الباحث القرآني

(p-79)﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ عَطْفٌ عَلى "يَحْكُمانِ" فَإنَّهُ في حُكْمِ الماضِي، وقُرِئَ: "فَأفْهَمْناها"، والضَّمِيرُ لِلْحُكُومَةِ أوِ الفُتْيا. رُوِيَ أنَّهُ دَخَلَ عَلى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَجُلانِ فَقالَ أحَدُهُما: إنَّ غَنَمَ هَذا دَخَلَتْ في حَرْثِي لَيْلًا فَأفْسَدَتْهُ فَقَضى لَهُ بِالغَنَمِ، فَخَرَجا فَمَرّا عَلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأخْبَراهُ بِذَلِكَ، فَقالَ: غَيْرُ هَذا أرْفَقُ بِالفَرِيقَيْنِ، فَسَمِعَهُ داوُدُ فَدَعاهُ، فَقالَ لَهُ: بِحَقِّ البُنُوَّةِ والأُبُوَّةِ إلّا أخْبَرْتِنِي بِالَّذِي أرْفُقُ بِالفَرِيقَيْنِ. فَقالَ: أرى أنْ تُدْفَعَ الغَنَمُ إلى صاحِبِ الأرْضِ لَيَنْتَفِعَ بَدَرِّها ونَسْلِها وصُوفِها، والحَرْثُ إلى أرْبابِ الغَنَمِ لَيَقُومُوا عَلَيْهِ حَتّى يَعُودَ إلى ما كانَ ثُمَّ يَتَرادّا، فَقالَ: القَضاءُ ما قَضَيْتَ وأمْضى الحُكْمَ بِذَلِكَ، والَّذِي عِنْدِي أنَّ حُكْمَهُما عَلَيْهِما السَّلامُ كانَ بِالِاجْتِهادِ، فَإنَّ قَوْلَ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ غَيْرُ هَذا أرْفَقُ بِالفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: أرى أنْ تُدْفَعَ ... إلَخِ صَرِيحٌ في أنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الوَحْيِ، وإلّا لَبَتَّ القَوْلَ بِذَلِكَ، ولَما ناشَدَهُ داوُدُ عَلَيْهِما السَّلامُ لِإظْهارِ ما عِنْدَهُ بَلْ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَظْهَرَهُ بَدْءٌ أوْ حَرُمَ عَلَيْهِ كَتْمُهُ، ومِن ضَرُورَتِهِ أنْ يَكُونَ القَضاءُ السّابِقُ أيْضًا كَذَلِكَ ضَرُورَةَ اسْتِحالَةِ نَقْضِ حُكْمِ النَّصِّ بِالِاجْتِهادِ، بَلْ أقُولُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ -: إنَّ رَأْيَ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ اسْتِحْسانٌ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ: أرْفَقُ بِالفَرِيقَيْنِ، ورَأْيُ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ قِياسٌ، كَما أنَّ العَبْدَ إذا جَنى عَلى النَّفْسِ يَدْفَعُهُ المَوْلى عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ إلى المَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أوْ يَفْدِيهِ ويَبِيعُهُ في ذَلِكَ أوْ يَفْدِيهِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قِيمَةِ الحَرْثِ وقِيمَةِ الغَنَمِ تَفاوُتٌ. وأمّا سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدِ اسْتَحْسَنَ حَيْثُ جَعَلَ الِانْتِفاعَ بِالغَنَمِ بِإزاءِ ما فاتَ مِنَ الِانْتِفاعِ بِالحَرْثِ مِن غَيْرِ أنْ يَزُولَ مُلْكُ المالِكِ عَنِ الغَنَمِ، وأوْجَبَ عَلى صاحِبِ الغَنَمِ أنْ يَعْمَلَ في الحَرْثِ إلى أنْ يَزُولَ الضَّرَرُ الَّذِي أتاهُ مِن قِبَلِهِ، كَما قالَ أصْحابُ الشّافِعِيِّ فِيمَن عَصَبَ عَبْدًا فَأبِقَ مِنهُ أنَّهُ يَضْمَنُ القِيمَةَ فَيَنْتَفِعُ بِها المَغْصُوبُ مِنهُ بِإزاءِ ما فَوَّتَهُ الغاصِبُ مِنَ المَنافِعِ، فَإذا ظَهَرَ الآَبِقُ تَرادًّا. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ دَلِيلٌ عَلى رُجْحانِ قَوْلِهِ، ورُجُوعُ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلَيْهِ مَعَ أنَّ الحُكْمَ المَبْنِيَّ عَلى الِاجْتِهادِ يَنْقُضُ بِاجْتِهادٍ آَخَرَ وإنْ كانَ أقْوى مِنهُ لِما أنَّ ذَلِكَ مِن خَصائِصِ شَرِيعَتِنا، عَلى أنَّهُ ورَدَ في الأخْبارِ أنْ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ بَتَّ الحُكْمَ في ذَلِكَ حَتّى سَمِعَ مِن سُلَيْمانَ ما سَمِعَ. وأمّا حُكْمُ المَسْألَةِ في شَرِيعَتِنا فَعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى لا ضَمانَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَها سائِقٌ أوْ قائِدٌ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ يَجِبُ الضَّمانُ لَيْلًا لا نَهارًا. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ لِدَفْعِ ما عَسى يُوهِمُهُ تَخْصِيصُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالتَّفْهِيمِ مِن عَدَمِ كَوْنِ حُكْمِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، أيْ: وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما آَتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا كَثِيرًا لا سُلَيْمانَ وحْدَهُ، وهَذا إنَّما يَدُلُّ عَلى أنَّ خَطَأ المُجْتَهِدِ لا يَقْدَحُ في كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا، وقِيلَ: بَلْ عَلى أنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وهو مُخالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾، ولَوْلا النَّقْلُ لاحْتُمِلَ تَوافُقُهُما عَلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ﴾ لِإظْهارِ ما تَفَضَّلَ عَلَيْهِ في صِغَرِهِ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ حِينَئِذٍ ابْنُ إحْدى عَشْرَةَ سَنَةً. ﴿وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الجِبالَ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ ما يَخْتَصُّ بِكُلٍّ مِنهُما مِن كَرامَتِهِ تَعالى إثْرَ بَيانِ كَرامَتِهِ العامَّةِ لَهُما ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ أيْ: يُقَدِّسْنَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مَعَهُ بِصَوْتٍ يَتَمَثَّلُ لَهُ، أوْ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالى فِيها الكَلامَ. وقِيلَ: يَسِرْنَ مَعَهُ مِنَ السِّباحَةِ، (p-80)وَهُوَ حالٌ مِنَ الجِبالِ، أوِ اسْتِئْنافٌ مُبَيِّنٌ لِكَيْفِيَّةِ التَّسْخِيرِ، ومَعَ "مُتَعَلِّقَةٌ" بِالتَّسْخِيرِ، وقِيلَ: بِالتَّسْبِيحِ وهو بَعِيدٌ. ﴿والطَّيْرَ﴾ عَطْفٌ عَلى الجِبالِ أوْ مَفْعُولٌ مَعَهُ. وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أيْ: والطَّيْرُ مُسَخَّراتٌ، وقِيلَ: عَلى العَطْفِ عَلى الضَّمِيرِ في "يَسْبَحْنَ" وفِيهِ ضَعْفٌ لِعَدَمِ التَّأْكِيدِ والفَصْلِ. ﴿وَكُنّا فاعِلِينَ﴾ أيْ: مِن شَأْنِنا أنْ نَفْعَلَ أمْثالَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِبِدْعٍ مِنّا وإنْ كانَ بَدِيعًا عِنْدَكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب