الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ المُسْلِمُونَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وبَعْدَ الهِجْرَةِ مُدَّةً مِنَ الزَّمانِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والبَراءُ بْنُ عازِبٍ: " كانَ التَّحْوِيلُ إلى الكَعْبَةِ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ ﷺ لِسَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا " . وقالَ قَتادَةَ: " لِسِتَّةَ عَشَرَ " ورُوِيَ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ تِسْعَةُ أشْهُرٍ أوْ عَشَرَةُ أشْهُرٍ، ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِالتَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ وقَدْ نَصَّ اللَّهُ في هَذِهِ الآياتِ عَلى أنَّ الصَّلاةَ كانَتْ إلى غَيْرِ الكَعْبَةِ ثُمَّ حَوَّلَها إلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ الآيَةَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: ١٤٣] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها﴾ [البقرة: ١٤٤] فَهَذِهِ الآياتُ كُلُّها (p-١٠٥)دالَّةٌ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ كانَ يُصَلِّي إلى غَيْرِ الكَعْبَةِ وبَعْدَ ذَلِكَ حَوَّلَهُ إلَيْها وهَذا يُبْطِلُ قَوْلَ مَن يَقُولُ: لَيْسَ في شَرِيعَةِ النَّبِيِّ ناسِخٌ ولا مَنسُوخٌ ثُمَّ اخْتُلِفَ في تَوَجُّهِ النَّبِيِّ ﷺ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ هَلْ كانَ فَرْضًا لا يَجُوزُ غَيْرُهُ أوْ كانَ مُخَيَّرًا في تَوَجُّهِهِ إلَيْها وإلى غَيْرِها. فَقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ " كانَ مُخَيَّرًا في ذَلِكَ " وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " كانَ الفَرْضُ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ بِلا تَخْيِيرٍ " . وأيَّ الوَجْهَيْنِ كانَ فَقَدْ كانَ التَّوَجُّهُ فَرْضًا لِمَن يَفْعَلُهُ؛ لِأنَّ التَّخْيِيرَ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ فَرْضًا كَكَفّارَةِ اليَمِينِ أيُّها كَفَّرَ بِهِ فَهو الفَرْضُ، وكَفِعْلِ الصَّلاةِ في أوَّلِ الوَقْتِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ وحَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ، عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ صالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " أوَّلُ ما نُسِخَ مِنَ القُرْآنِ شَأْنُ القِبْلَةِ، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا هاجَرَ إلى المَدِينَةِ أمَرَهُ اللَّهُ تَعالى أنْ يَسْتَقْبِلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَفَرِحَتِ اليَهُودُ بِذَلِكَ، فاسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ قِبْلَةَ أبِيهِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ويَدْعُو اللَّهَ تَعالى ويَنْظُرُ إلى السَّماءِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] الآيَةَ " وذَكَرَ القِصَّةَ فَأخْبَرَ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ الفَرْضَ كانَ التَّوَجُّهَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وأنَّهُ نُسِخَ بِهَذِهِ الآيَةِ وهَذا لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ الفَرْضَ كانَ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ بِلا تَخْيِيرٍ؛ ولِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ كانَ الفَرْضُ عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ ووَرَدَ النَّسْخُ عَلى التَّخْيِيرِ وقُصِرُوا عَلى التَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ بِلا تَخْيِيرٍ، وقَدْ رُوِيَ أنَّ النَّفَرَ الَّذِينَ قَصَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنَ المَدِينَةِ إلى مَكَّةَ لِلْبَيْعَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ كانَ فِيهِمُ البَراءُ بْنُ مَعْرُورٍ، فَتَوَجَّهَ بِصَلاتِهِ إلى الكَعْبَةِ في طَرِيقِهِ وأبى الآخَرُونَ وقالُوا: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَتَوَجَّهُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَلَمّا قَدِمُوا مَكَّةَ سَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقالُوا لَهُ، فَقالَ: " قَدْ كُنْتُ عَلى قِبْلَةٍ يَعْنِي بَيْتَ المَقْدِسِ لَوْ ثَبَتَّ عَلَيْها أجْزَكَ " ولَمْ يَأْمُرْهُ بِاسْتِئْنافِ الصَّلاةِ. فَدَلَّ عَلى أنَّهم كانُوا مُخَيَّرِينَ وإنْ كانَ اخْتارَ التَّوَجُّهَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ. فَإنْ قِيلَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " إنَّ ذَلِكَ أوَّلُ ما نُسِخَ مِنَ القُرْآنِ الأمْرُ بِالتَّوَجُّهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ " . قِيلَ لَهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ القُرْآنِ المَنسُوخَ التِّلاوَةِ. وجائِزٌ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ وكانَ نُزُولُ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وفِيهِ إخْبارٌ بِأنَّهم عَلى قِبْلَةٍ غَيْرِها، وجائِزٌ أنْ يُرِيدَ أوَّلَ ما نُسِخَ مِنَ القُرْآنِ فَيَكُونُ مُرادُهُ النّاسِخَ مِنَ القُرْآنِ دُونَ المَنسُوخِ. ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " أوَّلُ ما نُسِخَ مِنَ القُرْآنِ شَأْنُ القِبْلَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] (p-١٠٦)ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤] وهَذا الخَبَرُ يَدُلُّ عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهم كانُوا مُخَيَّرِينَ في التَّوَجُّهِ إلى حَيْثُ شاءُوا. والثّانِي: أنَّ المَنسُوخَ مِنَ القُرْآنِ هَذا التَّخْيِيرُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ﴾ قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ أرادَ بِذِكْرِ السُّفَهاءِ هاهُنا اليَهُودَ فَإنَّهُمُ الَّذِينَ عابُوا تَحْوِيلَ القِبْلَةِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والبَراءِ بْنِ عازِبٍ. وأرادُوا بِهِ إنْكارَ النَّسْخِ؛ لِأنَّ قَوْمًا مِنهم لا يَرَوْنَ النَّسْخَ. وقِيلَ إنَّهم قالُوا: يا مُحَمَّدُ ما ولّاكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ؟ ارْجِعْ إلَيْها نَتَّبِعْكَ ونُؤْمِن بِكَ وإنَّما أرادُوا فِتْنَتَهُ. فَكانَ إنْكارُ اليَهُودِ لِتَحْوِيلِهِ عَنِ القِبْلَةِ الأُولى إلى الثّانِيَةِ عَلى أحَدِ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ وقالَ الحَسَنُ: «لَمّا حَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى الكَعْبَةِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ قالَ مُشْرِكُو العَرَبِ: يا مُحَمَّدُ رَغِبْتَ عَنْ مِلَّةِ آبائِكَ ثُمَّ رَجَعْتَ إلَيْها آنِفًا، واللَّهِ لَتَرْجِعَنَّ إلى دِينِهِمْ» . وقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى المَعْنى الَّذِي مِن أجْلِهِ نَقَلَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَنِ القِبْلَةِ الأُولى إلى الثّانِيَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: ١٤٣] وقِيلَ: إنَّهم كانُوا أُمِرُوا بِمَكَّةَ أنْ يَتَوَجَّهُوا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ لِيَتَمَيَّزُوا مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ كانُوا بِحَضْرَتِهِمْ يَتَوَجَّهُونَ إلى الكَعْبَةِ، فَلَمّا هاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ إلى المَدِينَةِ كانَتْ اليَهُودُ المُجاوِرُونَ لِلْمَدِينَةِ يَتَوَجَّهُونَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَنُقِلُوا إلى الكَعْبَةِ لِيَتَمَيَّزُوا مِن هَؤُلاءِ كَما تَمَيَّزُوا مِنَ المُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بِاخْتِلافِ القِبْلَتَيْنِ، فاحْتَجَّ تَعالى عَلى اليَهُودِ في إنْكارِها النَّسْخَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وجْهُ الِاحْتِجاجِ بِهِ أنَّهُ إذا كانَ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ لِلَّهِ فالتَّوَجُّهُ إلَيْهِما سَواءً لا فَرْقَ بَيْنَهُما في العُقُولِ، واللَّهُ تَعالى يَخُصُّ بِذَلِكَ أيَّ الجِهاتِ شاءَ عَلى وجْهِ المَصْلَحَةِ في الدِّينِ والهِدايَةِ إلى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ اليَهُودَ زَعَمَتْ أنَّ الأرْضَ المُقَدَّسَةَ أوْلى بِالتَّوَجُّهِ إلَيْها؛ لِأنَّها مِن مَواطِنِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وقَدْ شَرَّفَها تَعالى وعَظَّمَها، فَلا وجْهَ لِلتَّوَلِّي عَنْها. فَأبْطَلَ اللَّهُ قَوْلَهم ذَلِكَ بِأنَّ المَواطِنَ مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لِلَّهِ تَعالى يَخُصُّ مِنها ما يَشاءُ في كُلِّ زَمانٍ عَلى حَسَبِ ما يَعْلَمُ مِنَ المَصْلَحَةِ فِيهِ لِلْعِبادِ؛ إذْ كانَتِ المَواطِنُ بِأنْفُسِها لا تَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ وإنَّما تُوصَفُ بِذَلِكَ عَلى حَسَبِ ما يُوجِبُ اللَّهُ تَعالى تَعْظِيمَها لِتَفْضِيلِ الأعْمالِ فِيها. قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذِهِ الآيَةُ يَحْتَجُّ بِها مَن يُجَوِّزُ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالقُرْآنِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصَلِّي إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، (p-١٠٧)ولَيْسَ في القُرْآنِ ذِكْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ نُسِخَ بِهَذِهِ الآيَةِ. ومَن يَأْبى ذَلِكَ يَقُولُ ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّهُ نُسِخَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] فَكانَ التَّوَجُّهُ إلى حَيْثُ كانَ مِنَ الجِهاتِ في مَضْمُونِ الآيَةِ، ثُمَّ نُسِخَ بِالتَّوَجُّهِ إلى الكَعْبَةِ قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَوْلُهُ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] لَيْسَ بِمَنسُوخٍ عِنْدَنا، بَلْ هو مُسْتَعْمَلُ الحُكْمِ في المُجْتَهِدِ إذا صَلّى إلى غَيْرِ جِهَةِ الكَعْبَةِ وفي الخائِفِ وفي الصَّلاةِ عَلى الرّاحِلَةِ. وقَدْ رَوى ابْنُ عُمَرَ وعامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: أنَّها نَزَلَتْ في المُجْتَهِدِ إذا تَبَيَّنَ أنَّهُ صَلّى إلى غَيْرِ جِهَةِ الكَعْبَةِ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أيْضًا: أنَّهُ فِيمَن صَلّى عَلى راحِلَتِهِ. ومَتى أمْكَنَنا اسْتِعْمالُ الآيَةِ مِن غَيْرِ إيجابِ نَسْخٍ لَها لَمْ يَجُزْ لَنا الحُكْمُ بِنَسْخِها. وقَدْ تَكَلَّمْنا في هَذِهِ المَسْألَةِ في الأُصُولِ بِما يُغْنِي ويَكْفِي وفي هَذِهِ الآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ، وهو ما رَوى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثابِتٍ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصَلِّي نَحْوَ البَيْتِ المُقَدَّسِ فَنَزَلَتْ: ﴿فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ١٤٤] فَنادى مُنادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «قَدْ أُمِرْتُمْ أنْ تُوَجِّهُوا وُجُوهَكم شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ» فَحَوَّلَتْ بَنُو سَلِمَةَ وُجُوهَها نَحْوَ البَيْتِ وهم رُكُوعٌ وقَدْ رَوى عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «بَيْنَما النّاسُ في صَلاةِ الصُّبْحِ بِقُباءَ؛ إذْ جاءَهم رَجُلٌ فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ وأُمِرَ أنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، ألا فاسْتَقْبِلُوها فاسْتَدارُوا كَهَيْئَتِهِمْ إلى الكَعْبَةِ، وكانَ وجْهُ النّاسِ إلى الشّامِ» . ورَوى إسْرائِيلُ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنِ البَراءِ قالَ: «لَمّا صُرِفَ النَّبِيُّ ﷺ إلى الكَعْبَةِ بَعْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] مَرَّ رَجُلٌ صَلّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ عَلى نَفَرٍ مِنَ الأنْصارِ وهم يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ فَقالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ صَلّى إلى الكَعْبَةِ فانْحَرَفُوا قَبْلَ أنْ يَرْكَعُوا وهم في صَلاتِهِمْ» . قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا خَبَرٌ صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ في أيْدِي أهْلِ العِلْمِ قَدْ تَلَقَّوْهُ بِالقَبُولِ فَصارَ في حَيِّزِ التَّواتُرِ المُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وهو أصْلٌ في المُجْتَهِدِ إذا تَبَيَّنَ لَهُ جِهَةُ القِبْلَةِ في الصَّلاةِ أنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلَيْها ولا يَسْتَقْبِلُها، وكَذَلِكَ الأمَةُ إذا أُعْتِقَتْ في الصَّلاةِ أنَّها تَأْخُذُ قِناعَها وتَبْنِي وهو أصْلٌ في قَبُولِ خَبَرِ الواحِدِ في أمْرِ الدِّينِ؛ لِأنَّ الأنْصارَ قَبِلَتْ خَبَرَ الواحِدِ المُخْبِرِ لَهم بِذَلِكَ فاسْتَدارُوا إلى الكَعْبَةِ بِالنِّداءِ في تَحْوِيلِ القِبْلَةِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ المُنادِيَ بِالنِّداءِ وجْهٌ ولا فائِدَةٌ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: مِن أصْلِكم أنَّ ما يَثْبُتُ مِن طَرِيقٍ يُوجِبُ العِلْمَ لا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِ الواحِدِ في رَفْعِهِ، وقَدْ كانَ القَوْمُ مُتَوَجِّهِينَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ إيّاهم عَلَيْهِ ثُمَّ تَرَكُوهُ إلى غَيْرِهِ بِخَبَرِ الواحِدِ قِيلَ لَهُ: لِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا عَلى يَقِينٍ (p-١٠٨)مِن بَقاءِ الحُكْمِ الأوَّلِ بَعْدَ غَيْبَتِهِمْ عَنْ حَضْرَتِهِ؛ لِتَجْوِيزِهِمْ وُرُودَ النَّسْخِ، فَكانُوا في بَقاءِ الحُكْمِ الأوَّلِ عَلى غالِبِ الظَّنِّ دُونَ اليَقِينِ، فَلِذَلِكَ قَبِلُوا خَبَرَ الواحِدِ في رَفْعِهِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَلّا أجَزْتُمْ لِلْمُتَيَمِّمِ البِناءَ عَلى صَلاتِهِ إذا وجَدَ الماءَ كَما بَنى هَؤُلاءِ عَلَيْها بَعْدَ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ قِيلَ لَهُ: هو مُفارِقٌ لِما ذَكَرْتَ، مِن قِبَلِ أنَّ تَجْوِيزَ البِناءِ لِلْمُتَيَمِّمِ لا يُوجِبُ عَلَيْهِ الوُضُوءَ ويُجِيزُ لَهُ البِناءَ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الماءِ، والقَوْمُ حِينَ بَلَغَهم تَحْوِيلُ القِبْلَةِ اسْتَدارُوا إلَيْها ولَمْ يَبْقُوا عَلى الجِهَةِ الَّتِي كانُوا مُتَوَجِّهِينَ إلَيْها، فَنَظِيرُ القِبْلَةِ أنْ يُؤْمَرَ المُتَيَمِّمُ بِالوُضُوءِ والبِناءِ، ولا خِلافَ أنَّ المُتَيَمِّمَ إذا لَزِمَهُ الوُضُوءُ لَمْ يَجُزِ البِناءُ عَلَيْهِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى إنَّ أصْلَ الفَرْضِ لِلْمُتَيَمِّمِ إنَّما هو الطَّهارَةُ بِالماءِ والتُّرابُ بَدَلٌ مِنهُ، فَإذا وجَدَ الماءَ عادَ إلى أصْلِ فَرْضِهِ، كالماسِحِ عَلى الخُفَّيْنِ إذا خَرَجَ وقْتُ مَسْحِهِ فَلا يَبْنِي، فَكَذَلِكَ المُتَيَمِّمُ. ولَمْ يَكُنْ أصْلُ فَرْضِ المُصَلِّينَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ حِينَ دَخَلُوا فِيها الصَّلاةَ إلى الكَعْبَةِ، وإنَّما ذَلِكَ فَرْضٌ لَزِمَهم في الحالِ. وكَذَلِكَ الأمَةُ إذا أُعْتِقَتْ في الصَّلاةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْها قَبْلَ ذَلِكَ فَرْضَ السِّتْرِ، وإنَّما هو فَرْضٌ لَزِمَها في الحالِ، فَأشْبَهَتِ الأنْصارَ حِينَ عَلِمَتْ بِتَحْوِيلِ القِبْلَةِ. وكَذَلِكَ المُجْتَهِدُ فَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي أدّاهُ إلَيْها اجْتِهادُهُ لا فَرْضَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] فَإنَّما انْتَقَلَ مِن فَرْضٍ إلى فَرْضٍ ولَمْ يَنْتَقِلْ مِن بَدَلٍ إلى أصْلِ الفَرْضِ وفي الآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ، وهو: أنَّ فِعْلَ الأنْصارِ في ذَلِكَ عَلى ما وصَفْنا أصْلٌ في أنَّ الأوامِرَ والزَّواجِرَ إنَّما يَتَعَلَّقُ أحْكامُها بِالعِلْمِ. ومِن أجْلِ ذَلِكَ قالَ أصْحابُنا فِيمَن أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ ولَمْ يَعْلَمْ أنَّ عَلَيْهِ صَلاةً ثُمَّ خَرَجَ إلى دارِ الإسْلامِ: إنَّهُ لا قَضاءَ عَلَيْهِ فِيما تَرَكَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِن طَرِيقِ السَّمْعِ، وما لَمْ يَعْلَمْهُ لا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ كَما لَمْ يَتَعَلَّقْ حُكْمُ التَّحْوِيلِ عَلى الأنْصارِ قَبْلَ بُلُوغِهِمُ الخَبَرَ، وهو أصْلٌ في أنَّ الوَكالاتِ والمُضارَباتِ ونَحْوَهُما مِن أوامِرِ العِبادِ لا يُنْسَخُ شَيْءٌ مِنها إذا فَسَخَها مَن لَهُ الفَسْخُ إلّا بَعْدَ عِلْمِ الآخَرِ بِها. وكَذَلِكَ لا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ الأمْرِ بِها عَلى مَن لَمْ يَبْلُغْهُ، ولِذَلِكَ قالُوا: لا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الوَكِيلِ قَبْلَ العِلْمِ بِالوَكالَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب