يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَبِثَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ "مَدْيَنَ" فَارًّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، يَرْعَى عَلَى صِهْرِهِ، حَتَّى انْتَهَتِ الْمُدَّةُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، ثُمَّ جَاءَ مُوَافِقًا لَقَدَرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ [[في ف: "له".]] تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ الْمُسَيَّرُ عِبَادَهُ وَخَلْقَهُ فِيمَا يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا [مُوسَى] ﴾ [[زيادة من ف، أ.]] قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مَوْعِدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ قَالَ: عَلَى قدر الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ أَيِ: اصْطَفَيْتُكَ وَاجْتَبَيْتُكَ رَسُولا لِنَفْسِي، أَيْ: كَمَا أُرِيدُ وَأَشَاءُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن سِيرين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فوجدتَه قَدْ كَتَبَ عَليّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فحَجّ آدَمُ مُوسَى" أَخْرَجَاهُ [[صحيح البخاري برقم (٤٧٣٦) .]] .
﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي﴾ أَيْ: بحُجَجي وَبَرَاهِينِي وَمُعْجِزَاتِي، ﴿وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ قال علي ابن أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُبْطئا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَضْعُفا.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، بَلْ يَذْكُرَانِ اللَّهَ فِي حَالِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ، لِيَكُونَ ذكرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي لَلَّذِي [[في أ: "الذي".]] يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُنَاجِز قِرْنه". [[رواه الترمذي في السنن برقم (٣٥٨٠) من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. وقال الترمذي "هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوى".]]
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ أَيْ: تَمَرَّدَ وَعَتَا وتَجَهْرم عَلَى اللَّهِ وَعَصَاهُ،
﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ الْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمُوسَى صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِذْ ذَاكَ، وَمَعَ هَذَا أُمِرَ أَلَّا يُخَاطِبَ فِرْعَوْنَ إِلَّا بِالْمُلَاطَفَةِ وَاللِّينِ، كَمَا قَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ : يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبه: قُولَا لَهُ: إِنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أقربُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ [[في أ: "وعن".]] عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ أعْذرا إِلَيْهِ، قُولَا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا.
وَقَالَ بقيَّة، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَارُونَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحم، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَة، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قَالَ: كَنِّه.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثوري: كَنّه بأبي مُرَّة.
وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ دَعْوَتَهُمَا لَهُ تَكُونُ بِكَلَامٍ رَقِيقٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ، لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ وَأَبْلَغَ وَأَنْجَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الْآيَةَ [النَّحْلِ: ١٢٥] .
[قَوْلُهُ] [[زيادة من ف، وفي أ: "وقوله".]] ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ أَيْ: لَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْهَلَكَةِ، ﴿أَوْ يَخْشَى﴾ أَيْ: يُوجد طَاعَةً مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ يَخْشَى﴾ [[هكذا في كل النسخ، وليست آية.]] فَالتَّذَكُّرُ: الرُّجُوعُ عَنِ الْمَحْذُورِ، وَالْخَشْيَةُ: تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ [فِي قَوْلِهِ] [[زيادة من أ.]] ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ يَقُولُ: لَا تَقُلْ أَنْتَ يَا مُوسَى وَأَخُوكَ هَارُونُ: أهْلكْه قَبْلَ أَنْ أَعْذُرَ [[في ف: "تعذرا"، وفي أ: "يعذر".]] إِلَيْهِ.
وَهَاهُنَا نَذْكُرُ شِعْرَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَيُرْوَى لأمَيّة بْنِ أَبِي الصَّلْت فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَأَنْتَ الَّذِي مِنْ فَضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ ... بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولًا مُنَادِيًا ...
فَقُلْتَ لَهُ يَا اذْهَبْ وهارون فادعُوَا ... إلى الله فرعون الذي كان بَاغِيَا ...
فَقُولَا لَهُ هَلْ أَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ ... بِلَا وَتَدٍ حَتَّى اسْتَقَلَّتْ كَمَا هِيَا ...
وُقُولَا له أأنت رَفَّعت هذه ... بلا عمد؟ أرفق إِذَنْ بِكَ بَانِيَا ...
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا ... مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّه اللَّيْلُ هَادِيَا ...
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُخْرِجُ الشَّمْسَ بُكْرَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنَ الْأَرْضِ ضَاحِيَا ...
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الْحَبَّ فِي الثَّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا ...
وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّهُ فِي رُءُوسِهِ [[في أ: "دويبة".]] فَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا [[السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٢٨) .]]
{"ayahs_start":40,"ayahs":["إِذۡ تَمۡشِیۤ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن یَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَـٰكَ إِلَىٰۤ أُمِّكَ كَیۡ تَقَرَّ عَیۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسࣰا فَنَجَّیۡنَـٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونࣰاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِینَ فِیۤ أَهۡلِ مَدۡیَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرࣲ یَـٰمُوسَىٰ","وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِی","ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـَٔایَـٰتِی وَلَا تَنِیَا فِی ذِكۡرِی","ٱذۡهَبَاۤ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ","فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلࣰا لَّیِّنࣰا لَّعَلَّهُۥ یَتَذَكَّرُ أَوۡ یَخۡشَىٰ"],"ayah":"ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـَٔایَـٰتِی وَلَا تَنِیَا فِی ذِكۡرِی"}