الباحث القرآني

ولَمّا كانَ العَرَبُ أبْعَدَ النّاسِ مِن مُطْلَقِ الكَذِبِ وأشَدِّهِمْ لَهُ تَحامِيًا ومِنهُ نَفْرَةً فَكَيْفَ بِالكَذِبِ عَلى الأكابِرِ فَكَيْفَ بِهِ عَلى المُلُوكِ فَكَيْفَ بِهِ عَلى مَلِكِ المُلُوكِ! عَلَّقَ الكَذِبَ عَلى اللَّهِ تَعالى بِالعَوْدِ إلى مِلَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ مُسْتَأْنِفًا الإخْبارَ لِمَن تَشَوَّفَ إلى عِلْمِ ما كانَ مِنهُ بَعْدَ هَذا الكَلامِ اللَّيِّنِ وتَوَقُّعِ غَيْرِهِ: ﴿قَدِ افْتَرَيْنا﴾ أيْ: تَعَمَّدْنا الآنَ بِما نَقُولُهُ لَكُمْ، أيْ: مَن [أنَّ] اللَّهَ حَرَّمَ الكُفْرَ والإقْرارَ عَلَيْهِ، ﴿عَلى اللَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ جَمِيعُ العَظَمَةِ، ﴿كَذِبًا﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ تَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلتَّحْقِيرِ، ولِكُلٍّ وجْهٌ يَدْعُو إلَيْهِ المَقامُ لا يَخْفى. ﴿إنْ عُدْنا﴾ أيْ: ساعَةً مِنَ الدَّهْرِ، ﴿فِي مِلَّتِكُمْ﴾ أيْ: بِسُكُوتِنا أوْ بِسُكُوتِي وكُفْرِ مَن كانَ مِمَّنْ تَبِعَنِي كافِرًا، ﴿بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ﴾ أيِ: المَلِكُ الأعْلى خارِقًا لِلْعادَةِ بِما كُنّا جَدِيرِينَ بِالِانْغِماسِ فِيهِ مُتابَعَةً لِلْآباءِ والأجْدادِ والعَشِيرَةِ بِما لَهُ مِنَ القُدْرَةِ والعَظَمَةِ، ﴿مِنها﴾ أيْ: إنْ فَعَلْنا ذَلِكَ فَقَدِ ارْتَكَبْنا أقْبَحَ القَبائِحِ عَلى بَصِيرَةٍ مِنّا بِذَلِكَ، فَهو تَعْلِيقٌ عَلى مُحالٍ عادَةً، وهو مِن وادِي قَوْلِ الأشْتَرِ النَّخَعِيِّ: (p-٣) ؎بَقَّيْتُ وفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلى ولَقِيتُ أضْيافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ ؎إنْ لَمْ أشُنَّ عَلى ابْنِ هِنْدٍ غارَةً ∗∗∗ لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِن نِهابِ نُفُوسِ غَيْرَ أنَّ المُعَلَّقَ في البَيْتِ تَقْدِيرِي، وفي الآيَةِ تَحْقِيقِي؛ لِأنَّهم أخْبَرُوهم أنَّ اللَّهَ تَعالى نَهى عَنِ الكُفْرِ، وأمَرَهم بِإنْذارِ كُلِّ كافِرٍ، فَمَتى تَرَكُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمُ الكَذِبُ حَتْمًا، ﴿وما يَكُونُ لَنا﴾ أيْ: ما يَصِحُّ وما يَتَّفِقُ ﴿أنْ نَعُودَ فِيها﴾ أيْ: مِلَّكِتُمْ. ولَمّا كانَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ أنْ يَفْعَلَ ما يَشاءُ لا واجِبَ عَلَيْهِ ولا قَبِيحَ مِنهُ، أشارَ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ فَذَكَرَ اسْمَ الذّاتِ إشارَةً إلى أنَّ لَهُ جَمِيعَ الحَمْدِ لِذاتِهِ؛ ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ الإحْسانِ عِياذًا مِن أنْ يُرادَ بِهِمُ الهَوانُ، فَقالَ: ﴿رَبُّنا﴾ أيْ: خَرْقَ العادَةِ؛ فَلَهُ ذَلِكَ، فَهو مِن بابِ التَّذَكُّرِ لِلْمَخاوِفِ والإشْرافِ عَلى إمْكانِ سُوءِ العَواقِبِ لِلصِّدْقِ في التَّضَرُّعِ إلى اللَّهِ تَعالى والِالتِجاءِ إلَيْهِ والِاسْتِعاذَةِ مِن مَكْرِهِ؛ ولِذَلِكَ أتى بِاسْمِ الجَلالَةِ الجامِعِ لِجَمِيعِ مَعانِي الأسْماءِ الحُسْنى وصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ المُلْتَمَسِ بِذِكْرِها فِعْلُ ما يُفْعَلُ المُرَبِّي الشَّفِيقُ، فَكَأنَّهُ قالَ: إنَّ عَوْدَنا في مِلَّتِكم غَيْرُ مُمْكِنٍ عادَةً، والمَحالُ عادَةً لا يُقْدَرُ عَلَيْهِ إلّا بِقَدَرٍ مِنَ اللَّهِ، بَلْ ولا تُوَجَّهُ الهِمَمُ إلَيْهِ، واللَّهُ تَعالى أكْرَمُ مِن أنْ يَعُودَ فِيما وهَبَهُ لَنا مِن هَذا الأمْرِ الجَلِيلِ، (p-٤)ويَنْزِعَ عَنّا هَذا اللِّباسَ الجَمِيلَ، وهو صَرِيحٌ في أنَّ الكُفْرَ يَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، بَلْ ولا يَكُونُ إلّا بِمَشِيئَتِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وسِعَ رَبُّنا﴾ أيِ: المُحْسِنُ إلَيْنا، ﴿كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ زِيادَةٌ في حَثِّ أُمَّتِهِ عَلى الِالتِجاءِ والتَّبَرِّي مِنَ الحَوْلِ والقُوَّةِ، أيْ: لا عِلْمَ لَنا بِخَواتِمِ الأعْمالِ والعِلْمِ لِلَّهِ فَهو التّامُّ العِلْمِ الكامِلُ القُدْرَةِ، فَهَذِهِ الجُمْلَةُ كالتَّعْلِيلِ لِلتَّعْلِيقِ بِالمَشِيئَةِ [قَطْعًا] لِما عَساهُ أنْ يَحْدُثَ مِن طَمَعِ المُخاطَبِينَ في عَوْدِهِمْ، كَأنَّهُ قِيلَ: وإنَّما عَلَّقْنا العَوْدَ بِالمَشِيئَةِ لِنَقْصِ عُلُومِنا، فَرُبَّما كانَ في سَعَةِ عِلْمِهِ قِسْمٌ ثالِثٌ، وهو أنْ نَكُونَ في القَرْيَةِ عَلى دِينِنا وتَكُونُونَ أنْتُمْ أوْ لا، أوْ تُوافِقُونَنا عَلى ما نَحْنُ عَلَيْهِ، وهَكَذا يَنْبَغِي لِلْمَرْبُوبِ، ولا يَنْبَغِي الجَزْمُ بِأمْرٍ يُسْتَقْبَلُ إلّا اللَّهُ رَبُّنا لِإحاطَةِ عِلْمِهِ، والآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ في الأزَلِ عالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الكُلِّيّاتِ والجُزْئِيّاتِ لِأنَّ ”وسِعَ“ ماضٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ في الأنْعامِ أنَّ قَوْلَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلامُ وهَذا وآيَةُ الكَهْفِ مِن مُخْبِرٍ واحِدٍ، واللَّهُ أعْلَمُ. ولَمّا كانَ المُرادُ مِن هَذا ما ذُكِرَ، كانَ مُزْعِجًا لِلْقُلُوبِ مُقْلِقًا لِلنُّفُوسِ مُزَعْزِعًا لِلْخَواطِرِ مُزَلْزِلًا لِلْأفْكارِ بِتَأمُّلِ هَذِهِ الأخْطارِ المُشْفِيَةِ عَلى غايَةِ الخَسارِ، فَكَأنَّ المُؤْمِنِينَ قالُوا: ما العَمَلُ وأيْنَ المَفَرُّ؟ فَقالَ: ﴿عَلى اللَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ ولا أمْرَ لِأحَدٍ مَعَهُ، وحْدَهُ لا عَلى غَيْرِهِ، ﴿تَوَكَّلْنا﴾ أيْ: فَوَّضْنا جَمِيعَ أُمُورِنا إلَيْهِ، وهو أكْرَمُ مِن أنْ يَخْتارَ لَنا غَيْرَ الأرْشَدِ (p-٥)وقَدْ تَبَرَّأْنا مِن حَوْلِنا وقُوَّتِنا واعْتَصَمْنا بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ، وجَعَلْنا جَمِيعَ أُمُورِنا كُلِّها مَحْمُولَةً عَلى قُدْرَتِهِ كَما يَحْمِلُ الوَكِيلُ أمْرَ مُوَكِّلِهِ عَنْهُ ويُرِيحُهُ مِن هَمِّهِ وقَلَقِهِ مِنهُ. ولَمّا جَرَتِ العادَةُ بِأنَّ المُوَكِّلَ يُخْبِرُ الوَكِيلَ بِما يُرِيدُ لِيَفْعَلَهُ، أتْبَعَ ذَلِكَ الدُّعاءَ بِالحُكْمِ بِما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الحالِ مِن نَصْرِ المُحِقِّ وخَذْلِ المُبْطِلِ فَقالَ: ﴿رَبُّنا﴾ أيْ: أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا، ﴿افْتَحْ﴾ أيِ: احْكم ﴿بَيْنَنا﴾ ولَمّا كانَ يُرِيدُ اسْتِعْطافَهم لِإسْعادِهِمْ قالَ: ﴿وبَيْنَ قَوْمِنا﴾ وفِيهِ إشارَةٌ إلى مَيْلِهِ إلى الدُّعاءِ بِهِدايَتِهِمْ، وأدَبٍ بِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِما لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، ﴿بِالحَقِّ﴾ أيْ: بِالأمْرِ الفَيْصَلِ مِن مُعامَلَةِ كُلٍّ مِنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ بِما يَسْتَحِقُّهُ شَرْعًا وعُرْفًا بِحَيْثُ يَكُونُ لِكُلِّ فَرِيقٍ بابٌ يَصِلُ بِهِ إلى غايَةِ أمْرِهِ وهَذا مَقامُ الإنْصافِ، فَقَدْ عُلِمَ مِن إشارَةِ قَوْلِهِ العِنايَةُ بِقَوْمِهِ، ومِن عِبارَتِهِ الإنْصافُ مِن نَفْسِهِ، ولَوْ أرادَ تَرْجِيحَ نَفْسِهِ ومُتَّبِعِيهِ لَدَعا لَهم أنْ يُعامَلُوا بِالفَضْلِ وأنْ يُعامَلَ ضِدُّهم بِالعَدْلِ، والآيَةُ مُعْلِمَةٌ بِأنَّ لَهُ تَعالى أنْ يَفْعَلَ ما يُرِيدُ مِن خِذْلانِ الظّالِمِ ونَصْرِ المَظْلُومِ وتَعْذِيبِ العاصِي وإثابَةِ الطّائِعِ وعَكْسِ ذَلِكَ. ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] لِأنَّهُ التّامُّ المُلْكِ العَظِيمُ المُلْكِ الشّامِلُ القُدْرَةِ الحَكِيمُ الخَبِيرُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: لا نَعُودُ إلى ما كُنّا عَلَيْهِ مِنَ السُّكُوتِ عَنْ دُعائِكم إلى اللَّهِ ونَهْيِكم عَنْ أفْعالِ الضَّلالِ؛ لِأنّا أُمِرْنا بِإنْذارِكم إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ سُكُوتُنا بِأمْرٍ يُحْدِثُهُ إلَيْنا في ذَلِكَ (p-٦)لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضاها عِلْمُهُ وقَصُرَتْ عَنْها عُلُومُنا، فَإذا أرادَ ذَلِكَ وأمَرَنا بِهِ فَعَلْنا، فَلَهُ الخَلْقُ والأمْرُ. ولَمّا أشارَ إلى الدُّعاءِ لِقَوْمِهِ، أشارَ - بِالعَطْفِ عَلى غَيْرِ مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ ظاهِرٍ - إلى أنَّ التَّقْدِيرَ: فَأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ: ﴿وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ﴾ أيْ: عَلى مَن سُدَّتْ عَلَيْهِ الأبْوابُ ولَمْ يَجِدْ مُخَلِّصًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب