الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ﴾، الآيَةَ.
ظاهِرُ الآيَةِ أنَّ المِسْكِينَ غَيْرُ الفَقِيرِ.
وقالَ قَوْمٌ: هُما واحِدٌ، إلّا أنَّهُ ذَكَرَهُما بِاسْمَيْنِ لِتَأْكِيدِ الأمْرِ فِيهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ.
وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَلِلشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ اخْتِلافٌ في اللَّفْظِ في أيِّهِما أعْظَمُ حاجَةٌ وأشَدُّ خَصاصَةً، ولَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَبِيرُ فائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ، ولَيْسَ بِبَيِّنٍ أنْ يُجْعَلَ المِسْكِينُ صِنْفًا والفَقِيرُ صِنْفًا، فَيُقالُ: يُعْطى الصِّنْفانِ وهُما فَقِيرانِ إلّا أنَّ أحَدَ الصِّنْفَيْنِ أشَدُّ فَقْرًا مِنَ الآخَرِ، فَمِن هَذا الوَجْهِ يَقْرُبُ قَوْلُ مَن جَعَلَهُما واحِدًا.
ومُطْلَقُ لَفْظِ الفَقْرِ لا يَقْتَضِي الِاخْتِصاصَ بِالمُسْلِمِينَ دُونَ أهْلِ الذِّمَّةِ، ولَكِنْ تَظاهَرَتِ الأخْبارُ في أنَّ الصَّدَقَةَ تُؤْخَذُ مِن أغْنِياءِ المُسْلِمِينَ، وتُرَدُّ في فُقَرائِهِمْ.
(p-٢٠٦)والَّذِي يُمْكِنُ أنْ يُفْهَمَ مِنَ الآيَةِ، ومِنَ السُّنَّةِ، أنَّ اللَّهَ تَعالى أطْلَقَ الصَّدَقاتِ، وبَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أصْنافَ الصَّدَقاتِ، وما تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ، وما لا تَجِبُ، والَّذِي لا تَجِبُ قَدْ تَجِبُ فِيهِ إذا اتَّجَرَ.
وقَدْ حُكِيَ عَنْ زَيْنِ العابِدِينَ أنَّهُ قالَ: إنَّهُ تَعالى عَلِمَ قَدْرَ ما يَرْتَفِعُ مِنَ الزَّكاةِ، وأنَّهُ بِما تَقَعُ بِهِ الكِفايَةُ لِهَذِهِ الأصْنافِ، فَأوْجَبَهُ لَهُمْ، وجَعَلَهُ حَقًّا لِجَمِيعِهِمْ، فَمَن مَنَعَهم ذَلِكَ فَهو الظّالِمُ لَهم رِزْقَهم.
ولِذَلِكَ قالَ قَوْمٌ مِنَ العُلَماءِ: إنَّ الزَّكاةَ تَصِيرُ شَرِكَةً لِلْفُقَراءِ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ.
وظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأنَّ قَوْلَهُ: إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ كالتَّمْلِيكِ، وإنَّما لَمْ يَجْعَلْهُ تَمْلِيكًا حَقِيقَةً مِن حَيْثُ جُعِلَ لِوَصْفٍ لا لِعَيْنٍ، وكُلُّ حَقٍّ جُعِلَ لِمَوْصُوفٍ، فَإنَّهُ لا يَمْلِكُهُ إلّا بِالتَّسْلِيمِ، إلّا أنَّ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ اسْتِحْقاقَ الأصْنافِ لِأنْواعِ الصَّدَقاتِ، حَتّى لا يُحْرَمَ صِنْفٌ مِنهم.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في اسْتِيعابِ هَذِهِ الأصْنافِ: فَمِنهم مَن قالَ: الفَرْضُ بِهِ بَيانُ المَصارِفِ حَتّى لا يَخْرُجَ عَنْهُمْ، ثُمَّ الِاخْتِيارُ إلى مَن يُقْسَمُ، وهو قَوْلُ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ وحُذَيْفَةَ، وخَلْقٍ مِنَ التّابِعِينَ، كالحَسَنِ وإبْراهِيمَ وغَيْرِهِما، حَتّى ادَّعى مالِكٌ الإجْماعَ في ذَلِكَ.
وقالَ الشّافِعِيُّ وبَعْضُ أهْلِ الظّاهِرِ: يَتَعَيَّنُ اسْتِيعابُ الجَمِيعِ إلّا إذا عُدِمَ بَعْضُهُمْ، فَيُصْرَفُ نَصِيبُهُ إلى الباقِينَ.
فَمِن هَذا الوَجْهِ، فارَقَ إضافَةَ الأمْوالِ إلى مُسْتَحِقِّيها، وفارَقَ الوَصِيَّةَ إلى أقْوامٍ، فَإنَّهُ إذا تَعَذَّرَ الوُصُولُ إلى بَعْضِ مَن أوْصى لَهُ لا يُصْرَفُ نَصِيبُهُ إلى الباقِينَ.
(p-٢٠٧)ورَأى الشّافِعِيُّ أنَّ اسْتِيعابَ جِهاتِ الحاجاتِ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أعْظَمَ في القُرْبَةِ، ولا يَجُوزُ رَفْعُ المَزِيَّةِ بِلا دَلِيلٍ مَعَ مُوافَقَةِ الظّاهِرِ لَهُ، وإذا تَعَذَّرَ البَعْضُ، فالأقْرَبُ إلى القُرْبَةِ الصَّرْفُ إلى الباقِينَ.
فَعَلى هَذا لا نَقُولُ: إنَّ الصَّرْفَ عَلى الأصْنافِ عَلى نَحْوِ صَرْفِ الوِصايَةِ إلى الأصْنافِ والأشْخاصِ، وأنَّ الإضافَةَ إلَيْهِمْ بِلامِ التَّمْلِيكِ، ولَكِنّا نَدَّعِي أنَّ اسْتِيعابَ جِهاتِ الحاجاتِ في القُرْبَةِ أوْ في الصَّرْفِ إلى واحِدٍ.
وإذا ثَبَتَ زِيادَةُ القُرْبَةِ في المَنصُوصِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إلْغاؤُهُ، وهَذا بَيِّنٌ.
وقَدْ شَنَّعَ عَلِيُّ بْنُ مُوسى القُمِّيُّ عَلى الشّافِعِيِّ بِأنْ قالَ: إذا كانَ قَدْرُ الواجِبِ نِصْفَ دِينارٍ، وكانَ هو القاسِمَ لِذَلِكَ، ووُجِدَ السَّهْمانِ كَيْفَ يُفَرِّقُ ذَلِكَ فِيهِمْ، ولا يَسُدُّ مَسَدًّا، فَإنَّهُ يَنْقَسِمُ نِصْفُ دِينارٍ عَلى ثَمانِيَةِ أصْنافٍ، ويُصْرَفُ مِن كُلِّ صِنْفٍ إلى ثَلاثَةٍ، فَيَحْتاجُ أنْ يُقَسِّمَهُ عَلى أرْبَعَةٍ وعِشْرِينَ سَهْمًا، وأحَدُ السِّهامِ المُكاتَبُونَ، والمَقْصُودُ إزالَةُ الرِّقِّ، وأيُّ أثَرٍ لِهَذا القَدْرِ في إزالَةِ الرِّقِّ.
والَّذِي ذَكَرَهُ جَهالَةٌ تَلْزَمُ عَلَيْهِ، إذا أوْصى المُوصِي بِها لِلْأصْنافِ.
ولِأنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وحْدَهُ، بَلْ إذا كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ حَصَلَ الِاسْتِيعابُ، وحَصَلَ مَقْصُودُ الأصْنافِ مِنهُ، ومِن غَيْرِهِ، فَلا مَعْنى لِهَذا التَّشْنِيعِ.
ولا خِلافَ أنْ لا يَجُوزَ صَرْفُ الجَمِيعِ إلى العامِلِينَ عَلَيْها، فَإنَّهُ إنَّما يَأْخُذُ أُجْرَتَهُ، فَلَوْ وضَعَ فِيهِ تَناقَضَ، فَإنَّهُ يَسْعى لِلْفَقِيرِ، فَكَيْفَ يَأْخُذُ الكُلَّ إلى نَفْسِهِ، فَهَذا آخِرُ فُصُولِ هَذِهِ الآيَةِ.
الفَصْلُ الآخَرُ في الفُقَراءِ والمَساكِينِ، وقَدْ ذَكَرَهُما اللَّهُ تَعالى بِاسْمَيْنِ، فَقالَ بَعْضُهم: (p-٢٠٨)ذَكَرَهُما بِاسْمَيْنِ لِيُؤَكِّدَ أمْرَهم في هَذِهِ الصَّدَقاتِ بِأشَدَّ مِن تَأْكِيدِ غَيْرِهِمْ. ومِنهم مَن قالَ: ذَكَرَهُما بِاسْمَيْنِ لِكَوْنِهِما صِنْفَيْنِ، وهَذا ما قَدَّمْناهُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا في مَعْنى الفَقِيرِ: فَمِنهم مَن قالَ: إنَّهُ المُتَعَفِّفُ السّاتِرُ فَقْرَهُ عَنِ النّاسِ، وقَدْ وصَفَهُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: ٢٧٣] .
والمِسْكِينُ الَّذِي يَسْألُ إذا احْتاجَ، ويُمْسِكُ إذا اسْتَغْنى، ويَتَخاضَعُ لِلْمَسْألَةِ، وذَلِكَ هو اخْتِيارُ الأصَمِّ.
ومِنهم مَن قالَ: الفَقِيرُ هو الضَّعِيفُ الَّذِي لا يَسْألُ، والمِسْكِينُ الَّذِي يَسْألُ، ورَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وهو قَرِيبٌ مِمّا قَدَّمْناهُ.
وقَدْ قِيلَ: الفَقِيرُ هو الزَّمِنُ الَّذِي لا يَقْدِرُ عَلى التَّكَسُّبِ، والمِسْكِينُ الصَّحِيحُ.
وقَدْ قِيلَ: الفَقِيرُ أشَدُّ حاجَةً، فَإنَّهُ مَأْخُوذٌ مِن كَسْرِ فِقارِ الظَّهْرِ، والمِسْكِينُ دُونَهُ في الحاجَةِ.
وقَدْ وصَفَ اللَّهُ تَعالى مُلّاكَ السَّفِينَةِ، بِأنَّهم مَساكِينُ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ، وأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّكُونِ.
وبِالجُمْلَةِ: الفَقْرُ في ظاهِرِهِ أدَلُّ عَلى الحاجَةِ مِنَ المَسْكَنَةِ، لِأنَّ المِسْكِينَ إنَّما يَدُلُّ حالُهُ عَلى الحاجَةِ مِن حَيْثُ المَعْنى، وهو التَّخاضُعُ الَّذِي هو دَلِيلُ الحاجَةِ لا مِن حَيْثُ اللَّفْظُ، والفَقْرُ عِبارَةٌ عَنِ الحاجَةِ.
ومَن جَعَلَهُما صِنْفًا واحِدًا، قالَ: لا فَقِيرَ إلّا ويَحْسُنُ أنْ يُسَمّى مِسْكِينًا.
(p-٢٠٩)ولِلْفُقَراءِ مَراتِبُ لا تَنْحَصِرُ في مَرَّتَيْنِ، أوْ ثَلاثَةٍ، أوْ أرْبَعَةٍ، والَّذِي يُعَدِّدُها يَنْظُرُ إلى العَطْفِ ومَعْناهُ، وذَلِكَ يَقْتَضِي الفَرْقَ بَيْنَهُما، فَيُقالُ: الفَقِيرُ هو الشَّدِيدُ الحاجَةِ مَعَ التَّعَفُّفِ، والمِسْكِينُ هو المُظْهِرُ لِحاجَتِهِ بِالمَسْألَةِ.
ولَعَلَّ مَن جَعَلَ الفَقِيرَ هو الزَّمِنَ، فَلِأنَّ الزَّمانَةَ تُقْعِدُ عَنِ الطَّلَبِ، ومَن جَعَلَ المِسْكِينَ الصَّحِيحَ فَلِتَمْكِينِهِ مِنَ الطَّلَبِ.
واعْلَمْ أنَّ مُطْلَقَ الفَقِيرِ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ وتَقْيِيدٌ، بَلْ فِيهِ دِلالَةُ جَوازِ الصَّرْفِ إلى ذَوِي القُرْبى مِن بَنِي هاشِمٍ وغَيْرِهِمْ، ولَكِنَّ السُّنَّةَ ورَدَتْ بِاعْتِبارِ شُرُوطٍ، مِنها أنْ يَكُونَ مِن بَنِي هاشِمٍ. ورُوِيَ عَنْ أبِي يُوسُفَ جَوازُ صَرْفِ صَدَقَةِ الهاشِمِيِّ إلى الهاشِمِيِّ.
ومِن شَرائِطِهِ ألّا يَكُونَ كَسُوبًا مِقْدارَ كِفايَتِهِ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» .
والظّاهِرُ يَقْتَضِي جَوازَ ذَلِكَ، لِأنَّهُ فَقِيرٌ مَعَ قُوَّتِهِ وصِحَّةِ بَدَنِهِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ.
ومِن شَرائِطِهِ: أنْ يَكُونَ مِمَّنْ لا تَلْزَمُ المُتَصَدِّقَ نَفَقَتُهُ، ولَكِنَّ هَذا الوَجْهَ يُحَرِّمُ الزَّكاةَ لِلْفَقْرِ لا لِلْغُرْمِ أوْ غَيْرِهِ مِنَ الصِّفاتِ.
واخْتَلَفُوا فِيما بِهِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ فَقِيرًا، فَقالَ قَوْمٌ: بِألّا يَمْلِكَ نِصابًا.
(p-٢١٠)وقالَ قَوْمٌ: إنَّهُ لا يَتَحَدَّدُ ذَلِكَ، ويَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوالِ النّاسِ، فَمِنهم مَن يَكْثُرُ وُجُوهُ حَرَجِهِ، فَيُعَدُّ فَقِيرًا مَعَ مِلْكِ نُصُبٍ كَثِيرَةٍ، ورُبَّما احْتاجَ في يَوْمٍ إلى نِصابٍ، فَهَذا يُعَدُّ فَقِيرًا، وهو أقْرَبُ إلى الظّاهِرِ، وهو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى.
واخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ يُدْفَعُ لَهُ مِقْدارٌ أمْ لا؟
فَقالَ بَعْضُهم: لا يَجُوزُ أنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ أكْثَرُ مِمّا يَصِيرُ بِهِ غَنِيًّا.
وقالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ، وهو الألْيَقُ بِالظّاهِرِ، فَإنَّهُ تَعالى جَوَّزَ وضْعَ الصَّدَقَةِ في الفَقِيرِ ولَمْ يَفْصِلْ.
واخْتَلَفُوا في هَلِ اسْتِحْقاقِ الصَّدَقاتِ كُلِّها بِالفَقِيرِ والحاجَةِ فَقَطْ، أوْ بِذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ.
فَمِنهم مَن قالَ بِالوَجْهِ الأوَّلِ، وزَعَمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما ذَكَرَ الأصْنافَ لِاخْتِلافِ مَعْنى الحاجَةِ فِيهِمْ، فَأكَّدَ ذَلِكَ وبَيَّنَهُ، وإلّا فالوَجْهُ الَّذِي لِأجْلِهِ يَجُوزُ وضْعُ الصَّدَقَةِ فِيهِمْ واحِدٌ، عَلى ما قالَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ورَدَّها في فُقَرائِهِمْ.
فَبَيَّنَ أنَّ الِاسْتِحْقاقَ بِهَذا الوَجْهِ الواحِدِ.
وأمّا العامِلُونَ، فَإنَّهم يَأْخُذُونَ مِن جِهَةِ الفُقَراءِ لا مِن جِهَةِ رَبِّ المالِ، إلّا أنَّهُ لا يُدْفَعُ إلَيْهِمْ إلّا أُجْرَةُ سَعْيِهِمْ، فَهم كالوُكَلاءِ لِلْفُقَراءِ، ومِنهم يَأْخُذُونَ هَذا السَّهْمَ. وكَذَلِكَ الجَوابُ عَنِ المُؤَلَّفَةِ، حَيْثُ كانَتْ، لِأنَّهم مَعَ الغِنى كانُوا يَأْخُذُونَ لِإعْزازِ الدِّينِ.
ومَن قالَ بِالقَوْلِ الثّانِي قالَ: إنَّ الغارِمَ قَدْ يَأْخُذُ مَعَ الغِنى، وكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ، وكَذَلِكَ الغازِي.
والأقْرَبُ إلى الظّاهِرِ هَذا القَوْلُ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ هَذِهِ الأصْنافَ، فَإنْ أرادَ المُرِيدُ بِالحاجَةِ أنَّهُ لا بُدَّ مِنها في جَمِيعِهِمْ عَلى بَعْضِ الوُجُوهِ (p-٢١١)فَصَحِيحٌ، فَإنَّ العامِلَ وإنْ كانَ غَنِيًّا، فَفي صَرْفِ أُجْرَتِهِ إلَيْهِ تَقْوِيَةٌ لِأمْرِ الصَّدَقاتِ، فالحاجَةُ إلَيْهِمْ ماسَّةٌ، وفي الصَّرْفِ إلى المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم تَقْوِيَةُ الإسْلامِ، فالحاجَةُ واقِعَةٌ، وكَذَلِكَ الغارِمُ بِالدِّياتِ، تَمَسُّ الحاجَةُ إلَيْهِ لِتَسْكِينِ الفائِزَةِ، وتَطْفِيَةِ الفِتْنَةِ.
وقَدِ اسْتَدَلَّ قَوْمٌ في نُصْرَةِ قَوْلِ الشّافِعِيِّ، ومَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ، عَلى أنَّ ذِكْرَ العامِلِ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ دَفْعِ الزَّكاةِ إلَيْهِمْ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُفَرِّقَ بِنَفْسِهِ، وهَذا فِيهِ نَظَرٌ، لِأنَّ ذِكْرَهم يَتَضَمَّنُ أنَّهم إذا كانُوا أُعْطَوْا نَصِيبَهُمْ، فَأمّا إذا لَمْ يَكُونُوا فَلا، ولَيْسَ في الظّاهِرِ أنَّهُ لا بُدَّ مِنهُمْ، كَما أنَّهُ لَيْسَ في الظّاهِرِ أنَّهُ لا بُدَّ مِن رِقابٍ وغارِمٍ ومُؤَلَّفَةٍ.
فَأمّا المُؤَلَّفَةُ، فَقَدْ قِيلَ كانَ ذَلِكَ وزالَ.
وقَدْ قِيلَ: لِلْإمامِ أنْ يَتَألَّفَ قَوْمًا إذا رَأى في تَأْلِيفِهِمْ صَلاحًا لِلْمُسْلِمِينَ، لِما فِيهِ مِن دَفْعِ ضَرَرِهِمْ أوِ الضَّرَرِ بِمَكانِهِمْ، فَلَهُ أنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ سَهْمَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَخُصَّ وقْتًا دُونَ وقْتٍ.
وأمّا الرِّقابُ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.
فَقالَ قائِلُونَ: أرادَ بِهِ العِتْقَ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وكانَ لا يَرى بَأْسًا أنْ يُعْطِيَ الرَّجُلَ مِن زَكاتِهِ في عِتْقِ رَقَبَةٍ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ.
وقالَ الأكْثَرُونَ: المُرادُ بِهِ المُكاتَبُونَ، وهو قَوْلُ إبْراهِيمَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والشَّعْبِيِّ وغَيْرِهِمْ، وعَلَّلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقالَ: لا يُعْتَقُ مِنَ الزَّكاةِ مَخافَةَ جَرِّ الوَلاءِ.
(p-٢١٢)وذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُوسى القُمِّيُّ أنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّ المُكاتَبَ مُرادٌ، واخْتَلَفُوا في عِتْقِ الرِّقابِ، وذَكَرَ هو وُجُوهًا بَيِّنَةً في مَنعِ ذَلِكَ.
مِنها: أنَّ العِتْقَ إبْطالُ مِلْكٍ، ولَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، وما يَدْفَعُهُ إلى المُكاتَبِ تَمْلِيكٌ، ومِن حَقِّ الصَّدَقَةِ ألّا تَجْرِيَ إلّا إذا جَرى فِيها التَّمْلِيكُ، وقَوّى ذَلِكَ بِأنَّهُ لَوْ دَفَعَ الزَّكاةَ عَنِ الغارِمِ في دِينِهِ مِن غَيْرِ إذْنِهِ، لَمْ يُجْزِهِ مِن حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ، فَلِأنْ لا يُجْزى ذَلِكَ في العِتْقِ أوْلى.
وذَكَرَ أنَّ في العِتْقِ جَرُّ الوَلاءِ إلى نَفْسِهِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ في دَفْعِهِ إلى المُكاتَبِ.
وذَكَرَ أنَّ ثَمَنَ العَبْدِ إذا دَفَعَهُ إلى العَبْدِ لَمْ يَمْلِكْ، وإنْ دَفَعَهُ إلى السَّيِّدِ فَقَدْ مَلَكَهُ الغَنِيُّ، وإنْ دَفَعَهُ بَعْدَ الشِّراءِ والعِتْقِ، فَهو قاضٍ دَيْنًا، وذَلِكَ وذَلِكَ لا يَجُوزُ في الزَّكاةِ.
وأمّا حَقُّ الغارِمِينَ، فَقَدْ قِيلَ: هو المُسْتَدِينُ مِن غَيْرِ سَرَفٍ ولا وفاءٍ في مالِهِ بِدَيْنِهِ، ورُوِيَ قَرِيبٌ مِن ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وعائِشَةَ، ورَوى عَلِيُّ بْنُ مُوسى القُمِّيُّ بِإسْنادِهِ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: أنَّ المَسْألَةَ لا تَحِلُّ إلّا لِأحَدِ ثَلاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، ولِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، ولِذِي دَمٍ مُوجِعٍ، وعَلى هَذا إذا تَحَمَّلَ مِمّا لَهُ فِيها مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
ورُوِيَ عَنْهُ ﷺ في «حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخارِقٍ أنَّهُ قالَ: تَحَمَّلْتُ حَمالَةً فَأتَيْتُهُ ﷺ فَسَألْتُهُ فَقالَ: ”يُؤَدِّيها عَنْكَ إذا جاءَتْ نِعْمَ الصَّدَقَةُ“ . ثُمَّ قالَ: "أما عَلِمْتَ أنَّ المَسْألَةَ لا تَحِلُّ إلّا لِثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمالَةً فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ حَتّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ أوْ سَدادًا مِن عَيْشٍ.
(p-٢١٣)ورَجُلٌ أصابَتْهُ فاقَةٌ وحاجَةٌ حَتّى تَكَلَّمَ ثَلاثَةٌ مِن ذَوِي الحِجْرِ مِن قَوْمِهِ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْألَةُ، حَتّى يُصِيبَ سَدادًا مِن عَيْشٍ أوْ قِوامًا مِن عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ"» .
فَدَلَّ قَوْلُهُ: (مَن تَحَمَّلَ حَمالَةً)، أنَّ المَسْألَةَ تَحِلُّ لَهُ حَتّى يُؤَدِّيَ ثُمَّ يُمْسِكُ، عَلى أنَّهُ غَنِيٌّ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ فَقِيرًا لَمْ يَلْزَمْهُ أنْ يُمْسِكَ، بَلْ كانَ يَحِلُّ لَهُ أنْ يَسْألَ لِفَقْرِهِ.
وظاهِرُ الغارِمِ يَتَناوَلُ الغارِمِينَ كُلَّهم.
وقَوْلُهُ: وفي سَبِيلِ اللَّهِ: قَدْ قِيلَ، إنَّ المُرادَ بِهِ الغازِي، وإنْ كانَ غَنِيًّا، وقِيلَ: هَذا يَخْتَصُّ بِالفَقِيرِ.
ومِنهم مَن يَقُولُ: إنْ كانَ مُسْتَغْنِيًا بِالفَيْءِ ولَمْ يُعْطَ، وإلّا أُعْطِيَ.
والظّاهِرُ أنَّهُ الغازِي، وأنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ مُحْتاجًا أوْ مَعَهُ مِنَ الفَيْءِ ما يُحَرِّمُ أخْذَ الصَّدَقَةِ، لِأنَّهُ يَحْتاجُ لِعُدَّةِ جِهادِهِ وتَقْوِيَةِ قَلْبِهِ، إلى ما لا يَحْتاجُ إلَيْهِ غَيْرُهُ، فَصَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ جائِزٌ والحالَةُ هَذِهِ.
وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلّا في سَبِيلِ اللَّهِ» .
وهَذا مُوافِقٌ لِلظّاهِرِ.
وفِي رِوايَةٍ: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلّا في سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ».
وابْنُ السَّبِيلِ يَأْخُذُ الزَّكاةَ مَعَ غِناهُ، وقَدْ قِيلَ: هو مُخْتَصٌّ بِمَن يُوجَدُ مُسافِرًا.
وقَدْ قِيلَ: يَلْحَقُ بِهِ مَن يَهُمُّ بِسَفَرٍ لا يَضُرُّهُ تَرْكُهُ.
{"ayah":"۞ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلۡفُقَرَاۤءِ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡعَـٰمِلِینَ عَلَیۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَـٰرِمِینَ وَفِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۖ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق