الباحث القرآني

هذا سؤال من السفهاء أورده على المؤمنين ومضمونه أن القبلة الأولى إن كانت حقا فقد تركتم الحق وإن كانت باطلا فقد كنتم على باطل ولفظ الآية وإن لم يدل على هذا فالسفهاء المجادلون في القبلة قالوه. فأجاب الله تعالى عنه بجواب شاف بعد أن ذكر قبله مقدمات تقرره وتوضحه والسؤال من جهة الكفار أوردوه على صور متعددة ترجع إلى شيء واحد فقالوا ما تقدم وقالوا لو كان نبيا ما ترك قبلة الأنبياء قبله وقالوا لو كان نبيا ما كان يفعل اليوم شيئا وغدا خلافه. قال المشركون: قد رجع إلى قبلتكم فيوشك أن يرجع إلى دينكم، وقال أهل الكتاب: ولو كان نبيا ما فارق قبله الأنبياء. وكثر الكلام وعظمت المحنة على بعض الناس كما قال تعالى: ﴿وَإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلى الَّذِينَ هَدى اللَّهُ﴾ وتأمل حكمه العزيز الحكيم ولطفه وإرشاده في هذه القصة لما علم أن هذا التحويل أمر كبير كيف وطأه ومهده وذلله بقواعد قبله فذكر النسخ وأنه إذا نسخ شيئا أتى بمثله أو خير منه وأنه قادر على ذلك فلا يعجزه ثم قرر التسليم للرسول وأنه لا ينبغي أن يعترض عليه ويسأل تعنتا كما جرى لموسى مع قومه ثم ذكر البيت الحرام وتعظيمه وحرمته وذكر بانيه وأثنى عليه وأوجب اتباع ملته فقرر في النفوس بذلك توجهها إلى البيت بالتعظيم والإجلال والمحبة وإلى بانيه بالاتباع والموالاة والموافقة وأخبر تعالى أنه جعل البيت مثابة للناس يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا فالقلوب عاكفة على محبته دائمة الاشتياق إليه متوجهة إليه حيث كانت ثم أخبر أنه أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهيره للطائفين والقائمين والمصلين وأضافه إليه بقوله: ﴿أنْ طَهِّرا بَيْتِيَ﴾ وهذه الإضافة هي التي أسكنت في القلوب من محبته والشوق إليه ما أسكنت وهي التي أقبلت بأفئدة العالم إليه فلما استقرت هذه الأمور في قلوب أهل الإيمان وذكروا بها فكأنها نادتهم أن استقبلوه في الصلاة ولكن توقفت على ورود الأمر من رب البيت فلما برز مرسوم فول وجهك شطر المسجد الحرام تلقاه رسول الله والراسخون في الإيمان بالبشرى والقبول وكان عيدا عندهم لأن رسول الله كان كثيرا ما يقلب وجهه في السماء ينتظر أن يحول الله عن قبلة أهل الكتاب فولاه الله القبلة التي يرضاها وتلقى ذلك الكفار بالمعارضة وذكر الشبهات الداحضة وتلقاه الضعفاء من المؤمنين بالإغماض والمشقة فذكر تعالى أصناف الناس عند الأمر باستقبال الكعبة وابتداء ذلك بالتسلية لرسوله وللمؤمنين عما يقول السفهاء من الناس فلا تعبأوا بقولهم فإنه قول سفيه ثم قال: ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فأخبر تعالى أن المشرق والمغرب له أنه رب ذلك فأياًّ ما تعبد له عبادة بأمره إلى أي جهة كانت فهم مطيعون له كما قال: ﴿وَلِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ﴾ فلم يصل مستقبل الجهات بأمره إلا له تعالى فإذا كنتم تصلون إلى غير الكعبة بأمره ثم أمركم أن تصلوا إليها فما صليتم إلا له أولا وآخرا وكنتم على حق في الاستقبال الأول والآخر لأن كليهما كان بأمره ورضاه فانتقلتم من رضاه ثم نبه على فضل الجهة التي أمرهم بالاستقبال إليها ثانيا بأنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم كما هداكم للقبلة التي جعلها قبلتكم وشرعا لكم ورضيها ولكن أمركم باستقبال غيرها أولا لحكمة في ذلك وهو أن يعلم سبحانه من يتبع الرسول ويدور معه حيثما دار ويأتمر بأوامره كيف تصرفت وهو العالم بكل شيء ولكن شاء أن يعلم معلومه الغيبي عيانا مشاهدا فتميز بذلك الراسخ في الإيمان المسلم للرسول المنقاد له ممن يعبد الله تعالى على حرف فينقلب على عقبة بأدنى شبهة. فهذا من بعض حكمه في أن جعل القبلة الأولى غير الكعبة فلم يشرع ذلك سدى ولا عبثا ثم أخبر سبحانه أنه كما جعل لهم أوسط الجهات قبلة بتعبدهم فكذلك جعلهم أمة وسطا فاختار القبلة الوسط في الجهات للأمة الوسط في الأمم ثم ذكر أن هذا التفضيل والاختصاص ليستشهدهم على الأمم فيقبل شهادتهم على الخلائق يوم القيامة ثم أجاب تعالى عما سأل عنه المؤمنون من صلاتهم إلى القبلة الأولى وصلاة من مات من إخوانهم قبل التحويل فقال: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ وفيه قولان: أحدهما: ما كان ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس بل يجازيكم عليها لأنها كانت بأمره ورضاه، والثاني: ما كان ليضيع إيمانكم بالقبلة الأولى وتصديقكم بأن الله شرعها ورضيها وأكثر السلف والخلف على القول الأول وهو مستلزم للقول الآخر الحكمة في نسخ الاستقبال لبيت المقدس.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب