الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ٦٠ ] ﴿وأعِدُّوا لَهم ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ ومِن رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكم وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهم وما تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ في سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكم وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ .
﴿وأعِدُّوا لَهُمْ﴾ أيْ: لِقِتالِ ناقِضِي العَهْدِ السّابِقِ ذِكْرِهِمْ، أوِ الكَفّارِ مُطْلَقًا، وهو الأنْسَبُ بِسِياقِ النَّظْمِ الكَرِيمِ ﴿ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ﴾ أيْ: مِن كُلِّ ما يُتَقَوّى بِهِ في الحَرْبِ مِن عُدَدِها، أطْلَقَ عَلَيْهِ القُوَّةَ مُبالَغَةً.
قالَ الشِّهابُ: وإنَّما ذُكِرَ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهم في (بَدْرٍ) اسْتِعْدادٌ تامٌّ، فَنَبَّهُوا عَلى أنَّ النَّصْرَ مِن غَيْرِ اسْتِعْدادٍ لا يَتَأتّى في كُلِّ زَمانٍ.
﴿ومِن رِباطِ الخَيْلِ﴾ (الرِّباطُ) في الأصْلِ مَصْدَرُ رَبَطَ، أيْ: شَدَّ، ويُطْلَقُ بِمَعْنى المَرْبُوطِ مُطْلَقًا، كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ في الخَيْلِ الَّتِي تُرْبَطُ في سَبِيلِ اللَّهِ، فالإضافَةُ إمّا بِاعْتِبارِ عُمُومِ المَفْهُومِ الأصْلِيِّ، أوْ بِمُلاحَظَةِ كَوْنِ الرِّباطِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَعانٍ أُخَرَ، كانْتِظارِ الصَّلاةِ ومُلازِمَةِ (p-٣٠٢٥)ثَغْرِ العَدُوِّ، والمُواظَبَةِ عَلى الأمْرِ، فَإضافَتُهُ لِأحَدِ مَعانِيهِ لِلْبَيانِ، كَعَيْنِ الشَّمْسِ، ومِنهُ يُعْلَمُ أنَّهُ يَجُوزُ إضافَةُ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ إذا كانَ مُشْتَرَكًا.
وإذا كانَ مِن إضافَةِ المُطْلَقِ لِلْمُقَيَّدِ، فَهو عَلى مَعْنى (مِن) التَّبْعِيضِيَّةِ.
وقَدْ يَكُونُ (الرِّباطُ) جَمْعَ رَبِيطٍ، كَفَصِيلٍ وفِصالٍ.
قالَ في (" التّاجِ "): يُقالُ: نِعْمَ الرَّبِيطُ هَذا، لِما يَرْتَبِطُ مِنَ الخَيْلِ، ثُمَّ إنَّ عَطْفَها عَلى (القُوَّةِ) مَعَ كَوْنِها مِن جُمْلَتِها لِلْإيذانِ بِفَضْلِها عَلى بَقِيَّةِ أفْرادِها، كَعَطْفِ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ عَلى المَلائِكَةِ ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ﴾ أيْ: تُخَوِّفُونَ بِذَلِكَ الإعْدادِ ﴿عَدُوَّ اللَّهِ﴾ وهو المُثْبِتُ لَهُ شَرِيكًا، المُبْطِلُ لِكَلِمَتِهِ ﴿وعَدُوَّكُمْ﴾ أيِ: الَّذِي يُظْهِرُ عَداوَتَكَ، فَتُخَوِّفُونَهم لِئَلّا يُحارِبُوكم بِاعْتِقادِ القُوَّةِ في أنْفُسِهِمْ دُونَكم.
تَنْبِيهٌ:
دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ إعْدادِ القُوَّةِ الحَرْبِيَّةِ، اتِّقاءَ بَأْسِ العَدُوِّ وهُجُومِهِ.
ولَمّا عَمِلَ الأُمَراءُ بِمُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ، أيّامَ حَضارَةِ الإسْلامِ، كانَ الإسْلامُ عَزِيزًا عَظِيمًا، أبِيَّ الضَّيْمِ، قَوِيَّ القَنا، جَلِيلَ الجاهِ، وفِيرَ السَّنا، إذا نُشِرَ لِواءُ سُلْطَتِهِ عَلى مُنْبَسَطِ الأرْضِ، فَقَبَضَ عَلى ناصِيَةِ الأقْطارِ والأمْصارِ، وخَضَّدَ شَوْكَةَ المُسْتَبِدِّينَ الكافِرِينَ، وزَحْزَحَ سُجُوفَ الظُّلْمِ والِاسْتِعْبادِ، وعاشَ بَنُوهُ أحْقابًا مُتَتالِيَةً وهم سادَةُ الأُمَمِ، وقادَةُ مَشْعُوبٍ، وزِمامُ الحَوَلِ والطَّوْلِ وقُطْبُ رَوْحَيِ العِزِّ والمَجْدِ، لا يَسْتَكِينُونَ لِقُوَّةٍ، ولا يَرْهَبُونَ لِسَطْوَةٍ.
وأمّا اليَوْمَ، فَقَدْ تَرَكَ المُسْلِمُونَ العَمَلَ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، ومالُوا إلى النَّعِيمِ والتَّرَفِ فَأهْمَلُوا فَرْضًا مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ، فَأصْبَحَتْ جَمِيعُ الأُمَّةِ آثِمَةً بِتَرْكِ هَذا الفَرْضِ ولِذا تُعانِي اليَوْمَ مِن غُصَّتِهِ ما تُعانِي، وكَيْفَ لا يَطْمَعُ العَدُوُّ بِالمَمالِكِ الإسْلامِيَّةِ، ولا تَرى فِيها مَعامِلَ لِلْأسْلِحَةِ، وذَخائِرَ الحَرْبِ، بَلْ كُلُّها مِمّا يُشْتَرى مِن بِلادِ العَدُوِّ ؟
أما آنَ لَها أنْ تَتَنَبَّهَ مِن غَفْلَتِها، وتُنْشِئَ مَعامِلَ لِصُنْعِ المَدافِعِ والبَنادِقِ والقَذائِفِ والذَّخائِرِ الحَرْبِيَّةِ ؟ فَلَقَدْ ألْقى عَلَيْها تَنْقُصُ العَدُوِّ بِلادَها مِن أطْرافِها دَرْسًا يَجِبُ أنْ تَتَدَبَّرَهُ، وتَتَلافى ما فَرَّطَتْ بِهِ قَبْلَ أنْ يُداهِمَ ما بَقِيَ مِنها بِخَيْلِهِ ورَجِلِهِ، (p-٣٠٢٦)فَيَقْضِي - والعِياذُ بِاللَّهِ - عَلى الإسْلامِ ومَمالِكِ المُسْلِمِينَ، لِاسْتِعْمارِ الأمْصارِ، واسْتِعْبادِ الأحْرارِ، ونَزْعِ الِاسْتِقْلالِ المُؤْذِنِ بِالدَّمارِ. وبِاللَّهِ الهِدايَةُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآخَرِينَ﴾ أيْ: وتُرْعِبُونَ قَوْمًا آخَرِينَ ﴿مِن دُونِهِمْ﴾ أيْ: مِن دُونِ مَن يُظْهِرُ عَداوَتَكم، وهُمُ المُنافِقُونَ ﴿لا تَعْلَمُونَهُمُ﴾ أيْ: أنَّهم يُعادُونَكم ﴿اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ أيْ: أنَّهم أعْداؤُكم، يُظْهِرُونَ عَداوَتَهم إذا رَأوْا ضَعْفَكم.
ثُمَّ شَجَّعَهم سُبْحانَهُ عَلى إنْفاقِ المالِ في إعْدادِ القُوَّةِ، ورِباطِ الخَيْلِ، مُبَشِّرًا لَهم بِتَوْفِيَةِ جَزائِهِ كامِلًا، بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي أوْضَحَهُ الجِهادُ: ﴿يُوَفَّ إلَيْكُمْ﴾ أيْ: في الدُّنْيا مِنَ الفَيْءِ والغَنِيمَةِ والجِزْيَةِ والخَراجِ، وفي الآخِرَةِ بِالثَّوابِ المُقِيمِ: ﴿وأنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ أيْ: بِتَرْكِ الإثابَةِ.
تَنْبِيهاتٌ:
الأوَّلُ: هَذِهِ الآيَةُ أصْلٌ في كُلِّ ما يَلْزَمُ إعْدادَهُ لِلْجِهادِ مِنَ الأدَواتِ.
الثّانِي: في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ﴾ إشارَةٌ إلى التَّجافِي عَنْ أنْ يَكُونَ الإعْدادُ لِغَيْرِ الإرْهابِ كالخُيَلاءِ.
وفِي حَدِيثِ الإمامِ مالِكٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ««الخَيْلُ ثَلاثَةٌ: لِرَجُلٍ أجْرٌ، ولِرَجُلٍ سِتْرٌ ولِرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأمّا الَّذِي لَهُ أجْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَها في سَبِيلِ اللَّهِ، ورَجُلٌ رَبَطَها تَغَنِّيًا وتَعَفُّفًا، ولَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ في رِقابِها ولا ظُهُورِها، فَهي لَهُ سِتْرٌ، ورَجُلٌ رَبَطَها فَخْرًا ورِياءً ونِواءً لِأهْلِ الإسْلامِ، فَهي عَلى ذَلِكَ وِزْرٌ»» .
الثّالِثُ: ما ذَكَرْناهُ في تَأْوِيلِ (الآخَرِينَ) مِن أنَّهُمُ المُنافِقُونَ، يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعالى:
﴿ومِمَّنْ حَوْلَكم مِنَ الأعْرابِ مُنافِقُونَ ومِن أهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠١]
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى جَوازَ مُصالَحَةِ الكَفّارِ بِقَوْلِهِ:
{"ayah":"وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق