الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم وفي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللَّهِ واِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ المُنافِقِينَ لَمّا لَمَزُوا الرَّسُولَ ﷺ في الصَّدَقاتِ، بَيَّنَ لَهم أنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقاتِ هَؤُلاءِ، ولا تَعَلُّقَ لِي بِها، ولا آخُذُ لِنَفْسِي نَصِيبًا مِنها، فَلَمْ يَبْقَ لَهم طَعْنٌ في الرَّسُولِ بِسَبَبِ أخْذِ الصَّدَقاتِ. وهَهُنا مَقاماتٌ:
المَقامُ الأوَّلُ: بَيانُ الحِكْمَةِ في أخْذِ القَلِيلِ مِن أمْوالِ الأغْنِياءِ، وصَرْفِها إلى المُحْتاجِينَ مِنَ النّاسِ.
والمَقامُ الثّانِي: بَيانُ حالِ هَؤُلاءِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ المَذْكُورِينَ في هَذِهِ الآيَةِ.
أمّا المَقامُ الأوَّلُ فَنَقُولُ: الحِكْمَةُ في إيجابِ الزَّكاةِ أُمُورٌ، بَعْضُها مَصالِحُ عائِدَةٌ إلى مُعْطِي الزَّكاةِ، وبَعْضُها عائِدَةٌ إلى آخِذِ الزَّكاةِ.
أمّا القِسْمُ الأوَّلُ فَهو أُمُورٌ: الأوَّلُ: أنَّ المالَ مَحْبُوبٌ بِالطَّبْعِ، والسَّبَبُ فِيهِ أنَّ القُدْرَةَ صِفَةٌ مِن صِفاتِ الكَمالِ مَحْبُوبَةٌ لِذاتِها، ولِعَيْنِها لا لِغَيْرِها؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَهو مَحْبُوبٌ لِمَعْنًى آخَرَ، وإلّا لَزِمَ إمّا التَّسَلْسُلُ وإمّا الدَّوْرُ، وهُما مُحالانِ، فَوَجَبَ الِانْتِهاءُ في الأشْياءِ المَحْبُوبَةِ إلى ما يَكُونُ مَحْبُوبًا لِذاتِهِ. والكَمالُ مَحْبُوبٌ لِذاتِهِ، والنُّقْصانُ مَكْرُوهٌ لِذاتِهِ، فَلَمّا كانَتِ القُدْرَةُ صِفَةَ كَمالٍ، وصِفَةُ الكَمالِ مَحْبُوبَةٌ لِذاتِها، كانَتِ القُدْرَةُ مَحْبُوبَةً لِذاتِها، والمالُ سَبَبٌ لِحُصُولِ تِلْكَ القُدْرَةِ، ولِكَمالِها في حَقِّ البَشَرِ فَكانَ أقْوى أسْبابِ القُدْرَةِ في حَقِّ البَشَرِ هو المالَ، والَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ المَحْبُوبُ فَهو مَحْبُوبٌ، فَكانَ المالُ مَحْبُوبًا؛ فَهَذا هو السَّبَبُ في كَوْنِهِ مَحْبُوبًا، إلّا أنَّ الِاسْتِغْراقَ في حُبِّهِ يُذْهِبُ النَّفْسَ عَنْ حُبِّ اللَّهِ وعَنِ التَّأهُّبِ لِلْآخِرَةِ فاقْتَضَتْ (p-٨١)حِكْمَةُ الشَّرْعِ تَكْلِيفَ مالِكِ المالِ بِإخْراجِ طائِفَةٍ مِنهُ مِن يَدِهِ؛ لِيَصِيرَ ذَلِكَ الإخْراجُ كَسْرًا مِن شِدَّةِ المَيْلِ إلى المالِ، ومَنعًا مِنِ انْصِرافِ النَّفْسِ بِالكُلِّيَّةِ إلَيْها وتَنْبِيهًا لَها عَلى أنَّ سَعادَةَ الإنْسانِ لا تَحْصُلُ عِنْدَ الِاشْتِغالِ بِطَلَبِ المالِ، وإنَّما تَحْصُلُ بِإنْفاقِ المالِ في طَلَبِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى، فَإيجابُ الزَّكاةِ عِلاجٌ صالِحٌ مُتَعَيِّنٌ؛ لِإزالَةِ مَرَضِ حُبِّ الدُّنْيا عَنِ القَلْبِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ أوْجَبَ الزَّكاةَ لِهَذِهِ الحِكْمَةِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ بِها﴾ [التوبة: ١٠٣] . أيْ: تُطَهِّرُهم وتُزَكِّيهِمْ عَنِ الِاسْتِغْراقِ في طَلَبِ الدُّنْيا.
والوَجْهُ الثّانِي: وهو أنَّ كَثْرَةَ المالِ تُوجِبُ شِدَّةَ القُوَّةِ وكَمالَ القُدْرَةِ، وتَزايُدَ المالِ يُوجِبُ تَزايُدَ القُدْرَةِ، وتَزايُدَ القُدْرَةِ يُوجِبُ تَزايُدَ الِالتِذاذِ بِتِلْكَ القُدْرَةِ، وتَزايُدَ تِلْكَ اللَّذّاتِ يَدْعُو الإنْسانَ إلى أنْ يَسْعى في تَحْصِيلِ المالِ الَّذِي صارَ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ اللَّذّاتِ المُتَزايِدَةِ، وبِهَذا الطَّرِيقِ تَصِيرُ المَسْألَةُ مَسْألَةَ الدَّوْرِ؛ لِأنَّهُ إذا بالَغَ في السَّعْيِ ازْدادَ المالُ وذَلِكَ يُوجِبُ ازْدِيادَ القُدْرَةِ، وهو يُوجِبُ ازْدِيادَ اللَّذَّةِ، وهو يَحْمِلُ الإنْسانَ عَلى أنْ يَزِيدَ في طَلَبِ المالِ، ولَمّا صارَتِ المَسْألَةُ مَسْألَةَ الدَّوْرِ، لَمْ يَظْهَرْ لَها مَقْطَعٌ ولا آخَرُ، فَأثْبَتَ الشَّرْعُ لَها مَقْطَعًا آخَرَ وهو أنَّهُ أوْجَبَ عَلى صاحِبِهِ صَرْفَ طائِفَةٍ مِن تِلْكَ الأمْوالِ إلى الإنْفاقِ في طَلَبِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى؛ لِيَصْرِفَ النَّفْسَ عَنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ الظَّلْمانِيِّ الَّذِي لا آخِرَ لَهُ، ويَتَوَجَّهَ إلى عالَمِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ وطَلَبِ رِضْوانِهِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ كَثْرَةَ المالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الطُّغْيانِ والقَسْوَةِ في القَلْبِ، وسَبَبُهُ ما ذَكَرْنا مِن أنَّ كَثْرَةَ المالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ القُدْرَةِ، والقُدْرَةُ مَحْبُوبَةٌ لِذاتِها، والعاشِقُ إذا وصَلَ لِمَعْشُوقِهِ اسْتَغْرَقَ فِيهِ، فالإنْسانُ يَصِيرُ غَرِقًا في طَلَبِ المالِ، فَإنْ عَرَضَ لَهُ مانِعٌ يَمْنَعُهُ عَنْ طَلَبِهِ اسْتَعانَ بِمالِهِ وقُدْرَتِهِ عَلى دَفْعِ ذَلِكَ المانِعِ، وهَذا هو المُرادُ بِالطُّغْيانِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَيَطْغى﴾ ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ [العلق: ٦] . فَإيجابُ الزَّكاةِ يُقَلِّلُ الطُّغْيانَ، ويَرُدُّ القَلْبَ إلى طَلَبِ رِضْوانِ الرَّحْمَنِ.
والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ النَّفْسَ النّاطِقَةَ لَها قُوَّتانِ؛ نَظَرِيَّةٌ وعَمَلِيَّةٌ، فالقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ كَمالُها في التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ، والقُوَّةُ العَمَلِيَّةُ كَمالُها في الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ، فَأوْجَبَ اللَّهُ الزَّكاةَ؛ لِيَحْصُلَ لِجَوْهَرِ الرُّوحِ هَذا الكَمالُ، وهو اتِّصافُهُ بِكَوْنِهِ مُحْسِنًا إلى الخَلْقِ، ساعِيًا في إيصالِ الخَيْراتِ إلَيْهِمْ، دافِعًا لِلْآفاتِ عَنْهم، ولِهَذا السِّرِّ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”تَخَلَّقُوا بِأخْلاقِ اللَّهِ“» .
والوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ الخَلْقَ إذا عَلِمُوا في الإنْسانِ كَوْنَهُ ساعِيًا في إيصالِ الخَيْراتِ إلَيْهِمْ، وفي دَفْعِ الآفاتِ عَنْهم أحَبُّوهُ بِالطَّبْعِ ومالَتْ نُفُوسُهم إلَيْهِ لا مَحالَةَ، عَلى ما قالَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”جُبِلَتِ القُلُوبُ عَلى حُبِّ مَن أحْسَنَ إلَيْها وبُغْضِ مَن أساءَ إلَيْها“» . فالفُقَراءُ إذا عَلِمُوا أنَّ الرَّجُلَ الغَنِيَّ يَصْرِفُ إلَيْهِمْ طائِفَةً مِن مالِهِ، وأنَّهُ كُلَّما كانَ مالُهُ أكْثَرَ كانَ الَّذِي يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ مِن ذَلِكَ المالِ أكْثَرَ، أمَدُّوهُ بِالدُّعاءِ والهِمَّةِ، ولِلْقُلُوبِ آثارٌ ولِلْأرْواحِ حَرارَةٌ، فَصارَتْ تِلْكَ الدَّعَواتُ سَبَبًا لِبَقاءِ ذَلِكَ الإنْسانِ في الخَيْرِ والخِصْبِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرْضِ﴾ [الرعد: ١٧] . وبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”حَصِّنُوا أمْوالَكم بِالزَّكاةِ“» .
والوَجْهُ السّادِسُ: أنَّ الِاسْتِغْناءَ عَنِ الشَّيْءِ أعْظَمُ مِنَ الِاسْتِغْناءِ بِالشَّيْءِ؛ فَإنَّ الِاسْتِغْناءَ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ الِاحْتِياجَ إلَيْهِ، إلّا أنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلى الِاسْتِغْناءِ عَنْ غَيْرِهِ، فَأمّا الِاسْتِغْناءُ عَنِ الشَّيْءِ فَهو الغِنى التّامُّ؛ ولِذَلِكَ فَإنَّ الِاسْتِغْناءَ عَنِ الشَّيْءِ صِفَةُ الحَقِّ، والِاسْتِغْناءَ بِالشَّيْءِ صِفَةُ الخَلْقِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا أعْطى بَعْضَ عَبِيدِهِ (p-٨٢)أمْوالًا كَثِيرَةً فَقَدْ رَزَقَهُ نَصِيبًا وافِرًا مِن بابِ الِاسْتِغْناءِ بِالشَّيْءِ، فَإذا أمَرَهُ بِالزَّكاةِ كانَ المَقْصُودُ أنْ يَنْقُلَهُ مِن دَرَجَةِ الِاسْتِغْناءِ بِالشَّيْءِ، إلى المَقامِ الَّذِي هو أعْلى مِنهُ، وأشْرَفُ مِنهُ، وهو الِاسْتِغْناءُ عَنِ الشَّيْءِ.
والوَجْهُ السّابِعُ: أنَّ المالَ سُمِّيَ مالًا لِكَثْرَةِ مَيْلِ كُلِّ أحَدٍ إلَيْهِ، فَهو غادٍ ورائِحٌ، وهو سَرِيعُ الزَّوالِ مُشْرِفٌ عَلى التَّفَرُّقِ، فَما دامَ يَبْقى في يَدِهِ كانَ كالمُشْرِفِ عَلى الهَلاكِ والتَّفَرُّقِ، فَإذا أنْفَقَهُ الإنْسانُ في وُجُوهِ البِرِّ والخَيْرِ والمَصالِحِ بَقِيَ بَقاءً لا يُمْكِنُ زَوالُهُ، فَإنَّهُ يُوجِبُ المَدْحَ في الدُّنْيا والثَّوابَ الدّائِمَ في الآخِرَةِ، وسَمِعْتُ واحِدًا يَقُولُ: الإنْسانُ لا يَقْدِرُ أنْ يَذْهَبَ بِذَهَبِهِ إلى القَبْرِ، فَقُلْتُ: بَلْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَإنَّهُ إذا أنْفَقَهُ في طَلَبِ الرِّضْوانِ الأكْبَرِ فَقَدْ ذَهَبَ بِهِ إلى القَبْرِ وإلى القِيامَةِ.
والوَجْهُ الثّامِنُ: وهو أنَّ بَذْلَ المالِ تَشَبُّهٌ بِالمَلائِكَةِ والأنْبِياءِ، وإمْساكُهُ تَشَبُّهٌ بِالبُخَلاءِ المَذْمُومِينَ، فَكانَ البَذْلُ أوْلى.
والوَجْهُ التّاسِعُ: أنَّ إفاضَةَ الخَيْرِ والرَّحْمَةِ مِن صِفاتِ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، والسَّعْيُ في تَحْصِيلِ هَذِهِ الصِّفَةِ بِقَدْرِ القُدْرَةِ تَخَلُّقٌ بِأخْلاقِ اللَّهِ، وذَلِكَ مُنْتَهى كَمالاتِ الإنْسانِيَّةِ.
والوَجْهُ العاشِرُ: أنَّ الإنْسانَ لَيْسَ لَهُ إلّا ثَلاثَةُ أشْياءَ: الرُّوحُ والبَدَنُ والمالُ. فَإذا أُمِرَ بِالإيمانِ فَقَدْ صارَ جَوْهَرُ الرُّوحِ مُسْتَغْرِقًا في هَذا التَّكْلِيفِ، ولَمّا أُمِرَ بِالصَّلاةِ فَقَدْ صارَ اللِّسانُ مُسْتَغْرِقًا بِالذِّكْرِ والقِراءَةِ، والبَدَنُ مُسْتَغْرِقًا في تِلْكَ الأعْمالِ، بَقِيَ المالُ؛ فَلَوْ لَمْ يَصِرِ المالُ مَصْرُوفًا إلى أوْجُهِ البِرِّ والخَيْرِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ شُحُّ الإنْسانِ بِمالِهِ فَوْقَ شُحِّهِ بِرُوحِهِ وبَدَنِهِ، وذَلِكَ جَهْلٌ؛ لِأنَّ مَراتِبَ السِّعاداتِ ثَلاثٌ:
أُولاها: السِّعاداتُ الرُّوحانِيَّةُ.
وثانِيها: السِّعاداتُ البَدَنِيَّةُ، وهي المَرْتَبَةُ الوُسْطى.
وثالِثُها: السَّعاداتُ الخارِجِيَّةُ، وهي المالُ والجاهُ. فَهَذِهِ المَراتِبُ تَجْرِي مَجْرى خادِمِ السَّعاداتِ النَّفْسانِيَّةِ، فَإذا صارَ الرُّوحُ مَبْذُولًا في مَقامِ العُبُودِيَّةِ، ثُمَّ حَصَلَ الشُّحُّ بِبَذْلِ المالِ لَزِمَ جَعْلُ الخادِمِ في مَرْتَبَةٍ أعْلى مِنَ المَخْدُومِ الأصْلِيِّ، وذَلِكَ جَهْلٌ. فَثَبَتَ أنَّهُ يَجِبُ عَلى العاقِلِ أيْضًا بَذْلُ المالِ في طَلَبِ مَرْضاةِ اللَّهِ تَعالى.
والوَجْهُ الحادِيَ عَشَرَ: أنَّ العُلَماءَ قالُوا: شُكْرُ النِّعْمَةِ عِبارَةٌ عَنْ صَرْفِها إلى طَلَبِ مَرْضاةِ المُنْعِمِ، والزَّكاةُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِوُجُوبِها لِما ثَبَتَ أنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ واجِبٌ.
والوَجْهُ الثّانِيَ عَشَرَ: أنَّ إيجابَ الزَّكاةِ يُوجِبُ حُصُولَ الأُلْفِ بِالمَوَدَّةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وزَوالَ الحِقْدِ والحَسَدِ عَنْهم، وكُلُّ ذَلِكَ مِنَ المُهِمّاتِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ مُعْتَبَرَةٌ في بَيانِ الحِكْمَةِ النّاشِئَةِ مِن إيجابِ الزَّكاةِ العائِدَةِ إلى مُعْطِي الزَّكاةِ، فَأمّا المَصالِحُ العائِدَةُ مِن إيجابِ الزَّكاةِ إلى مَن يَأْخُذُ الزَّكاةَ فَهي كَثِيرَةٌ، الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ الأمْوالَ، ولَيْسَ المَطْلُوبُ مِنها أعْيانَها وذَواتِها؛ فَإنَّ الذَّهَبَ والفِضَّةَ لا يُمْكِنُ الِانْتِفاعُ بِهِما في أعْيانِهِما إلّا في الأمْرِ القَلِيلِ، بَلِ المَقْصُودُ مِن خَلْقِهِما أنْ يُتَوَسَّلَ بِهِما إلى تَحْصِيلِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَفاسِدِ، فالإنْسانُ إذا حَصَلَ لَهُ مِنَ المالِ بِقَدْرِ حاجَتِهِ كانَ هو أوْلى بِإمْساكِهِ؛ لِأنَّهُ يُشارِكُهُ سائِرَ المُحْتاجِينَ في صِفَةِ الحاجَةِ، وهو مُمْتازٌ عَنْهم بِكَوْنِهِ ساعِيًا في تَحْصِيلِ ذَلِكَ المالِ، فَكانَ اخْتِصاصُهُ بِذَلِكَ المالِ أوْلى مِنِ اخْتِصاصِ غَيْرِهِ، وأمّا إذا فَضَلَ المالُ عَلى قَدْرِ الحاجَةِ، وحَضَرَ إنْسانٌ آخَرُ مُحْتاجٌ، فَهَهُنا حَصَلَ سَبَبانِ، كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يُوجِبُ تَمَلُّكَ ذَلِكَ المالِ. أمّا في حَقِّ المالِكِ، فَهو أنَّهُ سَعى في اكْتِسابِهِ وتَحْصِيلِهِ، وأيْضًا شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ التَّعَلُّقَ أيْضًا نَوْعٌ مِن أنْواعِ الحاجَةِ. وأمّا في حَقِّ الفَقِيرِ، فاحْتِياجُهُ إلى ذَلِكَ المالِ (p-٨٣)يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِهِ، فَلَمّا وُجِدَ هَذانِ السَّبَبانِ المُتَدافِعانِ اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الإلَهِيَّةُ رِعايَةَ كُلِّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ بِقَدْرِ الإمْكانِ، فَيُقالُ: حَصَلَ لِلْمالِكِ حَقُّ الِاكْتِسابِ وحَقُّ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِهِ، وحَصَلَ لِلْفَقِيرِ حَقُّ الِاحْتِياجِ، فَرَجَّحْنا جانِبَ المالِكِ، وأبْقَيْنا عَلَيْهِ الكَثِيرَ، وصَرَفْنا إلى الفَقِيرِ يَسِيرًا مِنهُ تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلائِلِ بِقَدْرِ الإمْكانِ.
الثّانِي: أنَّ المالَ الفاضِلَ عَنِ الحاجاتِ الأصْلِيَّةِ إذا أمْسَكَهُ الإنْسانُ في بَيْتِهِ يَبْقى مُعَطَّلًا عَنِ المَقْصُودِ الَّذِي لِأجْلِهِ خُلِقَ المالُ، وذَلِكَ سَعْيٌ في المَنعِ مِن ظُهُورِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعالى، وهو غَيْرُ جائِزٍ، فَأمَرَ اللَّهُ بِصَرْفِ طائِفَةٍ مِنهُ إلى الفَقِيرِ؛ حَتّى لا تَصِيرَ تِلْكَ الحِكْمَةُ مُعَطَّلَةً بِالكُلِّيَّةِ.
الثّالِثُ: أنَّ الفُقَراءَ عِيالُ اللَّهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هود: ٦] . والأغْنِياءُ خُزّانُ اللَّهِ؛ لِأنَّ الأمْوالَ الَّتِي في أيْدِيهِمْ أمْوالُ اللَّهِ، ولَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى ألْقاها في أيْدِيهِمْ وإلّا لَما مَلَكُوا مِنها حَبَّةً، فَكَمْ مِن عاقِلٍ ذَكِيٍّ يَسْعى أشَدَّ السَّعْيِ، ولا يَمْلِكُ مِلْءَ بَطْنِهِ طَعامًا، وكَمْ مِن أبْلَهٍ جِلْفٍ تَأْتِيهِ الدُّنْيا عَفْوًا صَفْوًا.
إذا ثَبَتَ هَذا فَلَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ أنْ يَقُولَ المَلِكُ لِخازِنِهِ: اصْرِفْ طائِفَةً مِمّا في تِلْكَ الخِزانَةِ إلى المُحْتاجِينَ مِن عَبِيدِي.
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنْ يُقالَ: المالُ بِالكُلِّيَّةِ في يَدِ الغَنِيِّ مَعَ أنَّهُ غَيْرُ مُحْتاجٍ إلَيْهِ، وإهْمالُ جانِبِ الفَقِيرِ العاجِزِ عَنِ الكَسْبِ بِالكُلِّيَّةِ لا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الحَكِيمِ الرَّحِيمِ، فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ عَلى الغَنِيِّ صَرْفُ طائِفَةٍ مِن ذَلِكَ المالِ إلى الفَقِيرِ.
الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ الشَّرْعَ لَمّا أبْقى في يَدِ المالِكِ أكْثَرَ ذَلِكَ المالِ وصَرَفَ إلى الفَقِيرِ مِنهُ جُزْءًا قَلِيلًا، تَمَكَّنَ المالِكُ مِن جَبْرِ ذَلِكَ النُّقْصانِ بِسَبَبِ أنْ يَتَّجِرَ بِما بَقِيَ في يَدِهِ مِن ذَلِكَ المالِ ويَرْبَحَ ويَزُولَ ذَلِكَ النُّقْصانُ. أمّا الفَقِيرُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أصْلًا، فَلَوْ لَمْ يُصْرَفْ إلَيْهِ طائِفَةٌ مِن أمْوالِ الأغْنِياءِ لَبَقِيَ مُعَطَّلًا، ولَيْسَ لَهُ ما يَجْبُرُهُ، فَكانَ ذَلِكَ أوْلى.
الوَجْهُ السّادِسُ: أنَّ الأغْنِياءَ لَوْ لَمْ يَقُومُوا بِإصْلاحِ مُهِمّاتِ الفُقَراءِ فَرُبَّما حَمَلَهم شِدَّةُ الحاجَةِ ومَضَرَّةُ المَسْكَنَةِ عَلى الِالتِحاقِ بِأعْداءِ المُسْلِمِينَ، أوْ عَلى الإقْدامِ عَلى الأفْعالِ المُنْكَرَةِ؛ كالسَّرِقَةِ وغَيْرِها، فَكانَ إيجابُ الزَّكاةِ يُفِيدُ هَذِهِ الفائِدَةَ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِوُجُوبِها.
الوَجْهُ السّابِعُ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”الإيمانُ نِصْفانِ؛ نِصْفٌ صَبْرٌ ونِصْفٌ شُكْرٌ“» والمالُ مَحْبُوبٌ بِالطَّبْعِ، فَوِجْدانُهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ، وفُقْدانُهُ يُوجِبُ الصَّبْرَ، وكَأنَّهُ قِيلَ: أيُّها الغَنِيُّ، أعْطَيْتُكَ المالَ فَشَكَرْتَ فَصِرْتَ مِنَ الشّاكِرِينَ، فَأخْرِجْ مِن يَدِكَ نَصِيبًا مِنهُ حَتّى تَصْبِرَ عَلى فُقْدانِ ذَلِكَ المِقْدارِ؛ فَتَصِيرَ بِسَبَبِهِ مِنَ الصّابِرِينَ، وأيُّها الفَقِيرُ، ما أعْطَيْتُكَ الأمْوالَ الكَثِيرَةَ فَصَبَرْتَ فَصِرْتَ مِنَ الصّابِرِينَ، ولَكِنَّنِي أُوجِبُ عَلى الغَنِيِّ أنْ يَصْرِفَ إلَيْكَ طائِفَةً مِن ذَلِكَ المالِ؛ حَتّى إذا حَلَّ ذَلِكَ المِقْدارُ في مِلْكِكَ شَكَرْتَنِي، فَصِرْتَ مِنَ الشّاكِرِينَ، فَكانَ إيجابُ الزَّكاةِ سَبَبًا في جَعْلِ جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ مَوْصُوفِينَ بِصِفَةِ الصَّبْرِ والشُّكْرِ مَعًا.
الوَجْهُ الثّامِنُ: كَأنَّهُ سُبْحانَهُ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ: إنْ كُنْتُ قَدْ مَنَعْتُكَ الأمْوالَ الكَثِيرَةَ، ولَكِنِّي جَعَلْتُ نَفْسِي مَدْيُونًا مِن قِبَلِكَ، وإنْ كُنْتُ قَدْ أعْطَيْتُ الغَنِيَّ أمْوالًا كَثِيرَةً لَكِنِّي كَلَّفْتُهُ أنْ يَعْدُوَ خَلْفَكَ، وأنْ يَتَضَرَّعَ إلَيْكَ حَتّى تَأْخُذَ ذَلِكَ القَدْرَ مِنهُ، فَتَكُونَ كالمُنْعِمِ عَلَيْهِ بِأنْ خَلَّصْتَهُ مِنَ النّارِ.
(p-٨٤)فَإنْ قالَ الغَنِيُّ: قَدْ أنْعَمْتُ عَلَيْكَ بِهَذا الدِّينارِ، فَقُلْ أيُّها الفَقِيرُ: بَلْ أنا المُنْعِمُ عَلَيْكَ حَيْثُ خَلَّصْتُكَ في الدُّنْيا مِنَ الذَّمِّ والعارِ، وفي الآخِرَةِ مِن عَذابِ النّارِ.
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الوُجُوهِ في حِكْمَةِ إيجابِ الزَّكاةِ، بَعْضُها يَقِينِيَّةٌ وبَعْضُها إقْناعِيَّةٌ، والعالِمُ بِأسْرارِ حُكْمِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ لَيْسَ إلّا اللَّهَ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَقامُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ﴾ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا حَقَّ في الصَّدَقاتِ لِأحَدٍ إلّا لِهَذِهِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، وذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وأيْضًا فَلَفْظَةُ ”إنَّما“ تُفِيدُ الحَصْرَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ مُرَكَّبَةٌ مِن ”إنَّ“ و”ما“ وكَلِمَةُ إنَّ لِلْإثْباتِ، وكَلِمَةُ ما لِلنَّفْيِ، فَعِنْدَ اجْتِماعِهِما وجَبَ بَقاؤُهُما عَلى هَذا المَفْهُومِ، فَوَجَبَ أنْ يُفِيدَ الثُّبُوتَ المَذْكُورَ، وعَدَمَ ما يُغايِرُهُ.
الثّانِي: أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ تَمَسَّكَ في نَفْيِ رِبا الفَضْلِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”إنَّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ“» . ولَوْلا أنَّ هَذا اللَّفْظَ يُفِيدُ الحَصْرَ، وإلّا لَما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، وأيْضًا تَمَسَّكَ بَعْضُ الصَّحابَةِ في أنَّ الإكْسالَ لا يُوجِبُ الِاغْتِسالَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ“»، ولَوْلا أنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ تُفِيدُ الحَصْرَ وإلّا لَما كانَ كَذَلِكَ. وقالَ تَعالى: ﴿إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١] . والمَقْصُودُ بَيانُ نَفْيِ الإلَهِيَّةِ لِلْغَيْرِ.
والثّالِثُ: الشِّعْرُ، قالَ الأعْشى:
؎ولَسْتُ بِالأكْثَرِ مِنهم حَصًى وإنَّما العِزَّةُ لِلْكاثِرِ
وقالَ الفَرَزْدَقُ:
؎أنا الذّائِدُ الحامِي الذِّمارَ وإنَّما ∗∗∗ يُدافِعُ عَنْ أحْسابِهِمْ أنا أوْ مِثْلِي
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ لِلْحَصْرِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّدَقاتِ لا تُصْرَفُ إلّا لِهَذِهِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِرَجُلٍ: ”إنْ كُنْتَ مِنَ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ فَلَكَ فِيها حَقٌّ وإلّا فَهو صُداعٌ في الرَّأْسِ، وداءٌ في البَطْنِ“» وقالَ: «”لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ“» .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنِ المُنافِقِينَ أنَّهم يَلْمِزُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ في أخْذِ الصَّدَقاتِ، بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ إنَّما يَأْخُذُها لِهَؤُلاءِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، ولا يَأْخُذُها لِنَفْسِهِ ولا لِأقارِبِهِ ومُتَّصِلِيهِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ أخْذَ القَلِيلِ مِن مالِ الغَنِيِّ لِيُصْرَفَ إلى الفَقِيرِ في دَفْعِ حاجَتِهِ هو الحِكْمَةُ المُعَيَّنَةُ، والمَصْلَحَةُ اللّازِمَةُ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ هَمْزُ المُنافِقِينَ ولَمْزُهم عَيْنَ السَّفَهِ والجَهالَةِ. فَكانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَقُولُ: «”ما أُوتِيكم شَيْئًا ولا أمْنَعُكم، إنَّما أنا خازِنٌ أضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ“» .
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلى بَعْضِ هَؤُلاءِ الأصْنافِ فَقَطْ، وهو قَوْلُ عُمَرَ وحُذَيْفَةَ وابْنِ عَبّاسٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وأبِي العالِيَةِ والنَّخَعِيِّ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَوْ نَظَرْتُ إلى أهْلِ بَيْتٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فُقَراءَ مُتَعَفِّفِينَ فَحَبَوْتُهم بِها كانَ أحَبَّ إلَيَّ، وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا بُدَّ مِن صَرْفِها إلى الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ والزُّهْرِيِّ وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، واحْتَجَّ بِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ القِسْمَةَ في نَصِّ الكِتابِ. ثُمَّ أكَّدَها بِقَوْلِهِ: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ قالَ: ولا بُدَّ في كُلِّ صِنْفٍ مِن ثَلاثَةٍ؛ لِأنَّ أقَلَّ الجَمْعِ ثَلاثَةٌ؛ فَإنْ دَفَعَ سَهْمَ الفُقَراءِ إلى فَقِيرَيْنِ ضَمِنَ نَصِيبَ الثّالِثِ، وهو ثُلُثُ سَهْمِ الفُقَراءِ. قالَ: ولا بُدَّ مِنَ التَّسْوِيَةِ في أنْصِباءِ هَذِهِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، مِثْلُ أنَّكَ إنْ وجَدْتَ خَمْسَةَ أصْنافٍ ولَزِمَكَ أنْ تَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ (p-٨٥)دَراهِمَ، جُعِلَتِ العَشَرَةُ خَمْسَةَ أسْهُمٍ، كُلُّ سَهْمٍ دِرْهَمانِ، ولا يَجُوزُ التَّفاضُلُ، ثُمَّ يَلْزَمُكَ أنْ تَدْفَعَ إلى كُلِّ صِنْفٍ دِرْهَمَيْنِ وأقَلُّ عَدَدِهِمْ ثَلاثَةٌ، ولا يَلْزَمُكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهم، فَلَكَ أنْ تُعْطِيَ فَقِيرًا دِرْهَمًا وفَقِيرًا خَمْسَةَ أسْداسِ دِرْهَمٍ وفَقِيرًا سُدُسَ دِرْهَمٍ، هَذِهِ صِفَةُ قِسْمَةِ الصَّدَقاتِ عَلى مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قالَ المُصَنِّفُ الدّاعِي إلى اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الآيَةُ لا دَلالَةَ فِيها عَلى قَوْلِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ الصَّدَقاتِ لِهَؤُلاءِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، وذَلِكَ لا يَقْتَضِي في صَدَقَةِ زَيْدٍ بِعَيْنِهِ أنْ تَكُونَ لِجُمْلَةِ هَؤُلاءِ الثَّمانِيَةِ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ العَقْلُ والنَّقْلُ.
أمّا النَّقْلُ: فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّما غَنِمْتُمْ مِن شَيْءٍ فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ﴾ [الأنفال: ٤١] الآيَةَ، فَأثْبَتَ خُمُسَ الغَنِيمَةِ لِهَؤُلاءِ الطَّوائِفِ الخَمْسِ، ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ: إنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُغْنَمُ بِعَيْنِهِ فَإنَّهُ يَجِبُ تَفْرِقَتُهُ عَلى هَذِهِ الطَّوائِفِ، بَلِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُرادَ إثْباتُ مَجْمُوعِ الغَنِيمَةِ لِهَؤُلاءِ الأصْنافِ، فَأمّا أنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ الغَنِيمَةِ مُوَزَّعًا عَلى كُلِّ هَؤُلاءِ فَلا، فَكَذا هَهُنا مَجْمُوعُ الصَّدَقاتِ تَكُونُ لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ. فَأمّا أنْ يُقالَ: إنَّ صَدَقَةَ زَيْدٍ بِعَيْنِها يَجِبُ تَوْزِيعُها عَلى هَذِهِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، فاللَّفْظُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ البَتَّةَ.
وأمّا العَقْلُ: فَهو أنَّ الحُكْمَ الثّابِتَ في مَجْمُوعٍ لا يُوجَبُ ثُبُوتُهُ في كُلِّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ ذَلِكَ المَجْمُوعِ، ولا يَلْزَمُ أنْ لا يَبْقى فَرْقٌ بَيْنَ الكُلِّ وبَيْنَ الجُزْءِ. فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ لَفْظَ الآيَةِ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى ما ذَكَرَهُ، والَّذِي يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لا يَمْلِكُ إلّا عِشْرِينَ دِينارًا لَمّا وجَبَ عَلَيْهِ إخْراجُ نِصْفُ دِينارٍ، فَلَوْ كَلَّفْناهُ أنْ نَجْعَلَهُ عَلى أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ قِسْمًا لَصارَ كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأقْسامِ حَقِيرًا صَغِيرًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ في مُهِمٍّ مُعْتَبَرٍ. الثّانِي: أنَّ هَذا التَّوْقِيفَ لَوْ كانَ مُعْتَبَرًا لَكانَ أوْلى النّاسِ بِرِعايَتِهِ أكابِرُ الصَّحابَةِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَوَصَلَ هَذا الخَبَرُ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، وإلى ابْنِ عَبّاسٍ، وحُذَيْفَةَ وسائِرِ الأكابِرِ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما خالَفُوا فِيهِ، وحَيْثُ خالَفُوا فِيهِ عَلِمْنا أنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. الثّالِثُ: وهو أنَّ الشّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ اخْتِلافُ رَأْيٍ في جَوازِ نَقْلِ الصَّدَقاتِ؛ أمّا لَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِوُجُوبِ نَقْلِ الصَّدَقاتِ، فالإنْسانُ إذا كانَ في بَعْضِ القُرى ولا يَكُونُ هُناكَ مُكاتَبٌ، ولا مُجاهِدٌ غازٍ، ولا عامِلٌ، ولا أحَدٌ مِنَ المُؤَلَّفَةِ، ولا يَمُرُّ بِهِ أحَدٌ مِنَ الغُرَباءِ، واتَّفَقَ أنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ في تِلْكَ القَرْيَةِ مَن كانَ مَدْيُونًا فَكَيْفَ تَكْلِيفُهُ ؟ فَإنْ قُلْنا: وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يُسافِرَ بِما وجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكاةِ إلى بَلَدٍ يَجِدُ هَذِهِ الأصْنافَ فِيهِ، فَذاكَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ، وإذا أسْقَطْنا عَنْهُ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُنا، فَهَذا ما نَقُولُهُ في هَذا البابِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في تَعْرِيفِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، فالأوَّلُ والثّانِي هُمُ الفُقَراءُ والمَساكِينُ، ولا شَكَّ أنَّهم هُمُ المُحْتاجُونَ الَّذِي لا يَفِي خَرْجُهم بِدَخْلِهِمْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقالَ بَعْضُهم: الَّذِي يَكُونُ أشَدَّ حاجَةً هو الفَقِيرُ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وأصْحابِهِ. وقالَ آخَرُونَ: الَّذِي أشَدُّ حاجَةً هو المِسْكِينُ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: لا فَرْقَ بَيْنَ الفُقَراءِ والمَساكِينِ، واللَّهُ تَعالى وصَفَهم بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ، والمَقْصُودُ شَيْءٌ واحِدٌ، وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ رَحِمَهُما اللَّهُ، واخْتِيارُ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ، وفائِدَتُهُ تَظْهَرُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وهو أنَّهُ لَوْ أوْصى لِفُلانٍ ولِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ، فالَّذِينَ قالُوا: الفُقَراءُ غَيْرُ المَساكِينِ قالُوا: لِفُلانٍ الثُّلُثَ، والَّذِينَ قالُوا: الفُقَراءُ هُمُ المَساكِينُ قالُوا لِفُلانٍ النِّصْفُ. وقالَ الجُبّائِيُّ: إنَّهُ (p-٨٦)تَعالى ذَكَرَهم بِاسْمَيْنِ لِتَوْكِيدِ أمْرِهِمْ في الصَّدَقاتِ؛ لِأنَّهم هُمُ الأُصُولُ في الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ. وأيْضًا الفائِدَةُ فِيهِ أنْ يُصْرَفَ إلَيْهِمْ مِنَ الصَّدَقاتِ سَهْمانِ لا كَسائِرِهِمْ.
واعْلَمْ أنَّ فائِدَةَ هَذا الِاخْتِلافِ لا تَظْهَرُ في تَفْرِقَةِ الصَّدَقاتِ، وإنَّما تَظْهَرُ في الوَصايا، وهو أنَّ رَجُلًا لَوْ قالَ: أوْصَيْتُ لِلْفُقَراءِ بِمِائَتَيْنِ، ولِلْمَساكِينِ بِخَمْسِينَ، وجَبَ دَفْعُ المِائَتَيْنِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى مَن كانَ أشَدَّ حاجَةً، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى مَن كانَ أقَلَّ حاجَةً، وحُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وُجُوهٌ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى إنَّما أثْبَتَ الصَّدَقاتِ لِهَؤُلاءِ الأصْنافِ؛ دَفْعًا لِحاجَتِهِمْ وتَحْصِيلًا لِمَصْلَحَتِهِمْ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الَّذِي وقَعَ الِابْتِداءُ بِذِكْرِهِ يَكُونُ أشَدَّ حاجَةً؛ لِأنَّ الظّاهِرَ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الأهَمِّ عَلى المُهِمِّ، ألا تَرى أنَّهُ يُقالُ: أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ؛ ومَن فَضَّلَ عُثْمانَ عَلى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ في ذِكْرِهِما: عُثْمانُ وعَلِيٌّ، ومَن فَضَّلَ عَلِيًّا عَلى عُثْمانَ يَقُولُ: عَلِيٌّ وعُثْمانُ، وأنْشَدَ عُمَرُ قَوْلَ الشّاعِرِ:
؎كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ ناهِيًا
فَقالَ: هَلّا قَدَّمَ الإسْلامَ عَلى الشَّيْبِ ! فَلَمّا وقَعَ الِابْتِداءُ بِذِكْرِ الفُقَراءِ وجَبَ أنْ تَكُونَ حاجَتُهم أشَدَّ مِن حاجَةِ المَساكِينِ.
الوَجْهُ الثّانِي: قالَ أحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ: الفَقِيرُ أسْوَأُ حالًا مِنَ المِسْكِينِ؛ لِأنَّ الفَقِيرَ أصْلُهُ في اللُّغَةِ: المَفْقُورُ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةٌ مِن فِقارِ ظَهْرِهِ، فَصُرِفَ عَنْ مَفْقُورٍ إلى فَقِيرٍ، كَما قِيلَ: مَطْبُوخٌ وطَبِيخٌ، ومَجْرُوحٌ وجَرِيحٌ، فَثَبَتَ أنَّ الفَقِيرَ إنَّما سُمِّيَ فَقِيرًا لِزَمانَتِهِ مَعَ حاجَتِهِ الشَّدِيدَةِ، وتَمْنَعُهُ الزَّمانَةُ مِنَ التَّقَلُّبِ في الكَسْبِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لا حالَ في الإقْلالِ والبُؤْسِ آكَدُ مِن هَذِهِ الحالِ. وأنْشَدُوا لِلَبِيدٍ:
؎لَمّا رَأى لُبَدُ النُّسُورَ تَطايَرَتْ ∗∗∗ رَفَعَ القَوادِمَ كالفَقِيرِ الأعْزَلِ
قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: في هَذا البَيْتِ: الفَقِيرُ المَكْسُورُ الفَقارِ، يُضْرَبُ مَثَلًا لِكُلِّ ضَعِيفٍ لا يَتَقَلَّبُ في الأُمُورِ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى إشْعارِ لَفْظِ الفَقِيرِ بِالشِّدَّةِ العَظِيمَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ ﴿تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٤ - ٢٥] . جَعَلَ لَفْظَ الفاقِرَةِ كِنايَةً عَنْ أعْظَمِ أنْواعِ الشَّرِّ والدَّواهِي.
الوَجْهُ الثّالِثُ: ما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الفَقْرِ، وقالَ: «”كادَ الفَقْرُ أنْ يَكُونَ كُفْرًا“»، ثُمَّ قالَ: «”اللَّهُمَّ أحْيِنِي مِسْكِينًا، وأمِتْنِي مِسْكِينًا، واحْشُرْنِي في زُمْرَةِ المَساكِينِ“»، فَلَوْ كانَ المِسْكِينُ أسْوَأ حالًا مِنَ الفَقِيرِ لَتَناقَضَ الحَدِيثانِ؛ لِأنَّهُ تَعَوَّذَ مِنَ الفَقْرِ، ثُمَّ سَألَ حالًا أسْوَأ مِنهُ، أمّا إذا قُلْنا: الفَقْرُ أشَدُّ مِنَ المَسْكَنَةِ فَلا تَناقُضَ البَتَّةَ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ كَوْنَهُ مِسْكِينًا، لا يُنافِي كَوْنَهُ مالِكًا لِلْمالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ﴾ [الكهف: ٧٩] . فَوَصَفَ بِالمَسْكَنَةِ مَن لَهُ سَفِينَةٌ مِن سُفُنِ البَحْرِ تُساوِي جُمْلَةً مِنَ الدَّنانِيرِ، ولَمْ نَجِدْ في كِتابِ اللَّهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ سُمِّيَ فَقِيرًا مَعَ أنَّهُ يَمْلِكُ شَيْئًا.
فَإنْ قالُوا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ [محمد: ٣٨] . فَوَصَفَ الكُلَّ بِالفَقْرِ مَعَ أنَّهم يَمْلِكُونَ أشْياءَ.
(p-٨٧)قُلْنا: هَذا بِالضِّدِّ أوْلى؛ لِأنَّهُ تَعالى وصَفَهم بِكَوْنِهِمْ فُقَراءَ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، فَإنَّ أحَدًا سِوى اللَّهِ تَعالى لا يَمْلِكُ البَتَّةَ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ، فَصَحَّ قَوْلُنا.
الوَجْهُ الخامِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ ﴿يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ﴾ ﴿أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٦] . والمُرادُ مِنَ المِسْكِينِ ذِي المَتْرَبَةِ: الفَقِيرُ الَّذِي قَدْ أُلْصِقَ بِالتُّرابِ مِن شِدَّةِ الفَقْرِ، فَتَقْيِيدُ المِسْكِينِ بِهَذا القَيْدِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ مِسْكِينٌ خالٍ عَنْ وصْفِ كَوْنِهِ ذا مَتْرَبَةٍ؛ وإنَّما يَكُونُ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ أنْ يَمْلِكَ شَيْئًا، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كَوْنَهُ مِسْكِينًا لا يُنافِي كَوْنَهُ مالِكًا لِبَعْضِ الأشْياءِ.
الوَجْهُ السّادِسُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: الفَقِيرُ هو المُحْتاجُ الَّذِي لا يَجِدُ شَيْئًا. قالَ: وهم أهْلُ الصُّفَّةِ، صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانُوا نَحْوَ أرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ لا مَنزِلَ لَهم، فَمَن كانَ مِنَ المُسْلِمِينَ عِنْدَهُ فَضْلٌ أتاهم بِهِ إذا أمْسَوْا، والمَساكِينُ: هُمُ الطَّوّافُونَ الَّذِينَ يَسْألُونَ النّاسَ.
وجْهُ الِاسْتِدْلالِ: أنَّ شِدَّةَ فَقْرِ أهْلِ الصُّفَّةِ مَعْلُومَةٌ بِالتَّواتُرِ، فَلَمّا فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ الفُقَراءَ بِهِمْ، وفَسَّرَ المَساكِينَ بِالطَّوّافِينَ، ثُمَّ ثَبَتَ أنَّ أحْوالَ المُحْتاجِ الَّذِي لا يَسْألُ أحَدًا شَيْئًا أشَدُّ مِن أحْوالِ مَن يَحْتاجُ ثُمَّ يَسْألُ النّاسَ ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ، ظَهَرَ أنَّ الفَقِيرَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ أسْوَأ حالًا مِنَ المِسْكِينِ.
الوَجْهُ السّابِعُ: أنَّ المَسْكَنَةَ لَفْظٌ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّكُونِ، فالفَقِيرُ إذا سَألَ النّاسَ وتَضَرَّعَ إلَيْهِمْ وعَلِمَ أنَّهُ مَتى تَضَرَّعَ إلَيْهِمْ أعْطَوْهُ شَيْئًا فَقَدْ سَكَنَ قَلْبُهُ، وزالَ عَنْهُ الخَوْفُ والقَلَقُ، ويَحْتَمِلُ أنَّهُ سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ لِأنَّهُ إذا أُجِيبَ بِالرَّدِّ ومُنِعَ سَكَنَ، ولَمْ يَضْطَرِبْ وأعادَ السُّؤالَ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ جَعَلَ التَمَسْكُنَ كِنايَةً عَنِ السُّؤالِ والتَّضَرُّعِ عِنْدَ الغَيْرِ، ويُقالُ: تَمَسْكَنَ الرَّجُلُ إذا لانَ وتَواضَعَ، ومِنهُ «قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِلْمُصَلِّي: ”تَأنَّ وتَمَسْكَنْ“»، ويُرِيدُ تَواضَعْ وتَخَشَّعْ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ المِسْكِينَ هو السّائِلُ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: ١٩] . فَلَمّا ثَبَتَ بِما ذَكَرْنا هَهُنا أنَّ المِسْكِينَ هو السّائِلُ، وجَبَ أنْ يَكُونَ المَحْرُومُ هو الفَقِيرَ، ولا شَكَّ أنَّ المَحْرُومَ مُبالَغَةٌ في تَقْرِيرِ أمْرِ الحِرْمانِ، فَثَبَتَ أنَّ الفَقِيرَ أسْوَأُ حالًا مِنَ المِسْكِينِ.
الوَجْهُ الثّامِنُ: أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«أحْيِنِي مِسْكِينًا» “ الحَدِيثَ، والظّاهِرُ أنَّهُ تَعالى أجابَ دُعاءَهُ فَأماتَهُ مِسْكِينًا، وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حِينَ تُوُفِّيَ كانَ يَمْلِكُ أشْياءَ كَثِيرَةً، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ كَوْنَهُ مِسْكِينًا لا يُنافِي كَوْنَهُ مالِكًا لِبَعْضِ الأشْياءِ، أمّا الفَقِيرُ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى الحاجَةِ الشَّدِيدَةِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «”كادَ الفَقْرُ أنْ يَكُونَ كُفْرًا“»، فَثَبَتَ بِهَذا أنَّ الفَقْرَ أشَدُّ حالًا مِنَ المَسْكَنَةِ.
الوَجْهُ التّاسِعُ: أنَّ النّاسَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الفَقْرَ والغِنى ضِدّانِ، كَما أنَّ السَّوادَ والبَياضَ ضِدّانِ، ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ: إنَّ الغِنى والمَسْكَنَةَ ضِدّانِ، بَلْ قالُوا: التَّرَفُّعُ والتَّمَسُكُنَ ضِدّانِ؛ فَمَن كانَ مُنْقادًا لِكُلِّ أحَدٍ، خائِفًا مِنهم، مُتَحَمِّلًا لِشَرِّهِمْ، ساكِتًا عَنْ جَوابِهِمْ، مُتَضَرِّعًا إلَيْهِمْ، قالُوا: إنَّ فُلانًا يُظْهِرُ الذُّلَّ والمَسْكَنَةَ، وقالُوا: إنَّهُ مِسْكِينٌ عاجِزٌ، وأمّا الفَقِيرُ فَجَعَلُوهُ عِبارَةً عَنْ ضِدِّ الغَنِيِّ، وعَلى هَذا فَقَدَ يَصِفُونَ الرَّجُلَ الغَنِيَّ بِكَوْنِهِ مِسْكِينًا، إذا كانَ يُظْهِرُ مِن نَفْسِهِ الخُضُوعَ والطّاعَةَ وتَرْكَ المُعارَضَةِ، وقَدْ يَصِفُونَ الرَّجُلَ الفَقِيرَ بِكَوْنِهِ مُتَرَفِّعًا عَنِ التَّواضُعِ والمَسْكَنَةِ، فَثَبَتَ أنَّ الفَقْرَ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ المالِ، والمَسْكَنَةَ عِبارَةٌ عَنْ إظْهارِ التَّواضُعِ، والأوَّلُ يُنافِي حُصُولَ المالِ، والثّانِي لا يُنافِي حُصُولَهُ.
(p-٨٨)الوَجْهُ العاشِرُ: «قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِمُعاذٍ في الزَّكاةِ: ”خُذْها مِن أغْنِيائِهِمْ، ورُدَّها عَلى فُقَرائِهِمْ“»، ولَوْ كانَتِ الحاجَةُ في المَساكِينِ أشَدَّ لَوَجَبَ أنْ يَقُولَ: ورُدَّها عَلى مَساكِينِهِمْ؛ لِأنَّ ذِكْرَ الأهَمِّ أوْلى، فَهَذِهِ الوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْناها تَدُلُّ عَلى أنَّ الفَقِيرَ أسْوَأُ مِنَ المِسْكِينِ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِأنَّ المِسْكِينَ أسْوَأُ حالًا مِنَ الفَقِيرِ بِوُجُوهٍ:
الأوَّلُ: احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٦] . وصَفَ المِسْكِينَ بِكَوْنِهِ ذا مَتْرَبَةٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى نِهايَةِ الضُّرِّ والشِّدَّةِ، وأيْضًا أنَّهُ تَعالى جَعَلَ الكَفّاراتِ مِنَ الأطْعِمَةِ لَهُ، ولا فاقَةَ أعْظَمُ مِنَ الحاجَةِ إلى إزالَةِ الجُوعِ.
الثّانِي: احْتَجُّوا بِقَوْلِ الرّاعِي:
؎أمّا الفَقِيرُ الَّذِي كانَتْ حَلُوبَتُهُ ∗∗∗ وفْقَ العِيالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ
سَمّاهُ فَقِيرًا ولَهُ حَلُوبَةٌ.
الثّالِثُ: قالُوا: المِسْكِينُ هو الَّذِي يَسْكُنُ حَيْثُ يَحْضُرُ لِأجْلِ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُ فِيهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى نِهايَةِ الضُّرِّ والبُؤْسِ.
الرّابِعُ: نَقَلُوا عَنِ الأصْمَعِيِّ، وعَنْ أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ أنَّهُما قالا: الفَقِيرُ الَّذِي لَهُ ما يَأْكُلُ، والمِسْكِينُ الَّذِي لا شَيْءَ لَهُ، وقالَ يُونُسُ: الفَقِيرُ قَدْ يَكُونُ لَهُ بَعْضُ ما يَكْفِيهِ، والمِسْكِينُ هو الَّذِي لا شَيْءَ لَهُ، وقُلْتُ لِأعْرابِيٍّ: أفَقِيرٌ أنْتَ ؟ قالَ: لا واللَّهِ بَلْ مِسْكِينٌ.
والجَوابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالآيَةِ: أنّا بَيَّنّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ حُجَّةٌ لَنا، فَإنَّهُ لَمّا قَيَّدَ المِسْكِينَ المَذْكُورَ هَهُنا بِكَوْنِهِ ذا مَتْرَبَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِسْكِينٌ لا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وإلّا لَمْ يَبْقَ لِهَذا القَيْدِ فائِدَةٌ. قَوْلُهُ: إنَّهُ صَرْفُ الطَّعامِ الواجِبِ في الكَفّاراتِ إلَيْهِ، قُلْنا: نَعَمْ إنَّهُ أوْجَبَ صَرْفَهُ إلى المِسْكِينِ المُقَيَّدِ بِقَيْدِ كَوْنِهِ ذا مَتْرَبَةٍ، وهَذا لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ أوْجَبَ الصَّرْفَ إلى مُطْلَقِ المِسْكِينِ.
والجَوابُ عَنِ اسْتِدْلالِهِمْ بِبَيْتِ الرّاعِي: أنَّهُ ذَكَرَ أنَّ هَذا الَّذِي هو الآنَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ فَقِيرًا فَقَدْ كانَتْ لَهُ حَلُوبَةٌ، ثُمَّ السَّيِّدُ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ شَيْئًا، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: كانَتْ لَهُ حَلُوبَةٌ، ثُمَّ لَمّا لَمْ يُتْرَكْ لَهُ شَيْءٌ وُصِفَ بِكَوْنِهِ فَقِيرًا ؟
والجَوابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: المِسْكِينُ هو الَّذِي يَسْكُنُ حَيْثُ يَحْضُرُ لِأجْلِ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ.
قُلْنا: بَلِ المِسْكِينُ هو الطَّوّافُ عَلى النّاسِ الَّذِي يَكْثُرُ إقْدامُهُ عَلى السُّؤالِ، وسُمِّيَ مِسْكِينًا إمّا لِسُكُونِهِ عِنْدَما يَنْتَهِرُونَهُ ويَرُدُّونَهُ، وإمّا لِسُكُونِ قَلْبِهِ بِسَبَبِ عِلْمِهِ أنَّ النّاسَ لا يُضَيِّعُونَهُ مَعَ كَثْرَةِ سُؤالِهِ إيّاهم، وأمّا الرِّواياتُ الَّتِي ذَكَرُوها عَنْ أبِي عَمْرٍو ويُونُسَ، فَهَذا مُعارَضٌ بِقَوْلِ الشّافِعِيِّ، وابْنِ الأنْبارِيِّ رَحِمَهُما اللَّهُ، وأيْضًا نَقَلَ القَفّالُ في ”تَفْسِيرِهِ“ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّهُ قالَ: الفُقَراءُ فُقَراءُ المُهاجِرِينَ، والمَساكِينُ الَّذِينَ لَمْ يُهاجِرُوا، وعَنِ الحَسَنِ: الفَقِيرُ الجالِسُ في بَيْتِهِ، والمِسْكِينُ الَّذِي يَسْعى، وعَنْ مُجاهِدٍ: الفَقِيرُ الَّذِي لا يَسْألُ، والمِسْكِينُ الَّذِي يَسْألُ، وعَنِ الزُّهْرِيِّ: الفُقَراءُ هُمُ المُتَعَفِّفُونَ الَّذِينَ لا يَخْرُجُونَ، والمَساكِينُ الَّذِينَ يَسْألُونَ. قالَ مَوْلانا الدّاعِي إلى اللَّهِ: هَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها مُتَوافِقَةٌ عَلى أنَّ الفَقِيرَ لا يَسْألُ، والمِسْكِينَ يَسْألُ، ومَن سَألَ وجَدَ، فَكانَ المِسْكِينُ أسْهَلَ وأقَلَّ حاجَةً.
الصِّنْفُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والعامِلِينَ عَلَيْها﴾ وهُمُ السُّعاةُ لِجِبايَةِ الصَّدَقَةِ، وهَؤُلاءِ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقاتِ بِقَدْرِ أُجُورِ أعْمالِهِمْ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وابْنِ زَيْدٍ، وقالَ مُجاهِدٌ والضَّحّاكُ: يُعْطَوْنَ الثُّمُنَ مِنَ الصَّدَقاتِ، وظاهِرُ اللَّفْظِ مَعَ مُجاهِدٍ إلّا أنَّ الشّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: هَذا أُجْرَةُ (p-٨٩)العَمَلِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ العَمَلِ، والصَّحِيحُ أنَّ مَوْلى الهاشِمِيِّ والمُطَّلِبِيِّ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عامِلًا عَلى الصَّدَقاتِ لِيَنالَهُ مِنها؛ لِأنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أبى أنْ يَبْعَثَ أبا رافِعٍ عامِلًا عَلى الصَّدَقاتِ، وقالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ مَوْلى القَوْمِ مِنهم. وإنَّما قالَ: ﴿والعامِلِينَ عَلَيْها﴾؛ لِأنَّ كَلِمَةَ عَلى تُفِيدُ الوَلايَةِ، كَما يُقالُ: فُلانٌ عَلى بَلَدِ كَذا إذا كانَ والِيًا عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ الرّابِعُ: «قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هم قَوْمٌ أشْرافٌ مِنَ الأحْياءِ، أعْطاهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وكانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا: أبُو سُفْيانَ، والأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ العُزّى، وسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو مِن بَنِي عامِرٍ، والحارْثُ بْنُ هِشامٍ، وسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الجُهَنِيُّ، وأبُو السَّنابِلِ، وحَكِيمُ بْنُ حِزامٍ، ومالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وصَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ، والجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وعَمْرُو بْنُ مِرْداسٍ، والعَلاءُ بْنُ الحارِثِ؛ أعْطى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كُلَّ رَجُلٍ مِنهم مِائَةً مِنَ الإبِلِ، ورَغَّبَهم في الإسْلامِ، إلّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَرْبُوعٍ أعْطاهُ خَمْسِينَ مِنَ الإبِلِ، وأعْطى حَكِيمَ بْنَ حِزامٍ سَبْعِينَ مِنَ الإبِلِ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما كُنْتُ أرى أنَّ أحَدًا مِنَ النّاسِ أحَقُّ بِعَطائِكَ مِنِّي. فَزادَهُ عَشَرَةً، ثُمَّ سَألَهُ فَزادَهُ عَشَرَةً، وهَكَذا حَتّى بَلَغَ مِائَةً، ثُمَّ قالَ حَكِيمٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أعَطِيَّتُكَ الأُولى الَّتِي رَغِبْتُ عَنْها خَيْرٌ أمْ هَذِهِ الَّتِي قَنِعْتُ بِها ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”بَلِ الَّتِي رَغِبْتَ عَنْها“ فَقالَ: واللَّهِ لا آخُذُ غَيْرَها. فَقِيلَ: ماتَ حَكِيمٌ وهو أكْثَرُ قُرَيْشٍ مالًا» . وشَقَّ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تِلْكَ العَطايا لَكِنْ ألَّفَهم بِذَلِكَ. قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذِهِ العَطايا إنَّما كانَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ ولا تَعَلُّقَ لَها بِالصَّدَقاتِ، ولا أدْرِي لِأيِّ سَبَبٍ ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما هَذِهِ القِصَّةَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، ولَعَلَّ المُرادَ بَيانُ أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ في الجُمْلَةِ صَرْفُ الأمْوالِ إلى المُؤَلَّفَةِ، فَأمّا أنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِصَرْفِ الزَّكاةِ إلَيْهِمْ فَلا يَلِيقُ بِابْنِ عَبّاسٍ. ونَقَلَ القَفّالُ أنَّ أبا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعْطى عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ لَمّا جاءَهُ بِصَدَقاتِهِ وصَدَقاتِ قَوْمِهِ أيّامَ الرِّدَّةِ، وقالَ: المَقْصُودُ أنْ يَسْتَعِينَ الإمامُ بِهِمْ عَلى اسْتِخْراجِ الصَّدَقاتِ مِنَ المُلّاكِ.
قالَ الواحِدِيُّ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أغْنى المُسْلِمِينَ عَنْ تَألُّفِ قُلُوبِ المُشْرِكِينَ، فَإنْ رَأى الإمامُ أنْ يُؤَلِّفَ قُلُوبَ قَوْمٍ لِبَعْضِ المَصالِحِ الَّتِي يَعُودُ نَفْعُها عَلى المُسْلِمِينَ إذا كانُوا مُسْلِمِينَ جازَ؛ إذْ لا يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِن زَكَواتِ الأمْوالِ إلى المُشْرِكِينَ، فَأمّا المُؤَلَّفَةُ مِنَ المُشْرِكِينَ فَإنَّما يُعْطَوْنَ مِن مالِ الفَيْءِ، لا مِنَ الصَّدَقاتِ، وأقُولُ: إنَّ قَوْلَ الواحِدِيِّ: إنَّ اللَّهَ أغْنى المُسْلِمِينَ عَنْ تَألُّفِ قُلُوبِ المُشْرِكِينَ؛ بِناءً عَلى أنَّهُ رُبَّما يُوهَمُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ دَفَعَ قِسْمًا مِنَ الزَّكاةِ إلَيْهِمْ، لَكِنّا بَيَّنّا أنَّ هَذا لَمْ يَحْصُلِ البَتَّةَ، وأيْضًا فَلَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى كَوْنِ المُؤَلَّفَةِ مُشْرِكِينَ، بَلْ قالَ: ﴿والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾، وهَذا عامٌّ في المُسْلِمِ وغَيْرِهِ، والصَّحِيحُ أنَّ هَذا الحُكْمَ غَيْرُ مَنسُوخٍ، وأنَّ لِلْإمامِ أنْ يَتَألَّفَ قَوْمًا عَلى هَذا الوَصْفِ، ويَدْفَعَ إلَيْهِمْ سَهْمَ المُؤَلَّفَةِ؛ لِأنَّهُ لا دَلِيلَ عَلى نَسْخِهِ البَتَّةَ.
الصِّنْفُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿وفِي الرِّقابِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: وفِيهِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: وفي فَكِّ الرِّقابِ. وقَدْ مَضى الِاسْتِقْصاءُ في ”تَفْسِيرِهِ“ في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿والسّائِلِينَ وفي الرِّقابِ﴾ [البقرة: ١٧٧] . ثُمَّ في تَفْسِيرِ الرِّقابِ أقْوالٌ:
القَوْلُ الأوَّلُ: إنَّ سَهْمَ الرِّقابِ مَوْضُوعٌ في المُكاتَبِينَ لِيَعْتِقُوا بِهِ، وهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، واحْتَجُّوا بِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: قَوْلُهُ: ﴿وفِي الرِّقابِ﴾ يُرِيدُ المُكاتَبَ، وتَأكَّدَ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وآتُوهم مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ﴾ [النور: ٣٣] .
(p-٩٠)والقَوْلُ الثّانِي: وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، وأحْمَدَ، وإسْحاقَ أنَّهُ مَوْضُوعٌ لِعِتْقِ الرِّقابِ يُشْتَرى بِهِ عَبِيدٌ فَيَعْتِقُونَ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ، وقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِيِّ، أنَّهُ لا يُعْتَقُ مِنَ الزَّكاةِ رَقَبَةٌ كامِلَةٌ، ولَكِنْ يُعْطى مِنها في رَقَبَةٍ، ويُعانُ بِها مُكاتَبٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وفِي الرِّقابِ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ مَدْخَلٌ، وذَلِكَ يُنافِي كَوْنَهُ تامًّا فِيهِ.
والقَوْلُ الرّابِعُ: قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، قالَ: سَهْمُ الرِّقابِ نِصْفانِ؛ نِصْفٌ لِلْمُكاتَبِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ، ونِصْفٌ يُشْتَرى بِهِ رِقابٌ مِمَّنْ صَلَّوْا وصامُوا، وقَدُمَ إسْلامُهم، فَيَعْتِقُونَ مِنَ الزَّكاةِ، قالَ أصْحابُنا: والِاحْتِياطُ في سَهْمِ الرِّقابِ دَفْعُهُ إلى السَّيِّدِ بِإذْنِ المُكاتَبِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى أثْبَتَ الصَّدَقاتِ لِلْأصْنافِ الأرْبَعَةِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم بِلامِ التَّمْلِيكِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ﴾ ولَمّا ذَكَرَ الرِّقابَ أبْدَلَ حَرْفَ اللّامِ بِحَرْفِ في فَقالَ: ﴿وفِي الرِّقابِ﴾ فَلا بُدَّ لِهَذا الفَرْقِ مِن فائِدَةٍ، وتِلْكَ الفائِدَةُ هي أنَّ تِلْكَ الأصْنافَ الأرْبَعَةَ المُتَقَدِّمَةَ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ نَصِيبُهم مِنَ الصَّدَقاتِ، حَتّى يَتَصَرَّفُوا فِيها كَما شاءُوا، وأمّا: ﴿وفِي الرِّقابِ﴾ فَيُوضَعُ نَصِيبُهم في تَخْلِيصِ رَقَبَتِهِمْ عَنِ الرِّقِّ، ولا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ ولا يُمَكَّنُوا مِنَ التَّصَرُّفِ في ذَلِكَ النَّصِيبِ كَيْفَ شاءُوا، بَلْ يُوضَعُ في الرِّقابِ بِأنْ يُؤَدّى عَنْهم، وكَذا القَوْلُ في الغارِمِينَ يُصْرَفُ المالُ في قَضاءِ دُيُونِهِمْ، وفي الغُزاةِ يُصْرَفُ المالُ إلى إعْدادِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ في الغَزْوِ، وابْنُ السَّبِيلِ كَذَلِكَ.
والحاصِلُ: أنَّ في الأصْنافِ الأرْبَعَةِ الأُوَلِ يُصْرَفُ المالُ إلَيْهِمْ حَتّى يَتَصَرَّفُوا فِيهِ كَما شاءُوا، وفي الأرْبَعَةِ الأخِيرَةِ لا يُصْرَفُ المالُ إلَيْهِمْ، بَلْ يُصْرَفُ إلى جِهاتِ الحاجاتِ المُعْتَبَرَةِ في الصِّفاتِ الَّتِي لِأجْلِها اسْتَحَقُّوا سَهْمَ الزَّكاةِ.
الصِّنْفُ السّادِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والغارِمِينَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أصْلُ الغُرْمِ في اللُّغَةِ: لُزُومُ ما يَشُقُّ، والغَرامُ: العَذابُ اللّازِمُ، وسُمِّيَ العِشْقُ غَرامًا؛ لِكَوْنِهِ أمْرًا شاقًّا ولازِمًا، ومِنهُ: فُلانٌ مُغْرَمٌ بِالنِّساءِ إذا كانَ مُولَعًا بِهِنَّ، وسُمِّيَ الدَّيْنُ غَرامًا؛ لِكَوْنِهِ شاقًّا عَلى الإنْسانِ ولازِمًا لَهُ، فالمُرادُ بِالغارِمِينَ: المَدْيُونُونَ، ونَقُولُ: الدَّيْنُ إنْ حَصَلَ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ لا يَدْخُلُ في الآيَةِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن صَرْفِ المالِ المَذْكُورِ في الآيَةِ الإعانَةُ، والمَعْصِيَةُ لا تَسْتَوْجِبُ الإعانَةَ، وإنْ حَصَلَ لا بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ فَهو قِسْمانِ: دَيْنٌ حَصَلَ بِسَبَبِ نَفَقاتٍ ضَرُورِيَّةٍ أوْ في مَصْلَحَةٍ، ودَيْنٌ حَصَلَ بِسَبَبِ حَمالاتٍ وإصْلاحِ ذاتِ بَيْنٍ، والكُلُّ داخِلٌ في الآيَةِ، ورَوى الأصَمُّ في ”تَفْسِيرِهِ“ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَضى بِالغُرَّةِ في الجَنِينِ، قالَتِ العاقِلَةُ: لا نَمْلِكُ الغُرَّةَ يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ لِحَمْدِ بْنِ مالِكِ بْنِ النّابِغَةِ: ”أعِنْهم بِغُرَّةٍ مِن صَدَقاتِهِمْ“ . وكانَ حَمْدٌ عَلى الصَّدَقَةِ يَوْمَئِذٍ» .
الصِّنْفُ السّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: يَعْنِي الغُزاةَ. قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لَهُ أنْ يَأْخُذَ مِن مالِ الزَّكاةِ وإنْ كانَ غَنِيًّا، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، وإسْحاقَ، وأبِي عُبَيْدٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وصاحِباهُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: لا يُعْطى الغازِي إلّا إذا كانَ مُحْتاجًا.
واعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ اللَّفْظِ في قَوْلِهِ: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ لا يُوجِبُ القَصْرَ عَلى كُلِّ الغُزاةِ، فَلِهَذا المَعْنى نَقَلَ القَفّالُ في تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ الفُقَهاءِ: أنَّهم أجازُوا صَرْفَ الصَّدَقاتِ إلى جَمِيعِ وُجُوهِ الخَيْرِ؛ مِن تَكْفِينِ المَوْتى، وبِناءِ الحُصُونِ، وعِمارَةِ المَساجِدِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عامٌّ في الكُلِّ.
والصِّنْفُ الثّامِنُ: ابْنُ السَّبِيلِ قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ابْنُ السَّبِيلِ المُسْتَحِقُّ لِلصَّدَقَةِ، وهو الَّذِي يُرِيدُ السَّفَرَ في غَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَيَعْجِزُ عَنْ بُلُوغِ سَفَرِهِ إلّا بِمَعُونَةٍ. قالَ الأصْحابُ: ومَن أنْشَأ السَّفَرَ مِن بَلَدِهِ لِحاجَةٍ، (p-٩١)جازَ أنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ سَهْمُ ابْنِ السَّبِيلِ، فَهَذا هو الكَلامُ في شَرْحِ هَذِهِ الأصْنافِ الثَّمانِيَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في أحْكامِ هَذِهِ الأقْسامِ:
الحُكْمُ الأوَّلُ:
اتَّفَقُوا عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ﴾ دَخَلَ فِيهِ الزَّكاةُ الواجِبَةُ؛ لِأنَّ الزَّكاةَ الواجِبَةَ مُسَمّاةٌ بِالصَّدَقَةِ، قالَ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] . وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «: ”لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ ذَوْدٍ، ولَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ“» . واخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ تُدْخُلُ فِيها الصَّدَقَةُ المَندُوبَةُ ؟ فَمِنهم مَن قالَ: تَدْخُلُ فِيها؛ لِأنَّ لَفْظَ الصَّدَقَةِ مُخْتَصٌّ بِالمَندُوبَةِ، فَإذا أدْخَلْنا فِيهِ الزَّكاةَ الواجِبَةَ فَلا أقَلَّ مِن أنْ تَدْخُلَ فِيهِ أيْضًا الصَّدَقَةُ المَندُوبَةُ، وتَكُونُ الفائِدَةُ أنَّ مَصارِفَ جَمِيعِ الصَّدَقاتِ لَيْسَ إلّا هَؤُلاءِ، والأقْرَبُ: أنَّ المُرادَ مِن لَفْظِ الصَّدَقاتِ هَهُنا هو الزَّكَواتُ الواجِبَةُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى أثْبَتَ هَذِهِ الصَّدَقاتِ بِلامِ التَّمْلِيكِ لِلْأصْنافِ الثَّمانِيَةِ، والصَّدَقَةُ المَمْلُوكَةُ لَهم لَيْسَتْ إلّا الزَّكاةَ الواجِبَةَ.
الثّانِي: أنَّ ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقاتِ لَيْسَ إلّا لِهَؤُلاءِ الثَّمانِيَةِ، وهَذا الحَصْرُ إنَّما يَصِحُّ لَوْ حَمَلْنا هَذِهِ الصَّدَقاتِ عَلى الزَّكَواتِ الواجِبَةِ، أمّا لَوْ أدْخَلْنا فِيها المَندُوباتِ لَمْ يَصِحَّ هَذا الحَصْرُ؛ لِأنَّ الصَّدَقاتِ المَندُوبَةَ يَجُوزُ صَرْفُها إلى بِناءِ المَساجِدِ، والرِّباطاتِ، والمَدارِسِ، وتَكْفِينِ المَوْتى وتَجْهِيزِهِمْ وسائِرِ الوُجُوهِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ﴾ إنَّما يَحْسُنُ ذِكْرُهُ لَوْ كانَ قَدْ سَبَقَ بَيانُ تِلْكَ الصَّدَقاتِ وأقْسامِها حَتّى يَنْصَرِفَ هَذا الكَلامُ إلَيْهِ، والصَّدَقاتُ الَّتِي سَبَقَ بَيانُها وتَفْصِيلُها هي الصَّدَقاتُ الواجِبَةُ، فَوَجَبَ انْصِرافُ هَذا الكَلامِ إلَيْها.
الحُكْمُ الثّانِي
دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ هَذِهِ الزَّكاةَ يَتَوَلّى أخْذَها وتَفْرِقَتَها الإمامُ، ومَن يَلِي مِن قِبَلِهِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ لِلْعامِلِينَ سَهْمًا فِيها، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ في أداءِ هَذِهِ الزَّكَواتِ مِن عامِلٍ، والعامِلُ هو الَّذِي نَصَبَهُ الإمامُ لِأخْذِ الزَّكَواتِ، فَدَلَّ هَذا النَّصُّ عَلى أنَّ الإمامَ هو الَّذِي يَأْخُذُ هَذِهِ الزَّكَواتِ، وتَأكَّدَ هَذا النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ . فالقَوْلُ بِأنَّ المالِكَ يَجُوزُ لَهُ إخْراجُ زَكاةِ الأمْوالِ الباطِنَةِ بِنَفْسِهِ إنَّما يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، ويُمْكِنُ أنْ يُتَمَسَّكَ في إثْباتِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ [الذاريات: ١٩] . فَإذا كانَ ذَلِكَ الحَقُّ حَقًّا لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ وجَبَ أنْ يَجُوزَ لَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ ابْتِداءً.
الحُكْمُ الثّالِثُ:
نَصُّ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى أنَّ العامِلَ لَهُ في مالِ الزَّكاةِ حَقٌّ، واخْتَلَفُوا في أنَّ الإمامَ هَلْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ ؟ فَمِنهم مَن أثْبَتَهُ، قالَ: لِأنَّ العامِلَ إنَّما قَدَرَ عَلى ذَلِكَ العَمَلِ بِتَقْوِيَتِهِ وإمارَتِهِ، فالعامِلُ في الحَقِيقَةِ هو الإمامُ، ومِنهم مَن مَنَعَهُ، وقالَ: الآيَةُ دَلَّتْ عَلى حَصْرِ مالِ الزَّكاةِ في هَؤُلاءِ الثَّمانِيَةِ، والإمامُ خارِجٌ عَنْهم فَلا يُصْرَفُ هَذا المالُ إلَيْهِ.
الحُكْمُ الرّابِعُ:
اخْتَلَفُوا في هَذا العامِلِ إذا كانَ غَنِيًّا هَلْ يَأْخُذُ النَّصِيبَ ؟ قالَ الحَسَنُ: لا يَأْخُذُ إلّا مَعَ الحاجَةِ، وقالَ (p-٩٢)الباقُونَ: يَأْخُذُ وإنْ كانَ غَنِيًّا؛ لِأنَّهُ يَأْخُذُهُ أُجْرَةً عَلى العَمَلِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقالَ بَعْضُهم: لِلْعامِلِ في مالِ الزَّكاةِ الثُّمُنُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَسَّمَ الزَّكاةَ عَلى ثَمانِيَةِ أصْنافٍ، فَوَجَبَ أنْ يَحْصُلَ لَهُ الثُّمُنُ، كَما أنَّ مَن أوْصى بِمالٍ لِثَمانِيَةِ أنْفُسٍ حَصَلَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهم ثُمُنُهُ، وقالَ الأكْثَرُونَ: بَلْ حَقُّهُ بِقَدْرِ مُؤْنَتِهِ عِنْدَ الجِبايَةِ والجَمْعِ.
الحُكْمُ الخامِسُ:
اتَّفَقُوا عَلى أنَّ مالَ الزَّكاةِ لا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الثَّمانِيَةِ، واخْتَلَفُوا أنَّهُ هَلْ يَجُوزُ وضْعُهُ في بَعْضِ الأصْنافِ فَقَطْ ؟ وقَدْ سَبَقَ دَلائِلُ هاتَيْنِ المَسْألَتَيْنِ، إلّا أنّا إذا قُلْنا: يَجُوزُ وضْعُهُ في بَعْضِ الأصْنافِ فَقَطْ فَهَذا إنَّما يَجُوزُ في غَيْرِ العامِلِ، وأمّا وضْعُهُ بِالكُلِّيَّةِ في العامِلِ فَذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ بِالِاتِّفاقِ.
الحُكْمُ السّادِسُ:
أنَّ العامِلَ والمُؤَلَّفَةَ مَفْقُودانِ في هَذا الزَّمانِ، فَفِيهِ الأصْنافُ السِّتَّةُ، والأوْلى صَرْفُ الزَّكاةِ إلى هَذِهِ الأصْنافِ السِّتَّةِ عَلى ما يَقُولُهُ الشّافِعِيُّ؛ لِأنَّهُ الغايَةُ في الِاحْتِياطِ، أمّا إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أجْزَأهُ عَلى ما بَيَّنّاهُ.
الحُكْمُ السّابِعُ:
عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ﴾ يَتَناوَلُ الكافِرَ والمُسْلِمَ، إلّا أنَّ الأخْبارَ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكاةِ إلى الفُقَراءِ والمَساكِينِ وغَيْرِهِمْ إلّا إذا كانُوا مُسْلِمِينَ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ الأصْنافَ الثَّمانِيَةَ وشَرَحَ أحْوالَهم، قالَ: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: ”فَرِيضَةً“ مَنصُوبٌ عَلى التَّوْكِيدِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ﴾ لِهَؤُلاءِ جارٍ مَجْرى قَوْلِهِ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّدَقاتِ لِهَؤُلاءِ فَرِيضَةً، وذَلِكَ كالزَّجْرِ عَنْ مُخالَفَةِ هَذا الظّاهِرِ، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «”إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَرْضَ بِقِسْمَةِ الزَّكاةِ أنْ يَتَوَلّاها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ حَتّى تَوَلّى قِسْمَتَها بِنَفْسِهِ“»، والمَقْصُودُ مِن هَذِهِ التَّأْكِيداتِ تَحْرِيمُ إخْراجِ الزَّكاةِ عَنْ هَذِهِ الأصْنافِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أيْ: أعْلَمُ بِمَقادِيرِ المَصالِحِ، ”حَكِيمٌ“ لا يُشَرِّعُ إلّا ما هو الأصْوَبُ الأصْلَحُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"۞ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلۡفُقَرَاۤءِ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡعَـٰمِلِینَ عَلَیۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَـٰرِمِینَ وَفِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۖ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق