الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيقول السفهاء"، سيقول الجهال"منَ الناس"، وهم اليهود وأهل النفاق. وإنما سماهم الله عز وجل"سُفهاء"، لأنهم سَفِهوا الحق. [[سفه الحق: جهله. وانظر ما سلف في معنى"السفه" ١: ٢٩٣-٢٩٤ / ثم هذا الجزء ٣: ٩٠.]] فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد ﷺ، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل، وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا. * * * وبما قلنا في"السفهاء" -أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل التأويل. ذكر من قال: هم اليهود: ٢١٤٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم" قال، اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس. ٢١٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ٢١٤٤- حدثت عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن البَراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود. [[الأثر: ٢١٤٤- هذا إسناد ليس بذاك، فإن الطبري رواه عن شخص مبهم، عن أحمد بن يونس، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي. وهو ثقة، أخرج له الجماعة، وقد ينسب إلى جده. ولد سنة ١٣٣، أو ١٣٤، ومات سنة ٢٢٧. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/٦، والصغير، ص: ٢٣٩، وابن أبي حاتم ١/١/٥٧. وابن سعد ٦: ٢٨٣. زهير: هو ابن معاوية أبو خيثمة الكوفي. ثقة ثبت معروف. وأبو إسحاق: هو السبيعي، عمرو بن عبد الله. التابعي الكبير المشهور، البراء: هو ابن عازب الصحابي.]] ٢١٤٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود. ٢١٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قوله:"سيقول السفهاء من الناس" قال، أهل الكتاب ٢١٤٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: اليهودُ. * * * وقال آخرون:"السفهاء"، المنافقون. * ذكر من قال ذلك: ٢١٤٨- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نزلت"سَيقول السفهاء من الناس"، في المنافقين. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ما ولاهم": أيُّ شيء صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل:"ولاني فلان دُبُره"، إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله:"ما ولاهم"؟ أيّ شيء حَوَّل وُجُوههم؟ [[انظر ما سلف في معنى"ولي" ٢: ١٦٢، وهذا الجزء ٣: ١١٥.]] * * * وأما قوله:"عن قبلتهم"، فإن"قبلة" كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما هي"فِعْلة" بمنزلة"الجلسة والقِعْدة"، [[انظر ما قال من ذلك في"الحكمة" في هذا الجزء ٣: ٨٧.]] من قول القائل."قابلت فلانًا"، إذا صرتُ قُبالته أقابله، فهو لي"قبلة" وأنا له"قبلة"، إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا -إذْ كان ذلك معناه [[في المطبوعة: "إذ كان معناه" بإسقاط"ذلك"، ولا يقوم الكلام إلا بها.]] -: سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله، - إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام -: أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟ فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه ﷺ، مَا اليهودُ والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشأم إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم:"لله المشرقُ والمغرب يَهدي مَنْ يَشاء إلى صرَاط مستقيم". * * * وكان سببُ ذلك أنّ النبي ﷺ صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة ﷺ إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه، وما الذي ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. * * * ذكر المدة التي صلاها رسول الله ﷺ وأصحابه نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟ اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله ﷺ نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:- ٢١٤٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة -شكّ محمد-، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى الكعبة -وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم رسول الله ﷺ المدينةَ- أتى رسولَ الله ﷺ رفاعةُ بنُ قيس، وقَرْدَم بن عمرو، وكعبُ بن الأشرف، ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد، وقال أبو كريب: ورَافع بن أبي رافع [[انظر ما سلف في هذا الجزء ٣: ١١١ تعليق: ١.]] - والحجاج بن عمرو = حليفُ كعب بن الأشرف = والربيعُ بن الربيعُ بن [أبي] الحقيق، وكنانةُ بن أبي الحقيق، [[الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام. وفيها: "وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق".]] فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل الله فيهم:"سيقول السفهاءُ من الناس مَا ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"إلا لنعلمَ مَنْ يَتَّبع الرسول ممن يَنقلبُ عَلى عَقبَيْه". [[الأثر: ٢١٤٩- نص ما في سيرة ابن هشام ٢: ١٩٨-١٩٩.]] ٢١٥٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، قال البراء: صلّى رسول الله ﷺ نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر شهرًا، وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي ذاتَ يوم، فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي ﷺ قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا، وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه أبو إسحاق؟ فسكت. [[الحديث: ٢١٥٠- أبو بكر بن عياش: ثقة معروف، إلا أنهم أخذوا عليه بعض الأخطاء، لأنه لما كبر ساء حفظه وتغير. وهو هنا يروى الحديث -منقطعًا- عن البراء، لأنه لم يدركه. وقد سأله بعض سامعيه، كما حكى أبو كريب في آخر الحديث: "فيه: أبو إسحاق"؟ يريد السائل أن يستوثق منه: أسمعه من أبي إسحاق السبيعي عن البراء؟ فسكت ولم يجبه. ولو كان هذا وحده كان الحديث ضعيفًا. ولكنه ثابت من رواية أبي إسحاق السبيعي عن البراء، في الأسانيد الثلاثة التالية -وأولها من رواية ابن عياش نفسه- ومن مصادر الحديث الأخر، كما سيأتي.]] ٢١٥١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي ﷺ المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس. [[الحديث: ٢١٥١- هذا إسناد ضعيف، لضعف سفيان بن وكيع - شيخ الطبري. ولكنه يتقوى بالروايات الآتية وغيرها. وقد رواه ابن ماجه: ١٠١٠، عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، مطولا. وذكر فيه أن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت"ثمانية عشر شهرًا". وعلقمة بن عمرو الدارمي: ثقة. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: "حديث البراء صحيح، ورجاله ثقات".]] ٢١٥٢- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي ﷺ نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر شهرًا -شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة. [[الحديث: ٢١٥٢- هذا إسناد صحيح جدًا. يحيى: هو ابن سعيد القطان. سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر. وهكذا رواه البخاري ٨: ١٣٢ (فتح الباري) ومسلم ١: ١٤٨ - كلاهما من طريق يحيى، عن سفيان، به، مختصرًا.]] ٢١٥٣- حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء: أنّ رسول الله ﷺ كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نزلَ على أجداده -أو أخواله- من الأنصار، وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت المقدس وأهلُ الكتاب، فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك. [[الحديث: ٢١٥٣- وهذه رواية مفصلة. والإسناد صحيح جدًا. رواه الإمام أحمد في المسند ٤: ٢٨٣ (حلبي) ، عن حسن بن موسى، عن زهير وهو ابن معاوية. بهذا الإسناد نحوه. بأطول منه. ورواه ابن سعد في الطبقات ١/٢/٥، عن الحسن بن موسى، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البخاري ١: ٨٩-٩٠، عن عمرو بن خالد، عن زهير، به. ورواه أيضًا ٨: ١٣٠، عن أبي نعيم، عن زهير، مختصرًا قليلا. ورواه أيضًا البخاري ١: ٤٢١-٤٢٢، و ١٣: ٢٠٢. ومسلم ١: ١٤٨، من أوجه، عن البراء بن عازب. وسيأتي باقيه بهذا الإسناد: ٢٢٢٢.]] ٢١٥٤- حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله ﷺ نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر شهرًا، ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين. [[الحديث: ٢١٥٤- عمران بن موسى بن حيان القزاز الليثي، شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/٣٠٥-٣٠٦. عبد الوارث: هو ابن سعيد بن ذكوان، أحد الأعلام، يحيى بن سعيد: هو الأنصاري البخاري ثقة حجة، من شيوخ الزهري ومالك والثوري وغيرهم. ابن المسيب: هو سعيد بن المسيب الإمام التابعي الكبير، ووقع في المطبوعة"المسيب"، بحذف"ابن"! وهو خطأ واضح من الناسخين. وهذا الحديث مرسل، كما هو مبين، وكذلك رواه مالك في الموطأ، ص ١٩٦، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا. وكذلك رواه الشافعي عن مالك، في الرسالة، بتحقيقنا، رقم ٣٦٦. وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات ١/٢/٤، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد. وقد وصله العطاردي. من حديث سعد بن أبي وقاص: فرواه البيهقي في السنن الكبرى ٢: ٣، من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي: "حدثنا محمد بين الفضيل، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال، سمعت سعدًا يقول. . . ". فذكر الحديث. ثم قال البيهقي: "هكذا رواه العطاردي عن ابن فضيل. ورواه مالك، والثوري، وحماد بن زيد - عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، مرسلا دون ذكر سعد". وهذا إسناد جيد، يصلح متابعة جيدة للرواية المرسلة. فإن"أحمد بن عبد الجبار العطاردي": قد مضى في: ٦٦ أن أبا حاتم قال فيه: "ليس بقوي". ولكن المتأمل في ترجمته في التهذيب ١: ٥١-٥٢، وتاريخ بغداد ٤: ٢٦٢-٢٦٥ - يرى أن توثيقه أرجح، وأن الكلام فيه لم يكن عن بينة. ولذلك قال الخطيب: "كان أبو كريب من الشيوخ الكبار، الصادقين الأبرار وأبو عبيدة السري ابن يحيى شيخ جليل أيضًا ثقة، من طبقة العطاردي. وقد شهد له أحدهما بالسماع، والآخر بالعدالة. وذلك يفيد حسن حالته، وجواز روايته. إذ لم يثبت لغيرهما قول يوجب إسقاط حديثه، واطراح خبره". وهذا كاف في قبول زيادته في هذا الحديث، بوصله من رواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص.]] * * * وقال آخرون بما:- ٢١٥٥- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله ﷺ نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس، انصرف بوَجْهه إلى الكعبة، فقال السفهاء:"ما وَلاهُم عن قبلتهم التي كانوا عَليها". [[الحديث: ٢١٥٥- عمرو بن علي: هو الفلاس، مضت ترجمته: ١٩٨٩. أبو عاصم: هو النيل، واسمه"الضحاك بن مخلد"، وهو فقيه ثقة حافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم من الأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٣٣٧، والصغير: ٢٣١، وابن سعد ٧/٢/٤٩، وابن أبي حاتم٢/١/٤٦٣، والجمع بين رجال الصحيحين ٢٢٨-٢٢٩. وكان نبيلا حقًا، صفة ولقبًا. قال البخاري في الكبير: "سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها". ولد سنة ١٢٢، ومات سنة ٢١٢ وهو ابن ٩٠ سنة و ٤ أشهر ولدته أمه وعمرها ١٢ سنة. رحمهما الله. عثمان بن سعد التميمي الكاتب المعلم: ثقة، وثقه أبو نعيم، والحاكم وغيرهما، وتكلم فيه بعضهم بغير حجة، ونقل بعضهم عن النسائي أنه قال: "ليس بثقة"، ونقل الحافظ أنه رأى بخط ابن عبد الهادي: "الصواب في قول النسائي: أنه ليس بالقوي". وهذا هو الصواب عن النسائي، وهو الذي في كتاب الضعفاء له، ص: ٢٢. وترجمه ابن أبي حاتم ٣/١/١٥٣، وقال: "سمع أنس بن مالك". وسماعه من أنس ثابت عندنا في حديث آخر في المسند: ١٣٢٠١. فهذا الإسناد -عندنا- صحيح. والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٣، ونسبه البزار وابن جرير. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٢: ١٣، وقال: "رواه البزار، وفيه عثمان بن سعد، ضعفه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابو نعيم الحافظ، وقال أبو حاتم: شيخ". وقال الهيثمي أيضًا: "حديث أنس في الصحيح، إلا أنه جعل ذلك في صلاة الصبح، وهنا: الظهر". يشير بذلك إلى أن أصله في الصحيح، وهو الحديث في صحيح مسلم ١: ١٤٨، من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، بنحوه، وفيه: "فمر رجل من بني سلمة، وهم ركوع في صلاة الفجر، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت! فمالوا كما هم نحو القبلة". وكذلك رواه ابن سعد ١/٢/٤، من طريق حماد بن سلمة. ومن الواضح أن هذه قصة غير التي رواها الطبري هنا. فإن الذي هنا أن رسول الله ﷺ هو الذي انصرف بوجهه إلى الكعبة. فهذا أول تحويل القبلة. وأما رواية مسلم فتلك بشأن جماعة آخرين، في مسجد قباء، جاءهم مخبر فأخبرهم وهم في الصلاة بتحويل القبلة، فاستداروا إليها. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر. وهو في المسند: ٤٦٤٢، ٤٧٩٤، ٥٩٣٤، ٥٨٢٧.]] * * * وقال آخرون بما:- ٢١٥٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله ﷺ قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا. [[الحديث: ٢١٥٦- أبو داود: هو الطيالسي الإمام الحافظ، واسمه: "سليمان بن داود بن الجارود". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/١١، وابن سعد ٧/٢/٥١، وابن أبي حاتم ٢/١/١١١-١١٣، مات سنة ٢٠٣ عن ٩٢ سنة لم يستكملها، كما قال ابن سعد. المسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد لله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، تغير حفظه في آخر عمره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٢٥٠-٢٥٢. وترجمنا له في شرح المسند مرارًا، آخرها في الحديث: ٧١٠٥. ابن أبي ليلى: هو عبد الرحمن، التابعي المشهور. ولكنه لم يسمع من معاذ بن جبل، كما جزم بذلك علي بن المديني والترمذي وابن خزيمة، لأنه ولد سنة وفاة معاذ أو قبلها أو بعدها بقليل. فهذا الإسناد منقطع. والحديث بهذا الإسناد، مختصرًا، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ٥٦٦، بلفظ: "أن النبي ﷺ قدم المدينة، فصلى سبعة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم نزلت عليه هذه الآية: "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، إلى آخر الآية قال، فوجهه الله إلى الكعبة". وهو جزء من حديث طويل، رواه أبو داود السجستاني في سننه: ٥٠٧، بإسنادين: عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- عن أبي داود، وهو الطيالسي - ثم رواه عن نصر بن المهاجر، عن يزيد بن هارون، كلاهما عن المسعودي. ولكن بين أبو داود أن رواية محمد بن المثنى مختصرة، كالرواية التي في مسند الطيالسي، ولكن ذكر أن صلاتهم نحو بيت المقدس كانت"ثلاثة عشر شهرًا"، كرواية الطبري هنا عن ابن المثنى. وأنا أرجح أن تكون رواية ابن المثنى عن الطيالسي. أرجح من الرواية التي في مسند الطيالسي، إذ أنه ليس من جمعه، بل هو من جمع أحد الرواة عنه. ثم إن حديث معاذ -بطوله- رواه أحمد في المسند ٥: ٢٤٦-٢٤٧، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي، بهذا الإسناد. ولكن فيه"سبعة عشر شهرًا"، كرواية مسند الطيالسي. وقد أشار الحافظ في الفتح ١: ٨٩-٩٠ إلى كثير من الروايات في ذلك، وحاول الجمع بينهما أو الترجيح. وعندي أن مثل هذا لا يستطاع ضبطه إلا أن يكتبوه في حينه، أو تتجه همّتهم إلى العناية بحفظه. وقال الحافظ ابن كثير ١: ٣٤٥-٣٤٦: "والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس، بعد مقدمه ﷺ المدينة. واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرًا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة. التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام. فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق". وانظر أيضًا تاريخ ابن كثير ٣: ٢٥٢-٢٥٤.]] ٢١٥٧- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم النبي ﷺ بثلاث حجج، وأن النبي ﷺ صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا، أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد. * * * ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله ﷺ نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة. * * * اختلف أهلُ العلم في ذلك. فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي ﷺ ذكرُ من قال ذلك: ٢١٥٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن عكرمة -وعن يزيد النحويّ، عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي ﷺ كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ، فاستقبلها النبيّ ﷺ سبعةَ عشر شهرًا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعو بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة: ١١٥] . ٢١٥٩- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم عَن قبلتهم التي كانوا عليها"، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع. قال أبو العالية: إنّ نبيّ الله ﷺ خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب، فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا، وهو في ذلك يقلِّب وَجهه في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام. * * * وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك -من النبيّ ﷺ وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم. * ذكر من قال ذلك: ٢١٦٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما هاجَرَ رسول الله ﷺ إلى المدينة، وكان [أكثرَ] أهلها اليهودُ، أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله ﷺ بضْعة عَشر شَهرًا، فكان رسول الله ﷺ يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام، وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنزل الله عز وجل: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [سورة البقرة: ١٤٤] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا:"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ فأنزل الله عز وجل:"قُلْ لله المشرق والمغرب". [[الأثر: ٢١٦٠- مضى برقم: ١٨٣٣ ويأتي برقم: ٢٢٣٦، والزيادة بين القوسين من الموضعين.]] ٢١٦١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: صلى رسول الله ﷺ أوَّلَ ما صلى إلى الكعبة، ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا، ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة. * * * ذكر السبب الذي من أجله قال من قال"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ * * * اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان. أحدهما ما:- ٢١٦٢- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي ﷺ، فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه. [[الأثر: ٢١٦٢- هو بعض الأثر السالف رقم: ٢١٤٩.]] والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل. [[يعني الأثر رقم: ٢١٦٠.]] * * * ٢١٦٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عَليها"؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل قُدوم النبي ﷺ المدينةَ وصلى نبي الله ﷺ بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس:"ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل:"قلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم". * * * وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام. * ذكر من قال ذلك: ٢١٦٤- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما وُجِّه النبيُّ ﷺ قبَلَ المسجد الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟ فأنزل الله في المنافقين:"سَيقول السفهاءُ من الناس"، الآية كلها. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد -لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي كنتم على التوجُّه إليها، إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟ -: لله مُلك المشرق والمغرب = يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ مشرق الشمس، وقُطرَيْ مغربها، وما بينهما من العالم [[انظر تفسير"المشرق والمغرب" فيما سلف ٢: ٥٢٦-٥٣٠.]] = يَهدي من يشاء من خلقه، [[انظر تفسير"هدى" فيما سلف١: ١٦٦- ١٦٩، وفي فهرس اللغة في الجزء الأول والثاني.]] فيُسدده، ويوفِّقه إلى الطريق القويم، وهو"الصراط المستقيم" [[انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف ١: ١٧٠-١٧٧.]] -ويعني بذلك: إلى قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق. * * * وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله:"يَهدي من يَشاء إلى صراط مُستقيم"، قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم -أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب