الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهَزَمُوهم بِإذْنِ اللَّهِ وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وآتاهُ اللَّهُ المُلْكَ والحِكْمَةَ وعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلى العالَمِينَ﴾ المَعْنى: أنَّ اللَّهَ تَعالى اسْتَجابَ دُعاءَهم، وأفْرَغَ الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ، وثَبَّتَ أقْدامَهم، ونَصَرَهم عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ: جالُوتَ وجُنُودِهِ وحَقَّقَ بِفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ ظَنَّ مَن قالَ: ﴿كَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ﴾، ﴿فَهَزَمُوهم بِإذْنِ اللَّهِ﴾ وأصْلُ الهَزْمِ في اللُّغَةِ الكَسْرُ، يُقالُ سِقاءٌ مُنْهَزِمٌ إذا تَشَقَّقَ مَعَ جَفافٍ، وهَزَمْتُ العَظْمَ أوِ القَصَبَةَ هَزْمًا، والهَزْمَةُ نُقْرَةٌ في الجَبَلِ، أوْ في الصَّخْرَةِ، قالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ في زَمْزَمَ: هي هَزْمَةُ جِبْرِيلَ، يُرِيدُ هَزَمَها بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الماءُ، ويُقالُ: سَمِعْتُ هَزْمَةَ الرَّعْدِ كَأنَّهُ صَوْتٌ فِيهِ تَشَقُّقٌ، ويُقالُ لِلسَّحابِ: هَزِيمٌ، لِأنَّهُ يَتَشَقَّقُ بِالمَطَرِ، وهَزَمَ الضَّرْعَ، وهَزْمُهُ ما يُكْسَرُ مِنهُ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ تِلْكَ الهَزِيمَةَ كانَتْ بِإذْنِ اللَّهِ وبِإعانَتِهِ وتَوْفِيقِهِ وتَيْسِيرِهِ، وأنَّهُ لَوْلا إعانَتُهُ وتَيْسِيرُهُ لَما حَصَلَ البَتَّةَ ثُمَّ قالَ: ﴿وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ راعِيًا ولَهُ سَبْعَةُ إخْوَةٍ مَعَ طالُوتَ فَلَمّا أبْطَأ خَبَرُ إخْوَتِهِ عَلى أبِيهِمْ إيشا أرْسَلَ ابْنَهُ داوُدَ إلَيْهِمْ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَأتاهم وهم في المَصافِّ وبَدَرَ جالُوتُ الجَبّارُ وكانَ مِن قَوْمِ عادٍ إلى البَرازِ فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِ أحَدٌ فَقالَ: يا بَنِي إسْرائِيلَ لَوْ كُنْتُمْ عَلى حَقٍّ لَبارَزَنِي بَعْضُكم فَقالَ داوُدُ لِإخْوَتِهِ: أما فِيكم مَن يَخْرُجُ إلى هَذا الأقْلَفِ ؟ فَسَكَتُوا، فَذَهَبَ إلى ناحِيَةٍ مِنَ الصَّفِّ لَيْسَ فِيها إخْوَتُهُ فَمَرَّ بِهِ طالُوتُ وهو يُحَرِّضُ النّاسَ، فَقالَ لَهُ داوُدُ: ما تَصْنَعُونَ بِمَن يَقْتُلُ هَذا الأقْلَفَ ؟ فَقالَ طالُوتُ: أُنْكِحُهُ ابْنَتِي وأُعْطِيهِ نِصْفَ مُلْكِي فَقالَ داوُدُ: فَأنا خارِجٌ إلَيْهِ وكانَ عادَتُهُ أنْ يُقاتِلَ بِالمِقْلاعِ الذِّئْبَ والأسَدَ في الرَّعْيِ، وكانَ طالُوتُ عارِفًا بِجَلادَتِهِ، فَلَمّا هَمَّ داوُدُ بِأنْ يَخْرُجَ رَماهُ فَأصابَهُ في صَدْرِهِ، ونَفَذَ الحَجَرُ فِيهِ، وقَتَلَ بَعْدَهُ ناسًا كَثِيرًا، فَهَزَمَ اللَّهُ جُنُودَ جالُوتَ ﴿وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ﴾ فَحَسَدَهُ طالُوتُ وأخْرَجَهُ مِن مَمْلَكَتِهِ، ولَمْ يَفِ لَهُ بِوَعْدِهِ، ثُمَّ نَدِمَ فَذَهَبَ يَطْلُبُهُ إلى أنْ قُتِلَ، ومَلَكَ داوُدُ وحَصَلَتْ لَهُ النُّبُوَّةُ، ولَمْ يَجْتَمِعْ في بَنِي إسْرائِيلَ المُلْكُ والنُّبُوَّةُ إلّا لَهُ. اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَهَزَمُوهم بِإذْنِ اللَّهِ وقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَزِيمَةَ عَسْكَرِ جالُوتَ كانَتْ مِن طالُوتَ وإنْ كانَ قَتْلُ جالُوتَ ما كانَ إلّا مِن داوُدَ، ولا دَلالَةَ في الظّاهِرِ عَلى أنَّ انْهِزامَ العَسْكَرِ كانَ قَبْلَ قَتْلِ جالُوتَ أوْ بَعْدَهُ، لِأنَّ الواوَ لا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ. * * * (p-١٦٠)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآتاهُ اللَّهُ المُلْكَ والحِكْمَةَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ بَعْضُهم آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ والنُّبُوَّةَ جَزاءً عَلى ما فَعَلَ مِنَ الطّاعَةِ العَظِيمَةِ، وبَذْلِ النَّفْسِ في سَبِيلِ اللَّهِ، مَعَ أنَّهُ تَعالى كانَ عالِمًا بِأنَّهُ صالِحٌ لِتَحَمُّلِ أمْرِ النُّبُوَّةِ، والنُّبُوَّةُ لا يَمْتَنِعُ جَعْلُها جَزاءً عَلى الطّاعاتِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدِ اخْتَرْناهم عَلى عِلْمٍ عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿وآتَيْناهم مِنَ الآياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ٣٢، ٣٣] وقالَ: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] وظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ أيْضًا عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ داوُدَ أنَّهُ قَتَلَ جالُوتَ، قالَ بَعْدَهُ: ﴿وآتاهُ اللَّهُ المُلْكَ والحِكْمَةَ﴾ والسُّلْطانُ إذا أنْعَمَ عَلى بَعْضِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ قامُوا بِخِدْمَةٍ شاقَّةٍ، يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ ذَلِكَ الإنْعامَ لِأجْلِ تِلْكَ الخِدْمَةِ، وقالَ الأكْثَرُونَ: إنَّ النُّبُوَّةَ لا يَجُوزُ جَعْلُها جَزاءً عَلى الأعْمالِ، بَلْ ذَلِكَ مَحْضُ التَّفَضُّلِ والإنْعامِ، قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النّاسِ﴾ [الحج: ٧٥] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُهم: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ داوُدَ حِينَ قَتَلَ جالُوتَ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ والنُّبُوَّةَ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ إيتاءَ المُلْكِ والنُّبُوَّةِ عَقِيبَ ذِكْرِهِ لِقَتْلِ داوُدَ جالُوتَ، وتَرْتِيبُ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ المُناسِبِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الحُكْمِ، وبَيانُ المُناسَبَةِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قَتَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الخَصْمِ العَظِيمِ بِالمِقْلاعِ والحَجَرِ، كانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، لا سِيَّما وقَدْ تَعَلَّقَتِ الأحْجارُ مَعَهُ، وقالَتْ: خُذْنا فَإنَّكَ تَقْتُلُ جالُوتَ بِنا، فَظُهُورُ المُعْجِزِ يَدُلُّ عَلى النُّبُوَّةِ، وأمّا المُلْكُ فَلِأنَّ القَوْمَ لَمّا شاهَدُوا مِنهُ قَهْرَ ذَلِكَ العَدُوِّ العَظِيمِ المَهِيبِ بِذَلِكَ العَمَلِ القَلِيلِ، فَلا شَكَّ أنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ إلَيْهِ وذَلِكَ يَقْتَضِي حُصُولَ المُلْكِ لَهُ ظاهِرًا. وقالَ الأكْثَرُونَ: إنَّ حُصُولَ المُلْكِ والنُّبُوَّةِ لَهُ تَأخَّرَ عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ بِسَبْعِ سِنِينَ عَلى ما قالَهُ الضَّحّاكُ، قالُوا: والرِّواياتُ ورَدَتْ بِذَلِكَ، قالُوا: لِأنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ قَدْ عَيَّنَ طالُوتَ لِلْمُلْكِ فَيَبْعُدُ أنْ يَعْزِلَهُ عَنِ المُلْكِ حالَ حَياتِهِ، والمَشْهُورُ في أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ كانَ نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمانِ أشْمُويِلَ، ومَلِكُ ذَلِكَ الزَّمانِ طالُوتَ، فَلَمّا تُوُفِّيَ أشْمُويِلُ أعْطى اللَّهُ تَعالى النُّبُوَّةَ لِداوُدَ، ولَمّا ماتَ طالُوتُ أعْطى اللَّهُ تَعالى المُلْكَ لِداوُدَ، فاجْتَمَعَ المُلْكُ والنُّبُوَّةُ فِيهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الحِكْمَةُ: هي وضْعُ الأُمُورِ مَواضِعَها عَلى الصَّوابِ والصَّلاحِ، وكَمالُ هَذا المَعْنى إنَّما يَحْصُلُ بِالنُّبُوَّةِ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالحِكْمَةِ هَهُنا النُّبُوَّةَ، قالَ تَعالى: ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٥٤] وقالَ فِيما بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: ١٦٤] . فَإنْ قِيلَ: فَإذا كانَ المُرادُ مِنَ الحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَلِمَ قَدَّمَ المُلْكَ عَلى الحِكْمَةِ ؟ مَعَ أنَّ المُلْكَ أدْوَنُ حالًا مِنَ النُّبُوَّةِ. قُلْنا: لِأنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ كَيْفِيَّةَ تَرَقِّي داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى المَراتِبِ العالِيَةِ، وإذا تَكَلَّمَ المُتَكَلِّمُ في كَيْفِيَّةِ التَّرَقِّي، فَكُلُّ ما كانَ أكْثَرَ تَأخُّرًا في الذِّكْرِ كانَ أعْلى حالًا وأعْظَمَ رُتْبَةً. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ المُرادَ بِهِ ما ذَكَرَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكم لِتُحْصِنَكم مِن بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء: ٨٠] وقالَ: ﴿وألَنّا لَهُ الحَدِيدَ﴾ ﴿أنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وقَدِّرْ في السَّرْدِ﴾ [سبأ: ١٠، ١١] . وثانِيها: أنَّ المُرادَ كَلامُ الطَّيْرِ والنَّمْلِ، قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْهُ: ﴿عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: ١٦] . (p-١٦١)وثالِثُها: أنَّ المُرادَ بِهِ ما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحَ الدُّنْيا وضَبْطِ المُلْكِ، فَإنَّهُ ما ورِثَ المُلْكَ مِن آبائِهِ، لِأنَّهم ما كانُوا مُلُوكًا بَلْ كانُوا رُعاةً. ورابِعُها: عِلْمُ الدِّينِ، قالَ تَعالى: ﴿وآتَيْنا داوُدَ زَبُورًا﴾ [النساء: ١٦٣] وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ حاكِمًا بَيْنَ النّاسِ، فَلا بُدَّ وأنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَعالى كَيْفِيَّةَ الحُكْمِ والقَضاءِ. وخامِسُها: الألْحانُ الطَّيِّبَةُ، ولا يَبْعُدُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى الكُلِّ. فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ آتاهُ الحِكْمَةَ، وكانَ المُرادُ بِالحِكْمَةِ النُّبُوَّةَ، فَقَدْ دَخَلَ العِلْمُ في ذَلِكَ، فَلِمَ ذَكَرَ بَعْدَهُ ﴿وعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ﴾ ؟ قُلْنا: المَقْصُودُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ العَبْدَ قَطُّ لا يَنْتَهِي إلى حالَةٍ يَسْتَغْنِي عَنِ التَّعَلُّمِ، سَواءٌ كانَ نَبِيًّا أوْ لَمْ يَكُنْ، ولِهَذا السَّبَبِ قالَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ الفَسادَ الواقِعَ بِجالُوتَ وجُنُودِهِ زالَ بِما كانَ مِن طالُوتَ وجُنُودِهِ، وبِما كانَ مِن داوُدَ مِن قَتْلِ جالُوتَ بَيَّنَ عَقِيبَ ذَلِكَ جُمْلَةً تَشْتَمِلُ كُلَّ تَفْصِيلٍ في هَذا البابِ، وهو أنَّهُ تَعالى يَدْفَعُ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِكَيْ لا تَفْسُدَ الأرْضُ، فَقالَ: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ﴾ وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ﴾ بِغَيْرِ ألِفٍ، وكَذَلِكَ في سُورَةِ الحَجِّ ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ﴾ [الحج: ٤] وقَرَآ جَمِيعًا: (إنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) بِغَيْرِ ألِفٍ ووافَقَهُما عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وابْنُ عامِرٍ اليَحْصَبِيُّ عَلى دَفْعِ اللَّهِ بِغَيْرِ ألِفٍ إلّا أنَّهم قَرَءُوا ﴿إنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بِالألِفِ، وقَرَأ نافِعٌ (ولَوْلا دِفاعُ اللَّهِ) و﴿إنَّ اللَّهَ يُدافِعُ﴾ بِالألِفِ. إذا عَرَفْتَ هَذِهِ الرِّواياتِ فَنَقُولُ: أمّا مَن قَرَأ: (ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ)، (إنَّ اللَّهَ يُدافِعُ) فَوَجْهُهُ ظاهِرٌ، وأمّا مَن قَرَأ: (ولَوْلا دِفاعُ اللَّهِ)، ﴿إنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَوَجْهُ الإشْكالِ فِيهِ أنَّ المُدافَعَةَ مُفاعَلَةٌ، وهي عِبارَةٌ عَنْ كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُدافِعِينَ دافِعًا لِصاحِبِهِ ومانِعًا لَهُ مِن فِعْلِهِ، وذَلِكَ مِنَ العَبْدِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، وجَوابُهُ أنَّ لِأهْلِ اللُّغَةِ في لَفْظِ دِفاعٍ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَصْدَرٌ لِدَفَعَ، تَقُولُ: دَفَعْتُهُ دَفْعًا ودِفاعًا، كَما تَقُولُ: كَتَبْتُهُ كَتْبًا وكِتابًا، قالُوا: وفِعالٌ كَثِيرًا ما يَجِيءُ مَصْدَرًا لِلثُّلاثِيِّ مِن فَعَلَ وفَعِلَ، تَقُولُ: جَمَحَ جِماحًا، وطَمَحَ طِماحًا، وتَقُولُ: لَقِيتُهُ لِقاءً، وقُمْتُ قِيامًا، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ كانَ قَوْلُهُ: (ولَوْلا دِفاعُ اللَّهِ) مَعْناهُ ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ. والقَوْلُ الثّانِي: قَوْلُ مَن جَعَلَ (دِفاعُ) مِن دافَعَ، فالمَعْنى أنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما يَكُفُّ الظَّلَمَةَ والعُصاةَ عَنْ ظُلْمِ المُؤْمِنِينَ عَلى أيْدِي أنْبِيائِهِ ورُسُلِهِ وأئِمَّةِ دِينِهِ وكانَ يَقَعُ بَيْنَ أُولَئِكَ المُحِقِّينَ وأُولَئِكَ المُبْطِلِينَ مُدافَعاتٌ ومُكافَحاتٌ، فَحَسُنَ الإخْبارُ عَنْهُ بِلَفْظِ المُدافَعَةِ، كَما قالَ: ﴿يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المائدة: ٣٣]، ﴿شاقُّوا اللَّهَ﴾ [الأنفال: ١٣] وكَما قالَ: ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٠] ونَظائِرِهِ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ المَدْفُوعَ والمَدْفُوعَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ﴾ إشارَةٌ إلى المَدْفُوعِ، وقَوْلُهُ: (بِبَعْضٍ) إشارَةٌ إلى المَدْفُوعِ بِهِ، فَأمّا المَدْفُوعُ عَنْهُ فَغَيْرُ مَذْكُورٍ في الآيَةِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ في الدِّينِ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ في الدُّنْيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُما. (p-١٦٢)أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: وهو أنْ يَكُونَ المَدْفُوعُ عَنْهُ الشُّرُورَ في الدِّينِ، فَتِلْكَ الشُّرُورُ إمّا أنْ يَكُونَ المَرْجِعُ بِها إلى الكُفْرِ، أوْ إلى الفِسْقِ، أوْ إلَيْهِما، فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ الِاحْتِمالاتِ. الِاحْتِمالُ الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ المَعْنى: ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النّاسِ عَنِ الكُفْرِ بِسَبَبِ البَعْضِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالدّافِعُونَ هُمُ الأنْبِياءُ وأئِمَّةُ الهُدى، فَإنَّهُمُ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النّاسَ عَنِ الوُقُوعِ في الكُفْرِ بِإظْهارِ الدَّلائِلِ والبَراهِينِ والبَيِّناتِ قالَ تَعالى: ﴿كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ [إبراهيم: ١] . والِاحْتِمالُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ: ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النّاسِ عَنِ المَعاصِي والمُنْكَراتِ بِسَبَبِ البَعْضِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالدّافِعُونَ هُمُ القائِمُونَ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] ويَدْخُلُ في هَذا البابِ: الأئِمَّةُ المَنصُوبُونَ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى لِأجْلِ إقامَةِ الحُدُودِ وإظْهارِ شَعائِرِ الإسْلامِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: ٩٦] وفي مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿ويَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ [الرعد: ٢٢] . الِاحْتِمالُ الثّالِثُ: ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بَعْضَ النّاسِ عَنِ الهَرْجِ والمَرْجِ وإثارَةِ الفِتَنِ في الدُّنْيا بِسَبَبِ البَعْضِ، واعْلَمْ أنَّ الدّافِعِينَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ هُمُ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ثُمَّ الأئِمَّةُ والمُلُوكُ الذّابُّونَ عَنْ شَرائِعِهِمْ، وتَقْرِيرُهُ: أنَّ الإنْسانَ الواحِدَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَعِيشَ وحْدَهُ، لِأنَّهُ ما لَمْ يَخْبِزْ هَذا لِذاكَ ولا يَطْحَنُ ذاكَ لِهَذا، ولا يَبْنِي هَذا لِذاكَ، ولا يَنْسِجُ ذاكَ لِهَذا، لا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ الإنْسانِ الواحِدِ، ولا تَتِمُّ إلّا عِنْدَ اجْتِماعِ جَمْعٍ في مَوْضِعٍ واحِدٍ، فَلِهَذا قِيلَ: الإنْسانُ مَدَّنِيٌّ بِالطَّبْعِ، ثُمَّ إنَّ الِاجْتِماعَ بِسَبَبِ المُنازَعَةِ المُفْضِيَةِ إلى المُخاصَمَةِ أوَّلًا، والمُقاتَلَةِ ثانِيًا، فَلا بُدَّ في الحِكْمَةِ الإلَهِيَّةِ مِن وضْعِ شَرِيعَةٍ بَيْنَ الخَلْقِ، لِتَكُونَ الشَّرِيعَةُ قاطِعَةً لِلْخُصُوماتِ والمُنازَعاتِ، فالأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ الَّذِينَ أُوتُوا مِن عِنْدِ اللَّهِ بِهَذِهِ الشَّرائِعِ هُمُ الَّذِينَ دَفَعَ اللَّهُ بِسَبَبِهِمْ وبِسَبَبِ شَرِيعَتِهِمُ الآفاتِ عَنِ الخَلْقِ، فَإنَّ الخَلْقَ ما دامُوا يَبْقَوْنَ مُتَمَسِّكِينَ بِالشَّرائِعِ لا يَقَعُ بَيْنَهم خِصامٌ ولا نِزاعٌ، فالمُلُوكُ والأئِمَّةُ مَتى كانُوا يَتَمَسَّكُونَ بِهَذِهِ الشَّرائِعِ كانَتِ الفِتَنُ زائِلَةً، والمَصالِحُ حاصِلَةً فَظَهَرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَدْفَعُ عَنِ المُؤْمِنِينَ أنْواعَ شُرُورِ الدُّنْيا بِسَبَبِ بَعْثَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. واعْلَمْ أنَّهُ كَما لا بُدَّ في قَطْعِ الخُصُوماتِ والمُنازَعاتِ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَكَذا لا بُدَّ في تَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ مِنَ المُلْكِ، ولِهَذا قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ”«الإسْلامُ والسُّلْطانُ أخَوانِ تَوْءَمانِ» “ وقالَ أيْضًا: ”«الإسْلامُ أمِيرٌ، والسُّلْطانُ حارِسٌ، فَما لا أمِيرَ لَهُ فَهو مُنْهَزِمٌ، وما لا حارِسَ لَهُ فَهو ضائِعٌ» “ ولِهَذا يَدْفَعُ اللَّهُ تَعالى عَنِ المُسْلِمِينَ أنْواعَ شُرُورِ الدُّنْيا بِسَبَبِ وضْعِ الشَّرائِعِ وبِسَبَبِ نَصْبِ المُلُوكِ وتَقْوِيَتِهِمْ، ومَن قالَ بِهَذا القَوْلِ قالَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿لَفَسَدَتِ الأرْضُ﴾ أيْ لَغَلَبَ عَلى أهْلِ الأرْضِ القَتْلُ والمَعاصِي، وذَلِكَ يُسَمّى فَسادًا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] وقالَ: ﴿أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إنْ تُرِيدُ إلّا أنْ تَكُونَ جَبّارًا في الأرْضِ وما تُرِيدُ أنْ تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ﴾ [القصص: ١٩] وقالَ: ﴿إنِّي أخافُ أنْ يُبَدِّلَ دِينَكم أوْ أنْ يُظْهِرَ في الأرْضِ الفَسادَ﴾ [غافر: ٢٦] وقالَ: ﴿أتَذَرُ مُوسى وقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ [الأعراف: ١٢٧] وقالَ: ﴿ظَهَرَ الفَسادُ في البَرِّ والبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أيْدِي النّاسِ﴾ [الروم: ٤١] وهَذا التَّأْوِيلُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ في سُورَةِ الحَجِّ: ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وبِيَعٌ وصَلَواتٌ ومَساجِدُ﴾ [الحج: ٤٠] . الِاحْتِمالُ الرّابِعُ: ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ بِالمُؤْمِنِينَ والأبْرارِ عَنِ الكُفّارِ والفُجّارِ، لَفَسَدَتِ الأرْضُ ولَهَلَكَتْ بِمَن (p-١٦٣)فِيها، وتَصْدِيقُ هَذا ما رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«يُدْفَعُ بِمَن يُصَلِّي مِن أُمَّتِي عَمَّنْ لا يُصَلِّي، وبِمَن يُزَكِّي عَمَّنْ لا يُزَكِّي، وبِمَن يَصُومُ عَمَّنْ لا يَصُومُ، وبِمَن يَحُجُّ عَمَّنْ لا يَحُجُّ، وبِمَن يُجاهِدُ عَمَّنْ لا يُجاهِدُ، ولَوِ اجْتَمَعُوا عَلى تَرْكِ هَذِهِ الأشْياءِ لَما أنْظَرَهُمُ اللَّهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ“ ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ» عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ مِنَ القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وكانَ أبُوهُما صالِحًا﴾ [الكهف: ٨٢] وقالَ تَعالى: ﴿ولَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ونِساءٌ مُؤْمِناتٌ﴾ [الفتح: ٢٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابًا ألِيمًا﴾ [الفتح: ٢٥] وقالَ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] ومَن قالَ بِهَذا القَوْلِ قالَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿لَفَسَدَتِ الأرْضُ﴾ أيْ لَأهْلَكَ اللَّهُ أهْلَها لِكَثْرَةِ الكُفّارِ والعُصاةِ. والِاحْتِمالُ الخامِسُ: أنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلى الكُلِّ، لِأنَّ بَيْنَ هَذِهِ الأقْسامِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وهو دَفْعُ المَفْسَدَةِ، فَإذا حَمَلْنا اللَّفْظَ عَلَيْهِ دَخَلَتِ الأقْسامُ بِأسْرِها فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب