الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفِي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفِي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: ٦٠].
هذه الآيةُ مِن عظائمِ الآياتِ وأُمَّهاتِها، وذلك لِتَفْصيلِها مَصارِفَ الزَّكاةِ، وهي مُتَّصِلةٌ بعظَمَةِ الزكاةِ، وهي الرُّكْنُ الثالِثُ مِن أركانِ الإسلامِ، وقد أوجَبَ اللهُ الزكاةَ وفَرَضَها، لِيكونَ المالُ دائرًا بانضباطٍ محكومٍ بينَ الغنيِّ والفقيرِ، فلا يَستأثِرَ به الغنيُّ، ولا يُحبَسَ في بيتِ المالِ، فإنّ مُقتَضى ربوبيَّةِ اللهِ أنْ خَلَقَ الخَلْقَ وأَوجَدَ لهم كِفايةً مِن رزقٍ في الدُّنيا، فإنّ الفقرَ لا يَنتشِرُ في الأرضِ إلاَّ لغِيابِ العدلِ وظهورِ الظُّلْمِ في الأموالِ، ويَظهَرُ الظُّلْمُ في هذا البابِ في موضِعَيْنِ، يأتي الكلامُ عليهِما عندَ قولِهِ تعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣].
هل يجبُ استيعابُ الأصنافِ الثَّمانِيَةِ في كُلِّ زكاةٍ؟:
لا خلافَ عندَ العلماءِ في بقاءِ مصارفِ الزكاةِ للأصنافِ الثمانيةِ بعدَ وفاةِ النبيِّ ﷺ، إلاَّ المؤلَّفةَ قلوبُهُمْ، فقد اختَلَفُوا في بقاءِ سَهْمِهم على قولَيْنِ، كما يأتي بيانُه.
وقد اختَلَفَ العلماءُ في استيعابِ الأصنافِ الثمانيةِ: هل هو واجبٌ في كلِّ مالٍ زكَويٍّ، أو ذلك بحسَبِ الحاجةِ والإمكانِ؟ على قولَيْنِ للفُقَهاءِ:
قالتْ طائفةٌ: إنّ استيعابَ الأصنافِ الثمانيةِ واجبٌ، وهذا قولُ الشافعيِّ.
وقالتْ أُخرى: إنّ الاستيعابَ غيرُ واجبٍ، وإنّه يجوزُ الدَّفْعُ لواحدٍ مِن الأصنافِ الثمانيةِ ما كان أحوَجَ مِن غيرِه، وهذا قولُ أكثرِ السلفِ والفقهاءِ، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ، وبه قال ابنُ عمرَ وحذيفةُ وابنُ عبّاسٍ وأبو العاليةِ وميمونُ بنُ مِهْرانَ وابنُ جُبيرٍ وعطاءٌ والحسنُ، ومَن تأمَّلَ فِعْلَ الصحابةِ، وجَدَ أنّهم لا يَختلِفونَ في جوازِ جَعْلِها في صِنْفٍ واحدٍ، وعدمِ وجوبِ الاستيعابِ.
وقد حكى الإجماعَ العَمَلِيَّ مالكٌ، فقد نقَلَ عنه ابنُ وهبٍ قولَهُ: أدرَكْتُ أهلَ العِلْمِ ومَن أرْضى لا يَختلِفونَ في أنّ القَسْمَ في سُهْمانِ الصَّدقاتِ على الاجتهادِ مِن الوالي[[«أحكام القرآن» للطحاوي (١/٣٧١).]].
والآيةُ إنّما ذكَرَتِ المصارفَ الثمانيةَ لبيانِ مستحِقِّيها، لا لوجوبِ القسمةِ بينَهم مُتساوِيًا أو غيرَ متساوٍ، وذلك لأمورٍ:
منها: أنّ اللهَ ذكَرَ الأصنافَ المستحِقَّةَ للزَّكاةِ، ولو كان الاستيعابُ مقصودًا، لَما أخَّرَ البيانَ فيه، مع العلمِ أنّ استيعابَ جميعِهم مِن الأمورِ الشاقَّةِ التي تحتاجُ إلى كُلْفةٍ وتَحَرٍّ شديدٍ، وهذا يحتاجُ إلى بيانٍ شبيهٍ ببيانِ الأصنافِ الثمانيةِ مِن بينِ بقيَّةِ الأصنافِ المحتاجةِ للمالِ، فليس أصلُ بيانِ الثمانيةِ بأحوَجَ مِن بيانِ وجوبِ استيعابِهم لو كان واجبًا.
ومنـهـا: أنّ النبيَّ ﷺ أخَذَ زكَواتِ كثيرٍ مِن الناسِ، وكذلك خلفاؤُه، ولم يثبُتْ أنّه تَعمَّدَ استيعابَ الأصنافِ الثمانيةِ، ولا نقَلَ ذلك عنه أحدٌ مِن أصحابِهِ صريحًا، ومِثلُ هذا لو كان عمَلًا لَنُقِلَ، فكيف يُقالُ بوجوبِهِ وإثمِ تارِكِه؟!
ومنهـا: أنّ استيعابَ الثمانيةِ غيرُ ممكِنٍ أو شاقٌّ جِدًّا في كثيرٍ مِن الزَّكَواتِ، كمَن تجبُ عليه مِن مالِهِ زكاةٌ شاةٌ أو بقرةٌ، أو يجبُ في نقدَيْهِ مالٌ قليلٌ كدِرْهَمٍ ودِينارٍ، فكيف له قِسْمةُ ذلك على جميعِ الأصنافِ؟! ومثلُ هذا تكلُّفٌ، إذْ لا فَرْقَ في الوجوبِ بينَ كثيرِ الزكاةِ وقليلِها.
ومنها: أنّ وجوبَ استيعابِ الأصنافِ الثمانيةِ يَلزَمُ منه إخراجُ الزكاةِ مِن بلَدِها إلى غيرِها مِن البُلْدانِ، فما كلُّ البُلْدانِ يُوجَدُ فيها قتالٌ في سبيلِ اللهِ، ولا على أطرافِها ثغورٌ يُرابَطُ فيها، وقد قال النبيُّ ﷺ لمعاذٍ: (فَأَعْلِمْهُمْ أنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِن أغْنِيائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرائِهِمْ) [[أخرجه البخاري (١٣٩٥)، ومسلم (١٩).]]، فجعَلَها في الفقراءِ ولم يُفصِّلْ له، وجعَلَها فيهم لا في غيرِهم، وقد لا يُوجَدُ فيهم جميعُ مصارفِ الزكاةِ الثمانيةِ.
ومنهـا: أنّ اللهَ صدَّرَ آيةَ الأصنافِ الثمانيةِ بكَلِمةِ الحصرِ (إنّما)، لبيانِ الحصرِ فيهم، لا الاستيعابِ لجميعِهم، فهي لإخراجِ غيرِهم منهم، لا لِتَساوِيهِم.
ومنهـا: أنّ اللهَ بيَّنَ وجوبَ المساواةِ والعَدْلِ في العطيَّةِ في أمورٍ أخَصَّ، كالنفقةِ بينَ الزَّوْجاتِ، والعَطِيَّةِ بينَ الأولادِ، وقَسْمِ الميراثِ على الوَرَثةِ، وأوجَبَ استيعابَ كلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ، وقَدَّرَ كلَّ ذلك، وليس لأحدٍ أنْ يَخُصَّ واحدًا مِن الوَرَثةِ أو الأولادِ أو الزَّوْجاتِ بعَطيَّةٍ أو هبةٍ مِن المالِ المستحَقِّ للجميعِ، ولو كانتْ زكاةُ المالِ مِن هذا الجنسِ، لَبَيَّنَها اللهُ في كتابِه، أو النبيُّ ﷺ، في قولِهِ أو عمَلِه.
ومنها: أنّ القولَ بالاستيعابِ تعطيلٌ للأحقِّ منهم، فقد يَحتاجُ الناسُ إلى المالِ في الجهادِ في سبيلِ اللهِ، خوفَ دَهْمِ العدوِّ عليهم، والحاجةُ تَستوعِبُ المالَ كلَّه، فلو كان الاستيعابُ واجبًا، لَتَعطَّلَ الجهادُ المتعيِّنُ، ومِثلُ ذلك لو وجَبَ الاستيعابُ وكان الفقراءُ أكثَرَ مِن المساكينِ، أو كانت حاجةُ المُسلِمينَ لفَقْرِهم أشَدَّ مِن حاجةِ الكفّارِ لتأليفِ قلوبِهم، لَلَزِمَ مِن الاستيعابِ تعطيلُ الأصلَحِ والأنفَعِ.
حُكْمُ الاستيعابِ:
ويُستحَبُّ استيعابُ الأصنافِ الثمانيةِ عندَ تساوي الحاجاتِ وتيسُّرِ الوصولِ إليها، وذلك خَشْيةَ تعطُّلِ المصالحِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، فإنّ المُسلِمينَ إنْ صرَفُوا زكاةَ أموالِهم وخَصُّوها في الفُقَراءِ، تَعطَّلَتِ المنافعُ الأُخرى، كحاجةِ أهلِ الرِّقابِ والغارِمينَ والمؤلَّفةِ قلوبُهم، وزَهِدَ الناسُ في الجهادِ وتَرَكُوه، لِعَدَمِ وجودِ تجهيزِ الغُزاةِ وحُماةِ الثُّغورِ.
وكما أنّ المفاسدَ تتحقَّقُ بالقولِ بإيجابِ الاستيعابِ، فإنّها تتحقَّقُ بتعطيلِهِ وبالقولِ بعدَمِ استحبابِ التحرِّي له وقَصْدِه.
والأصنافُ الثمانيةُ التي ذكَرَها اللهُ تعالى تختلِفُ مِن جهةِ الحاجةِ إليها وقيامِها بحسَبِ اختلافِ الزمانِ والمكانِ، والأَولى في الغنيِّ وقاسِمِ المالِ أنْ يقومَ بقِسْمةِ المالِ بحسَبِ مقاديرِ الحاجاتِ، فإنْ كان الفقرُ أشَدَّ، جعَلَ أكثَرَ زكاتِهِ فيه، وإن كان ثغرُ الجهادِ أحوَجَ، جعَلَ أكثَرَ زكاتِهِ فيه، وقسَمَ الباقيَ بحسَبِ الحاجةِ.
وأمّا صحَّةُ الزكاةِ، فتصحُّ بصَرْفِها في موضعٍ واحدٍ منها، ولكنْ كما أنّ الصدقةَ تتَفاضَلُ في نَفْسِها بحسَبِ الحاجةِ في مَصارفِها، فإنّ الزكاةَ كذلك.
إعطاءُ الزكاةِ بالهَوى ومَيْلِ النَّفْسِ:
ولا يَحِلُّ للغنيِّ ولا للإمامِ أنْ يُعْطِيَ الزكاةَ بحسَبِ هوى نفسِهِ المجرَّدِ، بل يجبُ فيها التماسُ قِسْمةِ اللهِ لها، ولو وافَقَتْ هوى النفسِ ومَيْلَها، جاز ذلك، وإنِ استوَتِ الحاجةُ بينَ اثنَيْنِ وأَحَدُهما تَمِيلُ النفسُ إليه مَيْلًا مجرَّدًا، ولو كانتِ البراءةُ تتحقَّقُ بأَحَدِهما، فإنّ الأَولى إعطاءُ مَن لا تَمِيلُ النفسُ بِهَواها إليه، حتّى لا يُجحِفَ الإنسانُ بحقِّ أحدٍ، وتأخُذَ به نفسُهُ إلى الظُّلْمِ وهي لا تشعُرُ.
وصاحبُ الحقِّ يَستحِقُّهُ ولو كَرِهَتْهُ النَّفْسُ، فقد أعطى النبيُّ ﷺ أقوامًا يَكرَهُهُمْ حالَ عَطائِهم ويُحِبُّ غيرَهم، كالأَقْرَعِ بنِ حابسٍ، وعُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ، وغيرِهما، وفي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ سعدٍ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ أعطى رهطًا وسعدٌ فيهم، قال سعدٌ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا هُوَ أعْجَبُهُمْ إلَيَّ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ما لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَواللهِ إنِّي لَأَراهُ مُؤْمِنًا، فَقالَ: (أوْ مُسْلِمًا)، فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي ما أعْلَمُ مِنهُ، فَعُدتُّ لِمَقالَتِي، فَقُلْتُ: ما لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَواللهِ إنِّي لَأَراهُ مُؤْمِنًا، فَقالَ: (أوْ مُسْلِمًا)، ثُمَّ غَلَبَنِي ما أعْلَمُ مِنهُ، فَعُدتُّ لِمَقالَتِي، وعادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قالَ: (يا سَعْدُ، إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وغَيْرُهُ أحَبُّ إلَيَّ مِنهُ، خَشْيَةَ أنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النّارِ)[[أخرجه البخاري (٢٧)، ومسلم (١٥٠).]].
ولا يجوزُ أنْ يَدفَعَ الغنيُّ ولا الإمامُ الزكاةَ ليَكسِبَ بها مَدْحًا لنَفْسِه، ولا أنْ يَدفَعَ بها ذَمًّا عنها، فيُعطِيَ مَن يَحمَدُهُ ويَمنَعَ مَن لا يَذْكُرُهُ، ويُعطِيَ مَن يذُمُّهُ ليُسكِتَهُ، ويُعطِيَ مَن يسكُتُ ليَنطِقَ بمَدْحِهِ، فهذا يحوِّلُ الزكاةَ مِن حقٍّ لِمَن أعْطاه، إلى حقٍّ له يَشتري به هَواه.
مَصْرِفُ الفُقَراءِ والمساكِينِ:
قال تعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ﴾، قدَّمَ اللهُ في هذه الآيةِ الفقيرَ والمسكينَ، لأنّهما أولى بالعَطاءِ، وأشَدُّ في الحاجةِ، وأنّ الفقرَ والمَسْكَنةَ أوسَعُ وقوعًا في الناسِ مِن جميعِ المصارفِ التاليةِ، ولهذا قال طاوسٌ في قولِهِ تعالى: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها﴾: هو الرَّأسُ الأكبرُ، رواهُ عنه ليثٌ، أخرَجَه ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٢٢).]].
وعامَّةُ السَّلفِ: أنّ المُسلِمينَ هم المقصودونَ بهذه الأصنافِ إلاَّ سَهْمَ المؤلَّفةِ قلوبُهم، ورَوى عمرُ بنُ نافعٍ، عن عِكْرِمةَ، أنّ المرادَ بالفُقراءِ: مِن المُسلِمينَ، والمساكينِ: مِن أهلِ الكتابِ[[«تفسير الطبري» (١١/٥١٤).]]، ورَوى ابنُ أبي حاتمٍ في «تفسيرِه»، أنّ الفُقراءَ زَمْنى أهلِ الكتابِ، عن عُمرَ بنِ الخطّابِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨١٧).]]، وهو مُنكَرٌ، يَرويهِ عن عمرَ بنِ الخطابِ: عمرُ بنُ نافعٍ، عن أبي بكرٍ العَبْسيِّ، عن عُمَرَ، ولا يَصِحُّ.
الفَرْقُ بينَ الفقيرِ والمِسْكِينِ:
الفقيرُ شديدُ الحاجةِ، ومُنكَسِرٌ فَقارُهُ لعَجْزِهِ وذُلِّه، والفقيرُ أحوَجُ مِن المسكينِ، في ظاهرِ اللُّغَةِ وظاهرِ الآيةِ وظواهرِ الأدلَّةِ، وقد كان النبيُّ ﷺ يَستعيذُ مِن الفقرِ، ولم يثبُتْ أنّه استعاذَ مِن المَسْكَنةِ، ورُوِيَ أنّه سأَلها، كما يُروى عندَ التِّرمذيِّ، مِن حديثِ أنسٍ[[أخرجه الترمذي (٢٣٥٢).]]، وعندَ ابنِ ماجهْ[[أخرجه ابن ماجه (٤١٢٦).]]، مِن حديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا: (اللَّهُمَّ أحْيِنِي مِسْكِينًا).
ومِن العلماءِ: مَن جعَلَ المَسْكَنةَ أشَدَّ مِن الفقرِ، لقولِهِ تعالى: ﴿أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد: ١٦]، وفيه نظرٌ، لأنّ اللهَ ذكَرَ المَسْكَنةَ، وهو وصفٌ عامٌّ، وزادَ عليه وصفًا آخرَ، وهو قولُهُ: ﴿ذا مَتْرَبَةٍ ﴾، لبَيانِ شِدَّةِ ذلك، فدَلَّ على أنّ وصفَ المَسْكَنةِ وحدَهُ، ليس كافيًا لبيانِ شِدَّةِ الحاجةِ، وغلَبَتِهِ على وصفِ الفقرِ.
والفرقُ بين الفقيرِ والمِسْكِينِ مختلَفٌ فيه، لاختلافِ حدِّ كلِّ واحدٍ منهما في نفسِه، والأظهَرُ: أنّ الفقيرَ الذي لا يَستطيعُ العيشَ بلا معونةِ الناسِ، وأمّا المسكينُ فهو: مَن يستطيعُ العيشَ ولكنْ مع ضرَرٍ في حالِهِ وسُوءٍ في عَيْشِه، والمسكينُ مَن يَجِدُ عمَلًا وحاجةً تسُدُّ بعضَ عَيْشِه، ولكنَّها لا تَكْفِيه، ومِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ﴾ [الكهف: ٧٩].
وفي «الصحيحَيْنِ»، قال ﷺ: (لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلى النّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتانِ، ولَكِنِ المِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولا يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، ولا يَقُومُ فَيَسْأَلَ النّاسَ)[[أخرجه البخاري (١٤٧٩)، ومسلم (١٠٣٩).]].
ومَن نظَرَ في النصوصِ، تحقَّقَ لدَيْهِ أنّ الفقيرَ أسوَأُ حالًا مِن المسكينِ، وأنّ الفقرَ والمَسْكَنةَ مُصطلَحانِ يتَداخَلانِ في كثيرٍ مِن المعنى، وإنْ لم يتَطابَقا، ولهذا قد يدخُلُ أحدُهما في الآخَرِ وينوبُ عنه، وقد يَفترِقانِ وقد يَجتمِعانِ، وقد ذهَبَ جماعةٌ مِن الفقهاءِ إلى المساواةِ بينَهما، كأبي يوسُفَ وابنِ القاسمِ وجماعةٍ مِن أصحابِ الشافعيِّ.
حَدُّ الغَنِيِّ:
وقد اختَلَفَ العلماءُ في حَدِّ الغَنِيِّ الذي يُمنَعُ معه سؤالُهُ الزَّكاةَ وإعطاؤُه لها:
فـمِـنـهـم: مَن جعَلَ له حدًّا معلومًا.
ومِنهم: مَن لم يَجعَلْ له حدًّا يَفصِلُ فيه، وقد ذهَب مالكٌ والشافعيُّ: إلى أنّه لا حدَّ للغنيِّ معلومٌ، وإنّما حالُهُ بحسَبِ وُسْعِهِ وطاقتِه، فإذا اكتَفى بما عِندَهُ ولو كان قليلًا، حَرُمَتْ عليه الزكاةُ، وإنْ لم يَكتَفِ بما عِندَهُ ولو كان كثيرًا، حَلَّتْ له الزكاةُ، وذلك أنّ أحوالَ الناسِ تَختلِفُ، فمنهم: صاحبُ زَوْجاتٍ وعيالٍ كثيرٍ، ومنهم: مَن لا زَوْجةَ له ولا ولَدَ، ومِنهم: مَن هو صحيحٌ مُعافًى، ومِنهم: مَن هو مريضٌ يَحتاجُ لعلاجِ مرَضِهِ أكثَرَ مِن طعامِ غيرِهِ لِنَفْسِهِ وولَدِه، وقد قال الشافعيُّ: «قد يكونُ الرجلُ بالدِّرْهَمِ غنيًّا معَ كَسْبٍ، ولا يُغْنِيهِ الأَلْفُ معَ ضَعْفِهِ في نفسِهِ وكثرةِ عِيالِه»[[«معالم السنن» (٢/٥٧)، و«فتح الباري» لابن حجر (٤/٣٠٨).]].
ومَن قال بأنّ للغَنِيِّ حدًّا معلومًا، اختَلَفُوا في حَدِّه:
فذهَبَتْ طائفةٌ: إلى أنّ حَدَّهُ خمسونَ دِرْهَمًا، فمَن مَلَكَهُ فهو غنيٌّ تحرُمُ عليه الزكاةُ، وبهذا قال الثوريُّ، وابنُ المبارَكِ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وذلك لحديثِ ابنِ مسعودٍ، قال: قيل: يا رسولَ اللهِ، وما الغِنى؟ قال: (خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أوْ قِيمَتُها مِنَ الذَّهَبِ) [[أخرجه أحمد (١/٣٨٨)، وأبو داود (١٦٢٦)، والترمذي (٦٥٠)، والنسائي (٢٥٩٢)، وابن ماجه (١٨٤٠).]]، رواهُ حَكِيمُ بنُ جُبَيْرٍ، عن محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ يَزِيدَ، عن أبيه، عن ابنِ مسعودٍ، به، وحكيمٌ متروكٌ، وللحديثِ وجهٌ آخرُ معلولٌ، وقد أعَلَّ الحديثَ ابنُ مَعِينٍ[[«تاريخ ابن معين ـ رواية الدوري» (٣/٣٤٦) (١٦٧١).]]، والترمذيُّ[[«سنن الترمذي» (٦٥١).]]، والنَّسائيُّ[[«السنن الكبرى» للنسائي (٢٣٨٤).]]، وغيرُهم[[«عون المعبود» (٥/٣١)، و«تحفة الأحوذي» (٣/٢٥٣).]].
وذهَبَتْ طائفةٌ: إلى أنّ حدَّ الغنيِّ مِئَتا دِرْهَمٍ، وهو نِصابُ الزكاةِ الذي تجبُ فيه، وهذا قولُ أهلِ الرأيِ، وعلَّلوا ذلك بأنّ اللهَ أوجَبَ الزكاةَ على الأغنياءِ، وتُرَدُّ في الفقراءِ، فمَن وجَبَتْ عليه الزكاةُ، فليس بغنيٍّ، فكيف تُؤخَذُ الزكاةُ منه ثُمَّ تُرَدُّ إليه؟!
قَوِيُّ البدَنِ وأَخْذُ الزكاةِ:
إذا كان الرجلُ قويَّ البدَنِ صحيحَ الجوارحِ ولم يَتَكَسَّبْ، فهو على حالَتَيْنِ:
الحالةُ الأُولى: أن يكونَ راغبًا في الكَسْبِ باحثًا عنه، فلم يَجِدْ عمَلًا، فهذا يُسمّى المحرومَ والمُحارَفَ، وهو الذي لدَيْهِ قُدْرةٌ ولكنَّه لم يَجِدْ محلًّا يتكسَّبُ به، فهذا تَحِلُّ له الزكاةُ بلا خلافٍ، وقد قال تعالى: ﴿والَّذِينَ فِي أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ ﴾ [المعارج: ٢٤ ـ ٢٥]، والمحرومُ هو المُحارَفُ الذي لا كَسْبَ له، كما قالتْ عائشةُ: «المُحارَفُ الذي لا يَكادُ يتَيسَّرُ له مَكْسَبُه»، رواهُ عنها عُرْوةُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١٠/٣٣١٢).]].
وقال ابنُ عبّاسٍ: «المحرومُ الذي يطلُبُ الدُّنيا وتُدْبِرُ عنه»، رواهُ عنه عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ[[«تفسير الطبري» (٢٣/٢٧٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١٠/٣٣١٢).]].
وبمعنى هذا: قال مجاهِدٌ[[«تفسير الطبري» (٢١/٥١٢).]]، والضَّحّاكُ[[«تفسير الطبري» (٢١/٥١٣).]].
ويُسمِّيهِ الناسُ: العاطِلَ الذي يَبحَثُ عن العمَلِ والتكسُّبِ، ولا يَجِدُهُ.
الحالةُ الثانيةُ: أنْ يكونَ قويًّا لكنَّه تاركٌ للعمَلِ راغبًا عنه، لِكَسَلِهِ ودَعَتِه، فهذا قد اختُلِفَ في إعطائِهِ مِن الزكاةِ على قولَيْنِ:
مِن العلماءِ: مَن قال بعدَمِ جَوازِ إعطائِه منها، وبهذا قال الشافعيُّ وأبو عُبَيْدٍ وإسحاقُ.
ومِنهم: مَن قال بجوازِ ذلك ما لم يَملِكْ مِئَتَيْ دِرْهمٍ، وبهذا قال مالكٌ وأهلُ الرأيِ.
والأظهَرُ: عدمُ جوازِ ذلك، فقد صحَّ في «المسنَدِ» و«السُّننِ»، مِن حديثِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ، قال: أخبَرَني رجُلانِ أنّهما أتَيا النبيَّ ﷺ فِي حَجَّةِ الوَداعِ، وهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلاهُ مِنها، فَرَفَعَ فِينا البَصَرَ وخَفَضَهُ، فَرَآنا جَلْدَيْنِ، فَقالَ: (إنْ شِئْتُما أعْطَيْتُكُما، ولا حَظَّ فِيها لِغَنِيٍّ، ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ)[[أخرجه أحمد (٤/٢٢٤)، وأبو داود (١٦٣٣)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٢٣٩٠).]].
ولظاهرِ قولِه ﷺ: (لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) [[أخرجه أحمد (٢/١٦٤)، وأبو داود (١٦٣٤)، والترمذي (٦٥٢)، مِن حديث عبد الله بن عمرو. وأحمد (٢/٣٨٩)، والنسائي (٢٥٩٧)، وابن ماجه (١٨٣٩)، مِن حديث أبي هريرة.]]، ولأنّ في إعطائِهِ إعانةً له على رُكُونِهِ وكسَلِهِ وتَرْكِهِ التكسُّبَ.
وقولُه تعالى: ﴿والعامِلِينَ عَلَيْها﴾، هم جُباةُ الزَّكاةِ والصّارِفونَ لها على أهلِها، فكلُّ مَن قامَ بجِبايةِ الزَّكاةِ، أو قامَ بصَرْفِها على أهلِها، أو قامَ على حِفْظِها، فهو مِن العامِلينَ عليها.
واتَّفَقَ العلماءُ على أنّه يجوزُ أنْ تُعطى الزكاةُ جميعًا لصِنْفٍ واحدٍ مِن الأصنافِ الثمانيةِ، لكنْ لا يَجوزُ أن تُعطى جميعُها للعامِلينَ عليها حتّى لا يَصِلُ منها شيءٌ لغيرِهم، لأنّ العامِلَ أُعطِيَ لأنّه وسيلةٌ لغيرِه، والباقونَ غايةٌ، فلا تُعطى الوسيلةُ لتَتعطَّلَ الغايةُ.
صُوَرُ العَمَلِ على الزَّكاةِ:
والعملُ على الزكاةِ يكونُ في صورٍ ثلاثٍ:
الصورةُ الأُولـى: الذين يَقومونَ بتتبُّعِ الأغنياءِ وجَلْبِ الزكاةِ منهم إلى بيتِ المالِ.
الصورةُ الثانيةُ: الذين يَقومونَ بحِفْظِها وتخزينِها وحِسابِها عندَ وصولِها إلى بيتِ المالِ، وذلك أنّ للزَّكاةِ مُقامًا بينَ الغنيِّ والفقيرِ تَحتاجُ إلى حفظٍ وجمعٍ وحسابٍ، فمَن قامَ بذلك، فهو مِن العامِلينَ عليها.
الصورةُ الـثـالـثـةُ: الذين يَقومونَ بقِسْمَتِها على الفُقراءِ إمّا بتتبُّعِ أحوالِ الفقراءِ وسَبْرِها حتّى يَصِلَ المالُ على وجْهِهِ إليهم، أو بنَقْلِ المالِ مِن بيتِ المالِ إليهم، أو حِسابِهِ وقِسْمَتِهِ بينَ الفُقَراءِ حتّى يَستوعِبَ الأصنافَ الثمانيةَ، أو يَستوعِبَ صِنفًا منهم، حتّى لا يَبقى منهم ذُو فاقةٍ ويُعطى مَن دُونَهُ، فهؤلاءِ مِن العامِلينَ عليها جميعًا.
مِقْدارُ نصيبِ العامِلِينَ عليها:
وليس للعامِلينَ عليها قَدْرٌ معلومٌ، وإنّما بقَدْرِ سِعايةِ الواحدِ منهم، فإنّ العمَلَ والجُهْدَ يَختلِفُ، فمَن يَقومُ بالجِبايةِ والصَّرْفِ يَختلِفُ عمَّن يقومُ بجِبايةِ المالِ فقطْ، ومَن يقومُونَ بالجبايةِ يَختلِفُونَ بحسَبِ جُهْدِهم وبُعْدِ مَسافاتِهم، وذلك بحسَبِ اجتهادِ الإمامِ، ولا يَرجِعُ ذلك إلى اجتهادِ العامِلِ بنَفْسِه، حتّى لا يَأْخُذَهُ طمَعُ نفسِهِ فيُكثِرَ فيُجحِفَ بحقِّ الفقراءِ.
ولا يَصِحُّ أنْ يُخرِجَ الغنيُّ زكاتَهُ بشَرْطِ ألاَّ يأخُذَ العامِلونَ منها شيئًا، فهذا شرطٌ باطلٌ، لأنّ اللهَ جعَلَ قِسْمةَ المَصارِفِ إليه، لا إلى غيرِه، ثمَّ إنّه بذلك تتعطَّلُ مَصالحُ المُسلِمينَ، ويُروى عندَ أبي داودَ، عن زيادِ بنِ الحارثِ الصُّدائيِّ رضي الله عنه، قال: أتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ فَبايَعْتُهُ، قالَ: فَأَتاهُ رَجُلٌ، فَقالَ: أعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (إنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ ولا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقاتِ، حَتّى حَكَمَ فِيها هُوَ، فَجَزَّأَها ثَمانِيَةَ أجْزاءٍ، فَإنْ كُنْتَ مِن تِلْكَ الأَجْزاءِ، أعْطَيْتُكَ حَقَّكَ)[[أخرجه أبو داود (١٦٣٠).]].
ولا يجوزُ للعاملِ قَبُولُ الهديَّةِ والهِبَةِ مِن جِهتَيْها، مِن جِهَةِ الغنيِّ، ولا مِن جهةِ الفَقيرِ، فتِلك رِشْوةٌ محرَّمةٌ.
وقولُهُ تعالى: ﴿والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾، المرادُ بهم: الكُفّارُ، وأهلُ الشُّرورِ مِن المُسلِمينَ الذين تُستَمالُ قلوبُهم بالمالِ، إمّا لكَسْبِ خيرِهم، أو لدَفْعِ شرِّهم.
إعطاءُ المؤلَّفةِ قلوبُهُمْ بعدَ النَّبِيِّ ﷺ:
وحُكْمُ تأليفِ القلوبِ باقٍ لم يُنسَخْ، ما قامَ سببُه، ودَعَتْ حاجتُه، وقد اختُلِفَ في إعطاءِ المؤلَّفةِ قلوبُهُمْ بعدَ النبيِّ ﷺ:
فمِن السَّلَفِ: مَن قال بأنّهم لا يُعطَوْنَ بعدَهُ، لأنّ الإسلامَ اشتَدَّ وقَوِيَ ولا يَخافُ مِن عدوٍّ، لعِزَّتِهِ وعِزَّةِ أهلِه، واستُدِلَّ لذلك بما جَرى عليه عُمَرُ، وبه قال الشَّعْبيُّ[[«تفسير الطبري» (١١/٥٢٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٢٢).]]، والحسنُ[[«تفسير الطبري» (١١/٥٢٢).]]، وجماعةٌ مِن السَّلَفِ.
والأظهَرُ: بقاءُ سَهْمِ المؤلَّفةِ قلوبُهم ما وُجِدَت العِلَّةُ ودعَتِ الحاجةُ، وبهذا قال أحمدُ، وإنّما منَعَها عمرُ ومَن تَبِعَهُ، لانتفاءِ العِلَّةِ بقُوَّةِ الإسلامِ، وضَعْفِ الكُفْرِ وقِلَّةِ حِيلَةِ أهلِه، فليس أمامَهم إلاَّ الإسلامُ، وليس في قُدْرتِهم الإضرارُ بالإسلامِ وأهلِه، وما فعَلَهُ عمرُ ليس إلغاءً للحُكْمِ ونَسْخًا له، وإنّما رَفْعٌ له لانتفاءِ عِلَّتِه.
وقد أعطى النبيُّ ﷺ أقوامًا بعدَ فتحِ مَكَّةَ وظهورِ القُوَّةِ وسُلْطانِ الإسلامِ والمُسلِمينَ، وذلك لقِيامِ المُوجِبِ في أعيانِ المؤلَّفةِ قلوبُهم.
ولا يثبُتُ عن النبيِّ ﷺ نصٌّ في نسخِ سَهْمِ المؤلَّفةِ قلوبُهم، وغايةُ ما في ذلك عملُ الصحابةِ، وإنّما اختُلِفَ في فَهْمِه، مِنهم: مَن يَرى عمَلَهم عِلْمًا بالنَّسْخِ، ومنهم: مَن يَراهُ رَفْعًا للحُكْمِ، لانتفاءِ العِلَّةِ، والصوابُ: أنّه ليس بنَسْخٍ، وقد قال يونُسُ: سألتُ الزُّهْريَّ عنهم؟ فقال: «لا أعـلَـمُ نسخًـا في ذلك»[[«تفسير القرطبي» (١٠/٢٦٦).]].
أنواعُ المؤلَّفةِ قلوبُهُمْ:
والمؤلَّفةُ قلوبُهم على نوعَيْنِ:
النوعُ الأولُ: كفارٌ يُتألَّفُونَ، لِيُقبِلوا على الإسلامِ، أو يُدفَعَ شرُّهم عنه، وذلك أنّ بعضَ الكفّارِ يَحمِلُ كُرْهًا وحِقْدًا وغِلًّا على الإسلامِ وأهلِه، لكَسْرِ شَوْكَتِه، وذَهابِ هَيْبَتِه، أو لِما أصابَهُ مِن فَقْدِ مالٍ ودمٍ وسُلْطانٍ، والمالُ يُقرِّبُهُ ويُلِينُ قَلْبَه، فيَتأمَّلُ الحقَّ بتجرُّدٍ بعدَ زوالِ ما يَجِدُ، كما أعطى النبيُّ ﷺ صَفْوانَ بنَ أُمَيَّةَ وغيرَهُ.
النوعُ الثاني: مُسلِمونَ، لكنَّهم فُسّاقٌ، أو مُنافِقونَ يُتألَّفونَ، لِيَحسُنَ إسلامُهم، أو يُدفَعَ شرُّهم عنه.
وهؤلاء يُعطَوْنَ ولو كانوا أغنياءَ، لأنّ العِلَّةَ التي أُعطُوا لأَجْلِها ليستِ الفقرَ، بل تأليفَ القلبِ، كعِلَّةِ العمَلِ عليها، فأُعطِيَ حتّى الغنيُّ لهذا المَقصَدِ، وقد قال مَعقِلُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ: سألتُ الزُّهْريَّ عن (المؤلَّفةِ قلوبُهم)، قال: مَن أسلَمَ مِن يهوديٍّ أو نَصْرانيٍّ، قلتُ: وإنْ كان مُوسِرًا؟ قال: وإنْ كان مُوسِرًا[[«تفسير الطبري» (١١/٥٢١)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٢٣).]].
وقد أعطى النبيُّ ﷺ أقوامًا مِن المالِ، تأليفًا لقلوبِهم، ففي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: «بَعَثَ عَلِيٌّ وهُوَ بِاليَمَنِ إلى النَّبِيِّ ﷺ بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِها، فَقَسَمَها بَيْنَ الأَقْرَعِ بْنِ حابِسٍ الحَنْظَلِيِّ ثُمَّ أحَدِ بَنِي مُجاشِعٍ، وبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الفَزارِيِّ وبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاثَةَ العامِرِيِّ ثُمَّ أحَدِ بَنِي كِلابٍ، وبَيْنَ زَيْدِ الخَيْلِ الطّائِيِّ ثُمَّ أحَدِ بَنِي نَبْهانَ، فَتَغَيَّظَتْ قُرَيْشٌ والأَنْصارُ، فَقالُوا: يُعْطِيهِ صَنادِيدَ أهْلِ نَجْدٍ ويَدَعُنا؟! قالَ: (إنَّما أتَأَلَّفُهُمْ)»[[أخرجه البخاري (٧٤٣٢)، ومسلم (١٠٦٤).]].
ولاستمالةِ قلوبِهِمْ مَقْصَدانِ:
المَـقـصَـدُ الأوَّلُ: أن يُستَمالُوا إلى الإسلامِ، فيَقرُبُوا منه، وأنْ يُزالَ ما يَجِدُونَهُ مِن نفورٍ وكُرْهٍ، فإنّ للمالِ أثرًا على أكثرِ القلوبِ تُستَمالُ به، وتُحِبُّ مَن أحسَنَ إليها، ويُزِيلُ النفورَ والكُرْهَ الذي يَجِدُونَهُ على الإسلامِ وأهلِهِ فيَمِيلُونَ إليه، ففي «الصحيحِ»، عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، أنّ صَفْوانَ بنَ أُمَيَّةَ قال: «واللهِ، لَقَدْ أعْطانِي رَسُولُ اللهِ ﷺ ما أعْطانِي، وإنَّهُ لَأَبْغَضُ النّاسِ إلَيَّ، فَما بَرِحَ يُعْطِينِي حَتّى إنَّهُ لَأَحَبُّ النّاسِ إلَيَّ»[[أخرجه مسلم (٢٣١٣).]].
المَقصَدُ الثاني: أنْ يُدفَعَ شرُّهم عن أهلِ الإسلامِ وكَيْدُهم بهِم، فإنْ أخَذُوا مالًا، زالَ ما في قلوبِهم مِن حِقْدٍ وغِلٍّ وكُرْهٍ وحُبٍّ للزوالِ، فإن أُعْطُوا، طَمِعُوا في مِثْلِه، ورَجَوُا العَطِيَّةَ في كلِّ عامٍ، فاندفَعَ شرُّهم، لِما يَرْقُبونَهُ مِن عطاءٍ ورزقٍ.
وقولُه تعالى: ﴿وفِي الرِّقابِ﴾، المرادُ بالرِّقابِ: الأَرِقّاءُ، فلهم نصيبٌ مِن الزَّكاةِ لإعتاقِهم، سواءٌ كان مُكاتَبًا بَقِيَ عليه شيءٌ كثيرٌ أو قليلٌ، أو كان رَقَبةً لم يُعتَقْ منه شيءٌ، فهو داخلٌ في هذه الآيةِ، وهذا قولُ أكثَرِ السَّلَفِ والفُقَهاءِ، كمالِكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ والشافعيِّ.
ورُوِيَ عن مالكٍ في روايةٍ: أنّ المُكاتَبَ يكونُ مِن الغارِمينَ، لا في نصيبِ الرِّقابِ.
والأظهَرُ: عمومُ الآيةِ في الرقيقِ وفي المكاتَبِ، وقد قال اللهُ في حقِّهم: ﴿وآتُوهُمْ مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ﴾ [النور: ٣٣].
وقولُه تعالى: ﴿والغارِمِينَ﴾، المرادُ بالغارمِ: هو مَن عليه دَيْنٌ، كمَنِ اقتَرَضَ لرِزْقِهِ ورِزْقِ عيالِه، ولم يَجِدْ وفاءً، أو احترَقَتْ دارُهُ أو تجارتُه، أو ذهَبَ السَّيْلُ بزَرْعِهِ وماشيتِه، وقد قضى عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ دَيْنَ القاسِمِ بنِ مُخيمِرةَ وهو تِسْعونَ دينارًا، وقال: أنتَ مِن الغارِمينَ، وأمَرَ له بخادمٍ ومَسْكَنٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٦/١٨٢٤).]].
الفَرْقُ بينَ دَيْنِ الحيِّ ودَيْنِ الميِّتِ:
ومَن عليه دَيْنٌ: إمّا أن يكونَ حيًّا، وإمّا أن يكونَ ميتًا، فإنْ كان ميتًا، فقد اختَلَفَ العلماءُ في إعطائِهِ مِن الزكاةِ على قولَيْنِ:
القولُ الأولُ: قالوا بالمنعِ، وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ، خلافًا للمالكيَّةِ، على أنّه لا تُدفَعُ الزكاةُ لقَضاءِ دَيْنِه، وذلك أنّ الغارِمَ هو الذي يَستحِقُّ الزكاةَ، وهو مَيِّتٌ، وإذا أُعطِيَتْ غريمَهُ، وهو الدّائِنُ، صار الدفعُ إلى الغريمِ لا إلى الغارمِ، وقد قال أحمدُ بنُ حنبلٍ: «الميِّتُ لا يكونُ غارِمًا، قيل له: أيُعْطى أهلُهُ؟ قال: إنْ كانتْ على أهلِه، فنعَمْ»[[«المغني» لابن قدامة (٤/١٢٦).]].
ولم يثبُتْ عن النبيِّ ﷺ أنّه دفَعَ الزكاةَ لدَيْنِ ميِّتٍ، ولا عن خلفائِهِ كذلك، وكان النبيُّ يُؤتى بالميتِ ويَسْأَلُ عن دَيْنِه، ولا يطلُبُ له وفاءً، وإنّما كان يترُكُ الصلاةَ عليه أوَّلَ الأمرِ، والمَنافِعُ بقضاءِ دَيْنِ الحيِّ أولى مِن دفعِهِ عن دَيْنِ الميتِ.
وإفراغُ ذِمَمِ الأمواتِ مِن الحقوقِ يعطِّلُ مَصالِحَ الأحياءِ، ويُضعِفُ حقَّهم مِن الزكاةِ، لِكَثْرةِ الحقوقِ التي يموتُ أصحابُها وهي عليهم.
القولُ الثاني: وهو قولُ المالكيَّةِ، أنّه تُدفَعُ إليه، ورَجَّحَهُ ابنُ تيميَّةَ.
ولا خلافَ أنّ دَيْنَ الحيِّ عندَ التزاحُمِ أولى بالقضاءِ مِن الزكاةِ مِن دَيْنِ الميِّتِ.
وأمّا إنْ كان حيًّا، فهو مِن أهلِ الزكاةِ بالاتِّفاقِ.
والغارِمُ الذي احتاجَ للمالِ بسبَبِ غُرْمِهِ على نوعَيْنِ:
الـنـوعُ الأولُ: غارِمٌ لحظِّ غيرِه، وذلك لأجلِ إصلاحِ ذاتِ البَيْنِ، كمَن يُصلِحُ بينَ رجُلَيْنِ أو جماعتَينِ، ويَدفَعُهما عن قتالٍ بالصُّلْحِ بينَهما على مالٍ، فيتَحمَّلُهُ بنفسِهِ لِحَقْنِ الدَّمِ ودفعِ النِّزاعِ، فهذا يَستحِقُّ الدفعَ له مِن الزكاةِ، ويَحِلُّ له السؤالُ، كما ثبَت في مسلمٍ، مِن حديثِ قَبِيصَةَ بنِ مُخارِقٍ الهلاليِّ، قال: تَحَمَّلْتُ حَمالَةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ أسْأَلُهُ فِيها، فَقالَ: (أقِمْ حَتّى تَأْتِيَنا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِها)، قالَ: ثُمَّ قالَ: (يا قَبِيصَةُ، إنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إلاَّ لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتّى يُصِيبَها، ثُمَّ يُمْسِكُ، ورَجُلٍ أصابَتْهُ جائِحَةٌ اجْتاحَتْ مالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ ـ أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ ـ ورَجُلٍ أصابَتْهُ فاقَةٌ حَتّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِن ذَوِي الحِجا مِن قَوْمِهِ: لَقَدْ أصابَتْ فُلانًا فاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ ـ أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ ـ فَما سِواهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ يا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُها صاحِبُها سُحْتًا)[[أخرجه مسلم (١٠٤٤).]].
النوعُ الثاني: غارِمٌ لحظِّ نفسِه، وهو الذي غَرِمَ مالًا استَدانَهُ لتجارةٍ أو لِنَفَقةِ عيالِهِ وزَوْجِه، ولم يَجِدْ سِدادًا، فإنّه يُعطى مِن الزكاةِ بلا خلافٍ.
والأَولى: ألاَّ يُعانَ مَن اعتادَ السَّرَفَ بالاستدانةِ بلا حاجةٍ، ممَّن يأخُذُ أموالَ الناسِ ولا يُبالي، حتّى لا يكونَ ذلك عونًا له على التساهُلِ في ذلك، وقد قال أبو جعفرٍ الباقِرُ محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحُسَيْنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ في الغارِمِ: «هو المُستَدينُ في غيرِ سَرَفٍ»[[«تفسير الطبري» (١١/٥٢٦).]].
وبنَحْوِه صحَّ عن مجاهِدٍ[[«تفسير الطبري» (١١/٥٢٧).]]، وقتادةَ[[«تفسير الطبري» (١١/٥٢٦).]]، قالا: «قومٌ ركِبَتْهمُ الدُّيونُ في غيرِ فسادٍ ولا تبذيرٍ».
وقولُه تعالى: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، المرادُ به: الجهادُ في سبيلِ اللهِ، وهو غَزْوُ الكفّارِ الأصليِّين والبُغاةِ والطَّوائفِ المُمتنِعةِ، وكلُّ قتالٍ في سبيلِ اللهِ فهو داخلٌ في هذه الآيةِ، وهذا قولُ السلفِ كافَّةً، ويُعطى الغازي ولو كان غنيًّا في قولِ عامَّةِ السَّلَفِ وأكثرِ الفقهاءِ، خلافًا لأهلِ الرَّأْيِ، فلم يُجِيزُوا صَرْفَها للغازي إلاَّ المُنقطِعَ، وفيه نظَرٌ، فالمنقطِعُ هو سهمٌ لابنِ السبيلِ، لا سهمُ سبيلِ اللهِ، وقد فرَّقَ اللهُ بينَهما.
ورُوِيَ عن بعضِ السَّلَفِ جعلُ الحجِّ والعمرةِ مِن مصارفِ الزَّكاةِ، يُروى عن ابنِ عبّاسٍ، علَّقَهُ البخاريُّ عنه تمريضًا[[«صحيح البخاري» (٢/١٢٢).]]، ونُسِبَ إلى ابنِ عُمرَ:
والمعروفُ عن ابنِ عُمرَ: أنّه جعَلَ إنفاقَ الوصيَّةِ المعيَّنةِ في سبيلِ اللهِ في الحجِّ والجهادِ، وليس ذلك في الزكاةِ، فقد روى ابنُ عَوْنٍ، عن ابنِ سيرينَ، عنه، أنّه سُئِلَ عن امرأةٍ أوْصَتْ بثَلاثينَ دِرْهَمًا في سبيلِ اللهِ: أتُجعَلُ في الحجِّ؟ فقال: أما إنّهُ مِن سُبُلِ اللهِ، رواهُ أبو عُبَيْدٍ في «الأموالِ»، وقال: «وليس الناسُ على هذا، ولا أعلَمُ أحدًا أفتى به، أنْ تُصرَفَ الزكاةُ إلى الحجِّ»[[أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (١٩٧٧).]].
ولعلَّ ما رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ مُرادُهُ: النفقةُ المطلَقةُ التي يُرادُ بها أعمالُ البِرِّ عامَّةً، فقولُ المُوصِي: «في سبيلِ اللهِ» يكثُرُ استعمالُهُ في قصدِ أعمالِ البِرِّ عامَّةً، لا أنّه قصَدَ مصارفَ الزكاةِ، لأنّ إطلاقَ كلمةِ ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في سياقِ الزكاةِ يَختلِفُ عن إطلاقِها في سياقٍ غيرِه، ويؤيِّدُ ذلك ويُؤكِّدُهُ: أنّ ابنَ عُمرَ جعَل «في سبيلِ اللهِ» غيرَ الحجِّ مِن أعمالِ البِرِّ، كما رواهُ أبو نُعَيْمٍ في «الحِلْيةِ»، مِن حديثِ ابنِ مهديٍّ، قال: حدَّثَنا مُسْلِمُ بنُ عَقِيلٍ، عن أبيه، قال: «كنّا عندَ ابنِ عُمَرَ عندَ المسجِدِ الحرامِ فسأَلَتْهُ امرأةٌ، فقالَتْ: إنّ أبا هذا أوصى ببَعِيرٍ في سبيلِ اللهِ، فقال ابنُ عمرَ: إنّ سُبُلَ اللهِ كثيرةٌ، مِن سبيلِ اللهِ حَجُّ البيتِ، ومِن سبيلِ اللهِ صِلةُ الرَّحِمِ، ومِن سبيلِ اللهِ قومٌ مِن المُسلِمينَ يُقاتِلونَ قومًا مِن المشرِكينَ ليس لهم مَركَبٌ»[[«حلية الأولياء» (٩/٥٤).]].
وابنُ عمرَ أرادَ المعنى العامَّ في النَّفَقةِ، لا المعنى الخاصَّ في الزكاةِ، ولو كان يُرِيدُ الزكاةَ، لكان فيه على هذه الرِّوايةِ غيرُ الحجِّ، كصِلَةِ الرَّحِمِ وغيرِها مِن أعمالِ البِرِّ، كعِمارةِ المساجدِ، وسُقْيا الناسِ ولو مِن غيرِ حاجةٍ، وهذا لا يقولون به.
والزَّكاةُ لا يجوزُ وضعُها في جميعِ الأرحامِ، يتَّفِقُ العلماءُ على منعِ بعضٍ، ويختلِفونَ في بعضٍ، ويتَّفقونَ في إعطاءِ بعضٍ، وإنّما أجابَ ابنُ عمرَ السائلَ، لأنّ الوصيَّةَ لم تتمَحَّضْ في قصدِ الغَزْوِ مِن قولِه: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، ومذهبُهُ في مِثْلِ هذه الحالِ: الأخذُ بالعمومِ، لأنّ المالَ ليس بزكاةٍ، كما ثبَتَ أنّ أنسَ بنَ سِيرِينَ قال: «قلتُ لعبدِ اللهِ بنِ عُمرَ: إنّه أُرسِلَ إلَيَّ بدَراهِمَ أجْعَلُها في سَبِيلِ اللهِ، وإنّ مِن الحاجِّ مَن بَيْنَ مُنقطَعٍ به وبَيْنَ مَن قد ذهَبَتْ نفَقتُهُ، أفأجعَلُها فيهم؟ قال: نَعَمِ، اجعَلْها فيهم، فإنّه في سبيلِ اللهِ، قال: قلتُ: إنِّي أخافُ أن يكونَ صاحبي إنّما أرادَ المُجاهِدينَ؟ قال: اجعَلْها فيهم، فإنّهم في سبيلِ اللهِ، قال: قلتُ: إنِّي أخافُ اللهَ أنْ أُخالِفَ ما أُمِرْتُ به، قال: فغَضِبَ، وقال: ويحَكَ! أوَلَيْسَ بسَبِيلِ اللهِ؟!»، رواهُ البيهقيُّ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٦/٢٧٤).]].
ومالكٌ أعلَمُ الناسِ بالمَرْوِيِّ عن ابنِ عُمرَ، وقد قال: «سُبُلُ اللهِ كثيرةٌ»[[«أحكام القرآن» لابن العربي (٢/٥٣٣).]]، ولم يكُنْ يَجعَلُ الحجَّ منه.
وقد قال أبو بكرِ بنُ العربيِّ: «لا أعلَمُ خِلافًا في أنّ المرادَ بسَبيلِ اللهِ هاهُنا الغزوُ»[[السابق نفسه.]].
وأمّا المَرْويُّ عنِ ابنِ عبّاسٍ، فقد رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ وغيرُهُ، مِن حديثِ حَسّانَ، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهما ـ أنّه كان لا يَرى بأسًا أنْ يُعطِيَ الرَّجُلُ مِن زَكاتِهِ في الحجِّ، وأنْ يُعتِقَ النَّسَمَةَ مِنها[[أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠٤٢٤).]].
وذِكْرُ البخاريِّ له بصيغةِ التمريضِ يَحتمِلُ أنّه لأَجْلِ مَتْنِه، أو إسنادِهِ، أو كِلَيْهِما، وهو الأظهَرُ، لأنّ هذا تفرَّدَ به حسّانُ بنُ أبي الأشرَسِ، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عبّاسٍ، وحسّانُ كوفيٌّ ليس بمعروفٍ بالروايةِ عن مجاهِدٍ، ولا يَرويهِ أصحابُ مجاهدٍ ولا ابنِ عبّاسٍ، والثابتُ روايةُ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «أعْتِقْ مِن زَكاتِك»[[أخرجه ابن زنجويه في «الأموال» (٢٢٠١).]]، وليس فيه ذِكْرُ الحجِّ.
إدخالُ أعمالِ البِرِّ في مَصْرِفِ: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾:
وقد اختُلِفَ في إدخالِ سائرِ أعمالِ البِرِّ في مَصْرِفِ: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، كبِناءِ المَساجِدِ، وكِتابةِ المَصاحِفِ وكُتُبِ العِلْمِ وطِباعَتِها، وتشيِيدِ الجسورِ والطُّرُقِ والمستشفَياتِ، والذي عليه عمَلُ عامَّةِ السَّلَفِ عدَمُ دخولِها، وقد حكى بعضُهم الإجماعَ على ذلك، كالوزيرِ والرَّمْليِّ، وذلك لأمورٍ:
مِـنـهـا: أنّ التوسُّعَ بإدخالِ جميعِ أعمالِ البِرِّ، يُلغِي المعنى المقصودَ مِن الحصرِ في أوَّلِ الآيةِ: ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ﴾ الآيةَ،، فلو كانتْ أعمالُ البِرِّ جميعًا مِن مصارفِ الزكاةِ، فلا معنى للحَصْرِ في الآيةِ، ولَذَكَرَ أنّها في سبيلِ اللهِ، ليُفهَمَ الإطلاقُ والعمومُ، وكَفى ذلك.
ومـنـهـا: أنّ إدخالَ جميعِ أعمالِ البِرِّ في مصارفِ الزكاةِ لم يَكُنْ مِن عمَلِ النبيِّ ﷺ، ولا خلفائِه، مع كثرةِ الحاجةِ إلى ذلك، فإنّ أعمالَ البِرِّ أوسَعُ مِن المصارِفِ الثَّمانِيَةِ، كبِناءِ المساجدِ والمستشفَياتِ، وعِمارةِ الجُسُورِ والطُّرُقِ وتنظيفِها.
ومنها: أنّ إدخالَ جميعِ أعمالِ البِرِّ في مصارِفِ الزكاةِ يَجعَلُ مصارِفَها كمَصارِفِ سائرِ الصَّدَقاتِ والنَّفَقاتِ والتبرُّعاتِ، والزكاةُ أشدُّ وآكَدُ وأحوَطُ، ويُجمِعُ السَّلَفُ على الاحتياطِ في الزكاةِ ما لا يُحتاطُ في غيرِها.
والتحقيقُ في صَرْفِ الزكاةِ في أعمالِ البِرِّ غيرِ الأصنافِ الثمانيةِ: أن يُقالَ: إنّ أعمالَ البِرِّ على نوعَيْنِ:
الـنـوعُ الأولُ: أعمالُ بِرٍّ تَجِدُ مَن يقومُ عليها مِن أهلِ الغِنى ومِن بيتِ المالِ، سواءٌ أكانَتِ الحاجةُ إليها ضروريَّةً أم غيرَ ضروريَّةٍ، فلا يَجوزُ حينئذٍ صرفُ الزكاةِ عليها.
النوعُ الثاني: أعمالُ بِرٍّ لا تَجِدُ مَن يقومُ عليها مِن أهلِ الغِنى واليَسارِ، وليس في بيتِ المالِ قُدْرةٌ على ذلك، فإن كانتْ أعمالَ بِرٍّ عامَّةً ضروريَّةً، بتعطُّلِها تتعطَّلُ مصالِحُ شرعيَّةٌ واجبةٌ، ومصالحُ دنيويَّةٌ ضروريَّةٌ، ولا يُوجَدُ إمامٌ يَستنفِقُ أغنياءَ المُسلِمينَ على ذلك ويقومُ بها، كخُلُوِّ البلَدِ مِن مسجدٍ، وخلوِّ البلَدِ مِن مُستشفًى يتَطبَّبونَ فيه، والناسُ يَمرَضُونَ ولا يَجِدونَ مَن يعمِّرُ مُستَشْفاهم ولا مَن يُطبِّبُهم، أو كان البلَدُ على نَهَرٍ يَفصِلُهُ، ومَصالِحُ الناسِ متعلِّقةٌ، فلا يَتمكَّنونَ مِن صِلَةِ أرحامِهم ونَقْلِ أموالِهم إلاَّ ببِناءِ الجُسُورِ، ولا يُوجَدُ مِن مالِ الأغنياءِ ما يُنفَقُ على ذلك، ولا في بيتِ المالِ كفايةٌ، ولا حاكمٌ يتولّى شأنَ ذلك الأمرِ.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا حرَجَ مِن سدِّ ذلك مِن الزكاةِ بقَدْرِه، لأنّ تلك الحاجةَ قامَتْ مَقامَ المصارِفِ الثمانيةِ، فإنّ اللهَ إنّما جعَل ابنَ السبيلِ مِن مصارِفِ الزَّكاةِ ولو كان غنيًّا في بَلَدِه، لانقطاعِ قُدْرَتِه، فمِثْلُهُ المريضُ الذي لا يَجِدُ طبيبًا، وعابرُ النَّهْرِ ذو المصلَحةِ الذي لا يَجِدُ جِسْرًا يعبُرُ عليه، ولا مِن مالِ الأغنياءِ ما يسُدُّ حاجتَهُ تلك، فإنّه يجوزُ صرفُ الزكاةِ عليها، والحالةُ تلك.
وأمّا ما نُقِلَ عَن أنَسٍ والحسَنِ البَصْريِّ في أنّ ما يُؤخَذُ على الجُسُورِ والطُّرُقاتِ أنّه صَدَقةٌ مِن الصَّدَقاتِ، فمُرادُهم: ما يأخُذُهُ الأمراءُ والسَّلاطِينُ الظَّلَمَةُ مِن أموالِ الأغنياءِ، فيضَعُونَهُ في الجُسُورِ والطُّرُقاتِ: أنّه يُجزِئُ عن زكاةِ أهلِ المالِ، ولا يَجِبُ عليهم أن يُخرِجوا الزَّكاةَ مرَّةً أُخرى، لأنّ الخطأَ يَلحَقُ صارفَ الزكاةِ لا مؤدِّيَها، وقد روى عبدُ العزيزِ بنُ صُهَيْبٍ، عن أنَسٍ والحسَنِ، قالا: «ما أعطيتَ في الجُسُورِ والطُّرُقِ، فهي صدَقةٌ ماضيةٌ»، رواهُ أبو عُبَيْدٍ[[«الأموال» لأبي عبيد (ص٦٨٥).]].
روى هذا الحديثَ عن عبدِ العزيزِ بنِ صُهَيْبٍ: إسماعيلُ، وقال: يَعني: أنّها تُجزِئُ مِن الزَّكاةِ، ولهذا صحَّ عن الحسَنِ قولُهُ: «ضَعْها مَواضِعَها، وأَخْفِها»[[أخرجه أبو عبيد في «الأموال» (١٨١٤)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (١٠٢٠٨).]].
يَعني: أنّهم لم يضَعُوها حيثُ أمَرَ اللهُ.
الحِكْمةُ مِن تأخيرِ مَصْرِفِ الجِهادِ في الذِّكْرِ:
وقد تأخَّرَ ذِكرُ مَصْرِفِ الجِهادِ في الآيةِ معَ عِظَمِ مَنزِلَتِهِ وفضلِهِ على العامَّةِ والخاصَّةِ، وذلك لِجُمْلةٍ مِن الحِكَمِ والأسبابِ ـ واللهُ أعلَمُ ـ:
منها: أنّ المَصارِفَ السابقةَ للجِهادِ: بها يتقوّى داخِلةُ الإسلامِ، وبالجهادِ يتقوّى خارِجُهُ ويتحصَّنُ مِن داخِلِه، وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ تقويةَ الأمَّةِ يبدَأُ مِن داخِلِها، ثمَّ يكونُ مِن خارجِها، فإنّ الدولةَ الضعيفةَ، التي تُقاتِلُ عن ضَعْفٍ، وتتمدَّدُ على وهنٍ ـ فتلك تتَّسِعُ رُقْعَتُها مِن خارجِها، وتتَهاوى مِن داخِلِها، والواجبُ أنْ تُغلَّبَ قوَّتُها مِن داخِلِها، ثمَّ تتدرَّجَ بتوسُّعِها مِن خارجِها، وبهذا سار النبيُّ ﷺ وخلفاؤُه، وذلك حينَما سَدُّوا حاجةَ الفقيرِ والمِسْكِينِ، وأقامُوا على المالِ عمّالًا يَحفَظونَهُ ويُديرونَه، وأَمِنوا أهلَ الشرِّ مِن داخلِ الإسلامِ وأطرافِهِ بتأليفِ قلوبِهم، حتّى لا يتَربَّصوا بالمُسلِمينَ.
ومنهـا: أنّ المَصارِفَ السابقةَ أوسَعُ حاجةً مِن مَصرِفِ الجهادِ، فالفُقراءُ والمساكينُ والغارِمونَ والرِّقابُ أكثَرُ في الأمَّةِ مِن الغُزاةِ، فقَدَّمَ اللهُ الحاجةَ الأوسَعَ على الحاجةِ الأضيَقِ، وقد قال طاوُسٌ في سَهْمِ الفقراءِ والمساكينِ والعامِلينَ عليها: «هو الرَّأْسُ الأكبَرُ»[[سبق تخريجه.]].
ومـنـها: أنّ حِمايةَ الثُّغُورِ، وكَفالةَ الغُزاةِ: شأنٌ خاصٌّ بالإمامِ غالبًا، فيَجِبُ عليه رعايتُها والاستنفاقُ لها، وأمّا بقيَّةُ المصارِفِ، فهي شأنٌ عامٌّ، فالغنيُّ يجِدُ الفقيرَ والمِسْكِينَ والغارِمَ والرَّقَبةَ في قَرابتِه ورَحِمِه وجيرانِه، ولا يَجِدُ أكثرُ الأغنياءِ غازيًا يَكفُلُونَهُ.
وقولُه تعالى: ﴿وابْنِ السَّبِيلِ﴾ المرادُ بابنِ السَّبيلِ: هو العابِرُ والمُسافِرُ الذي يَنقطِعُ زادُهُ، ولو كان غنيًّا في بلَدِهِ، فإنّه يُعطى مِن الزكاةِ ما يُبلِّغُهُ إلى أهلِه، وهذا يَختلِفُ بحسَبِ حالِهِ ومكانِ انقطاعِه، ويدخُلُ في هذا الأسيرُ الذي حُبِسَ عن أهلِهِ في بَلَدِ كُفرٍ، فيُعطى ما يَفُكُّ قَيْدَهُ ليخرُجَ إلى أهلِه.
{"ayah":"۞ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلۡفُقَرَاۤءِ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡعَـٰمِلِینَ عَلَیۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَـٰرِمِینَ وَفِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۖ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق