الباحث القرآني
﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنا أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا قالَ أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾ ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ﴾ ﴿وقالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إنَّكم إذًا لَخاسِرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٠] ﴿فَأخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأصْبَحُوا في دارِهِمْ جاثِمِينَ﴾ [الأعراف: ٩١] ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الخاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٩٢] ﴿فَتَوَلّى عَنْهم وقالَ يا قَوْم لَقَدْ أبْلَغْتُكم رِسالاتِ رَبِّي ونَصَحْتُ لَكم فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ [الأعراف: ٩٣] ﴿وما أرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِن نَبِيٍّ إلّا أخَذْنا أهْلَها بِالبَأْساءِ والضَّرّاءِ لَعَلَّهم يَضَّرَّعُونَ﴾ [الأعراف: ٩٤] ﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا وقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنا الضَّرّاءُ والسَّرّاءُ فَأخَذْناهم بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٥] ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ ولَكِنْ كَذَّبُوا فَأخَذْناهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: ٩٦] ﴿أفَأمِنَ أهْلُ القُرى أنْ يَأْتِيَهم بَأْسُنا بَياتًا وهم نائِمُونَ﴾ [الأعراف: ٩٧] ﴿أوَأمِنَ أهْلُ القُرى أنْ يَأْتِيَهم بَأْسُنا ضُحًى وهم يَلْعَبُونَ﴾ [الأعراف: ٩٨] ﴿أفَأمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الخاسِرُونَ﴾ [الأعراف: ٩٩] ﴿أوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِن بَعْدِ أهْلِها أنْ لَوْ نَشاءُ أصَبْناهم بِذُنُوبِهِمْ ونَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: ١٠٠] ﴿تِلْكَ القُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أنْبائِها ولَقَدْ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الكافِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٠١] ﴿وما وجَدْنا لِأكْثَرِهِمْ مِن عَهْدٍ وإنْ وجَدْنا أكْثَرَهم لَفاسِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٢] ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِها فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٣] ﴿وقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٤] ﴿حَقِيقٌ عَلى أنْ لا أقُولَ عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ قَدْ جِئْتُكم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكم فَأرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الأعراف: ١٠٥] ﴿قالَ إنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٦] ﴿فَألْقى عَصاهُ فَإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٠٧] ﴿ونَزَعَ يَدَهُ فَإذا هي بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٠٨] ﴿قالَ المَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إنَّ هَذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ١٠٩] ﴿يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكم مِن أرْضِكم فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ [الأعراف: ١١٠] ﴿قالُوا أرْجِهْ وأخاهُ وأرْسِلْ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ [الأعراف: ١١١] ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ﴾ [الأعراف: ١١٢] ﴿وجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إنَّ لَنا لَأجْرًا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ﴾ [الأعراف: ١١٣] ﴿قالَ نَعَمْ وإنَّكم لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ [الأعراف: ١١٤] ﴿قالُوا يا مُوسى إمّا أنْ تُلْقِيَ وإمّا أنْ نَكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ﴾ [الأعراف: ١١٥] ﴿قالَ ألْقُوا فَلَمّا ألْقَوْا سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ واسْتَرْهَبُوهم وجاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ١١٦]
(p-٣٤٢)عادَ: رَجَعَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ وتَأْتِي بِمَعْنى صارَ. قالَ:
؎تُعِدْ فِيكم جَزْرَ الجَزُورِ رِماحُنا ويَرْجِعْنَ بِالأسْيافِ مُنْكَسِراتِ
ضُحًى: ظَرْفٌ مُتَصَرِّفٌ إنْ كانَ نَكِرَةً، وغَيْرُ مُتَصَرِّفٍ إذا كانَ مِن يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، وهو وقْتُ ارْتِفاعِ الشَّمْسِ إذا طَلَعَتْ وهو مُؤَنَّثٌ وشَذُّوا في تَصْغِيرِهِ فَقالُوا: ضُحَيٌّ بِغَيْرِ تاءِ التَّأْنِيثِ، وتَقُولُ أتَيْتُهُ ضُحًى وضَحاءً، إذا فَتَحْتَ الضّادَ مَدَدْتَ، الثُّعْبانُ: ذَكَرُ الحَيّاتِ العَظِيمُ، أُخِذَ مَن ثَعَبْتَ بِالمَكانِ فَجَّرْتَهُ بِالماءِ، والمَثْعَبُ مَوْضِعُ انْفِجارِ الماءِ؛ لِأنَّ الثُّعْبانَ يَجْرِي كالماءِ عِنْدَ الِانْفِجارِ. الإرْجاءُ: التَّأْخِيرُ، المَدِينَةُ: مَعْرُوفَةٌ مُشْتَقَّةٌ مَن مَدَنَ فَهي فَعِيلَةٌ، ومَن ذَهَبَ إلى أنَّها مَفْعَلَةٌ مِن دانَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ لِإجْماعِ العَرَبِ عَلى الهَمْزِ في جَمْعِها قالُوا مَدائِنُ بِالهَمْزِ، ولا يُحْفَظُ فِيهِ مَدايِنُ بِالياءِ، ولا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلى أنَّها مَفْعَلَةٌ ويَقْطَعُ بِأنَّها فَعِيلَةٌ جَمْعُهم لَها عَلى فُعُلٍ قالُوا: مُدُنٌ، كَما قالُوا صُحُفٌ في صَحِيفَةٍ.
﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنا أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾، أيِ: الكُفّارُ ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ عَنِ الإيمانِ أقْسَمُوا عَلى أحَدِ الأمْرَيْنِ إخْراجِ شُعَيْبٍ وأتْباعِهِ، أوْ عَوْدَتِهِمْ في مِلَّتِهِمْ، والقَسَمُ يَكُونُ عَلى فِعْلِ المُقْسِمِ وفِعْلِ غَيْرِهِ سَوَّوْا بَيْنَ نَفْيِهِ ونَفْيِ أتْباعِهِ وبَيْنَ العَوْدِ في المِلَّةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى صُعُوبَةِ مُفارَقَةِ الوَطَنِ إذْ قَرَنُوا ذَلِكَ بِالعَوْدِ إلى الكُفْرِ، وفي الإخْراجِ والعَوْدِ طِباقٌ مَعْنَوِيٌّ، وعادَ كَما تَقَدَّمَ لَها اسْتِعْمالانِ أحَدُهُما أنْ تَكُونَ بِمَعْنى صارَ والثّانِي بِمَعْنى رَجَعَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ، فَعَلى الأوَّلِ لا إشْكالَ في قَوْلِهِ، أوْ لَتَعُودُنَّ إذْ صارَ فِعْلًا مُسْنَدًا إلى شُعَيْبٍ وأتْباعِهِ ولا يَدُلُّ عَلى أنَّ شُعَيْبًا كانَ في مِلَّتِهِمْ وعَلى المَعْنى الثّانِي يُشْكَلُ؛ لِأنَّ شُعَيْبًا لَمْ يَكُنْ في مِلَّتِهِمْ قَطُّ لَكِنَّ أتْباعَهم كانُوا فِيها، وأُجِيبُ عَنْ هَذا بِوُجُوهٍ، أحَدِها: أنْ يُرادَ بِعَوْدِ شُعَيْبٍ في المِلَّةِ حالُ سُكُوتِهِ عَنْهم قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ لا حالَةَ الضَّلالِ فَإنَّهُ كانَ يُخْفِي دِينَهُ إلى أنْ أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ، الثّانِي: أنْ يَكُونَ مِن بابِ تَغْلِيبِ حُكْمِ الجَماعَةِ عَلى الواحِدِ لَمّا عَطَفُوا أتْباعَهُ عَلى ضَمِيرِهِ في الإخْراجِ سَحَبُوا عَلَيْهِ حُكْمَهم في العَوْدِ، وإنْ كانَ شُعَيْبٌ بَرِيئًا مِمّا كانَ عَلَيْهِ أتْباعُهُ قَبْلَ الإيمانِ، الثّالِثُ: أنَّ رُؤَساءَهم قالُوا ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّلْبِيسِ عَلى العامَّةِ والإيهامِ أنَّهُ كانَ مِنهم.
﴿قالَ أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾، أيْ: أيَقَعُ مِنكم أحَدُ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ عَلى كُلِّ حالٍ حَتّى في حالِ كَراهِيَّتِنا لِذَلِكَ، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّوْقِيفِ عَلى شُنْعَةِ المَعْصِيَةِ بِما أقْسَمُوا (p-٣٤٣)عَلَيْهِ مِنَ الإخْراجِ عَنْ مَواطِنِهِمْ ظُلْمًا، أوِ الإقْرارِ بِالعَوْدِ في مِلَّتِهِمْ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ والواوُ واوُ الحالِ تَقْدِيرُهُ أتُعِيدُونَنا في مِلَّتِكم في حالِ كَراهَتِنا، أوْ مَعَ كَوْنِنا كارِهِينَ. انْتَهى. فَجَعَلَ الِاسْتِفْهامَ خاصًّا بِالعَوْدِ في مِلَّتِهِمْ ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الِاسْتِفْهامُ هو عَنْ أحَدِ الأمْرَيْنِ الإخْراجِ أوِ العَوْدِ، وجَعَلَ الواوَ واوَ الحالِ، وتَقْدِيرُهُ أتُعِيدُونَنا في حالِ كَراهَتِنا ولَيْسَتْ واوَ الحالِ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْها النَّحْوِيُّونَ بِواوِ الحالِ، بَلْ هي واوُ العَطْفِ عُطِفَتْ عَلى حالٍ مَحْذُوفَةٍ كَقَوْلِهِ: «رُدُّوا السّائِلَ ولَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ» لَيْسَ المَعْنى رُدُّوهُ في حالِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ، بَلِ المَعْنى رُدُّوهُ مَصْحُوبًا بِالصَّدَقَةِ ولَوْ مَصْحُوبًا بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ، تَقَدَّمَ لَنا إشْباعُ القَوْلِ في نَحْوِ هَذا.
﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ هَذا إخْبارٌ مُقَيَّدٌ مِن حَيْثُ المَعْنى بِالشَّرْطِ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ مِن حَيْثُ الصِّناعَةِ، وتَقْدِيرُهُ ﴿إنْ عُدْنا في مِلَّتِكُمْ﴾ فَقَدِ افْتَرَيْنا، ولَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ هو جَوابُ الشَّرْطِ إلّا عَلى مَذْهَبِ مَن يُجِيزُ تَقْدِيمَ جَوابِ الشَّرْطِ عَلى الشَّرْطِ فَيُمْكِنُ أنْ يُخَرَّجَ هَذا عَلَيْهِ، وجَوَّزُوا في هَذِهِ الجُمْلَةِ وجْهَيْنِ أحَدَهُما أنْ يَكُونَ إخْبارًا مُسْتَأْنَفًا، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ مَعْنى التَّعَجُّبِ، كَأنَّهم قالُوا ما أكْذَبَنا عَلى اللَّهِ إنْ عُدْنا في الكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ؛ لِأنَّ المُرْتَدَّ أبْلَغُ في الِافْتِراءِ مِنَ الكافِرِ، يَعْنِي الأصْلِيَّ؛ لِأنَّ الكافِرَ مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ حَيْثُ يَزْعُمُ أنَّ لِلَّهِ نِدًّا ولا نِدَّ لَهُ، والمُرْتَدُّ مِثْلُهُ في ذَلِكَ وزائِدٌ عَلَيْهِ حَيْثُ يَزْعُمُ أنَّهُ قَدْ بُيِّنَ لَهُ ما خَفِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْيِيزِ ما بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الظّاهِرُ أنَّهُ خَبَرٌ، أيْ: قَدْ كُنّا نُواقِعُ أمْرًا عَظِيمًا في الرُّجُوعِ إلى الكُفْرِ، والوَجْهُ الثّانِي أنْ يَكُونَ قَسَمًا عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ اللّامِ، أيْ: واللَّهِ لَقَدِ افْتَرَيْنا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأوْرَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ احْتِمالًا قالَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى جِهَةِ القَسَمِ الَّذِي هو في صِيغَةِ الدُّعاءِ، مِثْلُ قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎بَقَّيْتُ وفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلا ∗∗∗ ولَقِيتُ أضْيافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
وكَما تَقُولُ افْتَرَيْتُ عَلى اللَّهِ أنْ كَلَّمْتُ فُلانًا، ولَمْ يُنْشِدِ ابْنُ عَطِيَّةَ البَيْتَ الَّذِي يُقَيِّدُ قَوْلَهُ: بَقَّيْتُ وما بَعْدَهُ بِالشَّرْطِ، وهو قَوْلُهُ:
؎إنْ لَمْ أشُنَّ عَلى ابْنِ هِنْدٍ غارَةً ∗∗∗ لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِن نِهابِ نُفُوسِ
ولَمّا كانَ أمْرُ الدِّينِ هو الأعْظَمُ عِنْدَ المُؤْمِنِ والمُؤْثَرُ عَلى أمْرِ الدُّنْيا لَمْ يَلْتَفِتُوا إلى الإخْراجِ وإنْ كانَ أحَدُ الأمْرَيْنِ هو الأعْظَمُ عِنْدَ المُؤْمِنِ والمُؤْثَرُ عَلى الكَذِبِ أقْسَمَ عَلى وُقُوعِهِ الكُفّارُ فَقالُوا قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ العَوْدِ بِالصَّيْرُورَةِ، وتَأْوِيلُهُ إنْ كانَ في مَعْنى الرُّجُوعِ إلى ما كانَ الإنْسانُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّبِيِّ المَعْصُومِ مِنَ الكَبائِرِ والصَّغائِرِ.
﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا﴾، أيْ: وما يَنْبَغِي ولا يَتَهَيَّأُ لَنا أنْ نَعُودَ في مِلَّتِكم إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا فَنَعُودُ فِيها، وهَذا الِاسْتِثْناءُ عَلى سَبِيلِ عَذْقِ جَمِيعِ الأُمُورِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وإرادَتِهِ، وتَجْوِيزُ العَوْدِ (p-٣٤٤)مِنَ المُؤْمِنِينَ إلى مِلَّتِهِمْ دُونَ شُعَيْبٍ لِعِصْمَتِهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَجَرى الِاسْتِثْناءُ عَلى سَبِيلِ تَغْلِيبِ حُكْمِ الجَمْعِ عَلى الواحِدِ وإنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الواحِدُ داخِلًا في حُكْمِ الجَمْعِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ اسْتِثْناءَ ما يُمْكِنُ أنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ المُؤْمِنِينَ مِمّا تَفْعَلُهُ الكَفَرَةُ مِنَ القُرُباتِ، فَلَمّا قالَ لَهم إنّا لا نَعُودُ في مِلَّتِكم، ثُمَّ خَشِيَ أنْ يُعْبَدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِن أفْعالِ الكَفَرَةِ فَيُعارِضَ مُلْحِدٌ بِذَلِكَ، ويَقُولُ هَذِهِ عَوْدَةٌ إلى مِلَّتِنا اسْتَثْنى مَشِيئَةَ اللَّهِ فِيما يُمْكِنُ أنْ يُتَعَبَّدَ بِهِ. انْتَهى. وهَذا الِاحْتِمالُ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ إنَّما يَعْنِي النَّجاةَ مِنَ الكَفَرَةِ والمَعاصِيَ لا مِن أعْمالِ البِرِّ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ مَعْنى الِاسْتِبْعادِ كَما تَقُولُ لا أفْعَلُ ذَلِكَ حَتّى يَشِيبَ الغُرابُ وحَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ، وقَدْ عُلِمَ امْتِناعُ ذَلِكَ فَهي إحالَةٌ عَلى مُسْتَحِيلٍ، وهَذا تَأْوِيلٌ حَكاهُ المُفَسِّرُونَ ولَمْ يَشْعُرُوا بِما فِيهِ. انْتَهى. وهَذا تَأْوِيلٌ إنَّما هو لِلْمُعْتَزِلَةِ ومَذْهَبُهم أنَّ الكُفْرَ والإيمانَ لَيْسَ بِمَشِيئَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: وما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ واللَّهُ تَعالى مُتَعالٍ أنْ يَشاءَ رِدَّةَ المُؤْمِنِينَ وعَوْدَهم في الكُفْرِ، قُلْتُ: مَعْناهُ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ خِذْلانَنا ومَنعَنا الإلْطافَ لِعِلْمِهِ تَعالى أنَّها لا تَنْفَعُ فِينا، ويَكُونُ عَبَثًا والعَبَثُ قَبِيحٌ لا يَفْعَلُهُ الحَكِيمُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، أيْ: هو عالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمّا كانَ ويَكُونُ وهو تَعالى يَعْلَمُ أحْوالَ عِبادِهِ كَيْفَ تَتَحَوَّلُ قُلُوبُهم، وكَيْفَ تَنْقَلِبُ وكَيْفَ تَقْسُو بَعْدَ الرِّقَّةِ وتَمْرَضُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وتَرْجِعُ إلى الكُفْرِ بَعْدَ الإيمانِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ حَسْمًا لِطَمَعِهِمْ في العَوْدِ؛ لِأنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعالى بِعَوْدِهِمْ في الكُفْرِ مُحالٌ خارِجٌ عَنِ الحِكْمَةِ. انْتَهى. وهَذانِ التَّأْوِيلانِ عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ، وقِيلَ: هَذا الِاسْتِثْناءُ إنَّما هو تَسْلِيمٌ وتَأدُّبٌ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وتَعَلُّقُ هَذا التَّأْوِيلِ مِن جِهَةِ اسْتِقْبالِ الِاسْتِثْناءِ ولَوْ كانَ الكَلامُ إنْ شاءَ قَوِيَ هَذا التَّأْوِيلُ. انْتَهى ولَيْسَ يُقَوِّي هَذا التَّأْوِيلَ لا فَرْقَ بَيْنَ إلّا أنْ يَشاءَ وبَيْنَ إلّا إنْ شاءَ؛ لِأنَّ إنْ تُخْلِصُ الماضِيَ لِلِاسْتِقْبالِ كَما تُخْلِصُ أنِ المُضارِعَ لِلِاسْتِقْبالِ، وكِلا الفِعْلَيْنِ مُسْتَقْبَلٌ، وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الضَّمِيرَ في ﴿فِيها﴾ يَعُودُ عَلى القَرْيَةِ لا عَلى المِلَّةِ.
﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِها في الأنْعامِ في قِصَّةِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
﴿عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا﴾، أيْ: في دَفْعِ ما تَوَعَّدْتُمُونا بِهِ وفي حِمايَتِنا مِنَ الضَّلالِ، وفي ذَلِكَ اسْتِسْلامٌ لِلَّهِ وتَمَسُّكٌ بِلُطْفِهِ، وذَلِكَ يُؤَيِّدُ التَّأْوِيلَ الأوَّلَ في إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُثَبِّتُنا عَلى الإيمانِ ويُوَفِّقُنا لِازْدِيادِ الإيقانِ.
﴿رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ﴾، أيِ: احْكم، والفاتِحُ والفَتّاحُ القاضِي بِلُغَةِ حِمْيَرَ، وقِيلَ: بِلُغَةِ مُرادٍ، وقالَ بَعْضُهم:
؎ألا أبْلِغْ بَنِي عُصَمٍ رَسُولًا ∗∗∗ فَإنِّي عَنْ فُتاحَتِكم غَنِيُّ
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ما كُنْتُ أعْرِفُ مَعْنى هَذِهِ اللَّفْظَةِ حَتّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنَ تَقُولُ لِزَوْجِها: تَعالَ (p-٣٤٥)أُفاتِحْكَ، أيْ: أُحاكِمْكَ، وقالَ الفَرّاءُ أهْلُ عُمانَ يُسَمُّونَ القاضِيَ الفاتِحَ، وقالَ السُّدِّيُّ، وابْنُ بَحْرٍ: احْكم بَيْنَنا، قالَ أبُو إسْحاقَ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ المَعْنى أظْهِرْ أمْرَنا حَتّى يَنْفَتِحَ ما بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا ويَنْكَشِفَ ذَلِكَ، وذَلِكَ بِأنْ يَنْزِلَ بِعَدُوِّهِمْ مِنَ العَذابِ ما يَظْهَرُ بِهِ أنَّ الحَقَّ مَعَهم، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ كَثِيرَ الصَّلاةِ، ولَمّا طالَ تَمادى قَوْمُهُ في كُفْرِهِمْ ويَئِسَ مِن صَلاحِهِمْ دَعا عَلَيْهِمْ فاسْتَجابَ دُعاءَهُ وأهْلَكَهم بِالرَّجْفَةِ، وقالَ الحَسَنُ: إنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أرادَ هَلاكَ قَوْمِهِ أمَرَهُ بِالدُّعاءِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اسْتَجابَ لَهُ فَأهْلَكَهم.
{"ayahs_start":88,"ayahs":["۞ قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِینَ ٱسۡتَكۡبَرُوا۟ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ یَـٰشُعَیۡبُ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَكَ مِن قَرۡیَتِنَاۤ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَـٰرِهِینَ","قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّعُودَ فِیهَاۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡفَـٰتِحِینَ"],"ayah":"قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّعُودَ فِیهَاۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَیۡرُ ٱلۡفَـٰتِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق