الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأعِدُّوا لَهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ ومِن رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهم وما تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ في سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكم وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أوْجَبَ عَلى رَسُولِهِ أنْ يُشَرِّدَ مَن صَدَرَ مِنهُ نَقْضُ العَهْدِ، وأنْ يَنْبِذَ العَهْدَ إلى مَن خافَ مِنهُ النَّقْضَ، أمَرَهُ في هَذِهِ الآيَةِ بِالإعْدادِ لِهَؤُلاءِ الكُفّارِ. قِيلَ: إنَّهُ لَمّا اتَّفَقَ أصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ في قِصَّةِ بَدْرٍ أنْ قَصَدُوا الكُفّارَ بِلا آلَةٍ ولا عُدَّةٍ أمَرَهُمُ اللَّهُ أنْ لا يَعُودُوا لِمِثْلِهِ وأنْ يَعُدُّوا لِلْكُفّارِ ما يُمْكِنُهم مِن آلَةٍ وعُدَّةٍ وقُوَّةٍ، والمُرادُ بِالقُوَّةِ هَهُنا: ما يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِ القُوَّةِ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: المُرادُ مِنَ القُوَّةِ أنْواعُ الأسْلِحَةِ.
الثّانِي: رُوِيَ أنَّهُ ﷺ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ عَلى المِنبَرِ وقالَ: ”«ألا إنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ» “ قالَها ثَلاثًا.
الثّالِثُ: قالَ بَعْضُهم: القُوَّةُ هي الحُصُونُ.
الرّابِعُ: قالَ أصْحابُ المَعانِي: الأوْلى أنْ يُقالَ: هَذا عامٌّ في كُلِّ ما يُتَقَوّى بِهِ عَلى حَرْبِ العَدُوِّ، وكُلُّ ما هو آلَةٌ لِلْغَزْوِ والجِهادِ فَهو مِن جُمْلَةِ القُوَّةِ، وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«القُوَّةُ هي الرَّمْيُ» “ لا يَنْفِي كَوْنَ غَيْرِ الرَّمْيِ مُعْتَبَرًا، كَما أنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«الحَجُّ عَرَفَةُ» “ و”«النَّدَمُ تَوْبَةٌ» “ لا يَنْفِي اعْتِبارَ غَيْرِهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا المَذْكُورَ جُزْءٌ شَرِيفٌ مِنَ المَقْصُودِ فَكَذا هَهُنا، وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِعْدادَ لِلْجِهادِ بِالنَّبْلِ والسِّلاحِ وتَعْلِيمِ الفُرُوسِيَّةِ والرَّمْيِ فَرِيضَةٌ، إلّا أنَّهُ مِن فُرُوضِ الكِفاياتِ.
وقَوْلُهُ: ﴿ومِن رِباطِ الخَيْلِ﴾ الرِّباطُ المُرابَطَةُ أوْ جَمْعُ رَبِيطٍ، كَفِصالٍ وفَصِيلٍ، ولا شَكَّ أنَّ رَبْطَ الخَيْلِ مِن أقْوى آلاتِ الجِهادِ، رُوِيَ أنَّ رَجُلًا قالَ لِابْنِ سِيرِينَ: إنَّ فُلانًا أوْصى بِثُلُثِ مالِهِ لِلْحُصُونِ، فَقالَ ابْنُ سِيرِينَ: يُشْتَرى بِهِ الخَيْلُ فَتُرْبَطُ في سَبِيلِ اللَّهِ ويُغْزى عَلَيْها، فَقالَ الرَّجُلُ: إنَّما أوْصى لِلْحُصُونِ، فَقالَ: هي الخَيْلُ، ألَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ الشّاعِرِ:
؎ولَقَدْ عَلِمْتُ عَلى تَجَنُّبِيَ الرَّدى أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرى
قالَ عِكْرِمَةُ: ومِن رِباطِ الخَيْلِ: الإناثُ وهو قَوْلُ الفَرّاءِ، ووَجْهُ هَذا القَوْلِ أنَّ العَرَبَ تُسَمِّي الخَيْلَ إذا رُبِطَتْ في الأفْنِيَةِ وعُلِفَتْ رُبُطًا واحِدُها رَبِيطٌ، ويُجْمَعُ رُبُطٌ عَلى رِباطٍ وهو جَمْعُ الجَمْعِ، فَمَعْنى الرِّباطِ هَهُنا الخَيْلُ المَرْبُوطُ في سَبِيلِ اللَّهِ، وفُسِّرَ بِالإناثِ لِأنَّها أوْلى ما يُرْبَطُ لِتَناسُلِها ونَمائِها بِأوْلادِها، فارْتِباطُها أوْلى مِنَ ارْتِباطِ الفُحُولِ، هَذا ما ذَكَرَهُ الواحِدِيُّ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: بَلْ حَمْلُ هَذا اللَّفْظِ عَلى الفُحُولِ أوْلى؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن رِباطِ الخَيْلِ المُحارَبَةُ عَلَيْها، ولا شَكَّ أنَّ الفُحُولَ أقْوى عَلى الكَرِّ والفَرِّ والعَدْوِ، فَكانَتِ المُحارَبَةُ عَلَيْها أسْهَلَ، فَوَجَبَ تَخْصِيصُ هَذا اللَّفْظِ بِها، ولَمّا وقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ وجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى مَفْهُومِهِ الأصْلِيِّ، وهو كَوْنُهُ خَيْلًا مَرْبُوطًا، سَواءٌ كانَ مِنَ الفُحُولِ أوْ مِنَ الإناثِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ ما لِأجْلِهِ أمَرَ بِإعْدادِ هَذِهِ الأشْياءِ، فَقالَ: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ﴾ وذَلِكَ أنَّ الكُفّارَ إذا عَلِمُوا كَوْنَ المُسْلِمِينَ مُتَأهِّبِينَ لِلْجِهادِ ومُسْتَعِدِّينَ لَهُ (p-١٤٩)مُسْتَكْمِلِينَ لِجَمِيعِ الأسْلِحَةِ والآلاتِ خافُوهم، وذَلِكَ الخَوْفُ يُفِيدُ أُمُورًا كَثِيرَةً:
أوَّلُها: أنَّهم لا يَقْصِدُونَ دُخُولَ دارِ الإسْلامِ.
وثانِيها: أنَّهُ إذا اشْتَدَّ خَوْفُهم فَرُبَّما التَزَمُوا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ جِزْيَةً.
وثالِثُها: أنَّهُ رُبَّما صارَ ذَلِكَ داعِيًا لَهم إلى الإيمانِ.
ورابِعُها: أنَّهم لا يُعِينُونَ سائِرَ الكُفّارِ.
وخامِسُها: أنْ يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ الزِّينَةِ في دارِ الإسْلامِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ والمُرادُ أنَّ تَكْثِيرَ آلاتِ الجِهادِ وأدَواتِها كَما يُرْهِبُ الأعْداءَ الَّذِينَ نَعْلَمُ كَوْنَهم أعْداءً كَذَلِكَ يُرْهِبُ الأعْداءَ الَّذِينَ لا نَعْلَمُ أنَّهم أعْداءٌ، ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: وهو الأصَحُّ أنَّهم هُمُ المُنافِقُونَ، والمَعْنى: أنَّ تَكْثِيرَ أسْبابِ الغَزْوِ كَما يُوجِبُ رَهْبَةَ الكُفّارِ فَكَذَلِكَ يُوجِبُ رَهْبَةَ المُنافِقِينَ.
فَإنْ قِيلَ: المُنافِقُونَ لا يَخافُونَ القِتالَ فَكَيْفَ يُوجِبُ ما ذَكَرْتُمُوهُ الإرْهابَ ؟
قُلْنا: هَذا الإرْهابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهم إذا شاهَدُوا قُوَّةَ المُسْلِمِينَ وكَثْرَةَ آلاتِهِمْ وأدَواتِهِمُ انْقَطَعَ عَنْهم طَمَعُهم مِن أنْ يَصِيرُوا مَغْلُوبِينَ، وذَلِكَ يَحْمِلُهم عَلى أنْ يَتْرُكُوا الكُفْرَ في قُلُوبِهِمْ وبَواطِنِهِمْ ويَصِيرُوا مُخْلِصِينَ في الإيمانِ.
والثّانِي: أنَّ المُنافِقَ مِن عادَتِهِ أنْ يَتَرَبَّصَ ظُهُورَ الآفاتِ ويَحْتالَ في إلْقاءِ الإفْسادِ والتَّفْرِيقِ فِيما بَيْنَ المُسْلِمِينَ، فَإذا شاهَدَ كَوْنَ المُسْلِمِينَ في غايَةِ القُوَّةِ خافَهم وتَرَكَ هَذِهِ الأفْعالَ المَذْمُومَةَ.
والقَوْلُ الثّانِي: في هَذا البابِ ما رَواهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ مُوسى قالَ: المُرادُ كُفّارُ الجِنِّ. رُوِيَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ: ﴿وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ فَقالَ: إنَّهُمُ الجِنُّ، ثُمَّ قالَ: ”إنَّ الشَّيْطانَ لا يَخْبِلُ أحَدًا في دارٍ فِيها فَرَسٌ عَتِيقٌ» “ وقالَ الحَسَنُ: صَهِيلُ الفَرَسِ يُرْهِبُ الجِنَّ، وهَذا القَوْلُ مُشْكِلٌ؛ لِأنَّ تَكْثِيرَ آلاتِ الجِهادِ لا يُعْقَلُ تَأْثِيرُهُ في إرْهابِ الجِنِّ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُسْلِمَ كَما يُعادِيهِ الكافِرُ، فَكَذَلِكَ قَدْ يُعادِيهِ المُسْلِمُ أيْضًا، فَإذا كانَ قَوِيَّ الحالِ كَثِيرَ السِّلاحِ، فَكَما يَخافُهُ أعْداؤُهُ مِنَ الكُفّارِ، فَكَذَلِكَ يَخافُهُ كُلُّ مَن يُعادِيهِ مُسْلِمًا كانَ أوْ كافِرًا.
ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وما تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهو عامٌّ في الجِهادِ وفي سائِرِ وُجُوهِ الخَيْراتِ﴿يُوَفَّ إلَيْكُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُوَفَّ لَكم أجْرُهُ، أيْ لا يَضِيعُ في الآخِرَةِ أجْرُهُ، ويُعَجِّلُ اللَّهُ عِوَضَهُ في الدُّنْيا﴿وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ أيْ لا تُنْقَصُونَ مِنَ الثَّوابِ، ولَمّا ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ هَذا التَّفْسِيرَ تَلا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [الكَهْفِ: ٣٣] .
{"ayah":"وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق