الباحث القرآني

المِنَّةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ قالَ القَفّالُ: لِتُرى عَلى عَيْنِي أيْ عَلى وفْقِ إرادَتِي، ومَجازُ هَذا أنَّ مَن صَنَعَ لِإنْسانٍ شَيْئًا وهو حاضِرٌ يَنْظُرُ إلَيْهِ صَنَعَهُ لَهُ كَما يُحِبُّ ولا يُمْكِنُهُ أنْ يَفْعَلَ ما يُخالِفُ غَرَضَهُ فَكَذا هَهُنا، وفي كَيْفِيَّةِ المَجازِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنَ العَيْنِ العِلْمُ أنْ تُرى عَلى عِلْمٍ مِنِّي، ولَمّا كانَ العالِمُ بِالشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَنِ الآفاتِ كَما أنَّ النّاظِرَ إلَيْهِ يَحْرُسُهُ عَنِ الآفاتِ أُطْلِقَ لَفْظُ العَيْنِ عَلى العِلْمِ لِاشْتِباهِهِما مِن هَذا الوَجْهِ. الثّانِي: المُرادُ مِنَ العَيْنِ الحِراسَةُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ النّاظِرَ إلى الشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَمّا يُؤْذِيهِ، فالعَيْنُ كَأنَّها سَبَبُ الحِراسَةِ فَأطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلى المُسَبَّبِ مَجازًا، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ [طه: ٤٦] ويُقالُ: عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ إذا دَعا لَكَ بِالحِفْظِ والحِياطَةِ، قالَ القاضِي ظاهِرُ القُرْآنِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ الحِفْظُ والحِياطَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلُّكم عَلى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ﴾ فَصارَ ذَلِكَ كالتَّفْسِيرِ لِحِياطَةِ اللَّهِ تَعالى لَهُ، بَقِيَ هَهُنا بَحْثانِ: الأوَّلُ: الواوُ في قَوْلِهِ: ﴿ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ ألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ثَمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ﴾ مُتَعَلِّقًا بِأوَّلِ الكَلامِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى﴾ ﴿إذْ أوْحَيْنا إلى أُمِّكَ ما يُوحى﴾ وإذْ تَمْشِي أُخْتُكَ. وثانِيها: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (p-٤٨)﴿ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ مُتَعَلِّقًا بِما بَعْدَهُ وهو قَوْلُهُ: ﴿إذْ تَمْشِي﴾ وذَكَرْنا مِثْلَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] . وثالِثُها: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ مُقْحَمَةً أيْ وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي لِتُصْنَعَ، وهَذا ضَعِيفٌ. الثّانِي: قُرِئَ ولِتُصْنَعَ بِكَسْرِ اللّامِ وسُكُونِها، والجَزْمُ عَلى أنَّهُ أُمِرَ، وقُرِئَ ولِتَصْنَعَ بِفَتْحِ التّاءِ والنَّصْبِ أيْ ولِيَكُونَ عَمَلُكَ وتَصَرُّفَكَ عَلى عِلْمٍ مِنِّي. * * * المِنَّةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ﴾ واعْلَمْ أنَّ العامِلَ في ﴿إذْ تَمْشِي﴾ ألْقَيْتُ أوْ تُصْنَعُ، يُرْوى أنَّهُ لَمّا فَشا الخَبَرُ بِمِصْرَ أنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أخَذُوا غُلامًا في النِّيلِ وكانَ لا يَرْتَضِعُ مِن ثَدْيِ كُلِّ امْرَأةٍ يُؤْتى بِها لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ المَراضِعَ غَيْرَ أُمِّهِ اضْطُرُّوا إلى تَتَبُّعِ النِّساءِ فَلَمّا رَأتْ ذَلِكَ أُخْتُ مُوسى جاءَتْ إلَيْهِمْ مُتَنَكِّرَةً فَقالَتْ: ﴿هَلْ أدُلُّكم عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ﴾ ثُمَّ جاءَتْ بِالأُمِّ فَقَبِلَ ثَدْيَها فَرَجَعَ إلى أُمِّهِ بِما لَطَفَ اللَّهُ تَعالى لَهُ مِن هَذا التَّدْبِيرِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَرَجَعْناكَ إلى أُمِّكَ﴾ أيْ رَدَدْناكَ، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ﴾ [القصص: ١٣]، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ [المؤمنون: ٩٩] أيْ رُدُّونِي إلى الدُّنْيا، أمّا قَوْلُهُ: ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ﴾، فالمُرادُ أنَّ المَقْصُودَ مِن رَدِّكَ إلَيْها حُصُولُ السُّرُورِ لَها وزَوالُ الحُزْنِ عَنْها، فَإنْ قِيلَ: لَوْ قالَ: كَيْ لا تَحْزَنَ وتَقَرَّ عَيْنُها كانَ الكَلامُ مُفِيدًا لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن نَفْيِ الحُزْنِ حُصُولُ السُّرُورِ لَها، وأمّا لَمّا قالَ أوَّلًا: ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها﴾ كانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿ولا تَحْزَنَ﴾ فَضْلًا؛ لِأنَّهُ مَتى حَصَلَ السُّرُورُ وجَبَ زَوالُ الغَمِّ لا مَحالَةَ، قُلْنا: المُرادُ أنَّهُ تَقَرُّ عَيْنُها بِسَبَبِ وُصُولِكَ إلَيْها فَيَزُولُ عَنْها الحُزْنُ بِسَبَبِ عَدَمِ وُصُولِ لَبَنِ غَيْرِها إلى باطِنِكَ. والمِنَّةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ﴾ فالمُرادُ بِهِ: وقَتَلْتَ بَعْدَ كِبَرِكَ نَفْسًا، وهو الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَهُ خَطَأً بِأنْ وكَزَهُ حَيْثُ اسْتَغاثَهُ الإسْرائِيلِيُّ عَلَيْهِ وكانَ قِبْطِيًّا فَحَصَلَ لَهُ الغَمُّ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: مِن عِقابِ الدُّنْيا وهو اقْتِصاصُ فِرْعَوْنَ مِنهُ ما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: ﴿فَأصْبَحَ في المَدِينَةِ خائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: ١٨] والآخَرُ مِن عِقابِ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ قَتَلَهُ لا بِأمْرِ اللَّهِ فَنَجّاهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الغَمَّيْنِ، أمّا مِن فِرْعَوْنَ فَحِينَ وفَّقَ لَهُ المُهاجَرَةَ إلى مَدْيَنَ، وأمّا مِن عِقابِ الآخِرَةِ فَلِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ. المِنَّةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: في قَوْلِهِ: ﴿فُتُونًا﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَصْدَرٌ كالعُكُوفِ والجُلُوسِ، والمَعْنى وفَتَنّاكَ حَقًّا، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِهِمْ في تَأْكِيدِ الأخْبارِ بِالمَصادِرِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] . والثّانِي: أنَّهُ جَمْعُ فَتْنٍ أوْ فُتْنَةٍ عَلى تَرْكِ الِاعْتِدادِ بِتاءِ التَّأْنِيثِ كَحُجُوزٍ وبُدُورٍ في حُجْزَةٍ وبَدْرَةٍ أيْ فَتَنّاكَ ضُرُوبًا مِنَ الفِتَنِ وهَهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى عَدَّدَ أنْواعَ مِنَنِهِ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا المَقامِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهَذا المَوْضِعِ قَوْلُهُ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ . الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الفِتْنَةَ تَشْدِيدُ المِحْنَةِ، يُقالُ فُتِنَ فُلانٌ عَنْ دِينِهِ إذا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ المِحْنَةُ حَتّى رَجَعَ عَنْ دِينِهِ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا أُوذِيَ في اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: ١٠] وقالَ تَعالى: ﴿الم﴾ ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ [العنكبوت: ١ ٣] وقالَ: ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَأْتِكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكم مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ وزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢١٤] فالزَّلْزَلَةُ المَذْكُورَةُ في الآيَةِ ومَسُّ البَأْساءِ والضَّرّاءِ هي الفِتْنَةُ والفُتُونُ، ولَمّا كانَ التَّشْدِيدُ في المِحْنَةِ مِمّا يُوجِبُ كَثْرَةَ الثَّوابِ لا جَرَمَ عَدَّهُ اللَّهُ تَعالى مِن جُمْلَةِ النِّعَمِ. وثانِيها: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ (p-٤٩)أيْ خَلَّصْناكَ تَخْلِيصًا مِن قَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ مِنَ الفِضَّةِ إذا أرَدْتَ تَخْلِيصَهُ، وسَألَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ابْنَ عَبّاسٍ عَنِ الفُتُونِ فَقالَ: نَسْتَأْنِفُ لَهُ نَهارًا يا ابْنَ جُبَيْرٍ. ثُمَّ لَمّا أصْبَحَ أخْذَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الآياتِ الوارِدَةَ في شَأْنِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ ابْتِداءِ أمْرِهِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ فِرْعَوْنَ وقَتْلَهُ أوْلادَ بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ قِصَّةَ إلْقاءِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في اليَمِّ، والتِقاطَ آلِ فِرْعَوْنَ إيّاهُ، وامْتِناعَهُ مِنَ الِارْتِضاعِ مِنَ الأجانِبِ، ثُمَّ قِصَّةَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أخَذَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ، ووَضْعَهُ الجَمْرَةَ في فِيهِ، ثُمَّ قِصَّةَ قَتْلِ القِبْطِيِّ، ثُمَّ هَرَبَهُ إلى مَدْيَنَ، وصَيْرُورَتَهُ أجِيرًا لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ عَوْدَهُ إلى مِصْرَ وأنَّهُ أخْطَأ الطَّرِيقَ في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ، واسْتِئْناسَهُ بِالنّارِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وكانَ عِنْدَ تَمامِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنها يَقُولُ هَذا مِنَ الفُتُونِ يا ابْنَ جُبَيْرٍ. السُّؤالُ الثّانِي: هَلْ يَصِحُّ إطْلاقُ اسْمُ الفَتّانِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ اشْتِقاقًا مِن قَوْلِهِ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ والجَوابُ: لا؛ لِأنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ في العُرْفِ، وأسْماءُ اللَّهِ تَعالى تَوْقِيفِيَّةٌ لا سِيَّما فِيما يُوهِمُ ما لا يَنْبَغِي. * * * المِنَّةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يامُوسى﴾ واعْلَمْ أنَّ التَّقْدِيرَ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ فَخَرَجْتَ خائِفًا إلى أهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيهِمْ، أمّا مُدَّةُ اللُّبْثِ فَقالَ أبُو مُسْلِمٍ: إنَّها مَشْرُوحَةٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا قَضى مُوسى الأجَلَ﴾ [القصص: ٢٩] وهي إمّا عَشَرَةٌ وإمّا ثَمانٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى أنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِن عِنْدِكَ﴾ [القصص: ٢٧] وقالَ وهْبٌ: لَبِثَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَمانِيًا وعِشْرِينَ سَنَةً مِنها عَشْرُ سِنِينَ مَهْرُ امْرَأتِهِ، والآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَبِثَ عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ ولَيْسَ فِيها ما يَنْفِي الزِّيادَةَ عَلى العَشْرِ، واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أهْلِ مَدْيَنَ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ كالدَّلالَةِ عَلى أنَّ لُبْثَهُ في مَدْيَنَ مِنَ الفُتُونِ وكَذَلِكَ كانَ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَحَمَّلَ بِسَبَبِ الفَقْرِ والغُرْبَةِ مِحَنًا كَثِيرَةً، واحْتاجَ إلى أنْ آجَرَ نَفْسَهُ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يامُوسى﴾ فَلا بُدَّ مِن حَذْفٍ في الكَلامِ لِأنَّهُ عَلى قَدَرِ أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وذَكَرُوا في ذَلِكَ المَحْذُوفِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ سَبَقَ في قَضائِي وقَدَرِي أنْ أجْعَلَكَ رَسُولًا لِي في وقْتٍ مُعَيَّنٍ عَيَّنْتُهُ لِذَلِكَ فَما جِئْتَ إلّا عَلى ذَلِكَ القَدَرِ لا قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩] . وثانِيها: عَلى مِقْدارٍ مِنَ الزَّمانِ يُوحى فِيهِ إلى الأنْبِياءِ، وهو رَأْسُ أرْبَعِينَ سَنَةً. وثالِثُها: أنَّ القَدَرَ هو المَوْعِدُ فَإنْ ثَبَتَ أنَّهُ تَقَدَّمَ هَذا المَوْعِدَ صَحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، ولا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِاحْتِمالِ أنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلامُ أوْ غَيْرَهُ مِنَ الأنْبِياءِ كانُوا قَدْ عُيِّنُوا ذَلِكَ المَوْعِدَ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى مَجِيءَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في ذَلِكَ الوَقْتِ مِن جُمْلَةِ مِنَنِهِ عَلَيْهِ، قُلْنا: لِأنَّهُ لَوْلا تَوْفِيقُهُ لَهُ لَما تَهَيَّأ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ. * * * المِنَّةُ الثّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ والِاصْطِناعُ اتِّخاذُ الصَّنْعَةِ، وهي افْتِعالٌ مِنَ الصُّنْعِ. يُقالُ: اصْطَنَعَ فُلانٌ فُلانًا أيِ اتَّخَذَهُ صَنِيعَهُ، فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى غَنِيٌّ عَنِ الكُلِّ فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿لِنَفْسِي﴾ ؟ والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا تَمْثِيلٌ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا أعْطاهُ مِن مَنزِلَةِ التَّقْرِيبِ والتَّكْرِيمِ والتَّكْلِيمِ مَثَّلَ حالَهُ بِحالِ مَن يَراهُ بَعْضُ المُلُوكِ لِجَوامِعِ خِصالٍ فِيهِ أهْلًا لِأنْ يَكُونَ أقْرَبَ النّاسِ مَنزِلَةً إلَيْهِ وأشَدَّهم قُرْبًا مِنهُ. وثانِيها: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إذا كَلَّفَ عِبادَهُ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَلْطُفَ بِهِمْ، ومِن جُمْلَةِ الألْطافِ ما لا يُعْلَمُ إلّا سَمْعًا فَلَوْ لَمْ يَصْطَنِعْهُ بِالرِّسالَةِ لَبَقِيَ في عُهْدَةِ الواجِبِ، فَصارَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كالنّائِبِ عَنْ رَبِّهِ في أداءِ ما وجَبَ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَصَحَّ أنْ يَقُولَ: ﴿واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾، قالَ القَفّالُ: ﴿واصْطَنَعْتُكَ﴾ أصْلُهُ مِن قَوْلِهِمُ: اصْطَنَعَ فُلانٌ فُلانًا إذا أحْسَنَ إلَيْهِ حَتّى يُضافَ إلَيْهِ فَيُقالُ: هَذا صَنِيعُ فُلانٍ وجَرِيحُ فُلانٍ، وقَوْلُهُ (p-٥٠)﴿لِنَفْسِي﴾: أيْ لِأُصَرِّفَكَ في أوامِرِي لِئَلّا تَشْتَغِلَ بِغَيْرِ ما أمَرْتُكَ بِهِ وهو إقامَةُ حُجَّتِي وتَبْلِيغُ رِسالَتِي وأنْ تَكُونَ في حَرَكاتِكَ وسَكَناتِكَ لِي لا لِنَفْسِكَ ولا لِغَيْرِكَ، واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا عَدَّدَ عَلَيْهِ المِنَنَ الثَّمانِيَةَ في مُقابَلَةِ تِلْكَ الِالتِماساتِ الثَّمانِيَةِ رَتَّبَ عَلى ذِكْرِ ذَلِكَ أمْرًا ونَهْيًا، أمّا الأمْرُ فَهو أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعادَ الأمْرَ بِالأوَّلِ فَقالَ: ﴿اذْهَبْ أنْتَ وأخُوكَ بِآياتِي﴾ واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمّا قالَ: ﴿واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ ما لَهُ اصْطَنَعَهُ وهو الإبْلاغُ والأداءُ، ثُمَّ هَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الباءُ هَهُنا بِمَعْنى مَعَ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُما لَوْ ذَهَبا إلَيْهِ بِدُونِ آيَةٍ مَعَهُما لَمْ يَلْزَمْهُ الإيمانُ وذَلِكَ مِن أقْوى الدَّلائِلِ عَلى فَسادِ التَّقْلِيدِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في الآياتِ المَذْكُورَةِ هَهُنا عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها اليَدُ والعَصا لِأنَّهُما اللَّذانِ جَرى ذِكْرُهُما في هَذا المَوْضِعِ وفي سائِرِ المَواضِعِ الَّتِي اقْتَصَّ اللَّهُ تَعالى فِيها حَدِيثَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ تَعالى لَمْ يَذْكُرْ في شَيْءٍ مِنها أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ أُوتِيَ قَبْلَ مَجِيئِهِ إلى فِرْعَوْنَ ولا بَعْدَ مَجِيئِهِ حَتّى لَقِيَ فِرْعَوْنَ فالتَمَسَ مِنهُ آيَةً غَيْرَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ قالَ تَعالى عَنْهُ: ﴿فَأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [الشعراء: ١٥٤]، وقالَ: ﴿فَألْقى عَصاهُ فَإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٠٧] ﴿ونَزَعَ يَدَهُ فَإذا هي بَيْضاءُ لِلنّاظِرِينَ﴾، [الأعراف: ١٠٨]، وقالَ: ﴿فَذانِكَ بُرْهانانِ مِن رَبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ﴾، [القصص: ٣٢]، فَإذا قِيلَ لِهَؤُلاءِ: كَيْفَ يُطْلَقُ لَفْظُ الجَمْعِ عَلى الِاثْنَيْنِ ؟ أجابُوا بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ العَصا ما كانَتْ آيَةً واحِدَةً بَلْ كانَتْ آياتٍ فَإنَّ انْقِلابَ العَصا حَيَوانًا آيَةٌ، ثُمَّ إنَّها في أوَّلِ الأمْرِ كانَتْ صَغِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَهْتَزُّ كَأنَّها جانٌّ﴾ [النمل: ١٠] ثُمَّ كانَتْ تَعْظُمُ وهَذِهِ آيَةٌ أُخْرى، ثُمَّ كانَتْ تَصِيرُ ثُعْبانًا وهَذِهِ آيَةٌ أُخْرى. ثُمَّ إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يُدْخِلُ يَدَهُ في فِيها فَما كانَتْ تَضُرُّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرى ثُمَّ كانَتْ تَنْقَلِبُ خَشَبَةً فَهَذِهِ آيَةٌ أُخْرى، وكَذَلِكَ اليَدُ فَإنَّ بَياضَها آيَةٌ وشُعاعَها آيَةٌ أُخْرى، ثُمَّ زَوالَهُما بَعْدَ حُصُولِهِما آيَةٌ أُخْرى فَصَحَّ أنَّهُما كانَتا آياتٍ كَثِيرَةً لا آيَتانِ. الثّانِي: هَبْ أنَّ العَصا أمْرٌ واحِدٌ لَكِنَّ فِيها آياتٍ كَثِيرَةً لِأنَّ انْقِلابَها حَيَّةٌ يَدُلُّ عَلى وُجُودِ إلَهٍ قادِرٍ عَلى الكُلِّ عالِمٍ بِالكُلِّ حَكِيمٍ، ويَدُلُّ عَلى نُبُوَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَدُلُّ عَلى جَوازِ الحَشْرِ حَيْثُ انْقَلَبَ الجَمادُ حَيَوانًا فَهَذِهِ آياتٌ كَثِيرَةٌ؛ ولِذَلِكَ قالَ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا﴾ [آل عمران: ٩٦] إلى قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] فَإذا وُصِفَ الشَّيْءُ الواحِدُ بِأنَّ فِيهِ آياتٌ، فالشَّيْئانِ أوْلى بِذَلِكَ. الثّالِثُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: أقَلُّ الجَمْعِ اثْنانِ عَلى ما عَرَفْتَ في أُصُولِ الفِقْهِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: (اذْهَبا بِآياتِي) مَعْناهُ أنِّي أُمِدُّكُما بِآياتِي وأُظْهِرُ عَلى أيْدِيكُما مِنَ الآياتِ ما تُزاحُ بِهِ العِلَلُ مِن فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ فاذْهَبا فَإنَّ آياتِي مَعَكُما كَما يُقالُ: اذْهَبْ فَإنَّ جُنْدِي مَعَكَ أيْ أنِّي أمِدُّكَ بِهِمْ مَتى احْتَجْتَ. القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى آتاهُ العَصا واليَدَ وحَلَّ عُقْدَةَ لِسانِهِ وذَلِكَ أيْضًا مُعْجِزٌ فَكانَتِ الآياتُ ثَلاثَةً هَذا هو شَرْحُ الأمْرِ، أمّا النَّهْيُ فَهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَنِيا في ذِكْرِي﴾ الوَنْيُ الفُتُورُ والتَّقْصِيرُ وقُرِئَ ولا تِنِيا بِكَسْرِ حَرْفِ المُضارَعَةِ لِلِاتِّباعِ، ثُمَّ قِيلَ فِيهِ أقْوالٌ: أحَدُها: المَعْنى لا تَنِيا بَلِ اتَّخِذا ذِكْرِيَ آلَةً لِتَحْصِيلِ المَقاصِدِ واعْتَقِدا أنَّ أمْرًا مِنَ الأُمُورِ لا يَتَمَشّى لِأحَدٍ إلّا بِذِكْرِي، والحِكْمَةُ فِيهِ أنَّ مَن ذَكَرَ جَلالَ اللَّهِ اسْتَحْقَرَ غَيْرَهُ فَلا يَخافُ أحَدًا؛ ولِأنَّ مَن ذَكَرَ جَلالَ اللَّهِ تَقْوى رُوحُهُ بِذَلِكَ الذِّكْرِ فَلا يَضْعُفُ في المَقْصُودِ، ولِأنَّ ذاكِرَ اللَّهِ تَعالى لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ ذاكِرًا لِإحْسانِهِ، وذاكِرُ (p-٥١)إحْسانِهِ لا يَفْتُرُ في أداءِ أوامِرِهِ. وثانِيها: المُرادُ بِالذِّكْرِ تَبْلِيغُ الرِّسالَةِ فَإنَّ الذِّكْرَ يَقَعُ عَلى كُلِّ العِباداتِ، وتَبْلِيغُ الرِّسالَةِ مِن أعْظَمِها فَكانَ جَدِيرًا بِأنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَنِيا في ذِكْرِي﴾ عِنْدَ فِرْعَوْنَ، وكَيْفِيَّةُ الذِّكْرِ هو أنْ يَذْكُرا لِفِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَرْضى مِنهم بِالكُفْرِ ويَذْكُرا لَهم أمْرَ الثَّوابِ والعِقابِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ. ورابِعُها: أنْ يَذْكُرا لِفِرْعَوْنَ آلاءَ اللَّهِ ونَعْماءَهُ وأنْواعَ إحْسانِهِ إلَيْهِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿اذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى﴾ وفِيهِ سُؤالانِ: الأوَّلُ: ما الفائِدَةُ في ذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿اذْهَبْ أنْتَ وأخُوكَ بِآياتِي﴾ قالَ القَفّالُ: فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اذْهَبْ أنْتَ وأخُوكَ بِآياتِي﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مَأْمُورًا بِالذَّهابِ عَلى الِانْفِرادِ فَقِيلَ مَرَّةً أُخْرى اذْهَبا لِيَعْرِفا أنَّ المُرادَ مِنهُ أنْ يَشْتَغِلا بِذَلِكَ جَمِيعًا لا أنْ يَنْفَرِدَ بِهِ هارُونُ دُونَ مُوسى. والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اذْهَبْ أنْتَ وأخُوكَ بِآياتِي﴾ أمْرٌ بِالذَّهابِ إلى كُلِّ النّاسِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وقَوْمِ فِرْعَوْنَ، ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: ﴿اذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ﴾ أمْرٌ بِالذَّهابِ إلى فِرْعَوْنَ وحْدَهُ. السُّؤالُ الثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿اذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ﴾ خِطابٌ مَعَ مُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ وهَذا مُشْكِلٌ لِأنَّ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ حاضِرًا هُناكَ وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالا رَبَّنا إنَّنا نَخافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أوْ أنْ يَطْغى﴾ [طه: ٤٥] أجابَ القَفّالُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الكَلامَ كانَ مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وحْدَهُ إلّا أنَّهُ كانَ مَتْبُوعَ هارُونَ فَجُعِلَ الخِطابُ مَعَهُ خِطابًا مَعَ هارُونَ، وكَلامُ هارُونَ عَلى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ، فالخِطابُ في تِلْكَ الحالَةِ وإنْ كانَ مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وحْدَهُ إلّا أنَّهُ تَعالى أضافَهُ إلَيْهِما كَما في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ [البقرة: ٧٢]، وقَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنها الأذَلَّ﴾ [المنافقون: ٨] وحُكِيَ أنَّ القائِلَ هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وحْدَهُ. وثانِيها: يُحْتَمَلُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسى﴾ سَكَتَ حَتّى لَقِيَ أخاهُ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى خاطَبَهُما بِقَوْلِهِ: ﴿اذْهَبا إلى فِرْعَوْنَ﴾ . وثالِثُها: أنَّهُ حُكِيَ أنَّهُ في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وحَفْصَةَ: ”قالَ رَبَّنا إنَّنا نَخافُ“ أيْ قالَ مُوسى: أنا وأخِي نَخافُ فِرْعَوْنَ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ فَفِيهِ سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ أمَرَ اللَّهُ تَعالى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِاللِّينِ مَعَ الكافِرِ الجاحِدِ ؟ الجَوابُ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قَدْ رَبّاهُ فِرْعَوْنُ فَأمَرَهُ أنْ يُخاطِبَهُ بِالرِّفْقِ رِعايَةً لِتِلْكَ الحُقُوقِ وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى نِهايَةِ تَعْظِيمِ حَقِّ الأبَوَيْنِ. الثّانِي: أنَّ مِن عادَةِ الجَبابِرَةِ إذا غُلِّظَ لَهم في الوَعْظِ أنْ يَزْدادُوا عُتُوًّا وتَكَبُّرًا، والمَقْصُودُ مِنَ البَعْثَةِ حُصُولُ النَّفْعِ لا حُصُولُ زِيادَةِ الضَّرَرِ فَلِهَذا أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِالرِّفْقِ. السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ كانَ ذَلِكَ الكَلامُ اللَّيِّنُ. الجَوابُ: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: ما حَكى اللَّهُ تَعالى بَعْضَهُ فَقالَ: ﴿هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى﴾ ﴿وأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فَتَخْشى﴾ [النازعات: ١٨، ١٩] وذَكَرَ أيْضًا في هَذِهِ السُّورَةِ بَعْضَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿فَأْتِياهُ فَقُولا إنّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى﴾ [طه: ٤٧] . وثانِيها: أنْ تَعِداهُ شَبابًا لا يَهْرَمُ بَعْدَهُ ومُلْكًا لا يُنْزَعُ مِنهُ إلّا بِالمَوْتِ وأنْ يَبْقى لَهُ لَذَّةُ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ والمَنكَحِ إلى حِينِ مَوْتِهِ. وثالِثُها: كَنِّياهُ وهو مِن ذَوِي الكُنى الثَّلاثِ أبُو العَبّاسِ وأبُو الوَلِيدِ وأبُو مُرَّةٍ. ورابِعُها: حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ قالَ: بَلَغَنِي أنَّ فِرْعَوْنَ عَمَّرَ أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وتِسْعَ سِنِينَ، فَقالَ لَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: إنْ أطَعْتَنِي عُمِّرْتَ مِثْلَ ما عُمِّرْتَ فَإذا مِتَّ فَلَكَ الجَنَّةُ واعْتَرَضُوا عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ الأخِيرَةِ. أمّا الأوَّلُ: فَقِيلَ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الأُمُورُ الثَّلاثَةُ في هَذِهِ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَصارَ ذَلِكَ كالإلْجاءِ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى وذَلِكَ لا يَصِحُّ مَعَ التَّكْلِيفِ. وأمّا الثّانِي: فَلِأنَّ خِطابَهُ بِالكُنْيَةِ أمْرٌ سَهْلٌ فَلا يَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ (p-٥٢)ذَلِكَ هو المَقْصُودُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن جُمْلَةِ المُرادِ. وأمّا الثّالِثُ: فالِاعْتِراضُ عَلَيْهِ كَما في الأوَّلِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى كانَ شاكًّا في ذَلِكَ لِأنَّ ذَلِكَ مُحالٌ عَلَيْهِ تَعالى وإنَّما المُرادُ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، عَلى أنْ تَكُونا راجِيَيْنِ لِأنْ يَتَذَكَّرَ هو أوْ يَخْشى. واعْلَمْ أنَّ أحْوالَ القَلْبِ ثَلاثَةٌ: أحَدُها: الإصْرارُ عَلى الحَقِّ. وثانِيها: الإصْرارُ عَلى الباطِلِ. وثالِثُها: التَّوَقُّفُ في الأمْرَيْنِ، وأنَّ فِرْعَوْنَ كانَ مُصِرًّا عَلى الباطِلِ، وهَذا القِسْمُ أرْدَأُ الأقْسامِ فَقالَ تَعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ فَيَرْجِعُ مِن إنْكارِهِ إلى الإقْرارِ بِالحَقِّ وإنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ الإنْكارِ إلى الإقْرارِ لَكِنَّهُ يَحْصُلُ في قَلْبِهِ الخَوْفُ فَيَتْرُكُ الإنْكارَ، وإنْ كانَ لا يَنْتَقِلُ إلى الإقْرارِ فَإنَّ هَذا خَيْرٌ مِنَ الإصْرارِ عَلى الإنْكارِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا التَّكْلِيفَ لا يَعْلَمُ سِرَّهُ إلّا اللَّهُ تَعالى؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا عَلِمَ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ قَطُّ كانَ إيمانُهُ ضِدًّا لِذَلِكَ العِلْمِ الَّذِي يَمْتَنِعُ زَوالُهُ فَيَكُونُ سُبْحانَهُ عالِمًا بِامْتِناعِ ذَلِكَ الإيمانِ، وإذا كانَ عالِمًا بِذَلِكَ فَكَيْفَ أمَرَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ الرِّفْقِ وكَيْفَ بالَغَ في ذَلِكَ الأمْرِ بِتَلْطِيفِ دَعْوَتِهِ إلى اللَّهِ تَعالى مَعَ عِلْمِهِ اسْتِحالَةَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنهُ ؟ ثُمَّ هَبْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ يُنازِعُونَ في هَذا الِامْتِناعِ مِن غَيْرِ أنْ يَذْكُرُوا شُبْهَةً قادِحَةً في هَذا السُّؤالِ ولَكِنَّهم سَلَّمُوا أنَّهُ كانَ عالِمًا بِأنَّهُ لا يَحْصُلُ ذَلِكَ الإيمانُ وسَلَّمُوا أنَّ فِرْعَوْنَ لا يَسْتَفِيدُ بِبَعْثَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلّا اسْتِحْقاقَ العِقابِ، والرَّحِيمُ الكَرِيمُ كَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أنْ يَدْفَعَ سِكِّينًا إلى مَن عَلِمَ قَطْعًا أنَّهُ يُمَزِّقُ بِها بَطْنَ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقُولُ: إنِّي ما أرَدْتُ بِدَفْعِ السِّكِّينِ إلَيْهِ إلّا الإحْسانَ إلَيْهِ ؟ يا أخِي، العُقُولُ قاصِرَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الأسْرارِ ولا سَبِيلَ فِيها إلّا التَّسْلِيمُ وتَرْكُ الِاعْتِراضِ والسُّكُوتُ بِالقَلْبِ واللِّسانِ، ويُرْوى عَنْ كَعْبٍ أنَّهُ قالَ: والَّذِي يَحْلِفُ بِهِ كَعْبٌ إنَّهُ لَمَكْتُوبٌ في التَّوْراةِ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا وسَأُقَسِّي قَلْبَهُ فَلا يُؤْمِنُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب