الباحث القرآني

(p-٣١٧٩)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٦٠ ] ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم وفي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ والعامِلِينَ عَلَيْها والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم وفي الرِّقابِ والغارِمِينَ وفي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى لَمْزَهم في الصَّدَقاتِ تَأثَّرَهُ بِبَيانِ حَقِّيَّةِ ما فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ القِسْمَةِ، إذْ لَمْ يَتَجاوَزْ فِيها مَصارِفَها المَشْرُوعَةَ لَهُ، وهو عَيْنُ العَدْلِ، وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى شَرَعَ قَسْمَها لِهَؤُلاءِ، ولَمْ يَكِلْهُ إلى أحَدٍ غَيْرَهُ، ولَمْ يَأْخُذْ ﷺ مِنها لِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَفِيمَ اللَّمْزُ لَقاسِمِها، صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ رَوى البُخارِيُّ عَنْ مُعاوِيَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسِمٌ، واللَّهُ يُعْطِي»» . ورَوى أبُو داوُدَ عَنْ زِيادِ بْنِ الحارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَبايَعْتُهُ، فَأتى رَجُلٌ فَقالَ: أعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقالَ لَهُ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ ولا غَيْرِهِ في الصَّدَقاتِ، حَتّى حَكَمَ فِيها هو، فَجَزَّأها ثَمانِيَةَ أجْزاءٍ، فَإنْ كُنْتَ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ أعْطَيْتُكَ حَقَّكَ»» . فالآيَةُ رَدٌّ لِمَقالَةِ أُولَئِكَ اللَّمَزَةِ، وحَسْمٌ لِأطْماعِهِمْ، بِبَيانِ أنَّهم بِمَعْزِلٍ مِنَ الِاسْتِحْقاقِ. وإعْلامٌ بِمَن إعْطاؤُهم عَدْلٌ، ومَنعُهم ظُلْمٌ. (p-٣١٨٠)والفُقَراءُ، جَمْعُ فَقِيرٍ، فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، يُقالُ فَقِرَ يَفْقَرُ مِن بابِ تَعِبَ، إذا قَلَّ مالُهُ. والمَساكِينُ: جَمْعُ مِسْكِينٍ، مِن (سَكَنَ سُكُونًا)، ذَهَبَتْ حَرَكَتُهُ، لِسُكُونِهِ إلى النّاسِ، وهو بِفَتْحِ المِيمِ في لُغَةِ بَنِي أسَدٍ، وبِكَسْرِها عِنْدَ غَيْرِهِمْ. قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: المِسْكِينُ: الَّذِي لا شَيْءَ لَهُ، والفَقِيرُ: الَّذِي لَهُ بُلْغَةٌ مِنَ العَيْشِ. وكَذَلِكَ قالَ يُونُسُ، وجُعِلَ الفَقِيرُ أحْسَنَ حالًا مِنَ المِسْكِينِ. قالَ: وسَألْتُ أعْرابِيًّا: أفَقِيرٌ أنْتَ ؟ فَقالَ: لا، واللَّهِ بَلْ مِسْكِينٌ، وقالَ الأصْمَعِيُّ: المِسْكِينُ أحْسَنُ حالًا مِنَ الفَقِيرِ، وهو الوَجْهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ﴾ [الكهف: ٧٩] وكانَتْ تُساوِي جُمْلَةً، وقالَ في حَقِّ الفُقَراءِ: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجاهِلُ أغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ [البقرة: ٢٧٣] وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: المِسْكِينُ هو الفَقِيرُ، وهو الَّذِي لا شَيْءَ لَهُ، فَجَعَلَهُما سَواءً. كَذا في (" المِصْباحِ ") . قالَ البَدْرُ القَرافِيُّ: وإذا اجْتَمَعا افْتَرَقا، كَما إذا أُوصِيَ لِلْفُقَراءِ والمَساكِينِ، فَلا بُدَّ مِنَ الصَّرْفِ لِلنَّوْعَيْنِ، وإنِ افْتَرَقا اجْتَمَعا، كَما إذا أُوصِيَ لِأحَدِ النَّوْعَيْنِ، جازَ الصَّرْفُ لِلْآخَرِ. قالَ المَهايِمِيُّ: ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى مَن يَحْتاجُ إلَيْهِمُ المُحْتاجُونَ إلى الصَّدَقاتِ، فَقالَ: ﴿والعامِلِينَ عَلَيْها﴾ أيِ: السّاعِينَ في تَحْصِيلِها: القابِضُ والوازِنُ والكَيّالُ والكاتِبُ، ويُعْطُونَ أُجُورَهم مِنها. ثُمَّ ذَكَرَ مَن يَحْتاجُ إلَيْهِمُ الإمامُ فَقالَ: ﴿والمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ وهم قَوْمٌ ضَعُفَتْ نِيَّتُهم في الإسْلامِ، فَيَحْتاجُ الإمامُ إلى تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ بِالعَطاءِ، تَقْوِيَةً لِإسْلامِهِمْ، لِئَلّا يَسْرِيَ ضَعْفُهم إلى غَيْرِهِمْ، أوْ أشْرافٌ يُتَرَقَّبُ بِإعْطائِهِمْ إسْلامُ نُظَرائِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى مَن يُعانَ بِها في دَفْعِ الرِّقِّ بِقَوْلِهِ: ﴿وفِي الرِّقابِ﴾ أيْ: ولِلْإعانَةِ في فَكِّ الرِّقابِ، فَيُعْطِي المُكاتَبُونَ مِنها ما يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلى (p-٣١٨١)أداءِ نُجُومِ الكِتابَةِ، وإنْ كانُوا كاسِبِينَ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ واللَّيْثِ، أوْ: ولِلصَّرْفِ في عِتْقِ الرِّقابِ، بِأنْ يُبْتاعَ مِنها الرِّقابُ فَتُعْتَقُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: لا بَأْسَ أنْ تُعْتَقَ الرَّقَبَةُ مِنَ الزَّكاةِ، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ وأحْمَدَ وإسْحاقَ. ولا يَخْفى أنَّ (الرِّقابَ) يَعُمُّ الوَجْهَيْنِ، وقَدْ ورَدَ في ثَوابِ الإعْتاقِ وفَكِّ الرَّقَبَةِ أحادِيثُ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى مَن تُفَكُّ ذِمَّتُهُ في الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ: ﴿والغارِمِينَ﴾ وهُمُ الَّذِينَ رَكِبَتْهُمُ الدُّيُونُ لِأنْفُسِهِمْ في غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، ولَمْ يَجِدُوا وفاءً، أوْ لِإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ ولَوْ أغْنِياءَ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى الإعانَةَ عَلى الجِهادِ بِقَوْلِهِ: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فَيُصْرَفُ عَلى المُتَطَوِّعَةِ في الجِهادِ، ويُشْتَرى لَهُمُ الكُراعُ والسِّلاحُ. قالَ الرّازِيُّ: لا يُوجِبُ قَوْلُهُ: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ القَصْرَ عَلى الغُزاةِ، ولِذا نَقَلَ القَفّالُ في (" تَفْسِيرِهِ ") عَنْ بَعْضِ الفُقَهاءِ جَوازَ صَرْفِ الصَّدَقاتِ إلى جَمِيعِ وُجُوهِ الخَيْرِ مِن تَكْفِينِ المَوْتى، وبِناءِ الحُصُونِ، وعِمارَةِ المَساجِدِ، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عامٌّ في الكُلِّ. انْتَهى. ولِذا ذَهَبَ الحَسَنُ وأحْمَدُ وإسْحاقُ إلى أنَّ الحَجَّ مِن: (سَبِيلِ اللَّهِ) فَيُصْرَفُ لِلْحُجّاجِ مِنهُ. قالَ في (الإقْناعِ) و(شَرْحِهِ): والحَجُّ مِن (سَبِيلِ اللَّهِ) نَصًّا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ، لِما رَوى أبُو داوُدَ، «أنَّ رَجُلًا جَعَلَ ناقَةً في سَبِيلِ اللَّهِ، فَأرادَتِ امْرَأتُهُ الحَجَّ، فَقالَ لَها النَّبِيُّ ﷺ: ارْكَبِيها، فَإنَّ الحَجَّ مِن (سَبِيلِ اللَّهِ)»، فَيَأْخُذُ إنْ كانَ فَقِيرًا مِنَ الزَّكاةِ ما يُؤَدِّي بِهِ فَرْضَ حَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ، أوْ يَسْتَعِينُ بِهِ فِيهِ، وكَذا في نافِلَتِهِما، لِأنَّ كُلًّا مِن (سَبِيلِ اللَّهِ) . انْتَهى. قالَ ابْنُ الأثِيرِ: و(سَبِيلُ اللَّهِ) عامٌّ، يَقَعُ عَلى كُلِّ عَمَلٍ خالِصٍ سُلِكَ بِهِ طَرِيقُ التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، بِأداءِ الفَرائِضِ والنَّوافِلِ، وأنْواعِ التَّطَوُّعاتِ، وإذا أُطْلِقَ فَهو في الغالِبِ واقِعٌ عَلى الجِهادِ، حَتّى صارَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ كَأنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ. انْتَهى. وقالَ في (" التّاجِ "): كُلُّ سَبِيلٍ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وهو بِرٌّ، داخِلٌ في سَبِيلِ اللَّهِ. (p-٣١٨٢)ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى الإعانَةَ لِأبْناءِ الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ: ﴿وابْنِ السَّبِيلِ﴾ فَيُعْطِي المُجْتازَ في بَلَدٍ ما يَسْتَعِينُ بِهِ عَلى بُلُوغِهِ لِبَلَدِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ ناصِبُهُ مُقَدَّرٌ، أيْ: فَرَضَ اللَّهُ ذَلِكَ فَرِيضَةً، وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ﴾ أيْ: بِأحْوالِ النّاسِ ومَراتِبِ اسْتِحْقاقِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿حَكِيمٌ﴾ أيْ: لا يَفْعَلُ إلّا ما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ مِنَ الأُمُورِ الحَسَنَةِ الَّتِي مِنها سَوْقُ الحُقُوقِ إلى مُسْتَحِقِّيها. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَقْضِي بِالقِسْمَةِ بَيْنَ الثَّمانِيَةِ الأصْنافِ، ويُؤَيِّدُ هَذا وجْهانِ: الأوَّلُ: ما يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ اللُّغَوِيُّ، إنْ قُلْنا: الواوُ لِلْجَمْعِ والتَّشْرِيكِ. والثّانِي: ما رَواهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ مِن قَوْلِهِ ﷺ: ««إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ ولا غَيْرِهِ في الصَّدَقاتِ، حَتّى حَكَمَ فِيها، فَجَزَّأها ثَمانِيَةَ أجْزاءٍ»» الحَدِيثَ. وقَدْ ذَهَبَ إلى هَذا الشّافِعِيُّ وعِكْرِمَةُ والزُّهْرِيُّ، إلّا إنِ اسْتَغْنى أحَدُها فَتُدْفَعُ إلى الآخَرِينَ، بِلا خِلافٍ. وذَهَبَتْ طَوائِفُ إلى جَوازِ الصَّرْفِ في صِنْفٍ واحِدٍ مِنهم عُمَرُ وابْنُ عَبّاسٍ، وحُذَيْفَةُ وعَطاءٌ وابْنُ جُبَيْرٍ والحَسَنُ ومالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ، والهادِي والقاسِمُ وأسْباطُهُما، وزَيْدٌ. قالَ في (" التَّهْذِيبِ "): وخَرَجُوا عَنِ الظّاهِرِ في دَلالَةِ الآيَةِ المَذْكُورَةِ والخَبَرِ، بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ في سُورَةِ البَقَرَةِ: ﴿وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفُقَراءَ فَهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٧١] فَدَلَّ عَلى أنَّ ذِكْرَ العَدَدِ هُنا لِبَيانِ جِنْسِ مَن يَسْتَحِقُّها. الثّانِي: الخَبَرُ وهو «قَوْلُهُ ﷺ لِمُعاذٍ: أعْلِمْهم أنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً في أمْوالِهِمْ تُؤْخَذُ مِن أغْنِيائِهِمْ وتُرَدُّ في فُقَرائِهِمْ». الثّالِثُ: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جَعَلَ لَهُ صَدَقَةَ بَنِي زُرَيْقٍ. الرّابِعُ: أنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ في ذَلِكَ خِلافٌ مِن جِهَةِ الصَّحابَةِ فَجَرى كالمُجْمَعِ عَلَيْهِ. الخامِسُ: المُعارَضَةُ (p-٣١٨٣)لِلَّفْظِ بِالمَعْنى، فَإنَّ المَقْصُودَ سَدُّ الخَلَّةِ. وقالَ صاحِبُ (" النِّهايَةِ "): وهَذا أقْرَبُ إلى المَعْنى، والأوَّلُ أقْرَبُ إلى اللَّفْظِ، ويُؤَيِّدُ أنَّها مُسْتَحَقَّةٌ بِالمَعْنى لا بِالِاسْمِ، أنّا لَوْ قُلْنا تُسْتَحَقُّ بِالِاسْمِ لَزِمَ أنَّ مَن كانَ فَقِيرًا غازِيًا غارِمًا مُسافِرًا، أنْ يَسْتَحِقَّ سِهامًا لِهَذِهِ الأسْبابِ جَمِيعًا - كَذا في تَفْسِيرِ بَعْضِ الزَّيْدِيَّةِ - . وقالَ النّاصِرُ في (" الِانْتِصافِ "): القَوْلُ بِوُجُوبِ صَرْفِها إلى جَمِيعِ الأصْنافِ، حَتّى لا يَجُوزَ تَرْكُ صِنْفٍ واحِدٍ مِنها أخْذًا مِن إشْعارِ (اللّامِ) بِالتَّمْلِيكِ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الشّافِعِيُّ: لا يُسْعِدُهُ السِّياقُ، فَإنَّ الآيَةَ مُصَدَّرَةٌ بِكَلِمَةِ الحَصْرِ الدّالَّةِ عَلى قَصْرِ جِنْسِ الصَّدَقاتِ عَلى الأصْنافِ المَعْدُودَةِ، وأنَّها مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ، وأنَّ غَيْرَهم لا يَسْتَحِقُّ فِيها نَصِيبًا، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّما هي لَهم لا لِغَيْرِهِمْ، فَهَذا هو الغَرَضُ الَّذِي سِيقَتْ لَهُ الآيَةُ، فَلا اقْتِضاءَ فِيها لِما سِواهُ. انْتَهى. الثّانِي: قالَ بَعْضُهم: لَفْظُ (الصَّدَقاتُ) بِعُمُومِهِ يَجْمَعُ الصَّدَقَةَ الواجِبَةَ والنّافِلَةَ، ثُمَّ إنَّ الصَّدَقَةَ الواجِبَةَ تَتَنَوَّعُ أنْواعًا، مِنها الزَّكَواتُ لِما هو العُشْرُ أوْ نِصْفُ العُشْرِ، أوْ رُبْعُ العُشْرِ، وزَكاةُ المَواشِي والفِطْرَةِ والكَفّاراتِ، نَحْوَ كَفّارَةِ اليَمِينِ والظِّهارِ والصَّوْمِ، وكَذَلِكَ الهَدْيُ في الحَجِّ، ومِنها ما يُؤْخَذُ مِن أمْوالِ الكُفّارِ ورُؤُوسِهِمْ، ولِهَذا سَمّى اللَّهُ الغَنائِمَ صَدَقَةً في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ، وذَلِكَ في قِسْمَةِ غَنائِمِ (حُنَيْنٍ)، فَإذا كانَ اللَّفْظُ يَعُمُّ ما ذُكِرَ، فَهَلْ تُحْمَلُ الآيَةُ عَلى عُمُومِها في قِسْمَتِها عَلى ما ذُكِرَ، أوْ يُخَصَّصُ البَعْضُ ؟ ثُمَّ قالَ: والعُلَماءُ قَسَّمُوا الصَّدَقاتِ، وجَعَلُوا مَصارِفَها مُخْتَلِفَةً، والكَفّارَةُ لَمْ يُذْكَرْ أنَّها تُصْرَفُ في الثَّمانِيَةِ المَصارِفِ. وقَدْ ورَدَ قَوْلُهُ تَعالى: (فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) وفي الحَدِيثِ: ««أطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا»»، ووَرَدَ في الفِطْرَةِ: ««أغْنُوهم هَذا اليَوْمَ»» . ووَرَدَ الأدِلَّةُ مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ لَفْظِ الصَّدَقاتِ ؟ فَإنَّ الزَّكَواتِ مُجْمَعٌ عَلَيْها في أنَّ مَصْرِفَها الثَّمانِيَةُ الأصْنافِ، أمْ كَيْفَ تَنْزِلُ الآيَةُ عَلى القَواعِدِ الأُصُولِيَّةِ ؟ . انْتَهى كَلامُهُ. (p-٣١٨٤)ولا يَخْفى كَوْنُها مُخَصَّصَةً لِعُمُومِ لَفْظِ الصَّدَقاتِ، لِأنَّ الخاصَّ يَقْضِي عَلى العامِّ عَلى أنَّ المُرادَ قَصْرُها عَلى هَذِهِ الأصْنافِ، فَكُلُّ ما ذُكِرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْها لِشُمُولِها لَهُ. واللَّهُ أعْلَمُ. الثّالِثُ: (المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهم) حُكْمُهم باقٍ، لِأنَّهُ ﷺ أعْطى المُؤَلَّفَةَ مِنَ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ، فَيُعْطَوْنَ عِنْدَ الحاجَةِ. ويُحْمَلُ تَرْكُ عُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ إعْطاءَهم، عَلى عَدَمِ الحاجَةِ إلى إعْطائِهِمْ في خِلافَتِهِمْ، لا لِسُقُوطِ سَهْمِهِمْ، فَإنَّ الآيَةَ مِن آخِرِ ما نَزَلَ، وأعْطى أبُو بَكْرٍ عَدِيَّ بْنَ حاتِمٍ والزِّبْرِقانَ بْنَ بَدْرٍ. ومَنعُ وُجُودِ الحاجَةِ عَلى مَمَرِّ الزَّمانِ، واخْتِلافِ أحْوالِ النُّفُوسِ في القُوَّةِ والضَّعْفِ لا يَخْفى فَسادُهُ. كَذا في (" الإقْناعِ ") و(" شَرْحِهِ ") . والمُؤَلَّفَةُ كَما في (" الإقْناعِ ") هم رُؤَساءُ قَوْمِهِمْ: مِن كافِرٍ يُرْجى إسْلامُهُ، أوْ كَفُّ شَرِّهِ، ومُسْلِمٌ يُرْجى بِعَطِيَّتِهِ قُوَّةُ إيمانِهِ، أوْ إسْلامُ نَظِيرِهِ، أوْ نُصْحُهُ في الجِهادِ، أوْ في الدَّفْعِ عَنِ المُسْلِمِينَ، أوْ كَفُّ شَرِّهِ كالخَوارِجِ ونَحْوِهِمْ، أوْ قُوَّةٌ عَلى جِبايَةِ الزَّكاةِ مِمَّنْ لا يُعْطِيها. انْتَهى. الرّابِعُ: قالَ في (" الإكْلِيلِ "): اسْتَدَلَّ بِعُمُومِ الآيَةِ مَن أجازَ الدَّفْعَ لِلْفَقِيرِ القادِرِ عَلى الِاكْتِسابِ. ولِلذِّمِّيِّ، ولِمَن تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِسائِرِ القَرابَةِ، لِلزَّوْجِ، ولِآلِهِ ﷺ، حَيْثُ حُرِمُوا حَظَّهم مِنَ الخُمْسِ، ولِمُوالِيهِمْ، ولِمَن جَوَّزَ نَقْلَها. وقالَ ابْنُ الفَرَسِ: يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والعامِلِينَ﴾ جَوازُ أخْذِ الأُجْرَةِ لِكُلِّ مَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ مِن أعْمالٍ لِلْمُسْلِمِينَ. قالَ: وقَدِ احْتَجَّ بِهِ أبُو عُبَيْدٍ عَلى جَوازِ أحَدِ القُضاةِ الرِّزْقَ فَقالَ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لِلْعامِلِينَ عَلى الصَّدَقَةِ، وجَعَلَ لَهم مِنها حَقًّا بِقِيامِهِمْ فِيهِ وسَعْيِهِمْ، فَكَذَلِكَ القُضاةُ يَجُوزُ لَهم أخْذُ الأُجْرَةِ عَلى عَمَلِهِمْ، وكَذا كُلُّ مَن شُغِلِ بِشَيْءٍ مِن أعْمالِ المُسْلِمِينَ. الخامِسُ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ عَدَلَ عَنِ اللّامِ إلى (في)، في الأرْبَعَةِ الأخِيرَةِ ؟ قُلْتُ: لِلْإيذانِ بِأنَّهم أرْسَخُ في اسْتِحْقاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، لِأنَّ (في) لِلْوِعاءِ، فَنَبَّهَ عَلى أنَّهم أحِقّاءُ بِأنْ تُوضَعَ فِيهِمُ الصَّدَقاتُ، ويَجْعَلُوا مَظِنَّةً لَها ومَصَبًّا، وذَلِكَ لِما في فَكِّ الرِّقابِ مِنَ الكِتابَةِ أوِ الرِّقِّ أوِ الأسْرِ، وفي فَكِّ الغارِمِينَ مِنَ الغُرْمِ، مِنَ التَّخْلِيصِ والإنْقاذِ. (p-٣١٨٥)ولِجَمْعِ الغازِي الفَقِيرِ أوِ المُنْقَطِعِ في الحَجِّ بَيْنَ الفَقْرِ والعِبادَةِ، وكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ جامِعٌ بَيْنَ الفَقْرِ والغُرْبَةِ عَنِ الأهْلِ والمالِ، وتَكْرِيرُ (في)، في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفِي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ﴾ فِيهِ فَضْلُ تَرْجِيحٍ لِهَذَيْنَ، عَلى الرِّقابِ والغارِمِينَ. انْتَهى. قالَ النّاصِرُ: وثَمَّ سِرٌّ آخَرُ هو أظْهَرُ وأقْرَبُ، وذَلِكَ أنَّ الأصْنافَ الأرْبَعَةَ الأوائِلَ مُلّاكٌ لِما عَساهُ يُدْفَعُ إلَيْهِمْ، وإنَّما يَأْخُذُونَهُ مِلْكًا، فَكانَ دُخُولُ اللّامِ لائِقًا بِهِمْ، وأمّا الأرْبَعَةُ الأواخِرُ فَلا يَمْلِكُونَ ما يُصْرَفُ نَحْوَهم، بَلْ ولا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ، ولَكِنْ في مَصالِحَ تَتَعَلَّقُ بِهِمْ. فالمالُ الَّذِي يُصْرَفُ في الرِّقابِ إنَّما يَتَناوَلُهُ السّادَةُ المُكاتِبُونَ والبائِعُونَ، فَلَيْسَ نَصِيبُهم مَصْرُوفًا إلى أيْدِيهِمْ حَتّى يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ (بِاللّامِ) المُشْعِرَةِ بِتَمَلُّكِهِمْ لِما يُصْرَفُ نَحْوَهم، وإنَّما هم مُحالٌ لِهَذا الصَّرْفِ، والمَصْلَحَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِهِ. وكَذَلِكَ (الغارِمُونَ)، إنَّما يُصْرَفُ نَصِيبُهم لِأرْبابِ دُيُونِهِمْ، تَخْلِيصًا لِذِمَمِهِمْ، لا لَهم وأمّا: (سَبِيلِ اللَّهِ) فَواضِحٌ فِيهِ ذَلِكَ. وأمّا: (ابْنِ السَّبِيلِ) فَكَأنَّهُ كانَ مُنْدَرِجًا في سَبِيلِ اللَّهِ، وإنَّما أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلى خُصُوصِيَّتِهِ، مَعَ أنَّهُ مُجَرَّدٌ مِنَ الحَرْفَيْنِ جَمِيعًا، وعَطْفُهُ عَلى المَجْرُورِ (بِاللّامِ) مُمْكِنٌ، ولَكِنَّهُ عَلى القَرِيبِ مِنهُ أقْرَبُ. واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ قالَ: وكانَ جَدِّي أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ بْنُ فارِسٍ الفَقِيهُ، اسْتَنْبَطَ مِن تَغايُرِ الحَرْفَيْنِ المَذْكُورَيْنِ وجْهًا في الِاسْتِدْلالِ لِمالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَلى أنَّ الغَرَضَ بَيانُ المَصْرِفِ و(اللّامُ) لِذَلِكَ لامُ المِلْكِ، فَيَقُولُ: مُتَعَلِّقُ الجارِّ الواقِعِ خَبَرًا عَنِ الصَّدَقاتِ مَحْذُوفٌ، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُهُ، فَإمّا أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: إنَّما الصَّدَقاتُ مَصْرُوفَةٌ لِلْفُقَراءِ، كَقَوْلِ مالِكٍ، أوْ مَمْلُوكَةٍ لِلْفُقَراءِ، كَقَوْلِ الشّافِعِيِّ، لَكِنَّ الأوَّلَ مُتَعَيِّنٌ لِأنَّهُ تَقْدِيرٌ، يُكْتَفى بِهِ في الحَرْفَيْنِ جَمِيعًا، يَصِحُّ تَعَلُّقُ (اللّامُ) بِهِ و(في) مَعًا، فَيَصِحُّ أنْ نَقُولَ: هَذا الشَّيْءُ مَصْرُوفٌ في كَذا ولِكَذا، بِخِلافِ تَقْدِيرِهِ مَمْلُوكَةً، فَإنَّهُ إنَّما يَلْتَئِمُ مَعَ اللّامِ، وعِنْدَ الِانْتِهاءِ إلى (في) يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ: مَصْرُوفَةٍ لِيَلْتَئِمَ بِها. فَتَقْدِيرُهُ مِنَ (اللّامِ) عامُّ التَّعَلُّقِ، شامِلُ الصِّحَّةِ، مُتَعَيِّنٌ، واللَّهُ المُوَفِّقُ. انْتَهى. (p-٣١٨٦)السّادِسُ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَكَيْفَ وقَعَتْ هَذِهِ الآيَةُ في تَضاعِيفِ ذِكْرِ المُنافِقِينَ ومَكايِدِهِمْ ؟ قُلْتُ: دَلَّ بِكَوْنِ هَذِهِ الأصْنافِ مَصارِفَ الصَّدَقاتِ خاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ عَلى أنَّهم لَيْسُوا مِنهم حَسْمًا لِأطْماعِهِمْ، وإشْعارًا بِاسْتِيجابِهِمُ الحِرْمانَ، وأنَّهم بُعَداءُ عَنْها وعَنْ مَصارِفِها، فَما لَهم وما لَها، وما سَلَّطَهم عَلى التَّكَلُّمِ فِيها ولَمْزِ قاسِمِها صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ. انْتَهى. وتَقَدَّمَ بَيانُهُ أيْضًا. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب