الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿قالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنا أو لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا قالَ أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾ ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم بَعْدَ إذْ نَجّانا اللهِ مِنها وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلا أنْ يَشاءَ اللهِ رَبُّنا وسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبُّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ﴾ وتَقَدَّمَ القَوْلُ في مَعْنى "اَلْمَلَأُ"؛ ومَعْنى الِاسْتِكْبارِ؛ وقَوْلُهُمْ: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ (p-٦١٣)يا شُعَيْبُ﴾ ؛ تَهْدِيدٌ بِالنَفْيِ؛ و"اَلْقَرْيَةُ": اَلْمَدِينَةُ الجامِعَةُ لِلنّاسِ؛ لِأنَّها "تَقَرَّتْ"؛ أيْ اجْتَمَعَتْ؛ وقَوْلُهُمْ: ﴿أو لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ ؛ مَعْناهُ: أو لَتَصِيرُنَ؛ و"عادَ"؛ تَجِيءُ في كَلامِ العَرَبِ عَلى وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما: عادَ الشَيْءُ إلى حالٍ قَدْ كانَ فِيها قَبْلَ ذَلِكَ؛ وهي - عَلى هَذِهِ الجِهَةِ - لا تَتَعَدّى؛ فَإنْ عُدِّيَتْ فَبِحَرْفٍ؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ إنْ عادَتِ العَقْرَبُ عُدْنا لَها ∗∗∗ وكانَتِ النَعْلُ لَها حاضِرَةْ ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ ألا لَيْتَ أيّامَ الشَبابِ جَدِيدُ ∗∗∗ ∗∗∗ وعَصْرًا تَوَلّى يا بُثَيْنَ يَعُودُ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عنهُ﴾ [الأنعام: ٢٨] ؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَإنْ تَكُنِ الأيّامُ أحْسَنَّ مَرَّةً ∗∗∗ ∗∗∗ إلَيَّ فَقَدْ عادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ والوَجْهُ الثانِي: أنْ تَكُونَ بِمَعْنى "صارَ"؛ وعامِلَةً عَمَلَها؛ ولا تَتَضَمَّنُ أنَّ الحالَ قَدْ كانَتْ مُتَقَدِّمَةً؛ ومِن هَذِهِ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ تِلْكَ المَكارِمُ لا قَعْبانِ مِن لَبَنٍ ∗∗∗ ∗∗∗ شِيبا بِماءٍ فَعادا بَعْدُ أبْوالا (p-٦١٤)وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ وعادَ رَأْسِي كالثَغامَةْ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿حَتّى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾ [يس: ٣٩] ؛ عَلى أنَّ هَذِهِ مُحْتَمَلَةٌ؛ فَقَوْلُهُ في الآيَةِ: ﴿ "أو لَتَعُودُنَّ"﴾ - وشُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَلامُ - لَمْ يَكُنْ قَطُّ كافِرًا - يَقْتَضِي أنَّها بِمَعْنى صارَ؛ وأمّا في جِهَةِ المُؤْمِنِينَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ؛ فَيَتَرَتَّبُ المَعْنى الآخَرُ ويُخْرَجُ عنهُ شُعَيْبٌ - عَلَيْهِ السَلامُ - إلّا أنْ يُرِيدُوا عَوْدَتَهُ إلى حالِ سُكُوتِهِ قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿أوَلَوْ كُنّا كارِهِينَ﴾ ؛ تَوْقِيفٌ مِنهُ لَهم عَلى شُنْعَةٍ المَعْصِيَةِ؛ وطَلَبٌ أنْ يُقِرُّوا بِألْسِنَتِهِمْ بِإكْراهِ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعالى عَلى الإخْراجِ ظُلْمًا وغَشْمًا. والظاهِرُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلى اللهِ كَذِبًا إنْ عُدْنا في مِلَّتِكُمْ﴾ أنَّهُ خَبَرٌ مِنهُ؛ أيْ: لَقَدْ كُنّا نُواقِعُ عَظِيمًا ونَفْتَرِي عَلى اللهِ تَعالى الكَذِبَ في الرُجُوعِ إلى الكُفْرِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَلى جِهَةِ القَسَمِ الَّذِي هو في صِيغَةِ الدُعاءِ؛ مِثْلَ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ بَقِيتُ وفْرِي.......... ∗∗∗ ∗∗∗.................. (p-٦١٥)وَكَما تَقُولُ: "اِفْتَرَيْتُ عَلى اللهِ تَعالى إنْ كَلَّمْتُ فُلانًا"؛ و"اِفْتَرَيْنا"؛ مَعْناهُ: شَقَقْنا بِالقَوْلِ؛ واخْتَلَفْنا؛ ومِنهُ قَوْلُ عائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عنها -: « "مَن زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - رَأى رَبَّهُ فَقَدْ أعْظَمَ عَلى اللهِ الفِرْيَةَ".» ونَجاةُ شُعَيْبٍ مِن مِلَّتِهِمْ كانَتْ مُنْذُ أوَّلِ أمْرِهِ؛ ونَجاةُ مَن آمَنَ مَعَهُ كانَتْ بَعْدَ مُواقَعَةِ الكُفْرِ. وقَوْلُهُ: ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللهُ﴾ ؛ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: "إلّا أنْ يَسْبِقَ عَلَيْنا مِنَ اللهِ تَعالى في ذَلِكَ سابِقُ سُوءٍ؛ ويَنْفُذُ مِنهُ تَعالى قَضاءٌ لا يُرَدُّ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والمُؤْمِنُونَ هُمُ المُجَوَّزُونَ لِذَلِكَ؛ وشُعَيْبٌ قَدْ عَصَمَتْهُ النُبُوَّةُ؛ وهَذا أظْهَرُ ما يَحْتَمِلُ القَوْلُ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ اسْتِثْناءَ ما يُمْكِنُ أنْ يَتَعَبَّدَ اللهَ تَعالى بِهِ المُؤْمِنُونَ؛ مِمّا تَفْعَلُهُ الكُفّارُ مِنَ القُرُباتِ؛ فَلَمّا قالَ لَهُمْ: "إنّا لا نَعُودُ في مِلَّتِكُمْ"؛ ثُمَّ خَشِيَ أنْ يُتَعَبَّدَ اللهُ بِشَيْءٍ مِن أفْعالِ الكَفَرَةِ؛ فَيُعارِضَ مُلْحِدٌ بِذَلِكَ؛ ويَقُولَ: هَذِهِ عَوْدَةٌ إلى مِلَّتِنا؛ اسْتَثْنى مَشِيئَةَ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى - فِيما يُمْكِنُ أنْ يُتَعَبَّدَ بِهِ تَعالى ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ مَعْنى الِاسْتِبْعادِ؛ كَما تَقُولُ: "لا أفْعَلُ كَذا حَتّى يَشِيبَ الغُرابُ؛ وحَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ"؛ وقَدْ عُلِمَ امْتِناعُ ذَلِكَ؛ فَهو إحالَةٌ عَلى مُسْتَحِيلٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا تَأْوِيلٌ إنَّما هو لِلْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ مِن مَذْهَبِهِمْ أنَّ الكُفْرَ والإيمانَ لَيْسا بِمَشِيئَةٍ مِنَ اللهِ تَعالى ؛ فَلا يَتَرَتَّبُ هَذا التَأْوِيلُ إلّا عِنْدَهُمْ؛ وهَذا تَأْوِيلٌ حَكاهُ المُفَسِّرُونَ؛ ولَمْ يَشْعُرُوا بِما فِيهِ؛ وقِيلَ: إنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ إنَّما هو تَسَتُّرٌ وتَأدُّبٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: (p-٦١٦)وَيُقْلَقُ هَذا التَأْوِيلُ مِن جِهَةِ اسْتِقْبالِ الِاسْتِثْناءِ؛ ولَوْ كانَ في الكَلامِ "إنْ شاءَ اللهُ"؛ قَوِيَ هَذا التَأْوِيلُ. وقَوْلُهُ: ﴿وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ ؛ مَعْناهُ: "وَسِعَ عِلْمُ رَبِّنا تَعالى كُلَّ شَيْءٍ"؛ كَما تَقُولُ: "تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقًا"؛ أيْ: تَصَبَّبَ عَرَقُ زَيْدٍ؛ و"وَسِعَ"؛ بِمَعْنى أحاطَ. وقَوْلُهُ: "اِفْتَحْ"؛ مَعْناهُ: اُحْكُمْ؛ و"اَلْفاتِحُ"؛ و"اَلْفَتّاحُ": اَلْقاضِي؛ بِلُغَةِ حِمْيَرٍ؛ وقِيلَ: بِلُغَةِ مُرادٍ؛ وقالَ بَعْضُهُمْ: ؎ ألا أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولًا ∗∗∗ ∗∗∗ فَإنِّي عن فُتاحَتِكم غَنِيُّ وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: إنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أرادَ اللهَ تَعالى هَلاكَ قَوْمِهِ؛ أمَرَهُ بِالدُعاءِ عَلَيْهِمْ؛ ثُمَّ اسْتَجابَ تَعالى لَهُ؛ فَأهْلَكَهُمْ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -: ما كُنْتُ أعْرِفُ مَعْنى هَذِهِ اللَفْظَةِ حَتّى سَمِعْتُ بِنْتَ ذِي يَزَنٍ تَقُولُ لِزَوْجِها: "تَعالَ أُفاتِحْكَ"؛ أيْ: "أُحاكِمْكَ". وقَوْلُهُ: ﴿عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا﴾ اِسْتِسْلامٌ لِلَّهِ تَعالى وتَمَسُّكٌ بِلُطْفِهِ؛ وذَلِكَ يُؤَيِّدُ التَأْوِيلَ الأوَّلَ في قَوْلِهِ: ﴿إلا أنْ يَشاءَ اللهُ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب