الباحث القرآني

﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ أيْ: كَسَرُوهم وغَلَبُوهُمْ، والفاءُ فِيهِ فَصِيحَةٌ؛ أيِ: اسْتَجابَ اللَّهُ تَعالى دُعاءَهُمْ، فَصَبَرُوا وثُبِّتُوا ونُصِرُوا فَهَزَمُوهم ﴿بِإذْنِ اللَّهِ﴾ أيْ: بِإرادَتِهِ انْهِزامَهُمْ، ويُأوَّلُ إلى نَصْرِهِ وتَأْيِيدِهِ، والباءُ إمّا لِلِاسْتِعانَةِ والسَّبَبِيَّةِ، وإمّا لِلْمُصاحَبَةِ ﴿وقَتَلَ داوُدُ﴾ هو ابْنُ إيشا ﴿جالُوتَ﴾ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قالَ: لَمّا بَرَزَ طالُوتُ لِجالُوتَ؛ قالَ جالُوتُ: أبْرِزُوا إلَيَّ مَن يُقاتِلُنِي، فَإنْ قَتَلَنِي فَلَكم مُلْكِي، وإنْ قَتَلْتُهُ فَلِي مُلْكُكُمْ، فَأُتِيَ بِداوُدَ إلى طالُوتَ فَقاضاهُ إنْ قَتَلَهُ أنْ يُنْكِحَهُ ابْنَتَهُ، وأنْ يُحَكِّمَهُ في مالِهِ، فَألْبَسَهُ طالُوتُ سِلاحًا، فَكَرِهَ داوُدُ أنْ يُقاتِلَهُ بِسِلاحٍ، وقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى إنْ لَمْ يَنْصُرْنِي عَلَيْهِ؛ لَمْ يُغْنِ السِّلاحُ شَيْئًا، فَخَرَجَ إلَيْهِ بِالمِقْلاعِ ومِخْلاةٍ فِيها أحْجارٌ، ثُمَّ بَرَزَ لَهُ فَقالَ لَهُ جالُوتُ: أنْتَ تُقاتِلُنِي؟ قالَ داوُدُ: نَعَمْ، قالَ: ويْلَكَ، ما خَرَجْتَ إلّا كَما تَخْرُجُ إلى الكَلْبِ بِالمِقْلاعِ والحِجارَةِ، لَأُبَدِّدَنَّ لَحْمَكَ ولَأُطْعِمَنَّهُ اليَوْمَ لِلطَّيْرِ والسِّباعِ، فَقالَ لَهُ داوُدُ: بَلْ أنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ تَعالى، شَرٌّ مِنَ الكَلْبِ، فَأخَذَ داوُدُ حَجَرًا فَرَماهُ بِالمِقْلاعِ، فَأصابَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ حَتّى قَعَدَتْ في دِماغِهِ، فَصَرَخَ جالُوتُ وانْهَزَمَ مَن مَعَهُ واحْتَزَّ رَأسَهُ ﴿وآتاهُ اللَّهُ المُلْكَ﴾ في بَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ ما قَتَلَ جالُوتَ وهَلَكَ طالُوتُ، وذَلِكَ أنَّ طالُوتَ كَما رُوِيَ في بَعْضِ الأخْبارِ: لَمّا رَجَعَ وفّى بِالشَّرْطِ، فَأنْكَحَ داوُدَ ابْنَتَهُ وأجْرى خاتَمَهُ في مُلْكِهِ، فَمالَ النّاسُ إلى داوُدَ وأحَبُّوهُ، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ طالُوتُ؛ وجَدَ في نَفْسِهِ وحَسَدَهُ، فَأرادَ قَتْلَهُ فَعَلِمَ بِهِ داوُدُ، فَسَجّى لَهُ زِقَّ خَمْرٍ في مَضْجَعِهِ، فَدَخَلَ طالُوتُ إلى مَنامِ داوُدَ وقَدْ هَرَبَ داوُدُ فَضَرَبَ الزِّقَّ ضَرْبَةً فَخَرَقَهُ، فَسالَ الخَمْرُ مِنهُ، فَقالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ تَعالى داوُدَ ما كانَ أكْثَرَ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ، ثُمَّ إنَّ داوُدَ أتاهُ مِنَ القابِلَةِ في بَيْتِهِ وهو نائِمٌ، فَوَضَعَ سَهْمَيْنِ عِنْدَ رَأْسِهِ وعِنْدَ رِجْلَيْهِ، وعَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ سَهْمَيْنِ، فَلَمّا اسْتَيْقَظَ طالُوتُ بَصُرَ بِالسِّهامِ فَعَرَفَها، فَقالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ تَعالى داوُدَ هو خَيْرٌ مِنِّي ظَفِرْتُ بِهِ فَقَتَلْتُهُ، وظَفِرَ بِي فَكَفَّ عَنِّي، ثُمَّ إنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فَوَجَدَهُ يَمْشِي في البَرِّيَّةِ، وطالُوتُ عَلى فَرَسٍ فَقالَ: اليَوْمَ أقْتُلُ داوُدَ، وكانَ داوُدُ إذا فَزِعَ لا يُدْرَكُ، فَرَكَضَ عَلى أثَرِهِ طالُوتُ فَفَزِعَ داوُدُ فاشْتَدَّ فَدَخَلَ غارًا، وأوْحى اللَّهُ تَعالى إلى العَنْكَبُوتِ، فَضَرَبَتْ عَلَيْهِ بَيْتًا، فَلَمّا انْتَهى طالُوتُ إلْى الغارِ ونَظَرَ إلى بِناءِ العَنْكَبُوتِ؛ قالَ: لَوْ كانَ دَخَلَ هَهُنا لَخَرَقَ بَيْتَ العَنْكَبُوتِ فَرَجَعَ، وجَعَلَ العُلَماءُ والعِبادُ يَطْعَنُونَ عَلَيْهِ؛ بِما فَعَلَ مَعَ داوُدَ، وجَعَلَ هو يَقْتُلُ العُلَماءَ وسائِرَ مَن يَنْهاهُ عَنْ قَتْلِ داوُدَ حَتّى قَتَلَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ، ثُمَّ إنّهُ نَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وخَلّى المُلْكَ، وكانَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ فَأخَذَهم وخَرَجَ يُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى؛ كَفّارَةً لِما فَعَلَ حَتّى قُتِلَ هو وبَنُوهُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، فاجْتَمَعَتْ بَنُو إسْرائِيلَ عَلى داوُدَ ومَلَّكُوهُ أمْرَهُمْ، فَهَذا إيتاءُ المُلْكِ ﴿والحِكْمَةَ﴾ المُرادُ بِها: النُّبُوَّةُ، ولَمْ يَجْتَمِعِ المُلْكُ والنُّبُوَّةُ لِأحَدٍ قَبْلَهُ، بَلْ كانَتِ النُّبُوَّةُ في سِبْطٍ، والمُلْكُ في سِبْطٍ، وهَذا بَعْدَ مَوْتِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، وكانَ مَوْتُهُ قَبْلَ طالُوتَ، وذِكْرُ الحِكْمَةِ بَعْدَ المُلْكِ؛ لِأنَّها كانَتْ بَعْدَهُ وُقُوعًا، أوْ لِلتَّرَقِّي مِن ذِكْرِ الأدْنى إلى ذِكْرِ الأعْلى ﴿وعَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ﴾ كَصَنْعَةِ اللَّبُوسِ، ومَنطِقِ الطَّيْرِ، وكَلامِ الدَّوابِّ، والضَّمِيرُ المُسْتَتِرُ راجِعٌ إلى اللَّهِ تَعالى، وعَوْدُهُ إلى داوُدَ _ كَما قالَ السَّمِينُ _ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ مُعْظَمَ ما عَلَّمَهُ تَعالى لَهُ مِمّا لا يَكادُ يَخْطُرُ بِبالٍ، ولا يَقَعُ في أُمْنِيَةِ بَشَرٍ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِن طَلَبِهِ ومَشِيئَتِهِ ﴿ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ﴾ وهم أهْلُ الشُّرُورِ في الدُّنْيا، أوْ في الدِّينِ، أوْ في مَجْمُوعِهِما ﴿بِبَعْضٍ﴾ آخَرَ مِنهُمْ، يَرُدُّهم عَمّا هم عَلَيْهِ بِما قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ القَتْلِ، كَما في القِصَّةِ المَحْكِيَّةِ أوْ غَيْرِهِ (p-174)وقَرَأ نافِعٌ هُنا وفي الحَجِّ: دِفاعُ، عَلى أنَّ صِيغَةَ المُغالَبَةِ لِلْمُبالَغَةِ ﴿لَفَسَدَتِ الأرْضُ﴾ وبَطَلَتْ مَنافِعُها، وتَعَطَّلَتْ مَصالِحُها مِنَ الحَرْثِ والنَّسْلِ وسائِر ما يُصْلِحُ الأرْضَ ويُعَمِّرُها، وقِيلَ: هو كِنايَةٌ عَنْ فَسادِ أهْلِها، وعُمُومِ الشَّرِّ فِيهِمْ، وفي هَذا تَنْبِيهٌ عَلى فَضِيلَةِ المُلْكِ، وأنَّهُ لَوْلاهُ ما اسْتَتَبَّ أمْرُ العالَمِ؛ ولِهَذا قِيلَ: الدِّينُ والمُلْكُ تَوْأمانِ، فَفي ارْتِفاعِ أحَدِهِما ارْتِفاعُ الآخَرِ؛ لِأنَّ الدِّينَ أُسٌّ، والمُلْكُ حارِسٌ، وما لا أُسَّ لَهُ فَمَهْدُومٌ، وما لا حارِسَ لَهُ فَضائِعٌ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ﴾ لا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ ﴿عَلى العالَمِينَ﴾ كافَّةً، وهَذا إشارَةٌ إلى قِياسٍ اسْتِثْنائِيٍّ، مُؤَلَّفٍ مِن وضْعِ نَقِيضِ المُقَدَّمِ مُنْتِجٍ لِنَقِيضِ التّالِي، خَلا أنَّهُ قَدْ وُضِعَ مَوْضِعُهُ ما يَسْتَتْبِعُهُ ويَسْتَوْجِبُهُ؛ أعْنِي: كَوْنَهُ تَعالى ذا فَضْلٍ عَلى العالِمَيْنِ؛ إيذانًا بِأنَّهُ تَعالى يَتَفَضَّلُ في ذَلِكَ الدَّفْعِ مِن غَيْرِ أنْ يَجِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وأنَّ فَضْلَهُ تَعالى غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِيهِ، بَلْ هو فَرْدٌ مِن أفْرادِ فَضْلِهِ العَظِيمِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ولَكِنَّهُ تَعالى يَدْفَعُ فَسادَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلا تَفْسَدُ الأرْضُ، ويَنْتَظِمُ بِهِ مَصالِحُ العالَمِ، ويَنْصَلِحُ أحْوالُ الأُمَمِ، قالَهُ مَوْلانا مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ _ قُدِّسَ سِرُّهُ واعْتُرِضَ بِأنَّهُ مُخالِفٌ لِقَوْلِ المَنطِقِيِّينَ أنَّ المُتَّصِلَةَ يُنْتِجُ اسْتِثْناءُ عَيْنِ مُقَدَّمِها عَيْنَ تالِّيها؛ لِاسْتِلْزامِ وُجُودِ المَلْزُومِ وُجُودَ اللّازِمِ، واسْتِثْناءُ نَقِيضِ تالِّيها نَقِيضَ المُقَدَّمِ؛ لِاسْتِلْزامِ عَدَمِ اللّازِمِ وعَدَمِ المَلْزُومِ، ولا يَنْعَكِسُ فَلا يُنْتِجُ اسْتِثْناءُ عَيْنِ التّالِي عَيْنَ المُقَدَّمِ، ولا نَقِيضَ المُقَدَّمِ نَقِيضَ التّالِي؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ التّالِي أعَمَّ مِنَ المُقَدَّمُ، فَلا يَلْزَمُ مِن وُجُودِ اللّازِمِ وُجُودُ المَلْزُومِ، ولا مِن عَدَمِ المَلْزُومِ عَدَمُ اللّازِم، وأُجِيبُ بِأنَّ ذَلِكَ إنَّما هو بِاعْتِبارِ الهَيْئَةِ، وقَدْ يَسْتَلْزِمُهُ بِواسِطَةِ خُصُوصِيَّةِ مادَّةِ المُساواةِ، وقَدْ صَرَّحَ ابْنُ سِينا في الفُصُولِ بِأنَّ المُلازَمَةَ إذا كانَتْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَما بَيْنَ العِلَّةِ والمَعْلُولِ؛ يَنْتُجُ اسْتِثْناءُ كُلٍّ مِنَ المُقَدَّمِ، والتّالِي عَيْنُ الآخَرِ، ونَقِيضُهُ نَقِيضُ الآخَرِ، وفي تَعْلِيلِ القَوْمِ أيْضًا إشارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ قالُوا بِجَوازِ أنْ يَكُونَ اللّازِمُ أعَمَّ، وكَأنَّ في عِبارَةِ المَوْلى إشارَةً إلى أنَّ المُلازَمَةَ في الشَّرْطِيَّةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، حَيْثُ قالَ: مُنْتِجٌ، ولَمْ يَقُلْ يُنْتِجُ وأجابَ بَعْضُهم بِأنَّ قَوْلَهم ذَلِكَ لَيْسَ عَلى سَبِيلِ الِاطِّرادِ، بَلْ إذا كانَ نَقِيضُ المُقَدَّمِ أعَمَّ مِن نَقِيضِ التّالِي، وأمّا إذا كانَ نَقِيضُهُ بِعَكْسِ هَذا _ كَما في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ وأمْثالِها _ فَإنَّهُ يُنْتِجُ التّالِي، وذَلِكَ أنَّ الدَّفْعَ المَذْكُورَ لَمّا كانَ مَلْزُومًا لِعَدَمِ فَسادِ الأرْضِ؛ كانَتِ المُلازَمَةُ ثابِتَةً بَيْنَهُما؛ لِأنَّ وُجُودَ المَلْزُومِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ اللّازِمِ، كَما بُيِّنَ في مَوْضِعِهِ، وادِّعاءُ أنَّ المُلازَمَةَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ هُنا كَما زَعَمَهُ المُجِيبُ الأوَّلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلِ اللّازِمُ هَهُنا أعَمُّ مِنَ المَلْزُومِ، كَما لا يَخْفى عَلى ذِي رَوِيَّةٍ، وكَوْنُ عِبارَةِ المَوْلى مُشِيرَةً إلى أنَّ المُلازَمَةَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ في حَيِّزِ المَنعِ وما ذَكَرَهُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَما لا يَخْفى فافْهَمْ وتَدَبَّرْ، فَإنَّ نَظَرَ المَوْلى دَقِيقٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب