الباحث القرآني

﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وإنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إلّا عَلى الَّذِينَ هَدى اللَّهُ وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكم إنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣] ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ وإنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٤٤] ﴿ولَئِنْ أتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وما أنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهم وما بَعْضُهم بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أهْواءَهم مِن بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ إنَّكَ إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٤٥] ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم وإنَّ فَرِيقًا مِنهم لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٤٦] ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ [البقرة: ١٤٧] ﴿ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلِّيها فاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ أيْنَما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٤٨] ﴿ومِن حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وإنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَبِّكَ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٤٩] ﴿ومِن حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرامِ وحَيْثُما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكم شَطْرَهُ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكم حُجَّةٌ إلّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهم فَلا تَخْشَوْهم واخْشَوْنِي ولِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكم ولَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٠] ﴿كَما أرْسَلْنا فِيكم رَسُولًا مِنكم يَتْلُو عَلَيْكم آياتِنا ويُزَكِّيكم ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٥١] ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٣] ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ أمْواتٌ بَلْ أحْياءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٥٤] ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمَراتِ وبَشِّرِ الصّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٥] ﴿الَّذِينَ إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ قالُوا إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٥٦] ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٧] (p-٤١٨)القِبْلَةُ: الجِهَةُ الَّتِي يَسْتَقْبِلُها الإنْسانُ، وهي مِنَ المُقابَلَةِ. وقالَ قُطْرُبٌ: يَقُولُونَ في كَلامِهِمْ لَيْسَ لَهُ قِبْلَةٌ، أيْ جِهَةٌ يَأْوِي إلَيْها. وقالَ غَيْرُهُ: إذا تَقابَلَ رَجُلانِ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما قِبْلَةُ الآخَرِ. وجاءَتِ القِبْلَةُ وإنْ أُرِيدَ بِها الجِهَةُ عَلى وزْنِ الهَيْئاتِ، كالقِعْدَةِ والجِلْسَةِ. الوَسَطُ: اسْمٌ لِما بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وُصِفَ بِهِ، فَأُطْلِقَ عَلى الخِيارِ مِنَ الشَّيْءِ؛ لِأنَّ الأطْرافَ يَتَسارَعُ إلَيْها الخَلَلُ، ولِكَوْنِهِ اسْمًا كانَ لِلْواحِدِ والجَمْعَ والمُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ واحِدٍ. وقالَ حَبِيبٌ: كانَتْ هي الوَسَطُ المَحْمِيُّ، فاكْتَنَفَتْ بِها الحَوادِثُ حَتّى أصْبَحَتْ طَرَفًا. ووَسَطُ الوادِي: خَيْرُ مَوْضِعٍ فِيهِ، وأكْثَرُهُ كَلَأً وماءً. ويُقالُ: فُلانٌ مِن أوْسَطِ قَوْمِهِ، وأنَّهُ لَواسِطَةُ قَوْمِهِ، ووَسَطُ قَوْمِهِ: أيْ مِن خِيارِهِمْ، وأهْلِ الحَسَبِ فِيهِمْ. وقالَ زُهَيْرٌ: ؎وهم وسَطٌ يَرْضى الأنامُ بِحُكْمِهِمْ إذا نَزَلَتْ إحْدى اللَّيالِي بِمُعْظَمِ وقَدْ وسَطَ سِطَةً ووَساطَةً، وقالَ: ؎وكُنْ مِنَ النّاسِ جَمِيعًا وسَطًا وأمّا وسْطُ - بِسُكُونِ السِّينِ - فَهو طَرَفُ المَكانِ، ولَهُ أحْكامٌ مَذْكُورَةٌ في النَّحْوِ. أضاعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ: أهْمَلَهُ ولَمْ يَحْفَظْهُ، والهَمْزَةُ فِيهِ لِلنَّقْلِ مِن ضاعَ يَضِيعُ ضَياعًا، وضاعَ المِسْكُ يَضُوعُ: فاحَ. الِانْقِلابُ: الِانْصِرافُ والِارْتِجاعُ، وهو لِلْمُطاوَعَةِ، قَلَبْتُهُ فانْقَلَبَ. عَقِبُ الرَّجُلِ: مَعْرُوفٌ، والعَقِبُ: النَّسْلُ، ويُقالُ: عَقِبٌ - بِسُكُونِ القافِ - . الرَّأْفَةُ والرَّحْمَةُ: مُتَقارِبانِ في المَعْنى. وقِيلَ: الرَّأْفَةُ أشَدُّ الرَّحْمَةِ، واسْمُ الفاعِلِ جاءَ لِلْمُبالَغَةِ عَلى فَعُولٍ كَضَرُوبٍ، وجاءَ عَلى فَعِلٍ كَحَذِرٍ، وجاءَ عَلى فَعْلٍ كَنَدْسٍ، وجاءَ عَلى فَعْلٍ كَصَعْبٍ. التَّقَلُّبُ: التَّرَدُّدُ، وهو لِلْمُطاوَعَةِ، قَلَبْتُهُ فَتَقَلَّبَ. الشَّطْرُ: النِّصْفُ، والجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ والجِهَةُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ألا مَن مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولًا ∗∗∗ وما تُغْنِي الرِّسالَةُ شَطْرَ عَمْرِو أيْ نَحْوَهُ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎أقُولُ لِأُمِّ زِنْباعٍ أقِيمِي ∗∗∗ صُدُورَ العِيسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ (وقالَ): ؎وقَدْ أظَلَّكم مِن شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ∗∗∗ هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعًا وقالَ ابْنُ أحْمَرَ: ؎تَعْدُو بِنا شَطْرَ نَجْدٍ وهي عاقِدَةٌ ∗∗∗ قَدْ كارَبَ العَقْدُ مِن إيقادِهِ الحُقْبا وقالَ آخَرُ: ؎وأظْعَنُ بِالقَوْمِ شَطْرَ المُلُوكِ أيْ نَحْوَهم، وقالَ: ؎إنَّ العَشِيرَ بِها داءٌ مُخامِرُها ∗∗∗ وشَطْرُها نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَسْجُورُ ويُقالُ: شَطَرَ عَنْهُ: بَعُدَ، وشَطَرَ إلَيْهِ: أقْبَلَ، والشّاطِرُ مِنَ الشَّبابِ: البَعِيدُ مِنَ الجِيرانِ، الغائِبُ عَنْ مَنزِلِهِ. يُقالُ: شَطَرَ شُطُورًا، والشَّطِيرُ: البَعِيدُ، مَنزِلٌ شَطِيرٌ: أيْ بَعِيدٌ. الحَرامُ والحَرَمُ والحُرُمُ: المُمْتَنِعُ، وقَدْ تَقَدَّمَ (p-٤١٩)الكَلامُ في ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ( ﴿وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكم إخْراجُهُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] الِامْتِراءُ: افْتِعالٌ مِنَ المِرْيَةِ، وهي الشَّكُّ. امْتَرى في الشَّيْءِ: شَكَّ فِيهِ، ومِنهُ المِراءُ. مارَيْتُهُ أيْ جادَلْتُهُ وشاكَكْتُهُ فِيما يَدَّعِيهِ. وافْتَعَلَ: بِمَعْنى تَفاعَلَ. تَقُولُ: تَمارَيْنا وامْتَرَيْنا فِيهِ، كَقَوْلِكَ: تَحاوَرْنا واحْتَوَرْنا. وِجْهَةٌ، قالَ قَوْمٌ، مِنهُمُ المازِنِيُّ والمُبَرِّدُ والفارِسِيُّ: إنَّ وِجْهَةً اسْمٌ لِلْمَكانِ المُتَوَجَّهِ إلَيْهِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ إثْباتُ الواوِ أصْلًا، إذْ هو اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ. قالَ سِيبَوَيْهِ: ولَوْ بَنَيْتَ فِعْلَةً مِنَ الوَعْدِ لَقُلْتَ وِعْدَةً، ولَوْ بَنَيْتَ مَصْدَرًا لَقُلْتَ عِدَةً. وذَهَبَ قَوْمٌ، مِنهُمُ المازِنِيُّ، فِيما نَقَلَ المَهْدَوِيُّ إلى أنَّهُ مَصْدَرٌ، وهو الَّذِي يَظْهَرُ مِن كَلامِ سِيبَوَيْهِ. قالَ، بَعْدَ ما ذَكَرَ حَذْفَ الواوِ مِنَ المَصادِرِ، وقَدْ أ ثْبَتُوا فَقالُوا: وِجْهَةً في الجِهَةِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ إثْباتُ الواوِ شاذًّا، مُنَبِّهَةً عَلى الأصْلِ المَتْرُوكِ في المَصادِرِ. والَّذِي سَوَّغَ عِنْدِي إقْرارَ الواوِ - وإنْ كانَ مَصْدَرًا - أنَّهُ مَصْدَرٌ لَيْسَ بِجارٍ عَلى فِعْلِهِ، إذْ لا يُحْفَظُ وجَهَ يَجِهُ، فَيَكُونُ المَصْدَرُ جِهَةً. قالُوا: وعَدَ يَعِدُ عِدَّةً، إذِ المُوجِبُ لِحَذْفِ الواوِ مِن عِدَّةٍ هو الحَمْلُ عَلى المُضارِعِ؛ لِأنَّ حَذْفَها في المُضارِعِ لِعِلَّةٍ مَفْقُودَةٍ في المَصْدَرِ. ولَمّا فُقِدَ يَجِهُ، ولَمْ يُسْمَعْ، لَمْ يُحْذَفْ مِن وِجْهَةٍ، وإنْ كانَ مَصْدَرًا؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مَصْدَرًا لِيَجِهَ، وإنَّما هو مَصْدَرٌ عَلى حَذْفِ الزَّوائِدِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ مِنهُ: تَوَجَّهَ واتَّجَهَ. فالمَصْدَرُ الجارِي هو التَّوَجُّهُ والِاتِّجاهُ، وإطْلاقُهُ عَلى المَكانِ المُتَوَجَّهِ إلَيْهِ هو مِن بابِ إطْلاقِ المَصْدَرِ عَلى اسْمِ المَفْعُولِ. الِاسْتِباقُ: افْتِعالٌ مِنَ السَّبْقِ، وهو الوُصُولُ إلى الشَّيْءِ أوَّلًا، ويَكُونُ افْتَعَلَ مِنهُ، إمّا لِمُوافَقَةِ المُجَرَّدِ، فَيَكُونُ مَعْناهُ ومَعْنى سَبَقَ واحِدًا، أوْ لِمُوافَقَةِ تَفاعَلَ، فَيَكُونُ اسْتَبَقَ وتَسابَقَ بِمَعْنًى واحِدٍ. الخَيْراتُ: جَمْعُ خَيْرَةٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِناءً عَلى فِعْلَةٍ، أوْ بِناءً عَلى فَيْعِلَةٍ، فَحُذِفَ مِنهُ، كالمَيِّتَةِ واللَّيِّنَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في هَذا الحَذْفِ، قالُوا: رَجُلٌ خَيِّرٌ، وامْرَأةٌ خَيِّرَةٌ، كَما قالُوا: رَجُلٌ شَرٌّ، وامْرَأةٌ شَرَّةٌ، ولا يَكُونانِ إذْ ذاكَ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ. الجُوعُ: القَحْطُ، وأمّا الحاجَةُ إلى الأكْلِ فَإنَّما اسْمُها: الغَرَثُ. يُقالُ: غَرِثَ يَغْرَثُ غَرْثًا، فَهو غَرِثٌ وغَرْثانُ، قالَ: ؎مُغَرَّثَةً زُرْقًا كَأنَّ عُيُونَها ∗∗∗ مِنَ الذَّمْرِ والإيحاءِ نُوارُ عَضْرَسِ وقَدِ اسْتَعْمَلَ المُحَدِّثُونَ في الغَرْثِ: الجُوعَ اتِّساعًا. * * * ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ما رَواهُ البُخارِيُّ، عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ، فَصَلّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ أنْ يَتَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ في السَّماءِ﴾ [البقرة: ١٤٤] الآيَةَ. فَقالَ: السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ، وهُمُ اليَهُودُ، ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ الآيَةَ. (ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ) لِما قَبْلَها: أنَّ اليَهُودَ والنَّصارى قالُوا: إنَّ إبْراهِيمَ ومَن ذُكِرَ مَعَهُ كانُوا يَهُودًا ونَصارى. ذَكَرُوا ذَلِكَ طَعْنًا في الإسْلامِ؛ لِأنَّ النَّسْخَ عِنْدَ اليَهُودِ باطِلٌ، فَقالُوا: الِانْتِقالُ عَنْ قِبْلَتِنا باطِلٌ وسَفَهٌ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ الآيَةَ، فَبَيَّنَ ما كانَ هِدايَةً، وما كانَ سَفَهًا. وسَيَقُولُ، ظاهِرٌ في الِاسْتِقْبالِ، وأنَّهُ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِنَبِيِّهِ ﷺ، أنَّهُ يَصْدُرُ مِنهم هَذا القَوْلُ في المُسْتَقْبَلِ، وذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، وتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مُتَقَدِّمَةً في النُّزُولِ عَلى الآيَةِ المُتَضَمِّنَةِ الأمْرَ بِاسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، فَتَكُونُ مِن بابِ الإخْبارِ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، إذْ هو إخْبارٌ بِالغَيْبِ. ولِتَتَوَطَّنَ النَّفْسُ عَلى ما يَرِدُ مِنَ الأعْداءِ، وتَسْتَعِدَّ لَهُ، فَيَكُونُ أقَلَّ تَأْثِيرًا مِنهُ إذا فاجَأ، ولَمْ يَتَقَدَّمْ بِهِ عِلْمٌ، ولِيَكُونَ الجَوابُ مُسْتَعِدًّا لِمُنْكِرِ ذَلِكَ، وهو قَوْلُهُ: ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾ . وإلى هَذا القَوْلِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّها مُتَقَدِّمَةٌ في التِّلاوَةِ، مُتَأخِّرَةٌ في النُّزُولِ، وأنَّهُ نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وجْهِكَ﴾ [البقرة: ١٤٤] الآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَ: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ﴾ . نَصَّ عَلى ذَلِكَ (p-٤٢٠)ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ. ويَدُلُّ عَلى هَذا ويُصَحِّحُهُ حَدِيثُ البَراءِ المُتَقَدِّمُ، الَّذِي خَرَّجَهُ البُخارِيُّ. وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَمَعْنى قَوْلِهِ: سَيَقُولُ، أنَّهم مُسْتَمِرُّونَ عَلى هَذا القَوْلِ، وإنْ كانُوا قَدْ قالُوهُ، فَحِكْمَةُ الِاسْتِقْبالِ أنَّهم، كَما صَدَرَ عَنْهم هَذا القَوْلُ في الماضِي، فَهم أيْضًا يَقُولُونَهُ في المُسْتَقْبَلِ. ولَيْسَ عِنْدَنا مَن وضَعَ المُسْتَقْبَلَ مَوْضِعَ الماضِي. وإنَّ مَعْنى سَيَقُولُ: قالَ، كَما زَعَمَ بَعْضُهم؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَتَأتّى مَعَ السِّينِ لِبُعْدِ المَجازِ فِيهِ. ولَوْ كانَ عارِيًا مِنَ السِّينِ، لَقَرُبَ ذَلِكَ وكانَ يَكُونُ حِكايَةَ حالٍ ماضِيَةٍ. والسُّفَهاءُ: اليَهُودُ، قالَهُ البَراءُ بْنُ عازِبٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ. وأهْلُ مَكَّةَ قالُوا: اشْتاقَ مُحَمَّدُ إلى مَوْلِدِهِ، وعَنْ قَرِيبٍ يَرْجِعُ إلى دِينِكم، رَواهُ أبُو صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، واخْتارَهُ الزَّجّاجُ. أوِ المُنافِقُونَ قالُوا: ذَلِكَ اسْتِهْزاءً بِالمُسْلِمِينَ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وقَدْ جَرى تَسْمِيَةُ المُنافِقِينَ بِالسُّفَهاءِ في قَوْلِهِ: ﴿ألا إنَّهم هُمُ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٣]، أوِ الطَّوائِفُ الثَّلاثُ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم مِنَ النّاسِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ: وخَصَّ بِقَوْلِهِ مِنَ النّاسِ؛ لِأنَّ السَّفَهَ أصْلُهُ الخِفَّةُ، يُوصَفُ بِهِ الجَمادُ. قالُوا: ثَوْبٌ سَفِيهٌ، أيْ خَفِيفُ النَّسْجِ والهَلْهَلَةِ، ورُمْحٌ سَفِيهٌ: أيْ خَفِيفٌ سَرِيعُ النُّفُوذِ. ويُوصَفُ بِهِ الحَيَواناتُ غَيْرُ النّاسِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ لاحْتَمَلَ النّاسَ وغَيْرَهم؛ لِأنَّ القَوْلَ يُنْسَبُ إلى النّاسِ حَقِيقَةً، وإلى غَيْرِهِمْ مَجازًا، فارْتَفَعَ المَجازُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ النّاسِ ما ولّاهُمْ﴾، أيْ ما صَرَفَهم، والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى النَّبِيِّ ﷺ والمُؤْمِنِينَ عَنْ قِبْلَتِهِمْ. أضافَ القِبْلَةَ إلَيْهِمْ لِأنَّهم كانُوا اسْتَقْبَلُوها زَمَنًا طَوِيلًا، فَصَحَّتِ الإضافَةُ. وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ كانَتْ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ إلى الكَعْبَةِ. هَكَذا ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، ولَيْسَ ذَلِكَ إجْماعًا، بَلْ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ هَذِهِ القِبْلَةَ، الَّتِي عِيبَ التَّحَوُّلُ مِنها إلى غَيْرِها هي الكَعْبَةُ، وأنَّهُ كانَ يُصَلِّي إلَيْها عِنْدَما فُرِضَتِ الصَّلاةُ، لِأنَّها قِبْلَةُ أبِيهِ إبْراهِيمَ. فَلَمّا تَوَجَّهَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، قالَ أهْلُ مَكَّةَ - زارِينَ عَلَيْهِ وعائِبِينَ -: ”ما ولّاهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها“، هَذا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ عَلى اسْتِقْبالِها. والِاسْتِعْلاءُ هُنا مَجازٌ، وحِكْمَتُهُ لَهم لِمُواظَبَتِهِمْ عَلى امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ في المُحافَظَةِ عَلى الصَّلَواتِ. صارَتِ القِبْلَةُ لَهم كالشَّيْءِ المُسْتَعْلى عَلَيْهِ، المُلازَمِ دائِمًا. وفي وصْفِ القِبْلَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّتِي كانُوا عَلَيْها﴾، ما يَدُلُّ عَلى تَمَكُّنِ اسْتِقْبالِها، ودَيْمُومَتِهِمْ عَلى ذَلِكَ. والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ”قِبْلَتِهِمْ“ و”كانُوا“ ضَمِيرُ المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا عَلى السُّفَهاءِ، فَإنَّهم كانُوا لا يَعْرِفُونَ إلّا قِبْلَةَ اليَهُودِ وهي إلى المَغْرِبِ، وقِبْلَةَ النَّصارى وهي إلى المَشْرِقِ، والعَرَبُ لَمْ يَكُنْ لَهم صَلاةٌ، فَيَتَوَجَّهُونَ إلى شَيْءٍ مِنَ الجِهاتِ. فَلَمّا تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَقالُوا: كَيْفَ يَتَوَجَّهُ إلى غَيْرِ هاتَيْنِ المَعْرُوفَتَيْنِ ؟ واخْتَلَفُوا في اسْتِقْبالِ بَيْتِ المَقْدِسِ: أكانَ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ ؟ أوْ بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ غَيْرِ مَتْلُوٍّ ؟ أوْ بِتَخْيِيرِ اللَّهِ رَسُولِهِ في النَّواحِي ؟ فاخْتارَ بَيْتَ المَقْدِسِ، قالَهُ الرَّبِيعُ؛ أوْ بِاجْتِهادِهِ بِغَيْرِ وحْيٍ، قالَهُ الحَسَنُ وعِكْرِمَةُ وأبُو العالِيَةِ. أقْوالٌ: الأوَّلُ: عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: أوَّلُ ما نُسِخَ مِنَ القُرْآنِ القِبْلَةُ: وكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا في المُدَّةِ الَّتِي صَلّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيها إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَقِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وقِيلَ: تِسْعَةٌ، أوْ عَشَرَةُ أشْهُرٍ. وقِيلَ: ثَلاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وقِيلَ: مِن وقْتِ فُرِضَ الخَمْسُ وائْتِمامِهِ بِجِبْرِيلَ، إثْرَ الإسْراءِ، وكانَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِن رَبِيعٍ الآخِرِ، قَبْلَ الهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، ثُمَّ هاجَرَ في رَبِيعٍ الأوَّلِ، وتَمادى يُصَلِّي إلى بَيْتِ المَقْدِسِ إلى رَجَبٍ مِن سَنَةِ اثْنَتَيْنِ. وقِيلَ: إلى جُمادى. وقِيلَ: إلى نِصْفِ شَعْبانَ. ورُوِيَ «أنَّهُ ﷺ صَلّى رَكْعَتِي الظُّهْرِ، فانْصَرَفَ بالآخْرَتَيْنِ إلى الكَعْبَةِ»، وقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى جَوازِ نَسْخِ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ، إذْ صَلاتُهُ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ لَيْسَ فِيها قُرْآنٌ، واسْتُدِلَّ بِها أيْضًا عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَزْعُمُ أنَّ النَّسْخَ بَداءٌ. ﴿قُلْ لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾: الأمْرُ مُتَوَجِّهٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وفِيهِ تَعْلِيمٌ لَهُ ﷺ كَيْفَ يُبْطِلُ مَقالَتَهم، ورَدَّ عَلَيْهِمْ إنْكارَهم. والمَعْنى: أنَّ الجِهاتِ كُلَّها لِلَّهِ تَعالى، (p-٤٢١)يُكَلِّفُ عِبادَهُ بِما شاءَ أنْ يَسْتَقْبِلَ مِنها، وأنْ تُجْعَلَ قِبْلَةً. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿لِلَّهِ المَشْرِقُ والمَغْرِبُ﴾، فَأغْنى عَنِ الإعادَةِ هُنا. وقَدْ شَرَحَ المَشْرِقَ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، والمَغْرِبَ بِالكَعْبَةِ؛ لِأنَّ الكَعْبَةَ غَرْبِيُّ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَيَكُونُ بِالضَّرُورَةِ بَيْتُ المَقْدِسِ شَرْقِيَّها. ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: أيْ مَن يَشاءُ هِدايَتَهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ما يُشْبِهُ هَذِهِ الجُمْلَةَ في قَوْلِهِ: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦]، فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ: وتَقَدَّمَ أنَّ هُدًى يَتَعَدّى بِاللّامِ وبِإلى وبِنَفْسِهِ، وهُنا عُدِّيَ بِإلى. وقَدِ اخْتَلَفُوا في الصَّلاةِ الَّتِي حُوِّلَتِ القِبْلَةُ فِيها، فَقِيلَ: الصُّبْحُ، وقِيلَ: الظُّهْرُ، وقِيلَ: العَصْرُ. وكَذَلِكَ أكْثَرُوا الكَلامَ في الحِكْمَةِ الَّتِي لِأجْلِها كانَ تَحْوِيلُ القِبْلَةِ، بِأشْياءَ لا يَقُومُ عَلى صِحَّتِها دَلِيلٌ، وعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعِلَلٍ لَمْ يُشِرْ إلَيْها الشَّرْعُ، ولا قادَ نَحْوَها العَقْلُ، فَتَرَكْنا نَقْلَ ذَلِكَ في كِتابِنا هَذا، عَلى عادَتِنا في ذَلِكَ. ومَن طَلَبَ لِلْوَضْعِيّاتِ تَعالِيلَ، فَأحْرى بِأنْ يَقِلَّ صَوابُهُ ويَكْثُرَ خَطَؤُهُ. وأمّا ما نَصَّ الشَّرْعُ عَلى حِكْمَتِهِ، أوْ أشارَ، أوْ قادَ إلَيْهِ النَّظَرُ الصَّحِيحُ، فَهو الَّذِي لا مَعْدِلَ عَنْهُ، ولا اسْتِفادَةَ إلّا مِنهُ. وقَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) بِأنَّهُ القِبْلَةُ الَّتِي هي الكَعْبَةُ. والظّاهِرُ أنَّهُ مِلَّةُ الإسْلامِ وشَرائِعُهُ، فالكَعْبَةُ مِن بَعْضِ مَشْرُوعاتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب