الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يابَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ . لَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى حالَ المُؤْمِنِينَ والمُجْرِمِينَ كانَ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ الإنْسانَ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا، والجَهْلُ مِنَ الأعْذارِ، فَقالَ اللَّهُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الإنْذارِ، وقَدْ سَبَقَ إيضاحُ السُّبُلِ بِإيضاحِ الرُّسُلِ، وعَهِدْنا إلَيْكم وتَلَوْنا عَلَيْكم ما يَنْبَغِي أنْ تَفْعَلُوهُ وما لا يَنْبَغِي، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في اللُّغاتِ الَّتِي في ﴿أعْهَدْ﴾ وهي كَثِيرَةٌ: الأُولى: كَسْرُ هَمْزَةِ إعْهَدْ، وحُرُوفُ الِاسْتِقْبالِ كُلُّها تُكْسَرُ إلّا الياءَ، فَلا يُقالُ يَعْلَمُ ويِعْلَمُ. الثّانِيَةُ: كَسْرُ الهاءِ مِن بابِ ضَرَبَ يَضْرِبُ. الثّالِثَةُ: قَلْبُ العَيْنِ جِيمًا ألَمْ أجْهَدْ وذَلِكَ في كُلِّ عَيْنٍ بَعْدَها هاءٌ. الرّابِعَةُ: إدْغامُ الهاءِ في الحاءِ بَعْدَ القَلْبِ فَيُقالُ: ألَمْ أحَّدْ، وقَدْ سُمِعَ قَوْمٌ يَقُولُونَ: دَحّا مَحّا، أيْ: دَعْها مَعَها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في مَعْنى (أعْهَدْ) وُجُوهٌ أقْرَبُها وأقْواها ألَمْ أُوصِ إلَيْكم. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في هَذا العَهْدِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ هو العَهْدُ الَّذِي كانَ مَعَ أبِينا آدَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿عَهِدْنا إلى آدَمَ﴾ [طه: ١١٥] . الثّانِي: أنَّهُ هو الَّذِي كانَ مَعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى﴾ [الأعراف: ١٧٢] فَإنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ لا نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ. الثّالِثُ: وهو الأقْوى، أنَّ ذَلِكَ كانَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ عَلى لِسانِ (p-٨٥)رَسُولٍ، ولِذَلِكَ اتَّفَقَ العُقَلاءُ عَلى أنَّ الشَّيْطانَ يَأْمُرُ بِالشَّرِّ، وإنِ اخْتَلَفُوا في حَقِيقَتِهِ وكَيْفِيَّتِهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ﴾ مَعْناهُ لا تُطِيعُوهُ، بِدَلِيلِ أنَّ المَنهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ هو السُّجُودَ لَهُ فَحَسْبُ، بَلِ الِانْقِيادُ لِأمْرِهِ والطّاعَةُ لَهُ، فالطّاعَةُ عِبادَةٌ، لا يُقالُ: فَنَكُونُ نَحْنُ مَأْمُورِينَ بِعِبادَةِ الأُمَراءِ حَيْثُ أُمِرْنا بِطاعَتِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٥٩] لِأنّا نَقُولُ: طاعَتُهم إذا كانَتْ بِأمْرِ اللَّهِ، لا تَكُونُ إلّا عِبادَةً لِلَّهِ وطاعَةً لَهُ، وكَيْفَ لا ونَفْسُ السُّجُودِ والرُّكُوعِ لِلْغَيْرِ إذا كانَ بِأمْرِ اللَّهِ لا يَكُونُ إلّا عِبادَةً لِلَّهِ، ألا تَرى أنَّ المَلائِكَةَ سَجَدُوا لِآدَمَ ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلّا عِبادَةً لِلَّهِ، وإنَّما عِبادَةُ الأُمَراءِ هو طاعَتُهم فِيما لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ، فَإنْ قِيلَ: بِماذا تَعْلَمُ طاعَةَ الشَّيْطانِ مِن طاعَةِ الرَّحْمَنِ، مَعَ أنّا لا نَسْمَعُ مِنَ الشَّيْطانِ خَبَرًا ولا نَرى مِنهُ أثَرًا ؟ نَقُولُ: عِبادَةُ الشَّيْطانِ في مُخالَفَةِ أمْرِ اللَّهِ أوِ الإتْيانِ بِما أمَرَ اللَّهُ لا لِأنَّهُ أمَرَ بِهِ، فَفي بَعْضِ الأوْقاتِ يَكُونُ الشَّيْطانُ يَأْمُرُكَ وهو في غَيْرِكَ، وفي بَعْضِ الأوْقاتِ يَأْمُرُكَ وهو فِيكَ، فَإذا جاءَكَ شَخْصٌ يَأْمُرُكَ بِشَيْءٍ، فانْظُرْ إنْ كانَ ذَلِكَ مُوافِقًا لِأمْرِ اللَّهِ أوْ لَيْسَ مُوافِقًا، فَإنْ لَمْ يَكُنْ مُوافِقًا فَذَلِكَ الشَّخْصُ مَعَ الشَّيْطانِ يَأْمُرُكَ بِما يَأْمُرُكَ بِهِ، فَإنْ أطَعْتَهُ فَقَدْ عَبَدْتَ الشَّيْطانَ، وإنْ دَعَتْكَ نَفْسُكَ إلى فِعْلٍ فانْظُرْ أهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ مِن جِهَةِ الشَّرْعِ أوْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَنَفْسُكَ هي الشَّيْطانُ، أوْ مَعَها الشَّيْطانُ يَدْعُوكَ، فَإنِ اتَّبَعْتَهُ فَقَدْ عَبَدْتَهُ، ثُمَّ إنَّ الشَّيْطانَ يَأْمُرُ أوَّلًا بِمُخالَفَةِ اللَّهِ ظاهِرًا، فَمَن أطاعَهُ فَقَدْ عَبَدَهُ ومَن لَمْ يُطِعْهُ فَلا يَرْجِعُ عَنْهُ، بَلْ يَقُولُ لَهُ: اعْبُدِ اللَّهَ كَيْ لا تُهانَ، ولِيَرْتَفِعَ عِنْدَ النّاسِ شَأْنُكَ، ويَنْتَفِعَ بِكَ إخْوانُكَ وأعْوانُكَ، فَإنْ أجابَ إلَيْهِ فَقَدْ عَبَدَهُ. لَكِنَّ عِبادَةَ الشَّيْطانِ عَلى تَفاوُتٍ، وذَلِكَ لِأنَّ الأعْمالَ مِنها ما يَقَعُ، والعامِلُ مُوافِقٌ فِيهِ جَنانَهُ ولِسانَهُ وأرْكانَهُ، ومِنها ما يَقَعُ والجَنانُ واللِّسانُ مُخالِفٌ لِلْجَوارِحِ أوْ لِلْأرْكانِ، فَمِنَ النّاسِ مَن يَرْتَكِبُ جَرِيمَةً كارِهًا بِقَلْبِهِ لِما يَقْتَرِفُ مِن ذَنْبِهِ، مُسْتَغْفِرًا لِرَبِّهِ، يَعْتَرِفُ بِسُوءِ ما يَقْتَرِفُ، فَهو عِبادَةُ الشَّيْطانِ بِالأعْضاءِ الظّاهِرَةِ، ومِنهم مَن يَرْتَكِبُها وقَلْبُهُ طَيِّبٌ ولِسانُهُ رَطْبٌ، كَما أنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَفْرَحُ بِكَوْنِهِ مُتَرَدِّدًا إلى أبْوابِ الظَّلَمَةِ لِلسِّعايَةِ، ويَعُدُّ مِنَ المَحاسِنِ كَوْنَهُ سارِيًا مَعَ المُلُوكِ ويَفْتَخِرُ بِهِ بِلِسانِهِ، وتَجِدُهم يَفْرَحُونَ بِكَوْنِهِمْ آمِرِينَ المَلِكَ بِالظُّلْمِ، والمَلِكُ يَنْقادُ لَهم، أوْ يَفْرَحُونَ بِكَوْنِهِ يَأْمُرُهم بِالظُّلْمِ فَيَظْلِمُونَ، فَرِحِينَ بِما ورَدَ عَلَيْهِمْ مِنَ الأمْرِ، إذا عَرَفْتَ هَذا فالطّاعَةُ الَّتِي هي بِالأعْضاءِ الظّاهِرَةِ، والبَواطِنُ طاهِرَةٌ مُكَفَّرَةٌ بِالأسْقامِ والآلامِ، كَما ورَدَ في الأخْبارِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: («الحُمّى مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ» )، وقَوْلُهُ ﷺ: («السَّيْفُ مَحّاءٌ لِلذُّنُوبِ» )، أيْ لِمِثْلِ هَذِهِ الذُّنُوبِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما «قالَ ﷺ في الحُدُودِ: (إنَّها كَفّاراتٌ») وما يَكُونُ بِالقُلُوبِ فَلا خَلاصَ عَنْهُ إلّا بِالتَّوْبَةِ والنَّدَمِ وإقْبالِ القَلْبِ عَلى الرَّبِّ، وما يَكُونُ بِاللِّسانِ فَهو مِن قَبِيلِ ما يَكُونُ بِالقَلْبِ في الظّاهِرِ. والمِثالُ يُوَضِّحُ الحالَ فَنَقُولُ إذا كانَ عِنْدَ السُّلْطانِ أمِيرٌ ولَهُ غِلْمانٌ هم مِن خَواصِّ الأمِيرِ، وأتْباعٌ بُعَداءُ هم مِن عَوامِّ النّاسِ، فَإذا صَدَرَ مِنَ الأمِيرِ مُخالَّةٌ ومُسارَّةٌ مَعَ عَدُوِّ السُّلْطانِ ومُصادَقَةٌ بَيْنَهُما، لا يَعْفُو المَلِكُ عَنْ ذَلِكَ إلّا إذا كانَ في غايَةِ الصَّفْحِ، أوْ يَكُونُ لِلْأمِيرِ عِنْدَهُ يَدٌ سابِقَةٌ أوْ تَوْبَةٌ لاحِقَةٌ، فَإنْ صَدَرَ مِن خَواصِّ الأمِيرِ مُخالَفَةٌ وهو بِهِ عالِمٌ ولَمْ يَزْجُرْهُ، عُدَّتِ المُخالَفَةُ مَوْجُودَةً مِنهُ، وإنْ كانَ كارِهًا وأظْهَرَ الإنْكارَ حَسُنَتْ مُعاتَبَتُهُ دُونَ مُعاقَبَتِهِ؛ لِأنَّ إقْدامَ خَواصِّهِ عَلى المُخالَفَةِ دَلِيلٌ عَلى سُوءِ التَّرْبِيَةِ، فَإنْ كانَ الصّادِرُ مِنَ الحَواشِي الأباعِدِ وبَلَغَ الأمِيرَ ولَمْ يَزْجُرْهُ عُوتِبَ الأمِيرُ، وإنْ زَجَرَهُمُ اسْتَحَقَّ الأمِيرُ بِذَلِكَ الزَّجْرِ الإكْرامَ، وحَسُنَ مِنَ المَلِكِ أنْ يُسْدِيَ إلى المَزْجُورِ الإحْسانَ والإنْعامَ إنْ عَلِمَ حُصُولَ انْزِجارِهِ، إذا عَلِمْتَ هَذا فالقَلْبُ أمِيرٌ واللِّسانُ خاصَّتُهُ والأعْضاءُ خَدَمُهُ، فَما يَصْدُرُ مِنَ القَلْبِ فَهو العَظِيمُ مِنَ الذَّنْبِ، فَإنْ أقْبَلَ عَلى مَحَبَّةِ غَيْرِ اللَّهِ فَهو الوَيْلُ العَظِيمُ (p-٨٦)والضَّلالُ المُبِينُ المُسْتَعْقِبُ لِلْعِقابِ الألِيمِ والعَذابِ المُهِينِ، وما يَصْدُرُ مِنَ اللِّسانِ فَهو مَحْسُوبٌ عَلى القَلْبِ ولا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إنْ لَمْ يُنْكِرْ فِعْلَهُ وما يَصْدُرُ مِنَ الأعْضاءِ، والقَلْبُ قَدْ أظْهَرَ عَلَيْهِ الإنْكارَ وحَصَلَ لَهُ الِانْزِجارُ، فَهو الذَّنْبُ الَّذِي حَكى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ أنَّهُ قالَ: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَلَقْتُ أقْوامًا يُذْنِبُونَ ويَسْتَغْفِرُونَ فَأغْفِرُ لَهم»، وهَهُنا لَطِيفَةٌ: وهي أنَّ الشَّيْطانَ قَدْ يَرْجِعُ عَنْ عَبْدٍ مِن عِبادِ اللَّهِ فَرِحًا فَيَظُنُّ أنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ مِنَ الإغْواءِ حَيْثُ يَرى ذَلِكَ العَبْدَ ارْتَكَبَ الذَّنْبَ ظاهِرًا ويَكُونُ ذَلِكَ رافِعًا لِدَرَجَةِ العَبْدِ، فَإنَّ بِالذَّنَبِ يَنْكَسِرُ قَلْبُ العَبْدِ فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الإعْجابِ بِنَفْسِهِ وعِبادَتِهِ، ويَصِيرُ أقْرَبَ مِنَ المُقَرَّبِينَ؛ لِأنَّ مَن يُذْنِبُ مُقَرَّبٌ عِنْدَ اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿لَهم دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الأنفال: ٤] والمُذْنِبُ التّائِبُ النّادِمُ مُنْكَسِرُ القَلْبِ واللَّهُ عِنْدَهُ كَما «قالَ ﷺ حاكِيًا عَنْ رَبِّهِ: ”أنا عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم“» وفَرْقٌ بَيْنَ مَن يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ، وبَيْنَ مَن يَكُونُ عِنْدَهُ اللَّهُ، ولَعَلَّ ما يُحْكى مِنَ الذُّنُوبِ الصّادِرَةِ عَنِ الأنْبِياءِ مِن هَذا القَبِيلِ لِتَحْصُلَ لَهُمُ الفَضِيلَةُ عَلى المَلائِكَةِ حَيْثُ تَبَجَّحُوا بِأنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] وقَدْ يَرْجِعُ الشَّيْطانُ عَنْ آخَرَ يَكُونُ قَدْ أمَرَهُ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَفْعَلْهُ والشَّخْصُ يَظُنُّ أنَّهُ غَلَبَ الشَّيْطانَ ورَدَّهُ خائِبًا فَيَتَبَجَّحُ في نَفْسِهِ، وهو لا يَعْلَمُ أنَّ الشَّيْطانَ رَجَعَ عَنْهُ مُحَصِّلَ المَقْصُودِ مَقْبُولًا غَيْرَ مَرْدُودٍ. ومِن هَذا يَتَبَيَّنُ أمْرٌ أُصُولِيٌّ وهو أنَّ النّاسَ اخْتَلَفُوا في أنَّ المُذْنِبَ هَلْ يَخْرُجُ مِنَ الإيمانِ أمْ لا ؟ وسَبَبُ النِّزاعِ وُقُوعُ نَظَرِ الخَصْمَيْنِ عَلى أمْرَيْنِ مُتَبايِنَيْنِ، فالذَّنْبُ الَّذِي بِالجَسَدِ لا بِالقَلْبِ لا يَخْرُجُ بَلْ قَدْ يَزِيدُ في الإيمانِ والَّذِي بِالقَلْبِ يُخافُ مِنهُ الخُرُوجُ عَنْ رِبْقَةِ الإيمانِ، ولِذَلِكَ اخْتَلَفُوا في عِصْمَةِ الأنْبِياءِ مِنَ الذُّنُوبِ، والأشْبَهُ أنَّ الجَسَدِيَّ جائِزٌ عَلَيْهِمْ والقُرْآنَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، والقَلْبِيَّ لا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا نَهى عِبادَهُ عَنْ عِبادَةِ الشَّيْطانِ ذَكَرَ ما يَحْمِلُهم عَلى قَبُولِ ما أُمِرُوا بِهِ والِانْتِهاءِ عَمّا نُهُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: مِن أيْنَ حَصَلَتِ العَداوَةُ بَيْنَ الشَّيْطانِ والإنْسانِ ؟ فَنَقُولُ: ابْتِداؤُها مِنَ الشَّيْطانِ، وسَبَبُهُ تَكْرِيمُ اللَّهِ بَنِي آدَمَ، لَمّا رَأى إبْلِيسُ رَبَّهُ كَرَّمَ آدَمَ وبَنِيهِ عاداهم فَعاداهُ اللَّهُ تَعالى، والأُولى مِنهُ لُؤْمٌ، والثّانِي مِنَ اللَّهِ كَرَمٌ، أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ المَلِكَ إذا أكْرَمَ شَخْصًا ولَمْ يُنْقِصْ مِنَ الآخَرِ شَيْئًا إذْ لا ضِيقَ في الخِزانَةِ، فَعَداوَةُ مَن يُعادِي ذَلِكَ المُكْرَمَ لا تَكُونُ إلّا لُؤْمًا، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ المَلِكَ إذا عَلِمَ أنَّ إكْرامَهُ لَيْسَ إلّا مِنهُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الضَّعِيفَ ما كانَ يَقْدِرُ أنْ يَصِلَ إلى بَعْضِ تِلْكَ المَنزِلَةِ لَوْلا إكْرامُ المَلِكِ، يَعْلَمُ أنَّ مَن يُبْغِضُهُ يُنْكِرُ فِعْلَ المَلِكِ أوْ يَنْسُبُ إلى خِزانَتِهِ ضِيقًا، وكِلاهُما يَحْسُنُ التَّعْذِيبُ عَلَيْهِ فَيُعادِيهِ إتْمامًا لِلْإكْرامِ وإكْمالًا لِلْإفْضالِ، ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ عَلى مَذْهَبِ إبْلِيسَ إذا رَأوْا واحِدًا عِنْدَ مَلِكٍ مُحْتَرَمًا بَغَضُوهُ وسَعَوْا فِيهِ إقامَةً لِسُنَّةِ إبْلِيسَ، فالمَلِكُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَخَلِّقًا بِأخْلاقِ اللَّهِ لا يُبْعِدُ السّاعِيَ ويَسْمَعُ كَلامَهُ ويَتْرُكُ إكْرامَ ذَلِكَ الشَّخْصِ واحْتِرامَهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مِن أيْنَ إبانَةُ عَداوَةِ إبْلِيسَ ؟ نَقُولُ لَمّا أكْرَمَ اللَّهُ آدَمَ عاداهُ إبْلِيسُ، وظَنَّ أنَّهُ يَبْقى في مَنزِلَتِهِ وآدَمُ في مَنزِلَتِهِ، مِثْلَ مُتَباغِضَيْنِ عِنْدَ المَلِكِ واللَّهُ كانَ عالِمًا بِالضَّمائِرِ فَأبْعَدَهُ وأظْهَرَ أمْرَهُ، فَأظْهَرَ هو مِن نَفْسِهِ ما كانَ يُخْفِيهِ لِزَوالِ ما كانَ يَحْمِلُهُ عَلى الإخْفاءِ فَقالَ: ﴿لَأقْعُدَنَّ لَهم صِراطَكَ المُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف: ١٦] وقالَ: ﴿لَأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ [الإسراء: ٦٢] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إذا كانَ الشَّيْطانُ لِلْإنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا فَما بالُ الإنْسانِ يَمِيلُ إلى مَراضِيهِ مِنَ الشُّرْبِ والزِّنا، ويَكْرَهُ مَساخِطَهُ مِنَ المُجاهَدَةِ والعِبادَةِ ؟ نَقُولُ: سَبَبُ ذَلِكَ اسْتِعانَةُ الشَّيْطانِ بِأعْوانٍ مِن عِنْدِ الإنْسانِ (p-٨٧)وتَرْكُ اسْتِعانَةِ الإنْسانِ بِاللَّهِ، فَيَسْتَعِينُ بِشَهْوَتِهِ الَّتِي خَلَقَها اللَّهُ تَعالى فِيهِ لِمَصالِحِ بَقائِهِ وبَقاءِ نَوْعِهِ ويَجْعَلُها سَبَبًا لِفَسادِ حالِهِ ويَدْعُوهُ بِها إلى مَسالِكِ المَهالِكِ، وكَذَلِكَ يَسْتَعِينُ بِغَضَبِهِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ لِدَفْعِ المَفاسِدِ عَنْهُ ويَجْعَلُهُ سَبَبًا لِوَبالِهِ وفَسادِ أحْوالِهِ، ومِيلُ الإنْسانِ إلى المَعاصِي كَمَيْلِ المَرِيضِ إلى المَضارِّ، وذَلِكَ حَيْثُ يَنْحَرِفُ المِزاجُ عَنِ الِاعْتِدالِ، فَتَرى المَحْمُومَ يُرِيدُ الماءَ البارِدَ وهو يَزِيدُ في مَرَضِهِ، ومَن بِهِ فَسادُ المَعِدَةِ فَلا يَهْضِمُ القَلِيلَ مِنَ الغِذاءِ، يَمِيلُ إلى الأكْلِ الكَثِيرِ ولا يَشْبَعُ بِشَيْءٍ وهو يَزِيدُ في مَعِدَتِهِ فَسادًا، وصَحِيحُ المِزاجِ لا يَشْتَهِي إلّا ما يَنْفَعُهُ فالدُّنْيا كالهَواءِ الوَبِيءِ لا يَسْتَغْنِي الإنْسانُ فِيهِ عَنِ اسْتِنْشاقِ الهَواءِ وهو المُفْسِدُ لِمِزاجِهِ ولا طَرِيقَ لَهُ غَيْرُ إصْلاحِ الهَواءِ بِالرَّوائِحِ الطَّيِّبَةِ والأشْياءِ الزَّكِيَّةِ والرَّشِّ بِالخَلِّ والماوَرْدِ مِن جُمْلَةِ المُصْلِحاتِ، فَكَذَلِكَ الإنْسانُ في الدُّنْيا لا يَسْتَغْنِي عَنْ أُمُورِها وهي المُعِيناتُ لِلشَّيْطانِ، وطَرِيقُهُ تَرْكُ الهَوى وتَقْلِيلُ التَّأْمِيلِ وتَحْرِيفُ الهَوى بِالذِّكْرِ الطَّيِّبِ والزُّهْدِ، فَإذا صَحَّ مِزاجُ عَقْلِهِ لا يَمِيلُ إلّا إلى الحَقِّ ولا يَبْقى عَلَيْهِ في التَّكالِيفِ كُلْفَةٌ ويَحْصُلُ لَهُ مَعَ الأُمُورِ الإلَهِيَّةِ أُلْفَةٌ، وهُنالِكَ يَعْتَرِفُ الشَّيْطانُ بِأنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ سُلْطانٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب