الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنا أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا قالَ أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾ ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّ شُعَيْبًا لَمّا قَرَّرَ تِلْكَ الكَلِماتِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وأنِفُوا مِن تَصْدِيقِهِ وقَبُولِ قَوْلِهِ لا بُدَّ مِن أحَدِ أمْرَيْنِ:
إمّا أنْ نُخْرِجَكَ ونُخْرِجَ أتْباعَكَ مِن هَذِهِ القَرْيَةِ.
وإمّا أنْ تَعُودَ إلى مِلَّتِنا.
والإشْكالُ فِيهِ أنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَهم: ﴿أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عَلى مِلَّتِهِمُ الَّتِي هي الكُفْرُ، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ كافِرًا قَبْلَ ذَلِكَ، وذَلِكَ في غايَةِ الفَسادِ. وقَوْلُهُ: ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكُمْ﴾ يَدُلُّ أيْضًا عَلى هَذا المَعْنى.
والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ أتْباعَ شُعَيْبٍ كانُوا قَبْلَ دُخُولِهِمْ في دِينِهِ كُفّارًا، فَخاطَبُوا شُعَيْبًا بِخِطابِ أتْباعِهِ وأجْرَوْا عَلَيْهِ أحْكامَهم.
الثّانِي: أنَّ رُؤَساءَهم قالُوا ذَلِكَ عَلى وجْهِ التَّلْبِيسِ عَلى العَوامِّ يُوهِمُونَ أنَّهُ كانَ مِنهم، وأنَّ شُعَيْبًا ذَكَرَ جَوابَهُ عَلى وفْقِ ذَلِكَ الإيهامِ.
الثّالِثُ: أنَّ شُعَيْبًا في أوَّلِ أمْرِهِ كانَ يُخْفِي دِينَهُ ومَذْهَبَهُ، فَتَوَهَّمُوا أنَّهُ كانَ عَلى دِينِ قَوْمِهِ.
الرّابِعُ: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ شُعَيْبًا كانَ عَلى شَرِيعَتِهِمْ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى نَسَخَ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بِالوَحْيِ الَّذِي أوْحاهُ إلَيْهِ.
الخامِسُ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ أيْ لَتَصِيرُنَّ إلى مِلَّتِنا، فَوَقَعَ العَوْدُ بِمَعْنى الِابْتِداءِ. تَقُولُ العَرَبُ: قَدْ عادَ إلَيَّ مِن فُلانٍ مَكْرُوهٌ، يُرِيدُونَ قَدْ صارَ إلَيَّ مِنهُ المَكْرُوهُ ابْتِداءً. قالَ الشّاعِرُ:
؎فَإنْ تَكُنِ الأيّامُ أحْسَنَ مُدَّةً إلَيَّ فَقَدْ عادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
أرادَ فَقَدْ صارَتْ لَهُنَّ ذُنُوبٌ، ولَمْ يَرِدْ أنَّ ذُنُوبًا كانَتْ لَهُنَّ قَبْلَ الإحْسانِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ القَوْمَ لَمّا قالُوا ذَلِكَ أجابَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ كَلامِهِمْ بِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾ الهَمْزَةُ (p-١٤٥)لِلِاسْتِفْهامِ، والواوُ واوُ الحالِ، تَقْدِيرُهُ: أتُعِيدُونَنا في مِلَّتِكم في حالِ كَراهَتِنا ومَعَ كَوْنِنا كارِهِينَ ؟ .
الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ والجَوابُ الأوَّلُ يَجْرِي مَجْرى الرَّمْزِ في أنَّهُ لا يَعُودُ إلى مِلَّتِهِمْ، وهَذا الجَوابُ الثّانِي تَصْرِيحٌ بِأنَّهُ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَقالَ: إنَّهُ إنْ فَعَلْنا ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ. وأصْلُ البابِ في النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ صِدْقُ اللَّهْجَةِ، والبَراءَةُ عَنِ الكَذِبِ، فالعَوْدُ في مِلَّتِكم يُبْطِلُ النُّبُوَّةَ، ويُزِيلُ الرِّسالَةَ.
وقَوْلُهُ: ﴿إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: مَعْنى ﴿إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ عَلَّمَنا قُبْحَهُ وفَسادَهُ، ونَصَبَ الأدِلَّةَ عَلى أنَّهُ باطِلٌ.
الثّانِي: أنَّ المُرادَ أنَّ اللَّهَ نَجّى قَوْمَهُ مِن تِلْكَ المِلَّةِ، إلّا أنَّهُ نَظَمَ نَفْسَهُ في جُمْلَتِهِمْ، وإنْ كانَ بَرِيئًا مِنهُ، إجْراءَ الكَلامِ عَلى حُكْمِ التَّغْلِيبِ.
والثّالِثُ: أنَّ القَوْمَ أُوهِمُوا أنَّهُ كانَ عَلى مِلَّتِهِمْ، أوِ اعْتَقَدُوا أنَّهُ كانَ كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: ﴿بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ أيِ حَسَبَ مُعْتَقَدِكم وزَعْمِكم.
* * *
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ .
فاعْلَمْ أنَّ أصْحابَنا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ يَشاءُ الكُفْرَ، والمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِها عَلى أنَّهُ تَعالى لا يَشاءُ إلّا الخَيْرَ والصَّلاحَ. أمّا وجْهُ اسْتِدْلالِ أصْحابِنا بِهَذِهِ فَمِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُنَجِّيَ مِنَ الكُفْرِ هو اللَّهُ تَعالى، ولَوْ كانَ الإيمانُ يَحْصُلُ بِخَلْقِ العَبْدِ لَكانَتِ النَّجاةُ مِنَ الكُفْرِ تَحْصُلُ لِلْإنْسانِ مِن نَفْسِهِ، لا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ عَلى خِلافِ مُقْتَضى قَوْلِهِ: ﴿بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ .
الثّانِي: أنَّ مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ لَنا أنَّ نَعُودَ إلى مِلَّتِكم إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ أنْ يُعِيدَنا إلى تِلْكَ المِلَّةِ، ولَمّا كانَتْ تِلْكَ المِلَّةُ كُفْرًا كانَ هَذا تَجْوِيزًا مِن شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُعِيدَهم إلى الكُفْرِ، فَكادَ هَذا يَكُونُ تَصْرِيحًا مِن شُعَيْبٍ بِأنَّهُ تَعالى قَدْ شاءَ رَدَّ المُسْلِمَ إلى الكُفْرِ، وذَلِكَ غَيْرُ مَذْهَبِنا. قالَ الواحِدِيُّ: ولَمْ تَزَلِ الأنْبِياءُ والأكابِرُ يَخافُونَ العاقِبَةَ وانْقِلابَ الأمْرِ ألا تَرى إلى قَوْلِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ﴾ [إبراهيم: ٣٥] وكَثِيرًا ما كانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَقُولُ: ”«يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنا عَلى دِينِكَ وطاعَتِكَ» “ وقالَ يُوسُفُ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ [يوسف: ١٠١] .
أجابَتِ المُعْتَزِلَةُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: لَيْسَ لَنا أنْ نَعُودَ إلى تِلْكَ المِلَّةِ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ أنْ يُعِيدَنا إلَيْها - قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ، ولَيْسَ فِيها بَيانٌ أنَّهُ تَعالى شاءَ ذَلِكَ أوْ ما شاءَ.
والثّانِي: أنَّ هَذا مَذْكُورٌ عَلى طَرِيقِ التَّبْعِيدِ، كَما يُقالُ: لا أفْعَلُ ذَلِكَ إلّا إذا ابْيَضَّ القارُ، وشابَ الغُرابُ، فَعَلَّقَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ عَوْدَهُ إلى مِلَّتِهِمْ عَلى مَشِيئَتِهِ. ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لا يَكُونُ نَفْيًا لِذَلِكَ أصْلًا، فَهو عَلى طَرِيقِ التَّبْعِيدِ، لا عَلى وجْهِ الشَّرْطِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ لَيْسَ فِيهِ بَيانٌ أنَّ الَّذِي شاءَهُ اللَّهُ ما هو، فَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلى أنَّ المُرادَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا بِأنْ يُظْهِرَ هَذا الكُفْرَ مِن أنْفُسِنا إذا أكْرَهْتُمُونا عَلَيْهِ بِالقَتْلِ، وذَلِكَ لِأنَّ عِنْدَ الإكْراهِ عَلى إظْهارِ الكُفْرِ بِالقَتْلِ يَجُوزُ إظْهارُهُ، وما كانَ جائِزًا كانَ مُرادًا لِلَّهِ تَعالى، وكَوْنُ الضَّمِيرِ أفْضَلَ مِنَ الإظْهارِ، لا يُخْرِجُ ذَلِكَ الإظْهارَ مِن أنْ يَكُونَ مُرادَ اللَّهِ تَعالى، كَما أنَّ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ مُرادُ اللَّهِ تَعالى وإنْ كانَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ أفْضَلَ.
الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ﴾ المُرادُ: الإخْراجُ عَنِ القَرْيَةِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: ﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها﴾ أيِ القَرْيَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قَدْ كانَ حَرَّمَ عَلَيْهِ إذا أخْرَجُوهُ عَنِ القَرْيَةِ أنْ يَعُودَ فِيها إلّا بِإذْنِ اللَّهِ ومَشِيئَتِهِ.
الخامِسُ: أنْ نَقُولَ يَجِبُ حَمْلُ المَشِيئَةِ هَهُنا عَلى الأمْرِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ مَعْناهُ: أنَّهُ إذا شاءَ كانَ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها، وقَوْلُهُ: ﴿لَنا أنْ نَعُودَ فِيها﴾ أيْ يَكُونَ ذَلِكَ العَوْدُ جائِزًا، (p-١٤٦)والمَشِيئَةُ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ لا تُوجِبُ جَوازَ الفِعْلِ، فَإنَّهُ تَعالى يَشاءُ الكُفْرَ مِنَ الكافِرِ عِنْدَهم، ولا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، إنَّما الَّذِي يُوجِبُ الجَوازَ هو الأمْرُ. فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ مِنَ المَشِيئَةِ هَهُنا الأمْرُ، فَكانَ التَّقْدِيرُ: إلّا أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِعَوْدِنا في مِلَّتِكم فَإنّا نَعُودُ إلَيْها، والشَّرِيعَةُ الَّتِي صارَتْ مَنسُوخَةً لا يَبْعُدُ أنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالعَمَلِ بِها مَرَّةً أُخْرى، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ اسْتِدْلالُكم.
والوَجْهُ السّادِسُ لِلْقَوْمِ في الجَوابِ: ما ذَكَرَهُ الجُبّائِيُّ، فَقالَ: المُرادُ مِنَ المِلَّةِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي يَجُوزُ اخْتِلافُ العِبادَةِ فِيها بِالأوْقاتِ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ وغَيْرِهِما، فَقالَ شُعَيْبٌ: ﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها﴾ ولَمّا دَخَلَ في ذَلِكَ كُلُّ ما هم عَلَيْهِ، وكانَ مِنَ الجائِزِ أنْ يَكُونَ بَعْضُ تِلْكَ الأحْكامِ والشَّرائِعِ باقِيًا غَيْرَ مَنسُوخٍ، لا جَرَمَ قالَ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ والمَعْنى: إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إبْقاءَ بَعْضِها فَيَدُلَّنا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ نَعُودُ إلَيْها. فَهَذا الِاسْتِثْناءُ عائِدٌ إلى الأحْكامِ الَّتِي يَجُوزُ دُخُولُ النَّسْخِ والتَّغْيِيرِ فِيها، وغَيْرُ عائِدٍ إلى ما لا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ البَتَّةَ. فَهَذِهِ أسْئِلَةُ القَوْمِ عَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وهي جَيِّدَةٌ، وفي الآياتِ الدّالَّةِ عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِنا كَثْرَةٌ، ولا يَلْزَمُ مِن ضَعْفِ اسْتِدْلالِ أصْحابِنا بِهَذِهِ الآيَةِ دُخُولُ الضَّعْفِ في المَذْهَبِ. وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ مِن وجْهَيْنِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: لَمّا قالُوا: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا﴾ يَقْتَضِي أنَّهُ لَوْ شاءَ اللَّهُ عَوْدَنا إلَيْها لَكانَ لَنا أنْ نَعُودَ إلَيْها، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ ما شاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ كانَ فِعْلُهُ جائِزًا مَأْذُونًا فِيهِ، ولَمْ يَكُنْ حَرامًا. قالُوا: وهَذا عَيْنُ مَذْهَبِنا أنَّ كُلَّ ما أرادَ اللَّهُ حُصُولَهُ كانَ حَسَنًا مَأْذُونًا فِيهِ، وما كانَ حَرامًا مَمْنُوعًا مِنهُ لَمْ يَكُنْ مُرادًا لِلَّهِ تَعالى.
والوَجْهُ الثّانِي لَهم أنْ قالُوا: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ﴾ ﴿أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ لا وجْهَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ عَلى قَوْلِ الخَصْمِ؛ لِأنَّ عَلى قَوْلِهِمْ: خُرُوجُهم مِنَ القَرْيَةِ بِخَلْقِ اللَّهِ وعَوْدُهم إلى تِلْكَ المِلَّةِ أيْضًا بِخَلْقِ اللَّهِ، وإذا كانَ حُصُولُ القِسْمَيْنِ بِخَلْقِ اللَّهِ، لَمْ يَبْقَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ القِسْمَيْنِ فائِدَةٌ.
واعْلَمْ أنَّهُ لَمّا تَعارَضَ اسْتِدْلالُ الفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الآيَةِ وجَبَ الرُّجُوعُ إلى سائِرِ الآياتِ في هَذا البابِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ: ﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في تَعَلُّقِ هَذا الكَلامِ بِالكَلامِ الأوَّلِ وُجُوهٌ: قالَ القاضِي: قَدْ نَقَلْنا عَنْ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ أنَّ قَوْلَ شُعَيْبٍ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا﴾ مَعْناهُ: إلّا أنْ يَخْلُقَ المَصْلَحَةَ في تِلْكَ العِباداتِ فَحِينَئِذٍ يُكَلِّفُنا بِها، والعالِمُ بِالمَصالِحِ لَيْسَ إلّا مَن وسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ؛ فَلِذَلِكَ أتْبَعَهُ بِهَذا القَوْلِ. وقالَ أصْحابُنا: وجْهُ تَعَلُّقِ هَذا الكَلامِ بِما قَبْلَهُ، هو أنَّ القَوْمَ لَمّا قالُوا لِشُعَيْبٍ: إمّا أنْ تَخْرُجَ مِن قَرْيَتِنا وإمّا أنْ تَعُودَ إلى مِلَّتِنا، فَقالَ شُعَيْبٌ: ﴿وسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فَرُبَّما كانَ في عِلْمِهِ حُصُولُ قِسْمٍ ثالِثٍ، وهو أنَّ نَبْقى في هَذِهِ القَرْيَةِ مِن غَيْرِ أنْ نَعُودَ إلى مِلَّتِكم، بَلْ يَجْعَلُكم مَقْهُورِينَ تَحْتَ أمْرِنا ذَلِيلِينَ خاضِعِينَ تَحْتَ حُكْمِنا، وهَذا الوَجْهُ أوْلى مِمّا قالَهُ القاضِي؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا﴾ لائِقٌ بِهَذا الوَجْهِ، لا بِما قالَهُ القاضِي.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى كانَ عالِمًا في الأزَلِ بِجَمِيعِ الأشْياءِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وسِعَ﴾ فِعْلٌ ماضٍ، فَيَتَناوَلُ كُلَّ ماضٍ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ كانَ في الأزَلِ عالِمًا بِجَمِيعِ (p-١٤٧)المَعْلُوماتِ، وثَبَتَ أنَّ تَغَيُّرَ مَعْلُوماتِ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، لَزِمَ أنَّهُ ثَبَتَتِ الأحْكامُ وجَفَّتِ الأقْلامُ، والسَّعِيدُ مَن سَعِدَ في عِلْمِ اللَّهِ، والشَّقِيُّ مَن شَقِيَ في عِلْمِ اللَّهِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلِمَ الماضِيَ والحالَ والمُسْتَقْبَلَ، وعَلِمَ المَعْدُومَ أنَّهُ لَوْ كانَ كَيْفَ كانَ يَكُونُ، فَهَذِهِ أقْسامٌ أرْبَعَةٌ، ثُمَّ كَلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأقْسامِ الأرْبَعَةِ يَقَعُ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: أمّا الماضِي: فَإنَّهُ عَلِمَ أنَّهُ لَمّا كانَ ماضِيًا فَإنَّهُ كَيْفَ كانَ، وعَلِمَ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ماضِيًا بَلْ كانَ حاضِرًا فَإنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ، وعَلِمَ أنَّهُ لَوْ كانَ مُسْتَقْبَلًا كَيْفَ يَكُونُ، وعَلِمَ أنَّهُ لَوْ كانَ عَدَمًا مَحْضًا كَيْفَ يَكُونُ، فَهَذِهِ أقْسامٌ أرْبَعَةٌ بِحَسَبِ الماضِي، واعْتَبَرَ هَذِهِ الأقْسامَ الأرْبَعَةَ بِحَسَبِ الحالِ، وبِحَسَبِ المُسْتَقْبَلِ، وبِحَسَبِ المَعْدُومِ المَحْضِ فَيَكُونُ المَجْمُوعُ سِتَّةَ عَشَرَ، ثُمَّ اعْتَبَرَ هَذِهِ الأقْسامَ السِّتَّةَ عَشَرَ بِحَسَبِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الذَّواتِ والألْوانِ والطُّعُومِ والرَّوائِحِ، وكَذا القَوْلُ في سائِرِ المُفْرَداتِ مِن أنْواعِ الأعْراضِ وأجْناسِها، فَحِينَئِذٍ يَلُوحُ لِعَقْلِكَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ بَحْرٌ لا يَنْتَهِي مَجْمُوعُ عُقُولِ العُقَلاءِ إلى أوَّلِ خَطْوَةٍ مِن خُطُواتِ ساحِلِهِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ.
واعْلَمْ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خَتَمَ كَلامَهُ بِأمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: بِالتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ، فَقالَ: ﴿عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا﴾ فَهَذا يُفِيدُ الحَصْرَ، أيْ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لا عَلى غَيْرِهِ، وكَأنَّهُ في هَذا المَقامِ عَزَلَ الأسْبابَ، وارْتَقى عَنْها إلى مُسَبِّبِ الأسْبابِ.
والثّانِي: الدُّعاءُ، فَقالَ: ﴿رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ: احْكم واقْضِ. وقالَ الفَرّاءُ: أهْلُ عَمّانَ يُسَمُّونَ القاضِيَ الفاتِحَ والفَتّاحَ؛ لِأنَّهُ يَفْتَحُ مَواضِعَ الحَقِّ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ قالَ: ما كُنْتُ أدْرِي قَوْلَهُ: ﴿رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ حَتّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنٍ تَقُولُ لِزَوْجِها: تَعالَ أُفاتِحْكَ، أيْ أُحاكِمْكَ. قالَ الزَّجّاجُ: وجائِزٌ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ أيْ أظْهِرْ أمْرَنا حَتّى يَنْفَتِحَ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا ويَنْكَشِفَ، والمُرادُ مِنهُ: أنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذابًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِمْ مُبْطِلِينَ، وعَلى كَوْنِ شُعَيْبٍ وقَوْمِهِ مُحِقِّينَ، وعَلى هَذا الوَجْهِ يُرادُ بِهِ الكَشْفُ والتَّبْيِينُ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ﴾ والمُرادُ مِنهُ الثَّناءُ عَلى اللَّهِ. واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذا اللَّفْظِ عَلى أنَّهُ هو الَّذِي يَخْلُقُ الإيمانَ في العَبْدِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإيمانَ أشْرَفُ المُحْدَثاتِ، ولَوْ فَسَّرْنا الفَتْحَ بِالكَشْفِ والتَّبْيِينِ فَلا شَكَّ أنَّ الإيمانَ كَذَلِكَ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَوْ كانَ المُوجِدُ لِلْإيمانِ هو العَبْدَ لَكانَ خَيْرُ الفاتِحِينَ هو العَبْدَ، وذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ تَعالى خَيْرَ الفاتِحِينَ.
{"ayahs_start":88,"ayahs":["۞ قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَكَ مِن قَرۡیَتِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ","قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّعُودَ فِیهَاۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡفَـٰتِحِینَ"],"ayah":"قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّعُودَ فِیهَاۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡفَـٰتِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق