الباحث القرآني

﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ عَظِيمًا لا يُقادَرُ قَدْرُهُ. (p-4)﴿إنْ عُدْنا في مِلَّتِكُمْ﴾ الَّتِي هي الشِّرْكُ وزَعَمْنا كَما زَعَمْتُمْ أنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ نِدًّا تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. ﴿بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ مِنها﴾ وعَلِمْنا بُطْلانَها، وأنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، أيْ: إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم فَقَدِ افْتَرَيْنا، واسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأنَّ الظّاهِرَ فِيما إذا كانَ الجَوابُ مِثْلَ ما ذُكِرَ أنْ يَتَعَلَّقَ ظُهُورُهُ والعِلْمُ بِهِ بِالشَّرْطِ نَحْوَ: ﴿إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ و﴿إلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ وإنْ أكْرَمْتَنِي اليَوْمَ فَقَدْ أكْرَمْتُكَ أمْسِ، والمَقْصُودُ هُنا تَقْيِيدُ نَفْسِ الِافْتِراءِ بِالعَوْدِ، ولَفْظُ قَدْ وصِيغَةُ الماضِي يَمْنَعانِهِ، والجَوابُ ما أشارَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن أنَّهُ مِن بابِ الإخْراجِ لا عَلى مُقْتَضى الظّاهِرِ وإيثارِ قَدْ والماضِي الدّالَّيْنِ عَلى التَّأْكِيدِ؛ إمّا لِأنَّهُ جَوابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، أوْ لِأنَّهُ تَعَجُّبٌ عَلى مَعْنى: ما أكْذَبَنا إنْ عُدْنا إلَخْ. ووَجْهُ التَّعَجُّبِ أنَّ المُرْتَدَّ أبْلَغُ في الِافْتِراءِ مِنَ الكافِرِ؛ لِأنَّ الكافِرَ مُفْتَرٍ عَلى اللَّهِ تَعالى الكَذِبَ حَيْثُ يَزْعُمُ أنَّ لِلَّهِ سُبْحانَهُ نِدًّا، ولا نِدَّ لَهُ، والمُرْتَدَّ مِثْلُهُ في ذَلِكَ، وزائِدٌ عَلَيْهِ حَيْثُ يَزْعُمُ أنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ ما خَفِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، والحَمْلُ عَلى التَّعَجُّبِ عَلى ما في الكَشْفِ أوْلى؛ لِأنَّ حَذْفَ اللّامِ ضَعِيفٌ، وجَوَّزَ أبُو حَيّانَ تَبَعًا لِابْنِ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ المَذْكُورُ قَسَمًا كَما يُقالُ: بَرِئْتُ مِنَ اللَّهِ تَعالى إنْ فَعَلْتُ كَذا، وكَقَوْلِ مالِكِ بْنِ الأشْتَرِ النَّخَعِيِّ: ؎أبْقَيْتُ وفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلا ∗∗∗ ولَقِيتُ أضْيافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ ؎إنْ لَمْ أشُنَّ عَلى ابْنِ هِنْدٍ غارَةً ∗∗∗ ∗∗∗ لَمْ تَخْلُ يَوْمًا مِن ذَهابِ نُفُوسِ وهَذا نَوْعٌ مِن أنْواعِ البَدِيعِ، وقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِن أصْحابِ البَدِيعِيّاتِ، ومَثَّلَهُ عِزُّ الدِّينِ المَوْصِلِيُّ بِقَوْلِهِ: ؎بَرِئْتُ مِن سَلَفِي والشَّمُّ مِن هِمَمِي ∗∗∗ إنْ لَمْ أدْنُ بِتُقًى مَبْرُورَةِ القَسَمِ والباغُونِيَّةُ بِقَوْلِها: ؎لا مَكَّنَتْنِي المَعالِي مِن سِيادَتِها ∗∗∗ إنْ لَمْ أكُنْ لَهم مِن جُمْلَةِ الخَدَمِ ﴿وما يَكُونُ لَنا﴾ أيْ: ما يَصِحُّ لَنا وما يَقَعُ، فَيَكُونُ تامَّةٌ، وقَدْ يَأْتِي ذَلِكَ بِمَعْنى ما يَنْبَغِي وما يَلِيقُ. ﴿أنْ نَعُودَ فِيها﴾ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ أوْ وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ. ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا﴾، أيْ: إلّا حالَ أوْ وقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ لِعَوْدِنا، والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلتَّصْرِيحِ بِأنَّهُ المالِكُ الَّذِي لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ. ﴿وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فَهو سُبْحانُهُ يَعْلَمُ كُلَّ حِكْمَةٍ ومَصْلَحَةٍ ومَشِيئَتُهُ عَلى مُوجِبِ الحِكْمَةِ، فَكُلُّ ما يَقَعُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْها، وهَذا إشارَةٌ إلى عَدَمِ الأمْنِ مِن مَكْرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ؛ فَإنَّهُ لا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلّا القَوْمُ الكافِرُونَ، وفِيهِ مِنَ الِانْقِطاعِ إلى اللَّهِ تَعالى ما لا يَخْفى، ويُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا﴾ فَإنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ إظْهارُ العَجْزِ والِاعْتِمادُ عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ لِلْمُبالَغَةِ، وتَقْدِيمُ المَعْمُولِ لِإفادَةِ الحَصْرِ. وفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ لِلَّهِ تَعالى أنْ يَشاءَ الكُفْرَ. وادَّعى شَيْخُ الإسْلامِ أنَّ المُرادَ اسْتِحالَةُ وُقُوعِ ذَلِكَ كَأنَّهُ قِيلَ: وما كانَ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ تَعالى العَوْدَ وهَيْهاتَ ذَلِكَ، ولا يَكادُ يَكُونُ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ التَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ، وقَوْلُهُمْ: ﴿بَعْدَ إذْ نَجّانا اللَّهُ﴾ فَإنَّ تَنْجِيَتَهُ تَعالى إيّاهم مِنها مِن دَلائِلِ عَدَمِ مَشِيئَتِهِ سُبْحانَهُ لِعَوْدِهِمْ فِيها، وفُرِّعَ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وسِعَ﴾ إلَخْ. بَعْدَ أنْ فَسَّرَهُ بِما فَسَّرَهُ مُحالَيَةُ مَشِيئَتِهِ العَوْدَ، لَكِنْ لُطْفًا وهو وجْهٌ في الآيَةِ، ولَعَلَّ ما ذَهَبْتُ إلَيْهِ فِيها أوْلى، ولا يَرِدُ عَلى تَقْدِيرِ العَوْدِ مَفْعُولًا لِلْمَشِيئَةِ أنَّهُ لَيْسَ لِذِكْرِ سِعَةِ العِلْمِ بَعْدَ حِينَئِذٍ كَبِيرُ مَعْنًى، بَلْ كانَ المُناسِبُ ذِكْرَ شُمُولِ (p-5)الإرادَةِ وأنَّ الحَوادِثَ كُلَّها بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى لِما لا يَخْفى، ولا يَحْتاجُ إلى القَوْلِ بِأنَّ ذَلِكَ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَدٌّ لِدَعْوى الحَصْرِ بِاحْتِمالِ قِسْمٍ ثالِثٍ، والزَّمَخْشَرِيُّ بَنى تَفْسِيرَهُ عَلى عَقِيدَتِهِ الفاسِدَةِ مِن وُجُوبِ رِعايَةِ الصَّلاحِ والأصْلَحِ، وأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُمْكِنُ أنْ يَشاءَ الكُفْرَ بِوَجْهٍ لِخُرُوجِهِ عَنِ الحِكْمَةِ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وسِعَ﴾ إلَخْ، ورَدَّهُ ابْنُ المُنِيرِ بِأنَّ مَوْقِعَ ما ذُكِرَ الِاعْتِرافُ بِالقُصُورِ عَنْ عِلْمِ العاقِبَةِ والِاطِّلاعِ عَلى الأُمُورِ الغائِبَةِ. ونَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ولا أخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إلا أنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئًا وسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَدَّ الأمْرَ إلى المَشِيئَةِ وهي مُغَيَّبَةٌ مَجَّدَ اللَّهَ تَعالى بِالِانْفِرادِ بِعِلْمِ الغائِباتِ. انْتَهى، وإلى كَوْنِ المُرادِ مِنَ الِاسْتِثْناءِ التَّأْبِيدَ ذَهَبَ جَعْفَرُ بْنُ الحارِثِ والزَّجّاجُ أيْضًا وجَعَلُوا ذَلِكَ كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إذا شابَ الغُرابُ أتَيْتُ أهْلِي ∗∗∗ وصارَ القارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ ذَلِكَ مُخالِفٌ لِلنُّصُوصِ النَّقْلِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ ولِلْعِبارَةِ والإشارَةِ، وقالَ الجُبّائِيُّ والقاضِي: المُرادُ بِالمِلَّةِ الشَّرِيعَةُ، وفِيها ما لا يَرْجِعُ إلى الِاعْتِقادِ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعالى عِبادَهُ بِهِ، ومَفْعُولُ المَشِيئَةِ العَوْدُ إلى ذَلِكَ، أيْ: لَيْسَ لَنا أنْ نَعُودَ إلى مِلَّتِكُمْ، إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ بِأنْ يَتَعَبَّدَنا بِها، ويَنْقُلَنا ويَنْسَخَ ما نَحْنُ فِيهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وقِيلَ: المُرادُ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ تَعالى أنْ يُمَكِّنَكم مِن إكْراهِنا، ويُخْلِيَ بَيْنَكم وبَيْنَهُ فَنَعُودَ إلى إظْهارِ مِلَّتِكم مُكْرَهِينَ، وقَوِيَ بِسَبْقِ: ﴿أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾ . وقِيلَ: إنَّ الهاءَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ( فِيها ) يَعُودُ إلى القَرْيَةِ لا المِلَّةِ، فَيَكُونُ المَعْنى أنّا سَنَخْرُجُ مِن قَرْيَتِكم ولا نَعُودُ فِيها إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ بِما يُنْجِزُهُ لَنا مِنَ الوَعْدِ في الإظْهارِ عَلَيْكم والظَّفَرِ بِكم فَنَعُودُ فِيها، وقِيلَ: إنَّ التَّقْدِيرَ: إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ أنْ يَرُدَّكم إلى الحَقِّ فَنَكُونَ جَمِيعًا عَلى مِلَّةٍ واحِدَةٍ، ولا يَخْفى أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمّا يُضْحِكُ الثَّكْلى، وبِالجُمْلَةِ: الآيَةُ ظاهِرَةٌ فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ أهْلُ السُّنَّةِ وسُبْحانَ مَن سَدَّ بابِ الرُّشْدِ عَنِ المُعْتَزِلَةِ. ﴿رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ﴾ إعْراضٌ عَنْ مُفاوَضَتِهِمْ إثْرَ ما ظَهَرَ مِن عُتُوِّهِمْ وعِنادِهِمْ وإقْبالٌ عَلى اللَّهِ تَعالى بِالدُّعاءِ، والفَتْحُ بِمَعْنى الحُكْمِ والقَضاءِ، لُغَةٌ لِحِمْيَرَ أوْ لِمُرادٍ. والفَتّاحُ عِنْدَهُمُ القاضِي والفُتاحَةُ بِالضَّمِّ الحُكُومَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ قالَ: الفَتْحُ القَضاءُ، لُغَةٌ يَمانِيَةٌ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ما كُنْتُ أدْرِي ما قَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا افْتَحْ﴾ حَتّى سَمِعْتُ ابْنَةَ ذِي يَزَنٍ وقَدْ جَرى بَيْنِي وبَيْنَها كَلامٌ فَقالَتْ: أُفاتِحُكَ، تُرِيدُ: أُقاضِيكَ، و﴿بَيْنَنا﴾ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، والتَّقْيِيدُ بِالحَقِّ لِإظْهارِ النَّصَفَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَجازًا عَنِ البَيانِ والإظْهارِ وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّجّاجُ، ومِنهُ فَتْحُ المُشْكِلِ لِبَيانِهِ وحَلِّهِ تَشْبِيهًا لَهُ بِفَتْحِ البابِ وإزالَةِ الإغْلاقِ، حَتّى يُوصَلَ إلى ما خَلْفَها، وبَيْنَنا عَلى ما قِيلَ مَفْعُولٌ بِهِ بِتَقْدِيرِ ما بَيْنَنا، ﴿وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ﴾ أيِ الحاكِمِينَ لِخُلُوِّ حُكْمِكَ عَنِ الجَوْرِ والحَيْفِ أوِ المُظْهِرِينَ لِمَزِيدِ عِلْمِكَ وسِعَةِ قُدْرَتِكَ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب