الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ . أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ، والخَطِيبُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّما قَتَلَ مُوسى الَّذِي قَتَلَ مِن آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً. (p-١٨٨)يَقُولُ اللَّهُ: ﴿وقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ﴾ [طه»: ٤٠] . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ﴾ قالَ: مِن قَتْلِ النَّفْسِ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ قالَ: أخْلَصْناكَ إخْلاصًا. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ قالَ: أبْتَلَيْناكَ ابْتِلاءً. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ قالَ: ابْتَلَيْناكَ بِبَلاءِ نِعْمَةٍ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ قالَ: اخْتَبَرْناكَ اخْتِبارًا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ قالَ: بَلاءُ إلْقائِهِ في التّابُوتِ، ثُمَّ في اليَمِّ، ثُمَّ التِقاطُ آلِ فِرْعَوْنَ إيّاهُ ثُمَّ خُرُوجُهُ خائِفًا يَتَرَقَّبُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي عُمَرَ العَدَنِيُّ في ”مَسْنَدِهِ“، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والنَّسائِيُّ، وأبُو يَعْلى، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُوَيْهِ «عَنْ سَعِيدِ بْنِ (p-١٨٩)جِبِّيرٍ» قالَ: سَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ . فَسَألَتْ عَنِ الفُتُونِ ما هو فَقالَ: اسْتَأْنِفِ النَّهارَ يا ابْنَ جُبَيْرٍ؛ فَإنَّ لَها حَدِيثًا طَوِيلًا. فَلَمّا أصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ لِأتَنَجَّزَ ما وعَدَنِي مِن حَدِيثِ الفُتُونِ، فَقالَ: تَذاكَرَ فِرْعَوْنُ وجُلَساؤُهُ ما كانَ اللَّهُ وعَدَ إبْراهِيمَ مِن أنْ يَجْعَلَ في ذُرِّيَّتِهِ أنْبِياءَ ومُلُوكًا، فَقالَ بَعْضُهم: إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ وما يَشُكُّونَ فِيهِ، ولَقَدْ كانُوا يَظُنُّونَ أنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمّا هَلَكَ، قالُوا: لَيْسَ هَذا كانَ وعْدَ اللَّهِ إبْراهِيمَ. قالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ ؟ فَأْتَمَرُوا بَيْنَهم، وأجْمَعُوا أمْرَهم عَلى أنْ يَبْعَثَ رِجالًا مَعَهُمُ الشِّفارُ، يَطُوفُونَ في بَنِي إسْرائِيلَ؛ فَلا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا إلّا ذَبَحُوهُ، فَفَعَلُوا، فَلَمّا رَأوْا أنَّ الكِبارَ يَمُوتُونَ بِآجالِهِمْ، وأنَّ الصَّغارَ يُذْبَحُونَ، قالُوا: يُوشِكُ أنْ يَفْنى بَنُو إسْرائِيلَ، فَتَصِيرُوا أنْ تُباشِرُوا الأعْمالَ والخِدْمَةَ الَّتِي كانُوا يَكْفُونَكم، فاقْتُلُوا عامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ، فَيَقِلَّ أبَناؤُهم، ودَعُوا عامًا لا تَقْتَلُوا مِنهم أحَدًا، فَتَشُبُّ الصِّغارُ مَكانَ مَن يَمُوتُ مِنَ الكِبارِ، فَإنَّهم لَنْ يَكْثُرُوا فَتَخافُونَ مُكاثَرَتَهم إيّاكم، ولَنْ يَفْنَوْا بِمَن تَقْتُلُونَ، فَتَحْتاجُونَ إلَيْهِمْ. فَأجْمَعُوا أمْرَهم عَلى ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسى بِهارُونَ في العامِ الَّذِي لا يُذْبَحُ فِيهِ الغِلْمانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلانِيَةً آمِنَةً، حَتّى إذا كانَ في قابِلٍ حَمَلَتْ بِمُوسى، فَوَقَعَ في قَلْبِها الهَمُّ (p-١٩٠)والحُزْنُ، وذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ يا ابْنَ جُبَيْرٍ؛ ما دَخَلَ عَلَيْهِ في بَطْنِ أُمِّهِ مِمّا يُرادُ بِهِ، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْها أنْ: ﴿ولا تَخافِي ولا تَحْزَنِي إنّا رادُّوهُ إلَيْكِ وجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧] [ القَصَصِ: ٧ ]، وأمَرَها إذا ولَدَتْهُ أنْ تَجْعَلَهُ في تابُوتٍ، ثُمَّ تُلْقِيَهِ في اليَمِّ، فَلَمّا ولَدَتْهُ فَعَلَتْ ما أُمِرَتْ بِهِ، حَتّى إذا تَوارى عَنْها ابْنُها أتاها الشَّيْطانُ، وقالَتْ في نَفْسِها: ما فَعَلْتُ بِابْنِي ؟ لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوارَيْتُهُ وكَفَّنْتُهُ كانَ أحَبَّ إلَيَّ مِن أنْ أُلْقِيَهُ بِيَدِي إلى دَوابِّ البَحْرِ وحِيتانِهِ. فانْطَلَقَ بِهِ الماءُ حَتّى أوْفى بِهِ عِنْدَ فُرْضَةِ مُسْتَقى جَوارِي امْرَأةِ فِرْعَوْنَ، فَرَأيْنَهُ فَأخَذْنَهُ، فَهَمَمْنَ أنْ يَفْتَحْنَ البابَ، فَقالَ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: إنَّ في هَذا لَمالًا، وإنّا إنْ فَتَحْناهُ لَمْ تُصَدِّقْنا امْرَأةُ فِرْعَوْنَ بِما وجَدْنا فِيهِ. فَحَمَلْنَهُ بِهَيْئَتِهِ لَمْ يُحَرِّكْنَ مِنهُ شَيْئًا حَتّى دَفَعْنَهُ إلَيْها، فَلَمّا فَتَحَتْهُ رَأتْ فِيهِ الغُلامَ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنها مَحَبَّةٌ لَمْ يُلْقَ مِنها عَلى أحَدٍ مِنَ البَشَرِ قَطُّ ﴿وأصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا﴾ [القصص: ١٠] [ القَصَصِ: ١٠ ] مِن ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ إلّا مِن ذِكْرِ مُوسى. فَلَمّا سَمِعَ الذَّبّاحُونَ بِأمْرِهِ، أقْبَلُوا إلى امْرَأةِ فِرْعَوْنَ بِشِفارِهِمْ، يُرِيدُونَ أنْ يَذْبَحُوهُ - وذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ يا ابْنَ جُبَيْرٍ. فَقالَتْ لِلذَّبّاحِينَ: آمِرُونِي، فَإنَّ هَذا (p-١٩١)الواحِدَ لا يَزِيدُ في بَنِي إسْرائِيلَ، فَإنِّي آتِي فِرْعَوْنَ فَأسْتَوْهِبُهُ إيّاهُ، فَإنْ وهَبَهُ لِي فَقَدْ أحْسَنْتُمْ وأجْمَلْتُمْ، وإنْ أمَرَ بِذَبْحِهِ لَمْ ألُمْكم. فَلَمّا أتَتْ بِهِ فِرْعَوْنَ، قالَتْ: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي ولَكَ﴾ [القصص: ٩] [ القَصَصِ: ٩ ]، قالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، وأمّا أنا فَلا حاجَةَ لِي فِيهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: والَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، لَوْ أقَرَّ فِرْعَوْنُ أنْ يَكُونَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُ كَما قالَتِ امْرَأتُهُ، لَهَداهُ اللَّهُ بِهِ كَما هَدى بِهِ امْرَأتَهُ، ولَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ حَرَمَهُ ذَلِكَ. فَأرْسَلَتْ إلى مَن حَوْلَها مِن كُلِّ امْرَأةٍ لَها لَبَنٌ، لِتَخْتارَ لَهُ ظِئْرًا، فَكُلَّما أخَذَتْهُ امْرَأةٌ مِنهُنَّ لِتُرْضِعَهُ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَها، حَتّى أشْفَقَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ أنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأحْزَنَها ذَلِكَ، فَأمَرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ إلى السُّوقِ ومَجْمَعِ النّاسِ، تَرْجُو أنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا يَأْخُذُ مِنها، فَلَمْ يَفْعَلْ، وأصْبَحَتْ أُمُّ مُوسى والِهًا، فَقالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أثَرَهُ واطْلُبِيهِ، هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا ؟ أحَيٌّ ابْنِي أمْ قَدْ أكَلَتْهُ الدَّوابُّ؟ ونَسِيَتِ الَّذِي كانَ وعَدَها اللَّهُ. فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ وهم لا يَشْعُرُونَ - والجُنُبُ أنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الإنْسانِ إلى شَيْءٍ بَعِيدٍ وهو إلى جَنْبِهِ، وهو لا يَشْعُرُ بِهِ - فَقالَتْ مِنَ الفَرَحِ حِينَ (p-١٩٢)أعْياهُمُ الظُّئُوراتُ: أنا أدُلُّكم عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكم وهم لَهُ ناصِحُونَ، فَأخَذُوها، فَقالُوا: وما يُدْرِيكِ ما نُصْحُهم لَهُ ؟ هَلْ يَعْرِفُونَهُ ؟ حَتّى شَكُّوا في ذَلِكَ - وذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ يا ابْنَ جُبَيْرٍ - فَقالَتْ: نُصْحُهم لَهُ وشَفَقَتُهم عَلَيْهِ رَغْبَتُهم في صِهْرِ المَلِكِ رَجاءَ مَنفَعَتِهِ. فَتَرَكُوها، فانْطَلَقَتْ إلى أُمِّهِ فَأخْبَرَتْها الخَبَرَ، فَجاءَتْ، فَلَمّا وضَعَتْهُ في حَجْرِها نَزا إلى ثَدْيِها فَمَصَّهُ حَتّى امْتَلَأ جَنْباهُ رِيًّا، وانْطَلَقَ البُشَراءُ إلى امْرَأةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَها: إنّا قَدْ وجَدْنا لِابْنِكِ ظِئْرًا. فَأرْسَلَتْ إلَيْها فَأُتِيَتْ بِها وبِهِ، فَلَمّا رَأتْ ما يَصْنَعُ بِها، قالَتِ لَها: امْكُثِي عِنْدِي أرْضِعِي ابْنِي هَذا، فَإنِّي لَمْ أُحِبَّ حُبَّهُ شَيْئًا قَطُّ، قالَتْ: لا أسْتَطِيعُ أنْ أدَعَ بَيْتِي ووَلَدِي فَيَضِيعَ، فَإنْ طابَتْ نَفْسُكِ أنْ تُعْطِينِيهِ فَأذْهَبَ بِهِ إلى بَيْتِي فَيَكُونَ مَعِي لا آلُوهُ خَيْرًا- فَعَلْتُ، وإلّا فَإنِّي غَيْرُ تارِكَةٍ بَيْتِي ووَلَدِي. فَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسى ما كانَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ وعَدَها، فَتَعاسَرَتْ عَلى امْرَأةِ فِرْعَوْنَ لِذَلِكَ، وأيْقَنَتْ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مُنْجِزٌ وعْدَهُ. فَرَجَعَتْ بِابْنِها إلى بَيْتِها مِن يَوْمِها، فَأنْبَتَهُ اللَّهُ نَباتًا حَسَنًا، وحَفِظَهُ لِما قَضى فِيهِ،، فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إسْرائِيلَ وهم مُجْتَمِعُونَ في ناحِيَةِ القَرْيَةِ، يَمْتَنِعُونَ بِهِ مِنَ الظُّلْمِ والسُّخْرَةِ مُنْذُ كانَ فِيهِمْ. فَلَمّا تَرَعْرَعَ، قالَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ لِأُمِّ مُوسى: أزِيرِينِي ابْنِي. فَوَعَدَتْها يَوْمًا تَزُورُها فِيهِ بِهِ، فَقالَتْ لِخُزّانِها (p-١٩٣)وظُئُورِها وقَهارِمَتِها: لا يَبْقَيَنَّ أحَدٌ مِنكُمُ اليَوْمَ أحَدٌ إلّا اسْتَقْبَلَ ابْنِي بِهَدِيَّةٍ وكَرامَةٍ أرى ذَلِكَ فِيهِ، وأنا باعِثَةٌ أمِينًا يُحْصِي ما يَصْنَعُ كُلُّ إنْسانٍ مِنكم، فَلَمْ تَزَلِ الهَدايا والنِّحَلُ والكَرامَةُ تَسْتَقْبِلُهُ مِن حِينِ خَرَجَ مِن بَيْتِ أُمِّهِ إلى أنْ دَخَلَ عَلَيْها. فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْها أكْرَمَتْهُ ونَحَلَتْهُ وفَرِحَتْ بِهِ، وأعْجَبَها، ونَحَلَتْ أُمَّهُ لِحُسْنِ أثَرِها عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَتِ: لَأنْطَلِقَنَّ بِهِ إلى فِرْعَوْنَ، فَلَيَنْحِلَنَّهُ ولَيُكْرِمَنَّهُ. فَلَمّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ جَعَلَتْهُ في حِجْرِهِ، فَتَناوَلَ مُوسى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ فَمَدَّها إلى الأرْضِ، فَقالَتْ لَهُ الغُواةُ مِن أعْداءِ اللَّهِ: ألا تَرى ما وعَدَ اللَّهُ إبْراهِيمَ! إنَّهُ يَرِثُكَ ويَصْرَعُكَ ويَعْلُوكَ، فَأرْسَلَ إلى الذَّبّاحِينَ لِيَذْبَحُوهُ - وذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ يا ابْنَ جُبَيْرٍ، بَعْدَ كُلِّ بَلاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وأُرِيدَ بِهِ فُتُونًا - فَجاءَتِ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ تَسْعى إلى فِرْعَوْنَ، فَقالَتْ: ما بَدا لَكَ في هَذا الصَّبِيِّ الَّذِي وهَبْتَهُ لِي ؟ قالَ: ألا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أنَّهُ سَيَصْرَعُنِي ويَعْلُونِي ! قالَتْ لَهُ: اجْعَلْ بَيْنِي وبَيْنَكَ أمْرًا تَعْرِفُ فِيهِ الحَقَّ، ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ ولُؤْلُؤَتَيْنِ فَقَرِّبْهُنَّ إلَيْهِ، فَإنْ بَطَشَ بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ واجْتَنَبَ الجَمْرَتَيْنِ عَلِمْتَ أنَّهُ يَعْقِلُ، وإنْ تَناوَلَ الجَمْرَتَيْنِ ولَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، فاعْلَمْ أنَّ أحَدًا لا يُؤْثِرُ الجَمْرَتَيْنِ عَلى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وهو يَعْقِلُ. فَقَرَّبَ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَتَناوَلَ الجَمْرَتَيْنِ، (p-١٩٤)فانْتَزَعُوهُما مِنهُ مَخافَةَ أنْ يَحْرِقا بَدَنَهُ، فَقالَتِ المَرْأةُ: ألا تَرى ؟ وصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَما كانَ قَدْ هَمَّ بِهِ، وكانَ اللَّهُ بالِغَ أمْرِهِ فِيهِ. فَلَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ، وكانَ مِنَ الرِّجالِ، لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إلى أحَدٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ مَعَهُ بِظُلْمٍ ولا سُخْرَةٍ، حَتّى امْتَنَعُوا كُلَّ امْتِناعٍ. فَبَيْنَما هو يَمْشِي في ناحِيَةِ المَدِينَةِ، إذْ هو بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، أحَدُهُما مِن بَنِي إسْرائِيلَ، والآخَرُ مِن آلِ فِرْعَوْنَ، فاسْتَغاثَهُ الإسْرائِيلِيُّ عَلى الفِرْعَوْنِيِّ، فَغَضِبَ مُوسى واشْتَدَّ غَضَبُهُ؛ لِأنَّهُ تَناوَلَهُ وهو يَعْلَمُ مَنزِلَةَ مُوسى مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وحِفْظَهُ لَهم، ولا يُعْلَمُ إلّا أنَّما ذَلِكَ مِنَ الرَّضاعِ، غَيْرَ أُمِّ مُوسى، إلّا أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى أطْلَعَ مُوسى مِن ذَلِكَ عَلى ما لَمْ يُطْلِعْ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، فَوَكَزَ مُوسى الفِرْعَوْنِيَّ فَقَتَلَهُ ولَيْسَ يَراهُما أحَدٌ إلّا اللَّهُ والإسْرائِيلِيُّ، فَقالَ مُوسى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: ﴿هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: ١٥] [ القَصَصِ: ١٥ ]، ثُمَّ قالَ: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ [القصص: ١٦] [ القَصَصِ: ١٦ ] . وأصْبَحَ في المَدِينَةِ خائِفًا يَتَرَقَّبُ الأخْبارَ، فَأُتِيَ فِرْعَوْنُ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ قَتَلُوا رَجُلًا مِن آلِ فِرْعَوْنَ، فَخُذْ لَنا بِحَقِّنا ولا تُرَخِّصْ لَهم. فَقالَ: ائْتُونِي قاتِلَهُ ومَن شَهِدُ عَلَيْهِ؛ لَأنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ أنْ يُقِيدَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ (p-١٩٥)ولا ثَبَتٍ، فاطْلُبُوا عِلْمَ ذَلِكَ آخُذْ لَكم بِحَقِّكم. فَبَيْنَما هم يَطُوفُونَ لا يَجِدُونَ ثَبَتًا، إذْ مَرَّ مُوسى مِنَ الغَدِ قَدْ رَأى ذَلِكَ الإسْرائِيلِيَّ يُقاتِلُ فِرْعَوْنِيًّا آخَرَ، فاسْتَغاثَهُ الإسْرائِيلِيُّ عَلى الفِرْعَوْنِيِّ، فَصادَفَ مُوسى قَدْ نَدِمَ عَلى ما كانَ، وكَرِهَ الَّذِي رَأى، فَغَضِبَ الإسْرائِيلِيُّ، وهو يُرِيدُ أنْ يَبْطِشَ بِالفِرْعَوْنِيِّ، فَقالَ لِلْإسْرائِيلِيِّ لِما فَعَلَ بِالأمْسِ واليَوْمَ: ﴿إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: ١٨] [ القَصَصِ: ١٨ ] . فَنَظَرَ الإسْرائِيلِيُّ إلى مُوسى حِينَ قالَ ما قالَ، فَإذا هو غَضْبانُ كَغَضَبِهِ بِالأمْسِ، فَخافَ بَعْدَما قالَ لَهُ: ﴿إنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص: ١٨] . أنْ يَكُونَ إيّاهُ أرادَ، وإنَّما أرادَ الفِرْعَوْنِيَّ - فَقالَ: ﴿يا مُوسى أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ﴾ [القصص: ١٩] [ القَصَصِ: ١٩ ] . وإنَّما قالَ ذَلِكَ مَخافَةَ أنْ يَكُونَ إيّاهُ أرادَ مُوسى لِيَقْتُلَهُ، فَتَتارَكا، فانْطَلَقَ الفِرْعَوْنِيُّ إلى قَوْمِهِ، فَأخْبَرَهم بِما سَمِعَ مِنَ الإسْرائِيلِيِّ حِينَ يَقُولُ: ﴿أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ﴾ [القصص: ١٩] . فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ إلى الذَّبّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسى، فَأخَذَ رُسُلُ فِرْعَوْنَ في الطَّرِيقِ الأعْظَمِ يَمْشُونَ عَلى هَيْئَتِهِمْ يَطْلُبُونَ مُوسى وهم لا يَخافُونَ أنْ يَفُوتَهم، وجاءَ رَجُلٌ مِن شِيعَةِ مُوسى مِن أقْصى المَدِينَةِ، فاخْتَصَرَ طَرِيقًا قَرِيبًا حَتّى سَبَقَهم إلى مُوسى، فَأخْبَرَهُ الخَبَرَ - وذَلِكَ مِنَ الفُتُونِ يا ابْنَ جُبَيْرٍ ”. (p-١٩٦)فَخَرَجَ مُوسى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ، لَمْ يَلْقَ بَلاءً مِثْلَ ذَلِكَ، ولَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إلّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ، فَإنَّهُ قالَ: ﴿عَسى رَبِّي أنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ﴾ [القصص: ٢٢] . ﴿ولَمّا ورَدَ ماءَ مَدْيَنَ وجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ ووَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودانِ﴾ [القصص: ٢٣] [ القَصَصِ: ٢٢، ٢٣ ] . يَعْنِي حابِسَتَيْ غَنَمِهِما، قالَ: ما خَطْبُكُما مُعْتَزِلَتَيْنِ لا تَسْقِيانِ مَعَ النّاسِ ؟ قالَتا: لَيْسَتْ لَنا قُوَّةٌ نُزاحِمُ القَوْمَ، وإنَّما نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِياضِهِمْ. فَسَقى لَهُما؛ فَجَعَلَ يَغْرِفُ في الدَّلْوِ ماءً كَثِيرًا، حَتّى كانَتا أوَّلَ الرِّعاءِ فَراغًا، فانْصَرَفَتا إلى أبِيهِما بِغَنَمِهِما، وانْصَرَفَ مُوسى إلى الشَّجَرَةِ فاسْتَظَلَّ بِها، وقالَ: ﴿رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤] [ القَصَصِ: ٢٤ ] . واسْتَنْكَرَ أبُو الجارِيَتَيْنِ سُرْعَةَ صُدُورِهِما بِغَنَمِهِما حُفَّلًا بِطانًا، وقالَ: إنَّ لَكُما اليَوْمَ لَشَأْنًا، فَحَدَّثَتاهُ بِما صَنَعَ مُوسى، فَأمَرَ إحْداهُما أنْ تَدْعُوَهُ لَهُ، فَأتَتْهُ فَدَعَتْهُ، فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ: ﴿لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ﴾ [القصص: ٢٥] [ القَصَصِ: ٢٥ ] . لَيْسَ لِفِرْعَوْنَ ولا لِقَوْمِهِ عَلَيْنا سُلْطانٌ ولَسْنا في مَمْلَكَتِهِ، قالَتِ ابْنَتُهُ: ﴿يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِينُ﴾ [القصص: ٢٦] [ القَصَصِ: ٢٦ ] فَحَمَلَتْهُ الغَيْرَةُ أنْ قالَ: وما يُدْرِيكِ ما قُوَّتُهُ ؟ وما أمانَتُهُ ؟ قالَتْ: أمّا قُوَّتُهُ، فَما رَأيْتُ مِنهُ حِينَ سَقى لَنا؛ لَمْ أرَ رَجُلًا قَطُّ أقْوى في ذَلِكَ السَّقْيِ مِنهُ حِينَ سَقى لَنا، وأمّا الأمانَةُ: فَإنَّهُ نَظَرَ حِينَ أقْبَلْتُ إلَيْهِ وشَخَصْتُ لَهُ، (p-١٩٧)فَلَمّا عَلِمَ أنِّي امْرَأةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ ولَمْ يَرْفَعْهُ، ولَمْ يَنْظُرْ إلَيَّ حِينَ أقْبَلْتُ إلَيْهِ، حَتّى بَلَّغْتُهُ رِسالَتَكَ. فَقالَ لِي: امْشِي خَلْفِي، وانْعُتِي لِيَ الطَّرِيقَ. فَلَمْ يَقُلْ هَذا إلّا وهو أمِينٌ، فَسُرِّيَ عَنْ أبِيها وصَدَّقَها، وظَنَّ بِهِ الَّذِي قالَتْ. فَقالَ: هَلْ لَكَ ﴿أنْ أُنْكِحَكَ إحْدى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإنْ أتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِن عِنْدِكَ وما أُرِيدُ أنْ أشُقَّ عَلَيْكَ﴾ [القصص: ٢٧] [ القَصَصِ: ٢٧ ] فَفَعَلَ، فَكانَتْ عَلى مُوسى ثَمانِيَ سِنِينَ واجِبَةً، وكانَتْ سَنَتانِ عِدَةً مِنهُ، فَقَضى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ فَأتَمَّها عَشْرًا. قالَ سَعِيدٌ: فَسَألَنِي رَجُلٌ مِن أهْلِ النَّصْرانِيَّةِ مِن عُلَمائِهِمْ: هَلْ تَدْرِي أيَّ الأجَلَيْنِ قَضى مُوسى ؟ قُلْتُ: لا. وأنا يَوْمَئِذٌ لا أعْلَمُ. فَلَقِيتُ ابْنَ عَبّاسٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي قالَ النَّصْرانِيُّ، فَقالَ: أما كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ثَمانِيًا واجِبَةٌ، لَمْ يَكُنْ لِمُوسى لِيَنْقُصَ مِنها شَيْئًا، وتَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ قاضِيًا عَنْ مُوسى عِدَتَهُ الَّتِي وعَدَ؟ فَإنَّهُ قَضى عَشْرًا. فَأخْبَرْتُ النَّصْرانِيَّ، فَقالَ: الَّذِي أخْبَرَكَ بِهَذا هو أعْلَمُ مِنكَ. قُلْتُ: أجَلْ، وأوْلى. فَلَمّا سارَ مُوسى بِأهْلِهِ كانَ مِن أمْرِ النّارِ ما قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ في القُرْآنِ وأمْرِ العَصا ويَدِهِ، فَشَكا إلى رَبِّهِ ما يَتَخَوَّفُ مِن آلِ فِرْعَوْنَ في القَتِيلِ، وعُقْدَةَ لِسانِهِ؛ فَإنَّهُ كانَ في لِسانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِن كَثِيرٍ مِنَ الكَلامِ، فَسَألَ رَبَّهُ أنْ يُعِينَهُ بِأخِيهِ هارُونَ، لِيَكُونَ لَهُ رِدْءًا، ويَتَكَلَّمَ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمّا لا يُفْصِحُ بِهِ. فَآتاهُ اللَّهُ سُؤْلَهُ، وحَلَّ عُقْدَةً مِن لِسانِهِ، وأوْحى إلى هارُونَ وأمَرَهُ أنْ يَلْقى مُوسى. (p-١٩٨)فانْدَفَعَ مُوسى بِالعَصا ولَقِيَ هارُونَ. فانْطَلَقا جَمِيعًا إلى فِرْعَوْنَ، فَأقاما بِبابِهِ حِينًا لا يُؤْذَنُ لَهُما، ثُمَّ أُذِنَ لَهُما بَعْدَ حِجابٍ شَدِيدٍ، فَقالا ﴿إنّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ [طه: ٤٧] . قالَ: ومَن رَبُّكُما يا مُوسى ؟ فَأخْبَرَهُ بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ في القُرْآنِ، قالَ: فَما تُرِيدانِ ؟ وذَكَّرَهُ القَتِيلَ، فاعْتَذَرَ بِما قَدْ سَمِعْتَ. قالَ: أُرِيدُ أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وتُرْسِلَ مَعِيَ بَنِي إسْرائِيلَ، فَأبى عَلَيْهِ ذَلِكَ وقالَ: ائْتِ بِآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ. فَألْقى عَصاهُ فَتَحَوَّلَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً فاغِرَةً فاها، مُسْرِعَةً إلى فِرْعَوْنَ. فَلَمّا رَأى فِرْعَوْنُ أنَّها قاصِدَةٌ إلَيْهِ خافَها، فاقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، واسْتَغاثَ بِمُوسى أنْ يَكُفَّها عَنْهُ. فَفَعَلَ، وأخْرَجَ يَدَهُ مِن جَيْبِهِ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ - يَعْنِي مِن غَيْرِ بَرَصٍ - ثُمَّ أعادَها إلى كُمِّهِ فَصارَتْ إلى لَوْنِها الأوَّلِ. فاسْتَشارَ المَلَأ فِيما رَأى، فَقالُوا لَهُ: هَذانِ ساحِرانِ يُرِيدانِ أنْ يُخْرِجاكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِما ويَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلى. يَعْنُونَ مُلْكَهُمُ الَّذِي هم فِيهِ والعَيْشَ، وأبَوْا عَلى مُوسى أنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مِمّا طَلَبَ، وقالُوا لَهُ: اجْمَعْ لَهُمُ السَّحَرَةَ فَإنَّهم بِأرْضِنا كَثِيرٌ حَتّى تَغْلِبَ بِسِحْرِهِمْ سِحْرَهُما. ﴿فَأرْسَلَ فِرْعَوْنُ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ [الشعراء: ٥٣] [الشُّعَراءِ: ٥٣ ]، فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ ساحِرٍ مُتَعالِمٍ، فَلَمّا أتَوْا فِرْعَوْنَ قالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذا السّاحِرُ ؟ قالُوا: يَعْمَلُ بِالحَيّاتِ والحِبالِ. قالُوا: فَلا واللَّهِ ما في الأرْضِ قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالحَيّاتِ والحِبالِ والعِصِيِّ بِالسِّحْرِ ما نَعْمَلُ بِهِ ! فَما أجْرُنا إنْ غَلَبْنا ؟ قالَ لَهم: أنْتُمْ أقارِبِي وخاصَّتِي، وأنا صانِعٌ بِكم كُلَّ شَيْءٍ (p-١٩٩)أحْبَبْتُمْ، فَتَواعَدُوا لِيَوْمِ الزِّينَةِ، وأنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى. قالَ سَعِيدٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبّاسٍ: أنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ اليَوْمُ الَّذِي أظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسى عَلى فِرْعَوْنَ والسَّحَرَةِ، هو يَوْمُ عاشُوراءَ. فَلَمّا اجْتَمَعُوا في صَعِيدٍ واحِدٍ قالَ النّاسُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا فَلْنَحْضُرْ هَذا الأمْرَ، ونَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إنْ كانُوا هُمُ الغالِبِينَ. يَعْنُونَ بِذَلِكَ مُوسى وهارُونَ اسْتِهْزاءً بِهِما، فَقالُوا: يا مُوسى - لِقُدْرَتِهِمْ بِسِحْرِهِمْ - إمّا أنْ تُلْقِيَ وإمّا أنْ نَكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ. قالَ: ألْقُوا. فَألْقَوْا حِبالَهم وعِصِيَّهم وقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إنّا لَنَحْنُ الغالِبُونَ فَرَأى مُوسى مِن سِحْرِهِمْ ما أوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ: أنْ ألْقِ عَصاكَ، فَلَمّا ألْقاها صارَتْ ثُعْبانًا عَظِيمًا فاغِرَةً فاها، فَجَعَلَ العَصا، بِدَعْوَةِ مُوسى، تَلْتَبِسُ بِالحِبالِ حَتّى صارَتْ جَزَرًا إلى الثُّعْبانِ، تَدْخُلُ فِيهِ، حَتّى ما أبْقَتْ عَصًا ولا حِبالًا إلّا ابْتَلَعَتْهُ، فَلَمّا عَرَفَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ قالُوا: لَوْ كانَ هَذا سِحْرًا لَمْ تَبْتَلِعْ مِن سِحْرِنا كُلَّ هَذا، ولَكِنَّ هَذا أمْرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، آمَنّا بِاللَّهِ وبِما جاءَ بِهِ مُوسى، ونَتُوبُ إلى اللَّهِ مِمّا كُنّا عَلَيْهِ. فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهْرَ فِرْعَوْنَ في ذَلِكَ المَوْطِنِ وأشْياعِهِ، وظَهَرَ الحَقُّ، وبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنالِكَ وانْقَلَبُوا صاغِرِينَ، وامْرَأةُ فِرْعَوْنَ بارِزَةٌ مُتَبَذِّلَةٌ تَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ لِمُوسى عَلى فِرْعَوْنَ (p-٢٠٠)فَمَن رَآها مِن آلِ فِرْعَوْنَ ظَنَّ أنَّها تَبَذَّلَتْ شَفَقَةً عَلى فِرْعَوْنَ وأشْياعِهِ، وإنَّما كانَ حُزْنُها وهَمُّها لِمُوسى. فَلَمّا طالَ مُكْثُ مُوسى لِمَواعِدِ فِرْعَوْنَ الكاذِبَةِ، كُلَّما جاءَ بِآيَةٍ وعَدَ عِنْدَها أنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إسْرائِيلَ، فَإذا كُشِفَ ذَلِكَ نَكَثَ عَهْدَهُ، وأخْلَفَ وعْدَهُ. حَتّى أُمِرَ مُوسى بِقَوْمِهِ فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا، فَلَمّا أصْبَحَ فِرْعَوْنُ ورَأى أنَّهم قَدْ مَضَوْا بَعَثَ في المَدائِنِ حاشِرِينَ، فَتَبِعَهم جُنُودٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةٌ، وأوْحى اللَّهُ إلى البَحْرِ: إذا ضَرَبَكَ عَبْدِي مُوسى بِعَصاهُ فانْفَرِقْ لَهُ اثْنَيْ عَشَرَ فِرْقًا، حَتّى يَجُوزَ مُوسى ومَن مَعَهُ، ثُمَّ التَقِ بَعْدُ عَلى مَن بَقِيَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ وأشْياعِهِ. فَنَسِيَ مُوسى أنْ يَضْرِبَ بِعَصاهُ فَدَفَعَ إلى البَحْرِ بِالعَصا ولَهُ قَصِيفٌ، مَخافَةَ أنْ يَضْرِبَهُ مُوسى بِعَصاهُ وهو غافِلٌ فَيَصِيرَ عاصِيًا. فَلَمّا تَراءى الجَمْعانِ وتَقارَبا، قالَ أصْحابُ مُوسى: إنّا لَمُدْرَكُونَ، فافْعَلْ ما أمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ فَإنَّكَ لَمْ تُكْذَبْ ولَمْ تَكْذِبْ، قالَ: وعَدَنِي رَبِّي إذا انْتَهَيْتُ إلى البَحْرِ أنْ يَنْفَرِقَ لِي حَتّى أجُوزَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ العَصا، فَضَرَبَ البَحْرَ حِينَ دَنا أوائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِن أواخِرِ جُنْدِ مُوسى، فانْفَرَقَ البَحْرُ كَما أمَرَ اللَّهُ، وكَما وُعِدَ مُوسى، فَلَمّا جازَ أصْحابُ مُوسى كُلُّهُمُ ودَخَلَ أصْحابُ فِرْعَوْنَ كُلُّهُمُ، التَقى البَحْرُ عَلَيْهِمُ كَما أمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، فَلَمّا أنْ جاوَزَ البَحْرَ قالَ أصْحابُ مُوسى: إنّا لَمُدْرَكُونَ؛ إنّا نَخافُ ألّا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرِقَ ولا نُؤْمِنُ بِهَلاكِهِ ! فَدَعا رَبَّهُ فَأخْرَجَهُ لَهُ (p-٢٠١)بِبَدَنِهِ مِنَ البَحْرِ حَتّى اسْتَيْقَنُوا. ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أصْنامٍ لَهم: قالُوا: يا مُوسى اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ. قالَ: إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هم فِيهِ، وباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، قَدْ رَأيْتُمْ مِنَ العِبَرِ ما يَكْفِيكم وسَمِعْتُمْ بِهِ. فَمَضى، حَتّى أنْزَلَهم مَنزِلًا، ثُمَّ قالَ لَهم: أطِيعُوا هارُونَ، فَإنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُهُ عَلَيْكم، وإنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي. وأجَّلَهم ثَلاثِينَ يَوْمًا أنْ يَرْجِعَ إلَيْهِمْ فِيها، فَلَمّا أتى رَبَّهُ وأرادَ أنْ يُكَلِّمَهُ في ثَلاثِينَ يَوْمًا قَدْ صامَهُنَّ لَيْلَهُنَّ ونَهارَهُنَّ، كَرِهَ أنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ ورِيحُ فَمِهِ رِيحُ فَمِ الصّائِمِ، فَتَناوَلَ مُوسى مِن نَباتِ الأرْضِ شَيْئًا فَمَضَغَهُ، فَقالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أتاهُ: لِمَ أفْطَرْتَ ؟ وهو أعْلَمُ بِالَّذِي كانَ، قالَ: يا رَبِّ، إنِّي كَرِهْتُ أنْ أُكَلِّمَكَ إلّا وفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ. قالَ: أوَما عَلِمْتَ يا مُوسى أنَّ رِيحَ فَمِ الصّائِمِ أطْيَبُ عِنْدِي مِن رِيحِ المِسْكِ، ارْجِعْ حَتّى تَصُومَ عَشَرَةَ أيّامٍ ثُمَّ ائْتِنِي. فَفَعَلَ مُوسى الَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. فَلَمّا رَأى قَوْمُ مُوسى أنَّهُ لَمْ يَأْتِهِمْ لِلْأجَلِ، ساءَهم ذَلِكَ. وكانَ هارُونُ قَدْ خَطَبَهم وقالَ لَهم: إنَّكم خَرَجْتُمْ مِن مِصْرَ، وعِنْدَكم ودائِعُ لِقَوْمِ فِرْعَوْنَ وعَوارِي، ولَكم فِيهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ، وأنا أرى أنْ تَحْتَسِبُوا ما كانَ لَكَمَ عِنْدَهم، ولا أحِلُّ لَكم ودِيعَةً اسْتُودِعْتُمُوها ولا عارِيَةً، ولَسْنا نَرى أداءَ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ (p-٢٠٢)إلَيْهِمْ ولا مُمْسِكِيهِ، فَحَفَرَ حُفَيْرَةً، وأمَرَ كُلَّ قَوْمٍ عِنْدَهم شَيْءٌ مِن ذَلِكَ مِن مَتاعٍ أوْ حِلْيَةٍ بِأنْ يَدْفِنُوهُ في الحُفَيْرَةِ، ثُمَّ أوْقَدَ عَلَيْهِ النّارَ فَأحْرَقَهُ، وقالَ: لا يَكُونُ لَنا ولا لَهم. وكانَ السّامِرِيُّ مَن قَوْمٍ يَعْبُدُونَ البَقَرَ، لَيْسَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ بَلْ جارٌ لَهُمْ، فاحْتَمَلَ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا، فَقُضِيَ لَهُ أنْ رَأى أثَرَ الفَرَسِ، فَقَبَضَ مِنهُ قَبْضَةً، فَمَرَّ بِهارُونَ، فَقالَ لَهُ هارُونُ: يا سامِرِيُّ، ألا تُلْقِي ما في يَدَيْكَ ؟ وهو قابِضٌ عَلَيْهِ، لا يَراهُ أحَدٌ طِوالَ ذَلِكَ، فَقالَ: هَذِهِ قَبْضَةٌ مِن أثَرِ الرَّسُولِ الَّذِي جاوَزَ بِكُمُ البَحْرَ، فَلا أُلْقِيها لِشَيْءٍ إلّا أنْ تَدْعُوَ اللَّهَ إذا ألْقَيْتُها أنْ يَكُونَ ما أُرِيدُ. قالَ: فَألْقاها ودَعا لَهُ هارُونُ، فَقالَ: أُرِيدُ أنْ يَكُونَ عِجْلًا. فاجْتَمَعَ ما كانَ في الحُفَيْرَةِ مِن مَتاعٍ؛ نُحاسٍ أوْ حَدِيدٍ أوْ حُلِيٍّ، فَصارَ عِجْلًا أجْوَفَ. لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، لَهُ خُوارٌ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: واللَّهِ، ما كانَ لَهُ صَوْتٌ، ولَكِنَّ الرِّيحَ كانَتْ تَدْخُلُ مِن دُبُرِهِ وتَخْرُجُ مِن فِيهِ، فَكانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ مِن ذَلِكَ. فَتَفَرَّقَ بَنُو إسْرائِيلَ فِرَقًا، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: يا سامِرِيُّ، ما هَذا فَإنَّكَ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ ؟ فَقالَ: هَذا رَبُّكم ولَكِنَّ مُوسى أخْطَأ الطَّرِيقَ. فَقالُوا: لا نُكَذِّبُ بِهَذا حَتّى (p-٢٠٣)يَرْجِعَ إلَيْنا مُوسى، فَإنْ يَكُ رَبَّنا لَمْ نَكُنْ ضَيَّعْنا وعَجَزْنا فِيهِ حِينَ رَأيْناهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ رَبَّنا فَإنّا نَتْبَعُ قَوْلَ مُوسى. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذا مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ، ولَيْسَ رَبَّنا ولا نُصَدِّقُ بِهِ ولا نُؤْمِنُ، وأُشْرِبَ فِرْقَةٌ في قُلُوبِهِمُ التَّصْدِيقَ بِما قالَ السّامِرِيُّ في العِجْلِ، وأعْلَنُوا التَّكْذِيبَ، فَقالَ لَهم هارُونُ: ﴿يا قَوْمِ إنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ﴾ [طه: ٩٠]، ولَيْسَ هَكَذا، قالُوا: فَما بالُ مُوسى وعَدَنا ثَلاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أخْلَفَنا، فَهَذِهِ أرْبَعُونَ لَيْلَةً ؟ فَقالَ سُفَهاؤُهم: أخْطَأ رَبَّهُ فَهو يَطْلُبُهُ ويَتْبَعُهُ. فَلَمّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى وقالَ ما قالَ لَهُ، أخْبَرَهُ بِما لَقِيَ قَوْمُهُ مِن بَعْدِهِ، ﴿فَرَجَعَ مُوسى إلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أسِفًا﴾ [طه: ٨٦]، فَقالَ لَهم ما سَمِعْتُمْ في القُرْآنِ، وألْقى الألْواحَ وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ مِنَ الغَضَبِ، غَيْرَ أنَّهُ عَذَرَ أخاهُ واسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلى السّامِرِيِّ فَقالَ لَهُ: ما حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ ؟ فَقالَ: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِن أثَرِ الرَّسُولِ، وفَطِنْتُ لَها وعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، فَقَذَفْتُها، وكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، قالَ: ﴿فاذْهَبْ فَإنَّ لَكَ في الحَياةِ أنْ تَقُولَ لا مِساسَ﴾ [طه: ٩٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿فِي اليَمِّ نَسْفًا﴾ [طه: ٩٧] ولَوْ كانَ إلَهًا لَمْ يَخْلُصْ إلى ذَلِكَ مِنهُ. فاسْتَيْقَنَ بَنُو إسْرائِيلَ بِالفِتْنَةِ، واغْتَبَطَ الَّذِينَ كانَ رَأْيُهم فِيهِ رَأْيَ هارُونَ، فَقالُوا: يا مُوسى، سَلْ رَبَّكَ أنْ يَفْتَحَ لَنا بابَ تَوْبَةٍ نَعْمَلُها وتُكَفِّرُ عَنّا ما عَمِلْنا. فاخْتارَ مُوسى مِن قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ، لا يَأْلُو الخَيْرَ؛ خِيارَ بَنِي إسْرائِيلَ، ومَن لَمْ يُشْرِكْ في العِجْلِ، فانْطَلَقَ بِهِمْ لِيَسْألَ رَبَّهَمُ التَّوْبَةَ، فَرَجَفَتِ الأرْضُ بِهِمْ، فاسْتَحْيا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مِن قَوْمِهِ ووَفْدِهِ حِينَ فُعِلَ بِهِمْ ذَلِكَ، فَقالَ: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهم مِن قَبْلُ وإيّايَ أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا﴾ [الأعراف: ١٥٥] (p-٢٠٤)الآيَةَ [ الأعْرافِ: ١٥٥ ] ومِنهم مَن قَدِ اطَّلَعَ اللَّهُ مِنهُ عَلى ما أُشْرِبَ قَلْبُهُ العِجْلَ والإيمانَ بِهِ؛ فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الأرْضُ، فَقالَ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] إلى قَوْلِهِ: ﴿والإنْجِيلِ﴾ [الأعراف: ١٥٧] [ الأعْرافِ: ١٥٦ ] . فَقالَ: رَبِّ، سَألْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي، فَقُلْتَ: إنَّ رَحْمَتِكَ كَتَبْتُها لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي، فَلَيْتَكَ أخَّرْتَنِي حَتّى أخْرُجَ في أُمَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ المَرْحُومَةِ. قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: فَإنَّ تَوْبَتَهم أنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهم كُلَّ مَن لَقِيَ مِن والِدٍ ووَلَدٍ، فَيَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ، ولا يُبالِي مَن قَتَلَ في ذَلِكَ المَوْطِنِ. فَتابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كانَ خَفِيَ عَلى مُوسى وهارُونَ، وما اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن ذُنُوبِهِمْ فاعْتَرَفُوا بِها، وفَعَلُوا ما أُمِرُوا بِهِ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقاتِلِ والمَقْتُولِ. ثُمَّ سارَ بِهِمْ مُوسى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، فَأخَذَ الألْواحَ بَعْدَ ما سَكَتَ عَنْهُ الغَضَبُ، وأمَرَهم بِالَّذِي أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يُبَلِّغَهم مِنَ الوَظائِفِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ، وأبَوْا أنْ يُقِرُّوا بِها، حَتّى نَتَقَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَبَلَ كَأنَّهُ ظُلَّةٌ، ودَنا مِنهم حَتّى خافُوا أنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأخَذُوا الكِتابَ بِأيْمانِهِمْ وهم مُصْغُونَ يَنْظُرُونَ إلى الأرْضِ، والكِتابُ الَّذِي أخَذُوهُ بِأيْدِيهِمْ، وهم يَنْظُرُونَ إلى الجَبَلِ مَخافَةَ أنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ مَضَوْا حَتّى أتَوُا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا فِيها مَدِينَةَ جَبّارِينَ خَلْقُهم خَلْقٌ (p-٢٠٥)مُنْكَرٌ، وذَكَرُوا مِن ثِمارِهِمْ أمْرًا عَجِيبًا مِن عِظَمِها - فَقالُوا: يا مُوسى إنَّ فِيها قَوْمًا جَبّارِينَ، لا طاقَةَ لَنا اليَوْمَ بِهِمْ، ولا نَدْخُلُها ما دامُوا فِيها، فَإنْ يَخْرُجُوا مِنها فَإنّا داخِلُونَ. قالَ رَجُلانِ مِنَ الجَبّارِينَ، آمَنا بِمُوسى، فَخَرَجا إلَيْهِ، فَقالا: نَحْنُ أعْلَمُ بِقَوْمِنا، إنْ كُنْتُمْ تَخافُونَ ما رَأيْتُمْ مِن أجْسامِهِمْ وعَدَدِهِمْ، فَإنَّهم لَيْسَ لَهم قُلُوبٌ، ولا مَنعَةَ عِنْدَهم، فادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ، فَإذا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكم غالِبُونَ. ويَقُولُ أُناسٌ: إنَّهُما مِن قَوْمِ مُوسى. وزَعَمَ سَعِيدٌ أنَّهُما مِنَ الجَبّارِينَ آمَنا بِمُوسى، يَقُولُ: ﴿مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِما﴾ [المائدة: ٢٣] [ المائِدَةِ: ٢٣ ] وإنَّما يَعْنِي بِذَلِكَ الَّذِينَ يَخافُهم بَنُو إسْرائِيلَ، فَقالُوا: ﴿قالُوا يا مُوسى إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدًا ما دامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] [ المائِدَةِ: ٢٤ ] . فَأغْضَبُوا مُوسى، فَدَعا عَلَيْهِمْ فَسَمّاهم فاسِقِينَ، ولَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، لِما رَأى فِيهِمْ مِنَ المَعْصِيَةِ وإساءَتِهِمْ حَتّى كانَ يَوْمَئِذٍ، فاسْتَجابَ اللَّهُ لَهُ وسَمّاهم كَما سَمّاهم مُوسى فاسِقِينَ، فَحَرَّمَها عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَيَسِيرُونَ، لَيْسَ لَهم قَرارٌ. ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ في التِّيهِ بِالغَمامِ، وأنْزَلَ عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى، وجَعَلَ لَهم ثِيابًا لا تَبْلى ولا تَتَّسِخُ، وجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرانِيهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا، وأمَرَ مُوسى فَضَرَبَهُ بِعَصاهُ. فانْفَجَرَتْ مِنهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا، في كُلِّ ناحِيَةٍ ثَلاثُ عُيُونٍ، وأعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنها، لا يَرْتَحِلُونَ مِن مَنقَلَةٍ إلّا وجَدُوا ذَلِكَ الحَجَرَ مِنهم بِالمَكانِ الَّذِي كانَ مِنهم بِالمَنزِلِ الأوَّلِ. (p-٢٠٦)رَفَعَ ابْنُ عَبّاسٍ هَذا الحَدِيثَ إلى النَّبِيِّ ﷺ، وصَدَّقَ ذَلِكَ عِنْدِي أنَّ مُعاوِيَةَ بْنَ أبِي سُفْيانَ سَمِعَ مِنِ ابْنِ عَبّاسٍ هَذا الحَدِيثَ، فَأنْكَرَ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ الفِرْعَوْنِيُّ هو الَّذِي أفْشى عَلى مُوسى أمْرَ القَتِيلِ. وقالَ: إنَّما أفْشى عَلَيْهِ الإسْرائِيلِيُّ. فَأخَذَ ابْنُ عَبّاسٍ بِيَدِهِ فانْطَلَقَ بِهِ إلى سَعْدِ بْنِ مالِكٍ الزُّهْرِيِّ، فَقالَ: «أرَأيْتَ يَوْمَ حَدَّثَنا النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَتِيلِ مُوسى مِن آلِ فِرْعَوْنَ ؟ مَن أفْشى عَلَيْهِ، الإسْرائِيلِيُّ أمِ الفِرْعَوْنِيُّ ؟ قالَ: أفْشى عَلَيْهِ الفِرْعَوْنِيُّ، بِما سَمِعَ مِنَ الإسْرائِيلِيِّ الَّذِي شَهِدَ عَلى ذَلِكَ وحَضَرَهُ» . * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ﴾ الآياتِ. أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أهْلِ مَدْيَنَ﴾ قالَ: عَشْرَ سِنِينَ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى﴾ قالَ: عَلى قَدَرِ الرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ﴾ قالَ: لِمِيقاتٍ. (p-٢٠٧)وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ﴾ قالَ: عَلى مَوْعِدٍ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَنِيا في ذِكْرِي﴾ قالَ: لا تَضْعُفا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ الطَّسْتِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ نافِعَ بْنَ الأزْرَقِ قالَ لَهُ: أخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿ولا تَنِيا في ذِكْرِي﴾ قالَ: ولا تَضْعُفا عَنْ أمْرِي، قالَ: وهَلْ تَعْرِفُ العَرَبُ ذَلِكَ؟ قالَ: نَعَمْ، أما سَمِعْتَ الشّاعِرَ وهو يَقُولُ: ؎إنِّي وجَدِّكَ مَلَّ ونَيْتُ وإنَّنِي أبْغِي الفِكاكَ لَهُ بِكُلِّ سَبِيلِ وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَنِيا﴾ قالَ: لا تُبْطِئا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قالَ: كَنِّهِ. (p-٢٠٨)وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قالَ: كَنِّياهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قالَ: كَنِّياهُ: يا أبا مُرَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ عِكْرِمَةَ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قالَ أعْذِرا إلَيْهِ وقُولا لَهُ: إنَّ لَكَ رِبًّا ولَكَ مَعادًا وإنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً ونارًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الفَضْلِ بْنِ عِيسى الرَّقاشِيِّ، أنَّهُ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ فَقالَ: يا مَن يَتَحَبَّبُ إلى أعادِيهِ، فَكَيْفَ بِمَن يَتَوَلّى ويُنادِيهِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ قالَ: هَلْ يَتَذَكَّرُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّنا نَخافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا﴾ قالَ: يَعْجَلَ: ﴿أوْ أنْ يَطْغى﴾ قالَ: يَعْتَدِيَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّنا نَخافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أوْ أنْ يَطْغى﴾ قالَ: عُقُوبَةً مِنهُ. (p-٢٠٩)وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَخافا إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾ قالَ: أسْمَعُ ما يَقُولُ: وأرى ما يُجاوِبُكُما بِهِ، فَأُوحِي إلَيْكُما فَتُجاوِباهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: لَمّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسى إلى فِرْعَوْنَ قالَ: رَبِّ أيَّ شَيْءٍ أقُولُ؟ قالَ: قُلْ: هَيّا شَرًّا هَيّا، قالَ الأعْمَشُ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ: الحَيُّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، والحَيُّ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ. وأخْرَجَ أحْمَدُ في“ الزُّهْدِ "، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسى إلى فِرْعَوْنَ قالَ: لا يَغُرَّنَّكُما لِباسُهُ الَّذِي ألْبَسْتُهُ، فَإنَّ ناصِيَتَهُ بِيَدِي، فَلا يَنْطِقُ ولا يَطْرِفُ إلّا بِإذْنِي، ولا يَغُرَّنَّكُما ما مُتِّعَ بِهِ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيا وزِينَةِ المُتْرَفِينَ، فَلَوْ شِئْتُ أنْ أُزَيِّنَكُما مِن زِينَةِ الدُّنْيا بِشَيْءٍ يِعْرِفُ فِرْعَوْنُ أنَّ قُدْرَتَهُ تَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ لَفَعَلْتُ، ولَيْسَ ذَلِكَ لِهَوانِكُما عَلَيَّ، ولَكِنِّي ألْبَسْتُكُما نَصِيبَكُما مِنَ الكَرامَةِ عَلى ألّا تَنْقُصَكُما الدُّنْيا شَيْئًا وإنِّي لَأذُودَ أوْلِيائِي عَنِ الدُّنْيا كَما يَذُودُ الرّاعِي إبِلَهُ عَنْ مَبارِكِ العُرَّةِ، وإنِّي لَأُجَنِّبُهم كَما يُجَنِّبُ الرّاعِي إبِلَهُ عَنْ مَراتِعِ الهِلْكَةِ، أُرِيدُ أنْ أُنَوِّرَ بِذَلِكَ صُدُورَهُمْ، وأُطَهِّرَ بِذَلِكَ قُلُوبَهم في سِيماهُمُ الَّذِي (p-٢١٠)يُعْرَفُونَ بِهِ، وأمَرُهُمُ الَّذِي يَفْتَخِرُونَ بِهِ. واعْلَمْ: أنَّ مَن أخافَ لِي ولِيًّا فَقَدْ بارَزَنِي بِالعَداوَةِ، وأنا الثّائِرُ لِأوْلِيائِي يَوْمَ القِيامَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب