الباحث القرآني

﴿إنَّ أصْحابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ في شُغُلٍ فاكِهُونَ﴾ ﴿هم وأزْواجُهم في ظِلالٍ عَلى الأرائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ ﴿لَهم فِيها فاكِهَةٌ ولَهم ما يَدَّعُونَ﴾ ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ ﴿وامْتازُوا اليَوْمَ أيُّها المُجْرِمُونَ﴾ ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكم يابَنِي آدَمَ أنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ﴿وأنِ اعْبُدُونِي هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ ﴿ولَقَدْ أضَلَّ مِنكم جِبِلًّا كَثِيرًا أفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ ﴿اصْلَوْها اليَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ﴿اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أفْواهِهِمْ وتُكَلِّمُنا أيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أرْجُلُهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ﴿ولَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ﴾ ﴿ولَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهم عَلى مَكانَتِهِمْ فَما اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ولا يَرْجِعُونَ﴾ ﴿ومَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ في الخَلْقِ أفَلا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ إنْ هو إلّا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ ﴿لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكافِرِينَ﴾ . (p-٣٤٢)لَمّا ذَكَرَ تَعالى أهْوالَ يَوْمِ القِيامَةِ، أعْقَبَ ذَلِكَ بِحالِ السُّعَداءِ والأشْقِياءِ. والظّاهِرُ أنَّهُ إخْبارٌ لَنا بِما يَكُونُونَ فِيهِ إذا صارُوا إلى ما أُعِدَّ لَهم مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ. وقِيلَ: هو حِكايَةُ ما يُقالُ في ذَلِكَ اليَوْمِ، وفي مِثْلِ هَذِهِ الحِكايَةِ زِيادَةُ تَصْوِيرٍ لِلْمَوْعُودِ لَهُ في النُّفُوسِ، وتَرْغِيبٌ إلى الحِرْصِ عَلَيْهِ وفِيما يُثْمِرُهُ؛ والظّاهِرُ أنَّ الشُّغُلَ هو النَّعِيمُ الَّذِي قَدْ شَغَلَهم عَنْ كُلِّ ما يَخْطُرُ بِالبالِ. وقالَ قَرِيبًا مِنهُ مُجاهِدٌ، وبَعْضُهم خَصَّ هَذا الشُّغُلَ بِافْتِضاضِ الأبْكارِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ وعَنْهُ أيْضًا: سَماعُ الأوْتارِ. وعَنِ الحَسَنِ: شُغِلُوا عَنْ ما فِيهِ أهْلُ النّارِ. وعَنِ الكَلْبِيِّ: عَنْ أهالِيهِمْ مِن أهْلِ النّارِ، لا يَذْكُرُونَهم لِئَلّا يَتَنَغَّصُو‌‌‌‌ا. وعَنِ ابْنِ كَيْسانَ: الشُّغُلُ: التَّزاوُرُ. وقِيلَ: ضِيافَةُ اللَّهِ، وأُفِرَدَ الشُّغُلُ مَلْحُوظًا فِيهِ النَّعِيمُ، وهو واحِدٌ مِن حَيْثُ هو نَعِيمٌ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ، وأبُو عَمْرٍو: بِضَمِّ الشِّينِ وسُكُونِ الغَيْنِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّها؛ ومُجاهِدٌ، وأبُو السَّمّالِ، وابْنُ هُبَيْرَةَ فِيما نَقَلَ ابْنُ خالَوَيْهِ عَنْهُ: بِفَتْحَتَيْنِ؛ ويَزِيدُ النَّحْوِيُّ، وابْنُ هُبَيْرَةَ، فِيما نَقَلَ أبُو الفَضْلِ الرّازِيُّ: بِفَتْحِ الشِّينِ وإسْكانِ الغَيْنِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (فاكِهُونَ)، بِالألِفِ؛ والحَسَنُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وقَتادَةُ، وأبُو حَيْوَةَ، ومُجاهِدٌ، وشَيْبَةُ، وأبُو رَجاءٍ، ويَحْيى بْنُ صُبَيْحٍ، ونافِعٌ في رِوايَةٍ: بِغَيْرِ ألِفٍ؛ وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ: فاكِهِينَ، بِالألِفِ وبِالياءِ نَصْبًا عَلى الحالِ، وفي شُغُلٍ هو الخَبَرُ. فَبِالألِفِ أصْحابُ فاكِهَةٍ، كَما يُقالُ لابِنٍ وتامِرٍ وشاحِمٍ ولاحِمٍ، وبِغَيْرِ ألِفٍ مَعْناهُ: فَرِحُونَ طَرِبُونَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الفُكاهَةِ وهي المُزْحَةُ، وقُرِئَ: فَكِهِينَ، بِغَيْرِ ألِفٍ وبِالياءِ. وقُرِئَ: فَكُهُونَ، بِضَمِّ الكافِ. يُقالُ: رَجُلٌ فَكُهٌ وفَكِهٌ، نَحْوُ: يَدُسٌ ويَدِسٌ. ويَجُوزُ في هم أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وخَبَرُهُ في ظِلالٍ، ومُتَّكِئُونَ خَبَرٌ ثانٍ، أوْ خَبَرُهُ مُتَّكِئُونَ، وفي ظِلالٍ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، أوْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في فاكِهُونَ، وفي ظِلالٍ حالٌ، ومُتَّكِئُونَ خَبَرٌ ثانٍ لِإنَّ، أوْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في شُغُلٍ، المُنْتَقِلِ إلَيْهِ مِنَ العامِلِ فِيهِ. وعَلى هَذا الوَجْهِ والَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ الأزْواجُ قَدْ شارَكُوهم في التَّفَكُّهِ والشُّغُلِ والِاتِّكاءِ عَلى الأرائِكِ، وذَلِكَ مِن جِهَةِ المَنطُوقِ. وعَلى الأوَّلِ، شارَكُوهم في الظِّلالِ والِاتِّكاءِ عَلى الأرائِكِ مِن حَيْثُ المَنطُوقُ، وهُنَّ قَدْ شارَكْنَهم في التَّفَكُّهِ والشُّغُلِ مِن حَيْثُ المَعْنى. وقَرَأ الجُمْهُورُ (في ظِلالٍ) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو جَمْعُ ظِلٍّ، إذِ الجَنَّةُ لا شَمْسَ فِيها، وإنَّما هَواؤُها سَجْسَجٌ، كَوَقْتِ الأسْفارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. انْتَهى. وجُمِعَ فِعْلٌ عَلى فِعالٍ في الكَثْرَةِ، نَحْوُ: ذِئْبٌ وذِئابٌ. وأمّا أنَّ وقْتَ الجَنَّةِ كَوَقْتِ الأسْفارِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَحْتاجُ هَذا إلى نَقْلٍ صَحِيحٍ. وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ وفي الحَدِيثِ ما يَدُلُّ عَلى حَوْراءَ مِن حُورِ الجَنَّةِ، لَوْ ظَهَرَتْ لَأضاءَتْ مِنها الدُّنْيا، أوْ نَحْوٌ مِن هَذا ؟ قالَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ ظُلَّةٍ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: كَبُرْمَةٍ وبِرامٍ. وقالَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: جَمْعُ ظِلَّةٍ، بِكَسْرِ الظّاءِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهي لُغَةٌ في ظُلَّةٍ. انْتَهى. فَيَكُونَ مِثْلَ لُقْحَةٍ ولِقاحٍ، وفِعالٌ لا يَنْقاسُ في فُعْلَةٍ بَلْ يُحْفَظُ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ، والسُّلَمِيُّ، وطَلْحَةُ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: (في ظِلٍّ): جَمْعُ ظِلَّةٍ، وجَمْعُ فِعْلَةٍ عَلى فِعْلٍ مَقِيسٌ، وهي عِبارَةٌ عَنِ المَلابِسِ والمَراتِبِ مِنَ الحِجالِ والسُّتُورِ ونَحْوِها مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُظِلُّ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: مُتَّكِئِينَ، نَصْبًا عَلى الحالِ؛ ويَدَّعُونَ مُضارِعُ ادَّعى، وهو افْتَعَلَ مِن دَعا، ومَعْناهُ: ولَهم ما يَتَمَنَّوْنَ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: العَرَبُ تَقُولُ ادْعُ عَلَيَّ ما شِئْتَ، بِمَعْنى تَمَنَّ عَلَيَّ وتَقُولُ فُلانٌ في خَبَرٍ ما تَمَنّى. قالَ الزَّجّاجُ: وهو مِنَ الدُّعاءِ، أيْ ما يَدْعُونَهُ أهْلُ الجَنَّةِ يَأْتِيهِمْ. وقِيلَ: يَدْعُونَ بِهِ لِأنْفُسِهِمْ. وقِيلَ: يَتَداعُونَهُ لِقَوْلِهِ (p-٣٤٣)ارْتَمُوهُ وتَرامُوهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: سَلامٌ بِالرَّفْعِ. وهو صِفَةٌ لِما، أيْ مُسَلَّمٌ لَهم وخالِصٌ. انْتَهى. ولا يَصِحُّ إنْ كانَ ما بِمَعْنى الَّذِي؛ لِأنَّها تَكُونُ إذْ ذاكَ مَعْرِفَةً. وسَلامٌ نَكِرَةٌ، ولا تُنْعَتُ المَعْرِفَةُ بِالنَّكِرَةِ. فَإنْ كانَتْ ما نَكِرَةً مَوْصُوفَةً جازَ، إلّا أنَّهُ لا يَكُونُ فِيهِ عُمُومٌ، كَحالِها بِمَعْنى الَّذِي. وقِيلَ: سَلامٌ مُبْتَدَأٌ ويَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ الفِعْلَ النّاصِبَ لِقَوْلِهِ (قَوْلًا)، أيْ سَلامٌ يُقالُ، ﴿قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾، أوْ يَكُونُ عَلَيْكم مَحْذُوفًا، أيْ سَلامٌ عَلَيْكم، ﴿قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ . وقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ هو سَلامٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿سَلامٌ قَوْلًا﴾ بَدَلٌ مِن ﴿ما يَدَّعُونَ﴾، كَأنَّهُ قالَ: لَهم سَلامٌ يُقالُ لَهم قَوْلًا مِن جِهَةِ رَبٍّ رَحِيمٍ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِواسِطَةِ المَلائِكَةِ، أوْ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، مُبالَغَةً في تَعْظِيمِهِمْ، وذَلِكَ مُتَمَنّاهم، ولَهم ذَلِكَ لا يُمْنَعُونَهُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ مِن رَبِّ العالَمِينَ. انْتَهى. وإذا كانَ سَلامٌ بَدَلًا مِن ما يَدَّعُونَ خُصُوصًا. والظّاهِرُ أنَّهُ عُمُومٌ في كُلِّ ما يَدَّعُونَ، وإذا كانَ عُمُومًا، لَمْ يَكُنْ سَلامٌ بَدَلًا مِنهُ. وقِيلَ: سَلامٌ خَبَرٌ لِما يَدَّعُونَ، وما يَدَّعُونَ مُبْتَدَأٌ، أيْ ولَهم ما يَدَّعُونَ سَلامٌ خالِصٌ لا شُرْبَ فِيهِ، وقَوْلًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، كَقَوْلِهِ ﴿ولَهم ما يَدَّعُونَ سَلامٌ﴾ أيْ عِدَّةٌ مِن رَحِيمٍ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: والأوْجَهُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الِاخْتِصاصِ، وهو مِن مَجازِهِ. انْتَهى. ويَكُونَ لَهم مُتَعَلِّقًا عَلى هَذا الإعْرابِ بِـ (سَلامٌ) . وقَرَأ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: سِلْمٌ، بِكَسْرِ السِّينِ وسُكُونِ اللّامِ، ومَعْناهُ سَلامٌ. وقالَ أبُو الفَضْلِ: الرّازِيُّ: مُسالِمٌ لَهم، أيْ ذَلِكَ مُسالِمٌ. وقَرَأ أُبِيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ، وعِيسى، والقَنَوِيُّ: سَلامًا، بِالنَّصْبِ عَلى المَصْدَرِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُصِبَ عَلى الحالِ، أيْ لَهم مُرادُهم خالِصًا. ﴿وامْتازُوا اليَوْمَ﴾ أيِ انْفَرَدُوا عَنِ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ المَحْشَرَ جَمَعَ البَرَّ والفاجِرَ، فَأُمِرَ المُجْرِمُونَ بِأنْ يَكُونُوا عَلى حِدَةٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ. والظّاهِرُ أنَّ ثَمَّ قَوْلًا مَحْذُوفًا؛ لَمّا ذَكَرَ تَعالى ما يُقالُ لِلْمُؤْمِنِينَ في قَوْلِهِ ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾، قِيلَ: ويُقالُ لِلْمُجْرِمِينَ (امْتازُوا) . ولَمّا امْتَثَلُوا ما أُمِرُوا بِهِ، قالَ لَهم عَلى جِهَةِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ ﴿ألَمْ أعْهَدْ إلَيْكُمْ﴾ ؟ وقَّفَهم عَلى عَهْدِهِ إلَيْهِمْ ومُخالَفَتِهِمْ إيّاهُ. وعَنِ الضَّحّاكِ: لِكُلِّ كافِرٍ بَيْتٌ مِنَ النّارِ يَكُونُ فِيهِ لا يَرى ولا يُرى، فَعَلى هَذا مَعْناهُ أنَّ بَعْضَهم مِن بَعْضٍ. وعَنْ قَتادَةَ: اعْتَزَلُوا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ. والعَهْدُ: الوَصِيَّةُ، عَهِدَ إلَيْهِ إذا وصّاهُ. وعَهْدُ اللَّهِ إلَيْهِمْ: ما رَكَّزَ فِيهِمْ مِن أدِلَّةِ العَقْلِ، وأنْزَلَ إلَيْهِمْ مِن أدِلَّةِ السَّمْعِ. وعِبادَةُ الشَّيْطانِ: طاعَتُهُ فِيما يُغْوِيهِ ويُزَيِّنُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (أعْهَدْ)، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ والهاءِ. وقَرَأ طَلْحَةُ، والهُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الكُوفِيُّ: بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، قالَهُ صاحِبُ اللَّوامِحِ، وقالَ: لُغَةُ تَمِيمٍ، وهَذا الكَسْرُ في النُّونِ والتّاءِ أكْثَرُ مِن بَيْنِ حُرُوفِ المُضارَعَةِ، يَعْنِي: نِعْهَدْ وتِعْهَدْ. وقالَ ابْنُ خالَوَيْهِ: ألَمْ أعْهَدْ؛ يَحْيى بْنُ وثّابٍ: ألَمْ أحَدْ لُغَةُ تَمِيمٍ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَرَأ الهُذَيْلُ بْنُ وثّابٍ: ألَمِ إعْهَدْ، بِكَسْرِ المِيمِ والهَمْزَةِ وفَتْحِ الهاءِ، وهي عَلى لُغَةِ مَن كَسَرَ أوَّلَ المُضارِعِ سِوى الياءِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ وثّابٍ: ألَمْ أعْهِدْ، بِكَسْرِ الهاءِ، يُقالُ: عَهِدَ يَعْهِدُ. انْتَهى. وقَوْلُهُ: بِكَسْرِ المِيمِ والهَمْزَةِ يَعْنِي أنَّ كَسْرَ المِيمِ يَدُلُّ عَلى كَسْرِ الهَمْزَةِ؛ لِأنَّ الحَرَكَةَ الَّتِي في المِيمِ هي حَرَكَةُ نَقْلِ الهَمْزَةِ المَكْسُورَةِ، وحُذِفَتِ الهَمْزَةُ حِينَ نُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى السّاكِنِ قَبْلَها وهو المِيمُ. أعْهَدْ بِالهَمْزَةِ المَقْطُوعَةِ المَكْسُورَةِ لَفْظًا؛ لِأنَّ هَذا لا يَجُوزُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقُرِئَ إعْهَدْ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وبابُ فَعِلَ كُلُّهُ يَجُوزُ في حُرُوفِ مُضارَعَتِهِ الكَسْرُ إلّا في الياءِ؛ وأعْهِدُ بِكَسْرِ الهاءِ. وقَدْ جَوَّزَ الزَّجّاجُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ نَعَمَ يَنْعِمُ، وضَرَبَ يَضْرِبُ، وأحْهَدُ بِالحاءِ وأحَدُ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ، ومِنهُ قَوْلُهم: دَحّا مَحّا. انْتَهى. وقَوْلُهُ: إلّا في الياءِ، لُغَةٌ لِبَعْضِ كَلْبٍ أنَّهم يَكْسِرُونَ أيْضًا في الياءِ، يَقُولُونَ: هَلْ يِعْلَمُ ؟ وقَوْلُهُ: دَحّا مَحّا، يُرِيدُونَ دَعْها مَعَها، أدْغَمُوا العَيْنَ في الحاءِ، والإشارَةُ بِهَذا إلى ما عَهِدَ إلَيْهِمْ مِن مَعْصِيَةِ الشَّيْطانِ وطاعَةِ الرَّحْمَنِ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ (جِبِلًّا)، بِكَسْرِ الجِيمِ والباءِ وتَشْدِيدِ اللّامِ، وهي قِراءَةُ أبِي حَيْوَةَ، وسُهَيْلٍ، وأبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ، وأبِي رَجاءٍ؛ والحَسَنِ: (p-٣٤٤)بِخِلافٍ عَنْهُ. وقَرَأ العَرَبِيّانِ، والهُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ: بِضَمِّ الجِيمِ وإسْكانِ الباءِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِضَمِّها وتَخْفِيفِ اللّامِ؛ والحَسَنُ بْنُ أبِي إسْحاقَ، والزُّهْرِيُّ، وابْنُ هُرْمُزَ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وحَفْصُ بْنُ حُمَيْدٍ: بِضَمَّتَيْنِ وتَشْدِيدِ اللّامِ؛ والأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ، واليَمانِيُّ، وحَمّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ عاصِمٍ: بِكَسْرِ الجِيمِ وسُكُونِ الباءِ؛ والأعْمَشُ: جِبِلًا، بِكَسْرَتَيْنِ وتَخْفِيفِ اللّامِ. وقُرِئَ: جِبَلًا بِكَسْرِ الجِيمِ وفَتْحِ الباءِ وتَخْفِيفِ اللّامِ، جَمْعُ جِبْلَةٍ، نَحْوُ فِطْرَةٍ وفِطَرٍ، فَهَذِهِ سَبْعُ لُغاتٍ قُرِئَ بِها. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وبَعْضُ الخُراسانِيِّينَ: جِيلًا، بِكَسْرِ الجِيمِ بَعْدَها ياءُ آخِرِ الحُرُوفِ، واحِدُ الأجْيالِ؛ والجِبْلُ بِالباءِ بِواحِدَةٍ مِن أسْفَلَ الأُمَّةُ العَظِيمَةُ. وقالَ الضَّحّاكُ: أقَلُّهُ عَشَرَةُ آلافٍ. خاطَبَ تَعالى الكُفّارَ بِما فَعَلَ مَعَهُمُ الشَّيْطانُ تَقْرِيعًا لَهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿أفَلَمْ تَكُونُوا﴾ بِتاءِ الخِطابِ؛ وطَلْحَةُ، وعِيسى: بِياءِ الغَيْبَةِ، عائِدًا عَلى (جِبِلًّا) . ويُرْوى أنَّهم يَجْحَدُونَ ويُخاصِمُونَ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جِيرانُهم وعَشائِرُهم وأهالِيهِمْ، فَيَحْلِفُونَ ما كانُوا مُشْرِكِينَ، فَحِينَئِذٍ يُخْتَمُ عَلى أفْواهِهِمْ وتُكَلِّمُ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم. وفي الحَدِيثِ: «يَقُولُ العَبْدُ يَوْمَ القِيامَةِ: إنِّي لا أُجِيزُ عَلَيَّ شاهِدًا إلّا مِن نَفْسِي فَيُخْتَمُ عَلى فِيهِ، ويُقالُ لِأرْكانِهِ: انْطِقِي فَتَنْطِقُ بِأعْمالِهِ، ثُمَّ يُخَلّى بَيْنَهُ وبَيْنَ الكَلامِ فَيُقالُ: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُناضِلُ». وقُرِئَ: يُخْتَمُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وتَتَكَلَّمُ أيْدِيهِمْ، بِتاءَيْنِ. وقُرِئَ: ولِتُكَلِّمُنا أيْدِيهِمْ، بِتاءَيْنِ. وقُرِئَ: ولْتُكَلِّمْنا أيْدِيهِمْ ولْتَشْهَدْ بِلامِ الأمْرِ والجَزْمِ عَلى أنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الأعْضاءَ بِالكَلامِ والشَّهادَةِ. ورَوى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ طَلْحَةَ أنَّهُ قَرَأ: ولِتُكَلِّمَنا أيْدِيهِمْ ولِتَشْهَدَ، بِلامِ كَيْ والنَّصْبُ عَلى مَعْنى: وكَذَلِكَ يُخْتَمُ عَلى أفَواهِهِمْ. والظّاهِرُ أنَّ الأعْيُنَ هي الأعْضاءُ المُبْصِرَةُ، والمَعْنى: لَأعْمَيْناهم فَلا يَرَوْنَ كَيْفَ يَمْشُونَ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ، ويُؤَيِّدُهُ مُناسَبَةُ المَسْخِ، فَهم في قَبْضَةِ القُدْرَةِ وبُرُوجِ العَذابِ إنْ شاءَهُ اللَّهُ لَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أرادَ عَيْنَ البَصائِرِ، والمَعْنى: ولَوْ نَشاءُ لَخَتَمْتُ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ فَلا يَهْتَدِي مِنهم أحَدٌ أبَدًا. والطَّمْسُ: إذْهابُ الشَّيْءِ وأثَرِهِ جُمْلَةً حَتّى كَأنَّهُ لَمْ يُوجَدْ. فَإنْ أُرِيدَ بِالأعْيُنِ الحَقِيقَةُ، فالظّاهِرُ أنَّهُ يَطْمِسُ بِمَعْنى يَمْسَخُ حَقِيقَةً، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الطَّمْسُ يُرادُ بِهِ العَمى مِن غَيْرِ إذْهابِ العُضْوِ وأثَرِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (فاسْتَبَقُوا)، فِعْلًا ماضِيًا مَعْطُوفًا عَلى ﴿لَطَمَسْنا﴾، وهو عَلى الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ. (والصِّراطَ) مَنصُوبٌ عَلى تَقْدِيرِ إلى حُذِفَتْ ووُصِلَ الفِعْلُ، والأصْلُ فاسْتَبَقُوا إلى الصِّراطِ، أوْ مَفْعُولًا بِهِ عَلى تَضْمِينِ (اسْتَبَقُوا) مَعْنى (تَبادَرُوا)، وجَعْلِهِ مَسْبُوقًا إلَيْهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ يَنْتَصِبُ عَلى الظَّرْفِ، وهَذا لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ الصِّراطَ هو الطَّرِيقُ، وهو ظَرْفُ مَكانٍ مُخْتَصٌّ. لا يَصِلُ إلَيْهِ الفِعْلُ إلّا بِوَساطَةِ (في) إلّا في شُذُوذٍ، كَما أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎لَدْنٌ بِهَزُّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ فِيهِ كَما عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ ومَذْهَبُ ابْنِ الطَّراوَةِ أنَّ الصِّراطَ والطَّرِيقَ والمَخْرِمَ، وما أشْبَهَها مِنَ الظُّرُوفِ المَكانِيَّةِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً، فَعَلى مَذْهَبِهِ يَسُوغُ ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقَرَأ عِيسى: فاسْتَبِقُوا عَلى الأمْرِ، وهو عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أيْ فَيُقالُ لَهُمُ اسْتَبِقُوا الصِّراطَ، وهَذا عَلى سَبِيلِ التَّعْجِيزِ، إذْ لا يُمْكِنُهُمُ الِاسْتِباقُ مَعَ طَمْسِ الأعْيُنِ. ﴿فَأنّى يُبْصِرُونَ﴾ أيْ كَيْفَ يُبْصِرُ مَن طُمِسَ عَلى عَيْنِهِ ؟ والظّاهِرُ أنَّ المَسْخَ حَقِيقَةٌ، وهو تَبْدِيلُ صِوَرِهِمْ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ﴿لَمَسَخْناهُمْ﴾ قِرَدَةً وخَنازِيرَ، كَما تَقَدَّمَ في بَنِي إسْرائِيلَ؛ وقِيلَ حِجارَةً. وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، وجَماعَةٌ: لَأقْعَدْناهم وأزَمْناهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَصَرُّفًا. والظّاهِرُ أنَّ هَذا لَوْ كانَ يَكُونُ في الدُّنْيا. وقالَ ابْنُ سَلّامٍ: هَذا التَّوَعُّدُ كُلُّهُ يَوْمَ القِيامَةِ. وقَرَأ الحَسَنُ ﴿عَلى مَكانَتِهِمْ﴾، بِالإفْرادِ، وهي المَكانُ، كالمَقامَةِ والمَقامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ، وأبُو بَكْرٍ: بِالجَمْعِ. والجُمْهُورُ ﴿مُضِيًّا﴾، بِضَمِّ المِيمِ: وأبُو حَيْوَةَ، وأحْمَدُ بْنُ جُبَيْرٍ الأنْطاكِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ: بِكَسْرِها اتِّباعًا لِحَرَكَةِ الضّادِ، كالعِتِبِيِّ والقِتِبِيِّ، وزْنُهُ فَعُولٌ. (p-٣٤٥)التَقَتْ واوٌ ساكِنَةٌ وياءٌ، فَأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً، وأُدْغِمَتْ في الياءِ، وكُسِرَ ما قَبْلَها لِتَصِحَّ الياءُ. وقُرِئَ: مَضِيًّا، بِفَتْحِ المِيمِ، فَيَكُونُ مِنَ المَصادِرِ الَّتِي جاءَتْ عَلى فَعِيلٍ، كالرَّسِيمِ والوَجِيفِ. ولِما ذَكَرَ تَعالى الطَّمْسَ والمَسْخَ عَلى تَقْدِيرِ المُشَبَّهِ، ذَكَرَ تَعالى دَلِيلًا عَلى باهِرِ قُدْرَتِهِ في تَنْكِيسِ المُعَمَّرِ، وأنَّ ذَلِكَ لا يَفْعَلُهُ إلّا هو تَعالى. وتَنْكِيسُهُ: قَلَبَهُ وجَعَلَهُ عَلى عَكْسِ ما خَلَقَهُ أوَّلًا، وهو أنَّهُ خَلَقَهُ عَلى ضَعْفٍ في جَسَدٍ وخُلُوٍّ مِن عَقْلٍ وعِلْمٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَتَزايَدُ ويَنْتَقِلُ مَن حالٍ إلى حالٍ إلى أنْ يَبْلُغَ أشُدَّهُ وتُسْتَكْمَلَ قُوَّتُهُ، ويَعْقِلَ ويَعْلَمَ ما لَهُ وما عَلَيْهِ. فَإذا انْتَهى نَكَّسَهُ في الخَلْقِ، فَيَتَناقَصُ حَتّى يَرْجِعَ في حالٍ شَبِيهَةٍ بِحالِ الصِّبا في ضَعْفِ جَسَدِهِ وقِلَّةِ عَقْلِهِ وخُلُوِّهِ مِنَ الفَهْمِ، كَما يُنَكَّسُ السَّهْمُ فَيُجْعَلُ أعْلاهُ أسْفَلَهُ، وفي هَذا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن فَعَلَ هَذِهِ الأفاعِيلَ قادِرٌ عَلى أنْ يَطْمِسَ وأنْ يَفْعَلَ بِهِمْ ما أرادَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (نُنَكِّسْهُ)، مُشَدَّدًا؛ وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ: مُخَفَّفًا. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ ذَكْوانَ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةِ عَبّاسٍ: تَعْقِلُونَ بِتاءِ الخِطابِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِياءِ الغَيْبَةِ. ﴿وما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾ الضَّمِيرُ في عَلَّمْناهُ لِلرَّسُولِ ﷺ كانُوا يَقُولُونَ فِيهِ شاعِرٌ. ورُوِيَ أنَّ القائِلَ عُقْبَةُ بْنُ أبِي مُعَيْطٍ، فَنَفى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ، وقَوْلُهم فِيهِ شاعِرٌ. أمّا مَن كانَ في طَبْعِهِ الشِّعْرُ، فَقَوْلُهُ مُكابَرَةٌ وإيهامٌ لِلْجاهِلِ بِالشِّعْرِ؛ وأمّا مَن لَيْسَ في طَبْعِهِ، فَقَوْلُهُ جَهْلٌ مَحْضٌ. وأيْنَ هو مِنَ الشِّعْرِ ؟ والشِّعْرُ إنَّما هو كَلامٌ مَوْزُونٌ مُقَفًّى يَدُلُّ عَلى مَعْنًى تَنْتَخِبُهُ الشُّعَراءُ مِن كَثْرَةِ التَّخْيِيلِ وتَزْوِيقِ الكَلامِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَتَوَرَّعُ المُتَدَيِّنُ عَنْ إنْشادِهِ، فَضْلًا عَنْ إنْشائِهِ: وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يَقُولُ الشِّعْرَ، وإذا أنْشَدَ بَيْتًا أحْرَزَ المَعْنى دُونَ وزْنِهِ، كَما أنْشَدَ: ؎سَتُبْدِي لَكَ الأيّامُ ما كُنْتَ جاهِلًا ∗∗∗ ويَأْتِيكَ مَن لَمْ تُزَوَّدْ بِالأخْبارِ وقِيلَ: مِن أشْعَرِ النّاسِ، فَقالَ الَّذِي يَقُولُ: ؎ألَمْ تَرَيانِي كُلَّما جِئْتُ طارِقًا ∗∗∗ وجَدْتُ بِها وإنْ لَمْ تُطَيَّبْ طِيبا ؎أتَجْعَلُ نَهْبِي ونَهْبَ العُبَيْ ∗∗∗ دِ بَيْنَ الأقْرَعِ وعُيَيْنَةَ وأنْشَدَ يَوْمًا: ؎كَفى بِالإسْلامِ والشَّيْبِ ناهِيا فَقالَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ: نَشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، إنَّما قالَ الشّاعِرُ: كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ، ورُبَّما أنْشَدَ البَيْتَ مُتَّزِنًا في النّادِرِ. ورُوِيَ عَنْهُ أنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ رَواحَةَ: ؎يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ ∗∗∗ إذا اسْتُثْقِلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضاجِعُ ولا يَدُلُّ إجْراءُ البَيْتِ عَلى لِسانِهِ مُتَّزِنًا أنَّهُ يَعْلَمُ الشِّعْرَ، وقَدْ وقَعَ في كَلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ ما يَدْخُلُهُ الوَزْنُ كَقَوْلِهِ: ؎أنا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ∗∗∗ أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ؎هَلْ أنْتَ إلّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ ∗∗∗ وفي سَبِيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ وهُوَ كَلامٌ مَن جِنْسِ كَلامِهِ الَّذِي كانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلى طَبِيعَتِهِ، مِن غَيْرِ صَنْعَةٍ فِيهِ ولا قَصْدٍ لِوَزْنٍ ولا تَكَلُّفٍ. كَما يُوجَدُ في القُرْآنِ شَيْءٌ مَوْزُونٌ ولا يُعَدُّ شِعْرًا، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَنْ تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢] . وقَوْلُهُ ﴿فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩] . وفي كَثِيرٍ مِنَ النَّثْرِ الَّذِي تُنْشِئُهُ الفُصَحاءُ، ولا يُسَمّى ذَلِكَ شِعْرًا، ولا يَخْطُرُ بِبالِ المُنْشِي ولا السّامِعِ أنَّهُ شِعْرٌ. ﴿وما يَنْبَغِي لَهُ﴾ أيْ ولا يُمْكِنُ لَهُ ولا يَصِحُّ ولا يُناسَبُ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في طَرِيقِ جِدٍّ مَحْضٍ، والشِّعْرُ أكْثَرُهُ في طَرِيقِ هَزْلٍ، وتَحْسِينٌ لِما لَيْسَ حَسَنًا، وتَقْبِيحٌ لِما لَيْسَ قَبِيحًا ومُغالاةٌ مُفْرِطَةٌ. جَعَلَهُ تَعالى لا يَقْرِضُ الشِّعْرَ، كَما جَعَلَهُ أُمِّيًّا لا يَخُطُّ، لِتَكُونَ الحُجَّةُ أثْبَتَ والشُّبْهَةُ أدْحَضَ. وقِيلَ: في هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى غَضاضَةِ الشِّعْرِ، وقَدْ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”ما أنا بِشاعِرٍ ولا يَنْبَغِي لِي“ . وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ لا غَضاضَةَ فِيهِ، وإنَّما مَنَعَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وإنْ كانَ حِلْيَةً جَلِيلَةً لِيَجِيءَ القُرْآنُ مِن قِبَلِهِ أغْرَبَ، فَإنَّهُ لَوْ كانَ لَهُ إدْراكُ الشِّعْرِ لَقِيلَ في القُرْآنِ: هَذا مِن تِلْكَ (p-٣٤٦)القُوَّةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَيْسَ الأمْرُ عِنْدِي كَذَلِكَ، وقَدْ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الفَصاحَةِ والبَيانِ في النَّثْرِ في الرُّتْبَةِ العُلْيا، ولَكِنَّ كَلامَ اللَّهِ يُبِينُ بِإعْجازِهِ ويَنْدُرُ بِوَصْفِهِ، ويُخْرِجُهُ إحاطَةُ عِلْمِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ كَلامٍ؛ وإنَّما مَنَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنَ الشِّعْرِ تَرْفِيعًا لَهُ عَنْ ما في قَوْلِ الشُّعَراءِ مِنَ التَّخْيِيلِ والتَّزْوِيقِ لِلْقَوْلِ. وأمّا القُرْآنُ فَهو ذِكْرٌ بِحَقائِقَ وبَراهِينَ، فَما هو بِقَوْلِ شاعِرٍ، وهَذا كانَ أُسْلُوبُ كَلامِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وقَوْلًا واحِدًا. انْتَهى. والضَّمِيرُ في (لَهُ) لِلرَّسُولِ، أيْ وما يَنْبَغِي الشِّعْرُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، أيْ وما يَنْبَغِي الشِّعْرُ لِلْقُرْآنِ، ولَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لَكِنْ لَهُ أنْ يَقُولَ: يَدُلُّ الكَلامُ عَلَيْهِ، ويُبَيِّنُهُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ أيْ كِتابٌ سَماوِيٌّ يُقْرَأُ في المَحارِيبِ، ويُنالُ بِتِلاوَتِهِ والعَمَلِ بِهِ ما فِيهِ فَوْزُ الدّارَيْنِ. فَكَمْ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشِّعْرِ الَّذِي أكْثَرُهُ مِن هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ؟ وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: لِتُنْذِرَ بِتاءِ الخِطابِ لِلرَّسُولِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالياءِ لِلْغَيْبَةِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَعُودَ عَلى الرَّسُولِ، واحْتَمَلَ أنْ يَعُودَ عَلى القُرْآنِ. وقَرَأ اليَمانِيُّ (لِيُنْذَرَ)، بِالياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، ونَقَلَها ابْنُ خالَوَيْهِ عَنِ الجَحْدَرِيِّ. وقالَ عَنْ أبِي السَّمّالِ واليَمانِيِّ أنَّهُما قَرَآ: لِيَنْذَرَ، بِفَتْحِ الياءِ والذّالِ مُضارِعَ نَذِرَ بِكَسْرِ الذّالِ، إذا عَلِمَ بِالشَّيْءِ فاسْتَعَدَّ لَهُ. ﴿مَن كانَ حَيًّا﴾ أيْ غافِلًا، قالَهُ الضَّحّاكُ؛ لِأنَّ الغافِلَ كالمَيِّتِ؛ ويُرِيدُ بِهِ مَن خَتَمَ عَلَيْهِ بِالإيمانِ، وكَذَلِكَ قابَلَهُ بِقَوْلِهِ (ويَحِقَّ القَوْلُ) أيْ كَلِمَةُ العَذابِ، ﴿عَلى الكافِرِينَ﴾ المَحْتُومِ لَهم بِالمُوافاةِ عَلى الكُفْرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب