الباحث القرآني

(سيقول السفهاء من الناس) هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين بأن السفهاء من اليهود والمشركين والمنافقين سيقولون هذه المقالة قيل إن سيقول بمعنى قال وإنما عبر عن الماضي بلفظ المستقبل للدلالة على استدامته والاستمرار عليه، وقيل إن الإخبار بهذا الخبر كان قبل التحول إلى الكعبة، وإن فائدة ذلك أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهويناً لصدمته وتخفيفاً لروعته، وكسراً لسورته، والسفهاء جمع سفيه وهو الكذاب البهات المتعمد خلاف ما يعلم، كذا قال بعض أهل اللغة، وقال في الكشاف هم خفاف الأحلام، ومثله في القاموس، وقد تقدم في تفسير قوله (إلا من سفه نفسه) ما ينبغي الرجوع إليه. قيل نزلت هذه الآية في اليهود وذلك أنهم طعنوا في تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لأنهم لا يرون النسخ، وقيل نزلت في مشركي مكة وذلك أنهم قالوا قد تردد على محمد - صلى الله عليه وسلم - أمره واشتاق مولده، وقد توجه نحو بلدكم، فلعله يرجع إلى دينكم، وقيل نزلت في المنافقين وإنما قالوا ذلك استهزاء بالإسلام، وقيل يحتمل أن لفظ السفهاء للعموم فيدخل فيه جميع الكفار والمنافقين واليهود، ويحتمل وقوع هذا الكلام من كلهم إذ لا فائدة في التخصيص، ولأن الأعداء يبالغون في الطعن والقدح فإذا وجدوا مقالاً قالوا، ومجالاً جالوا، والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب وعليه أكثر المفسرين وحكمته أنهم كما قالوا ذلك في الماضي منهم أيضاً من يقوله في المستقبل كما قال البيضاوي تبعاً للكشاف. (ما ولاّهم) أي ما صرفهم (عن قبلتهم) وهي بيت المقدس (التي كانوا عليها) أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيتها، والقبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وإنما سميت قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله، ولما قال السفهاء ذلك رد الله عليهم بقوله (قل لله المشرق والمغرب) فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء لا يختص به مكان دون مكان لخاصة ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، وإنما العبرة بارتسام أمره أي امتثاله لا بخصوص المكان، وتخصيص هاتين الجهتين بالذكر لمزيد ظهورهما حيث كان أحدهما مطالع الأنوار والإصباح، والآخر مغربها، ولكثرة توجه الناس إليهما لتحقيق الأوقات لتحصيل المقاصد والمهمات ذكره الكرخي (يهدي من يشاء) من عباده إشعار بأن تحويل القبلة إلى الكعبة من الهداية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأهل مِلَّتِهِ (إلى صراط مستقيم) يعني إلى جهة الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام. وقد أخرج البخاري ومسلم [[أحمد بن حنبل 4/ 282 - البخاري كتاب الإيمان الباب 20.]] وغيرهما عن البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان أول ما نزل المدينة نزل على أخواله من الأنصار، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأن أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الكعبة فداروا قبل البيت كما هم، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصّلي قِبَلَ بيت القدس وأهل الكتاب فلما ولّى وجهه قِبَلَ البيت أنكروا ذلك وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) الآية " وله طرق أخر وألفاظ متقاربة. وعن ابن عباس قال أن أول ما نسخ في القرآن القبلة وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعدما تحول إلى المدينة ستة عشر شهراً ثم صرفه الله إلى الكعبة [[وروي أن أوّل من صلّى إلى الكعبة حين صُرفت القِبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المُعَلَّى؛ وذلك أنه كان مجتازاً على المسجد فسمع رسول الله صلى اللُه عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية: " قَدْ نَرَى تَقَلُبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ " حتى فرغ من الآية؛ فقلت لصاحبي: تعالَ نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أوّلَ مَن صلى فتوارَيْنَا نَعَماً فصلّيناهما؛ ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لأبي سعيد بن المُعَلَّى غير هذا الحديث، وحديث: " كنت أصلّي " في فضل الفاتحة؛ خرّجه البخاري.]]، وفي الباب أحاديث كثيرة بمضمون ما تقدم، وكذلك وردت أحاديث في الوقت الذي نزل فيه استقبال القبلة وفي كيفية استدارة المصلين لما بلغهم ذلك، وقد كانوا في الصلاة فلا نطول بذكرها، فيه الرد على من أنكر النسخ ودلالة على جواز نسخ السنة بالقرآن لأن استقبال بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة الفعلية لا بالقرآن. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب