ أحْرَزَ أنْ يُبْقِيَ مِلْكَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَلى مَتاعِهِ، وتَبْقى نَفْسُهُ بِذَلِكَ طَيِّبَةً. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إلى أنَّ هَذِهِ النازِلَةَ لَمْ يَكُنِ الحُكْمُ فِيها بِاجْتِهادٍ، وإنَّما حَكَمَ داوُدُ بِوَحْيٍ، وحَكَمَ سُلَيْمانُ بِوَحْيٍ نَسَخَ اللهُ بِهِ حُكْمَ داوُدَ، وجَعَلَتْ فِرْقَةٌ - ومِنها ابْنُ فُورَكَ - قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ أيْ فَقَهْناهُ القَضاءَ الفاصِلَ الناسِخَ الَّذِي أرادَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أنْ يَسْتَقِرَ في النازِلَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وتَحْتاجُ هَذِهِ الفِرْقَةُ في هَذِهِ اللَفْظَةِ إلى هَذا التَعَبِ ويَبْقى لَها المَعْنى قَلِقًا. (p-١٨٥)وَقالَ جُمْهُورُ الأُمَّةِ: إنَّ حُكْمَهُما كانَ بِاجْتِهادٍ، وأدْخَلَ العُلَماءُ هَذِهِ الآيَةَ في كُتُبِهِمْ عَلى مَسْألَةِ اجْتِهادِ العالِمَيْنِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُذْكَرَ هُنا تَلْخِيصُ مَسْألَةِ الاجْتِهادِ، واخْتَلَفَ أهْلُ السُنَّةِ في العالِمَيْنِ - فَما زادَ - يُفْتِيانِ مِنَ الفُرُوعِ والأحْكامِ في المَسْألَةِ فَيَخْتَلِفانِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: الحَقُّ في مَسائِلِ الفُرُوعِ في طَرَفٍ واحِدٍ عِنْدَ اللهِ تَعالى، وقَدْ نَصَبَ عَلى ذَلِكَ أدِلَّةً وحَمَلَ المُجْتَهِدِينَ عَلى البَحْثِ عنها والنَظَرِ فِيها، فَمَن صادَفَ العَيْنَ المَطْلُوبَةَ في المَسْألَةِ فَهو المُصِيبُ عَلى الإطْلاقِ، ولَهُ أجْرانَ، أجْرٌ في الِاجْتِهادِ وأجْرٌ في الإصابَةِ، ومَن لَمْ يُصادِفْها فُهو مُصِيبٌ في اجْتِهادِهِ مُخْطِئٌ في أنْ لَمْ يُصِبِ العَيْنَ، فَلَهُ أجْرٌ وهو غَيْرُ مَعْذُورٍ، وهَذا هو الَّذِي قالَ النَبِيُّ ﷺ: «إذا اجْتَهَدَ العالِمُ فَأخْطَأ فَلَهُ أجْرٌ»، وكَذَلِكَ أيْضًا يَدْخُلُ في قَوْلِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ: «إذا اجْتَهَدَ العالِمْ فَأخْطَأ»، العالِمْ يَجْتَهِدُ فَيُخالِفُ نَصًّا لَمْ يَمُرَّ بِهِ، كَقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ في النِكاحِ: إنَّهُ العَقْدُ في مَسْألَةِ التَحْلِيلِ لِلزَّوْجِ المُطَلِّقِ ونَحْوِهِ، وهَذا يَجْمَعُ بَيْنَ قَوْلِهِ ﷺ «إذا اجْتَهَدَ العالِمْ فَأخْطَأ» وبَيْنَ قَوْلِهِ: «كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ» أيْ أخْطَأ العَيْنَ المَطْلُوبَةَ وأصابَ في اجِتِهادِهِ، ورَأتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ أنَّ العالِمُ المُخْطِئَ لا إثْمَ عَلَيْهِ في خَطَئِهِ وإنْ كانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الحَقُّ في طَرَفٍ واحِدٍ ولَمْ يَنْصِبِ اللهُ تَعالى عَلَيْهِ دَلِيلًا، بَلْ وكَلَ الأمْرَ إلى نَظَرِ المُجْتَهِدِينَ، فَمَن أصابَهُ أصابَ، ومَن أخْطَأهُ فَهو مَعْذُورٌ ومَأْجُورٌ، ولَمْ نُتَعَبَّدْ بِإصابَةِ العَيْنِ بَلْ تُعُبِّدْنا بِالاجْتِهادِ فَقَطْ. وقالَ جُمْهُورُ أهْلِ السُنَّةِ - وهو المَحْفُوظُ عن مالِكٍ وأصْحابِهِ -: الحَقُّ في مَسائِلِ الفُرُوعِ في الطَرَفَيْنِ، وكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، والمَطْلُوبُ إنَّما هو الأفْضَلُ في الظَنِّ، فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ قَدْ أدّاهُ نَظَرُهُ إلى الأفْضَلِ في نَظَرِهِ، والدَلِيلُ عَلى هَذِهِ المَقالَةِ أنَّ الصَحابَةَ فَمَن بَعْدَهم قَرَّرَ بَعْضُهم خِلافَ بَعْضٍ ولَمْ يَرَ أحَدٌ مِنهم أنْ يَقَعَ الِاعْتِمادُ عَلى قَوْلِهِ دُونَ قَوْلِ مُخالِفِهِ، ومِنهُ رَدُّ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ لِلْمَنصُورِ أبِي جَعْفَرٍ عن (p-١٨٦)حَمْلِ الناسِ عَلى المُوَطَّأِ إلى كَثِيرٍ مِن هَذا المَعْنى، وإذا قالَ العالِمْ في أمْرٍ ما: حَلالٌ، فَذَلِكَ هو الحَقُّ فِيما يَخْتَصُّ بِذَلِكَ العالِمْ عِنْدَ اللهِ تَعالى وبِكُلِّ مَن أخَذَ بِقَوْلِهِ، وإذا قالَ آخَرُ: حَرامٌ وكُلُّ ذَلِكَ بِاجْتِهادٍ، فَذَلِكَ أيْضًا حَقٌّ عِنْدَ اللهِ تَعالى فَما يَخْتَصُّ بِذَلِكَ العالِمِ وبِكُلِّ مَن أخَذَ بِقَوْلِهِ، فَأمّا مَن قالَ إنَّ الحَقَّ في طَرَفٍ فَرَأى مَسْألَةَ داوُدَ وسُلَيْمانَ عَلَيْهِما السَلامُ مُطَّرِدَةً عَلى قَوْلِهِ، وأنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ صادَفَ العَيْنَ المَطْلُوبَةَ وهي الَّتِي فَهِمْ، ومَن رَأى الحَقَّ في الطَرَفَيْنِ رَأى أنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ فَهِمُ القَضِيَّةَ المُثْلى والَّتِي هي أرْجَحُ، لا أنَّ الأُولى خَطَأٌ، وعَلى هَذا يَحْمِلُونَ قَوْلَ النَبِيِّ ﷺ: «إذا اجْتَهَدَ العالِمْ فَأخْطَأ» أيْ: أخْطَأ الأفْضَلَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكَثِيرًا ما يَكُونُ بَيْنَ الأقْوالِ في هَذِهِ المَسائِلِ قَلِيلُ تَبايُنٍ إلّا أنَّ ذَلِكَ الشُفُوفَ يُشَرِّفُ القَوْلَ وكَثِيرًا ما يَتَبَيَّنُ الفَضْلُ بَيْنَ القَوْلَيْنِ بِأدْنى نَظَرٍ، ومَسائِلُ الفُرُوعِ تُخالِفُ مَسائِلَ الأُصُولِ في هَذا، ومَسْألَةُ المُجْتَهِدَيْنِ في نَفْسِها مَسْألَةُ أصْلٍ، والفَرْقُ بَيْنَ مَسائِلِ الفُرُوعِ ومَسائِلِ الأُصُولِ أنَّ مَسائِلَ الأُصُولِ الكَلامُ فِيها إنَّما هو في وُجُودِ شَيْءٍ ما، كَيْفَ هُوَ؟ كَقَوْلِنا: "يُرى اللهُ يَوْمَ القَيامَةِ" فَقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: "لا يُرى"، وكَقَوْلِنا: "اللهُ واحِدٌ"، وقالَتِ النَصارى: "ثَلاثَةٌ"، وهَكَذا هَل لِلْمَسائِلِ عَيْنٌ مَطْلُوبَةٌ؟ ومَسائِلُ الفُرُوعِ إنَّما الكَلامُ فِيها عَلى شَيْءٍ مُتَقَرِّرِ الوُجُودِ، كَيْفَ حُكْمُهُ مِن تَحْلِيلٍ أو تَحْرِيمٍ ونَحْوِ هَذا؟ والأحْكامُ خارِجَةٌ عن ذاتِهِ ووُجُودِهِ، وإنَّما هي بِمَقايِيسَ واسْتِدْلالاتٍ، وتُعْتَبَرُ مَسائِلُ الفُرُوعَ بِأنَّها كُلُّ ما يُمْكِنُ أنْ يَنْسَخَ بَعْضُهُ بَعْضًا، ومَسائِلُ الأُصُولِ ما لَوْ تَقَرَّرَ الوَجْهُ الواحِدُ لَمْ يَصِحَّ أنْ يَطْرَأ عَلَيْهِ الآخَرُ ناسِخًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ومَسْألَةُ الِاجْتِهادِ طَوِيلَةٌ ومُتَشَعِّبَةٌ، إلّا أنَّ هَذِهِ النُبْذَةَ تَلِيقُ بِالآيَةِ وتَقْتَضِيها حِرْصًا عَلى الإيجازِ. ويَتَعَلَّقُ بِالآيَةِ فَصْلٌ آخَرُ لا بُدَّ مِن ذِكْرِهِ وهو رُجُوعُ الحاكِمْ بَعْدَ قَضائِهِ مِنَ اجْتِهادٍ إلى اجْتِهادٍ آخَرَ أرْجَحَ مِنَ الأوَّلِ، فَإنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَلامُ فَعَلَ ذَلِكَ في هَذِهِ النازِلَةِ، واخْتَلَفَ فُقَهاءُ المَذْهَبِ المالِكِيِّ في القاضِي يَحْكم في قَضِيَّةٍ، ثُمْ يَرى بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ غَيْرَ ما حَكَمَ بِهِ أصْوَبُ، فَيُرِيدُ أنْ يَنْقُضَ الأوَّلَ ويَقْضِيَ بِالثانِي، فَقالَ عَبْدُ المَلِكِ، ومُطَرِّفٌ في (p-١٨٧)(الواضِحَةِ): ذَلِكَ لَهُ ما دامَ في وِلايَتِهِ، فَأمّا إنْ كانَتْ وِلايَةٌ أُخْرى فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وهو بِمَنزِلَةِ غَيْرِهِ مِنَ القُضاةِ، وهَذا هو ظاهِرُ قَوْلِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ في "المُدَوَّنَةِ". وقالَ سَحْنُونٌ في رُجُوعِهِ مِنَ اجْتِهادٍ فِيهِ قَوْلٌ إلى غَيْرِهِ مِمّا رَآهُ أصْوَبَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبْدِ الحَكَمِ، ويَسْتَأْنِفُ الحُكْمَ بِما قَوِيَ عِنْدَهُ آخِرًا، قالَ سَحْنُونٌ: إلّا أنْ يَكُونَ نَسِيَ الأقْوى عِنْدَهُ أو وهِمْ فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ فَلَهُ نَقْضُهُ، وأمّا إنْ حَكَمَ بِحُكْمٍ وهو الأقْوى عِنْدَهُ في ذَلِكَ الوَقْتِ ثُمْ تَوَجَّهَ عِنْدَهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى نَقْضِ الأوَّلِ، [قالَ سَحْنُونٌ في كِتابِ ابْنِهِ. وقالَ أشْهَبُ في كِتابِ ابْنِ المَوّازِ: إنْ كانَ رُجُوعُهُ إلى الأصْوَبِ في مالٍ فَلَهُ نَقْضُ الأوَّلِ]، وإنْ كانَ في طَلاقٍ أو نِكاحٍ أو عِتْقٍ فَلَيْسَ لَهُ نَقْضُهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الحَرْثِ، رَوَتْ فِرْقَةٌ أنَّهُ كانَ زَرْعًا، ورَوَتْ فِرْقَةٌ أنَّهُ كانَ كَرْمًا. و "النَفْشُ": تَسَرُّبُ البَهائِمْ في الزَرْعِ وغَيْرِها بِاللَيْلِ، و"الهَمْلُ": تُسَرُّبُها في ذَلِكَ بِالنَهارِ واللَيْلِ، قالَ ابْنُ سِيدَهِ: لا يُقالُ الهَمْلُ في الغَنَمِ، وإنَّما هو في الإبِلِ، ومَضى الحُكْمُ في الإسْلامِ بِتَضْمِينِ أرْبابِ النَعَمِ ما أفْسَدَتْ بِاللَيْلِ لِأنَّ عَلى أهْلِها أنْ يُثْقِفُوها، وعَلى أهْلِ الزُرُوعِ وغَيْرِها حِفْظُها بِالنَهارِ، هَذا هو مُقْتَضى الحَدِيثِ في ناقَةِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ وجُمْهُورِ الأُمَّةِ، ووَقَعَ في كِتابِ ابْنِ (p-١٨٨)سَحْنُونٍ أنَّ الحَدِيثَ إنَّما جاءَ في أمْثالِ المَدِينَةِ الَّتِي هي حِيطانٌ مُحْدِقَةٌ، وأمّا البِلادُ الَّتِي هي زُرُوعٌ مُتَّصِلَةٌ غَيْرَ مُحْظَرَةٍ وبَساتِينُ كَذَلِكَ فَيَضْمَنُ أرْبابُ الغَنَمِ ما أفْسَدَتْ مِن لَيْلٍ أو نَهارٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: كَأنَّهُ ذَهَبَ إلى أنَّ تَرْكَ تَثْقِيفِ الحَيَوانِ في مِثْلِ هَذِهِ البِلادِ تَعَدٍّ لِأنَّها لا بُدَّ تُفْسِدُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ في ذَلِكَ: لا ضَمانَ، وأدْخَلَهُ في عُمُومِ قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: «جُرْحِ العَجْماءِ جُبارُ»، فَقاسَ جَمِيعَ أفْعالِها عَلى جُرُوحِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ تَأوَّلَ قَوْمٌ مِنهم أنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يُخْطِئْ في هَذِهِ النازِلَةِ، بَلْ فِيها أُوتِيَ الحُكْمَ والعِلْمَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ لِأنَّهُ لَمْ يُصِبِ العَيْنَ المَطْلُوبَةَ في هَذِهِ النازِلَةِ مَدَحَهَ اللهُ تَعالى بِأنَّ لَهُ حُكْمًا وعِلْمًا يَرْجِعُ إلَيْهِ في غَيْرِ هَذِهِ النازِلَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُنّا فاعِلِينَ﴾ مُبالَغَةٌ في الخَيْرِ وتَحْقِيقٌ لَهُ، وفي اللَفْظِ مَعْنى: وكانَ ذَلِكَ في حَقِّهِ وعِنْدَ مُسْتَوْجِبِهِ مِنّا، فَكَأنَّهُ قالَ: وكُنّا فاعِلِينَ لِأجْلِ اسْتِجابَةِ ذَلِكَ وحُذِفَ اخْتِصارًا لِدِلالَةِ ظاهِرِ القَوْلِ عَلَيْهِ عَلى ما حُذِفَ مِنهُ، وقَوْلُهُ: "لِحُكْمِهِمْ" يُرِيدُ داوُدَ وسُلَيْمانَ والخَصْمَيْنِ، لِأنَّ الحُكْمَ يَنْضافُ إلى جَمِيعِهِمْ وإنِ اخْتَلَفَتْ جِهاتُ الإضافَةِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لِحُكْمِهِما". واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: "يُسَبِّحْنَ" فَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ - وهي الأكْثَرُ - إلى أنَّهُ قَوْلُهُ "سُبْحانَ اللهِ"، وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنها مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ إلى أنَّهُ بِمَعْنى: يُصَلِّينَ مَعَهُ بِصَلاتِهِ. (p-١٨٩)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب