الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ [البقرة ٢٤٩].
* طالب: شيخ، هل ثبت أن خازن الجنة اسمه رضوان؟
* الشيخ: لا، لكنه مشهور، مشهور أما ثبوته ما ثبت، لكنه مشهور بهذا عند أهل العلم.
(...) ويقيم فيهم الأمر والنهي.
﴿قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ واستغربوا أن يكون طالوت ملكًا عليهم؛ لأنه ليس ذا نسب فيهم، وليس ذا مال فيهم، وهو أيضًا دونهم في المرتبة، فهم أحق بالملك منه، فبيَّن لهم نبيهم أن فضل الله يؤتيه من يشاء، وأن الله تعالى قد اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم، ففي العلم: العلم بالسياسة والعلم بالشريعة، والجسم الذي يكون فيه القوة لتنفيذ ما يعلمه من عِلم الشريعة والسياسة، ثم إن الله عز وجل أعطاهم آية على ملكه وهي التابوت تحمله الملائكة، فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وفيه أيضًا بعد أن تمت لهم الآية الدالة على أنه أحق بالملك، وأنه أهل لأن يملك رتبهم، رتبهم أي: رتب الجيوش لقتال الأعداء الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم.
قال: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ فصل بهم: أي مشى بهم، وانفصل عن مكانه.
﴿بِالْجُنُودِ﴾ جمع (جُند) وهم الجيش المقاتلون، على أنهم يقاتلون في سبيل الله لإنقاذ ديارهم وأبنائهم. قال:﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ وكان رجلًا ذكيًّا عاقلًا؛ لأن الله زاده بسطة في العلم والجسم، وكان عنده علم من أحوالهم من قبل، وأنه لما كُتب عليهم القتال تولوا إلا قليلًا منهم، بيَّن لهم أن الله مبتليهم بنهر، النهر معروف الماء الذي يجري، وكان القوم عطاشًا فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي: مختبركم به ليعلم عز وجل من يصبر ومن لا يصبر؛ لأن الجهاد يحتاج إلى معاناة وإلى صبر، فابتلاهم الله بهذا النهر ليعلم من يصبر ومن لا يصبر، هذه واحدة، وليعلم من يطيع ممن لا يطيع، ولهذا قال لهم الملك طالوت: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ أي مختبركم به، ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ فصاروا ثلاثة أقسام، يعني جعل لهم ثلاث حالات: من شرب حتى يروى يقول: فليس مني وأنا منه بريء؛ لأن الذي لا يطيق الصبر على العطش ولا يطيق الصبر على أمر القائد لن يطيق الصبر على مقابلة الأعداء فيُمنع من الدخول في المعركة، ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ﴾ يعني لم يذقه أبدًا ﴿فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ عكس الأول الذي شرب، الذي يشرب حتى يروى، ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ يعني: فإنه قد يكون مني؛ لأن الغرفة قليلة وقد يحتاج الإنسان إليها، يضطر إليها ليبل ريقه، فالآن تبين أنه جعل لهم ثلاث حالات: الأولى؟
* الطالب: الذين يشربون منه إذا شربوا منه حتى يرووا فليس منه.
* الشيخ: الذين يشربون حتى يرووا فليس منه.
* الطالب: ومن اغترف غرفة بيده.
* الشيخ: ومن لم يطعمه أبدًا فهو منه، ومن شرب غرفة بيده فهو منه لكن مرتبته دون مرتبة من لم يطعمه، هذا الابتلاء لأي شيء؟ قلنا: ليُعلم به من يصبر على المشقة ممن لا يصبر، فهو كالترويض والتمرين على الصبر، هذا واحد، ثانيا: ليعلم به من يمتثل أوامر القائد ومن لا يمتثل. ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾. ماذا حصل من نتيجة هذا الابتلاء والامتحان؟ قال: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ إذن أكثرهم شرب، فأكثرهم ليس صالحًا للقتال؛ لأنهم لم يطيقوا الصبر على تحمل الظمأ، ولم يخلصوا في امتثال أمر القائد، ﴿شَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾ قيل: إنهم كانوا ثمانين ألفًا فشربوا منه إلا نحو أربعة آلاف، وقيل: غير ذلك، والله أعلم، لكن المهم الذي في القرآن أن هؤلاء الملأ الكثيرين العظيمين كلهم شربوا إلا قليلًا منهم، من هؤلاء القليل؟ هم الذين لم يتبرأ منهم سواء لم يطعموه أو اغترفوا غرفة بأيديهم قليلة. ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ ﴿جَاوَزَهُ﴾ بمعنى تعداه، ولا يلزم أن يكونوا عبروا من فوقه، المهم أنهم تعدوه، ﴿هُوَ﴾ أي طالوت ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ ﴿قَالُوا﴾ الضمير يعود على من؟
* طالب: المناسبة.
* الشيخ: قيل: إنه يعود على الجميع ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، وقيل: إنه يعود على الذين تجاوزوا، جاوزوه معه طالوت الذين آمنوا معه، فعلى الأول يكون القوم جميعهم قد جاوزوه، لكن الذين شربوا منه تريثوا للشرب، ثم لحقوا بعد ذلك، والذين لم يشربوا منه كانوا أيش؟ بصحبة طالوت لم ينفصلوا عنه.
أما القول الثاني فيقول: إن الذين شربوا لم يتجاوزوه، بل بقوا على النهر وقالوا: ما لنا وللقتال؟ والذين قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ هم الذين كانوا مع طالوت، فعلى الأول يكون الذين قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ وهم الذين شربوا وغيرهم يكونوا قد قالوا ذلك جبنًا وذعرًا، وأما إذا قلنا: هو والذين آمنوا معه فليس جبنًا منهم بل هم شجعان، لكن رأوا أنهم قليلو العُدة وعدوهم كثير قوي وهم بقيادة جالوت رجل من زعماء الفلسطينيين، والذين مع الملك كانوا من بني إسرائيل ﴿قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ شوف ﴿لَا طَاقَةَ﴾ أي: لا قدرة، وأن مقاتلتنا له فوق طاقتنا، وقولهم: ﴿لَنَا الْيَوْمَ﴾ (أل) هذه للعهد، أي العهود؟ العهد الحضوري، أما في المستقبل فجائز أن يكون لنا فيهم طاقة، إما لأن الله يمدنا بعدد أو أولئك يضعفون، لكن اليوم ليس لنا طاقة بجالوت وجنوده. ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ وهذا يؤيد قول من قال: إن الذين قالوا: لا طاقة لنا بجالوت وجنوده جميع الجند الذين شربوا والذين ما شربوا.
﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ ﴿يَظُنُّونَ﴾ بمعنى يتيقنون؛ لأن الظن قد يُراد به اليقين، وإن كان الأصل في الظن الرجحان، لكن هنا المراد به اليقين، ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ متى؟ يوم القيامة، يلاقون الله سبحانه وتعالى فيحاسبهم، ومعلوم أن من تيقن ملاقاة الله فسوف يعمل لهذه الملاقاة، الإنسان إذا علم أنه سيلاقي أحدًا فسوف يستعد له، قال النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل وقد بعثه إلى اليمن: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» ، وها نحن ننظر إلى الذين يريدون الدخول على الكبراء يستعدون لهم بالكلام والهيئة والمشي وغير ذلك، فمن أيقن ملاقاة الله فسوف يستعد لتلك الملاقاة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق ٦] لا بد أن تلاقيه. ﴿أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾ من هؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقو الله؟ هم المؤمنون الخلص، ولا يبعد أنهم الذين لم يطعموه، وأن الطائفتين التي شربت والتي اغترفت لم تدخل في هذا.
قالوا: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ ﴿كَمْ﴾ هنا تكثيرية أو استفهامية؟
* الطلبة: تكثيرية.
* الشيخ: تكثيرية ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ﴾ يعني: ما أكثر الفئات القليلة التي هي تغلب فئات كثيرة، هل لها نظير هذه الآية في القرآن؟
* طالب: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [النجم ٢٦]
* الشيخ: لا، ما هو، شاهد مَنْ، ما هو شاهد على (كم) إلا أن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة ﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [آل عمران ١٣] فهم يرونهم مثليهم رأي العين، ومع ذلك نصرهم الله، ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بإذنه الشرعي أو الكوني؟
* طالب: الكوني.
* الشيخ: بإذنه الكوني سواء كانت الغالبة ممن يحبه الله أو ممن لا يحبه الله، قد تكون الفئة القليلة الغالبة ممن لا يحبه الله لكنه سبحانه وتعالى يأذن بذلك لحكمة تقتضي هذا، تقتضي الإذن، مثاله: غزوة حنين، فإن غزوة (حنين) كان الذين مع النبي ﷺ اثني عشر ألفًا، وكانت هوازن ثلاثة آلاف وخمس مئة، فرق كبير ومع ذلك لما افتخر المسلمون بكثرتهم وقالوا: لن نُغلب اليوم من قلة هزموا بهذه القلة، بماذا؟ بإذن الله، فالله عز وجل له الحكمة في خلقه، قد يُقدر الأشياء على الوجه الذي تخفى مصلحته علينا، لكنها هي في علم الله مصلحة عظيمة، لكن في النهاية والحمد لله صارت الغلبة للمسلمين وغلبهم النبي عليه الصلاة والسلام، وغنم منهم غنائم كثيرة جدًّا. الحاصل ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ مؤمنة ولا ما هو شرط؟
* الطلبة: ليس بشرط.
* الشيخ: ليس بشرط، ولهذا لم يقولوا: كم من فئة مؤمنة، ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ﴾ أي: جماعة قليلة ﴿غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. ثم قالوا: يُصبّرون أقوامهم: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يعني: فاصبروا ليكون الله معكم، هنا هؤلاء الجماعة الذين يظنون أنهم ملاقو الله، شوف فائدة الإيمان، فائدته أنهم وطَّنوا هولاء وثبتوهم ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ هذا باعتبار الأمور المشهودة، ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ باعتبار الأمور المعلومة؛ لأن معية الله ما تُشاهَد لكن تُعرف بآثارها، لكن كم من فئة قليلة تشاهد ولَّا لا؟ غلبت فئة القليلة الكثيرة تُشاهد، فثبتوهم ووطنوهم بذكر هذين الأمرين أنكم لا تقولوا هؤلاء كثيرون ونحن قليلون فإنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، وأنكم إذا صبرتم فإن الله مع الصابرين، وقد سبق لنا مرات كثيرة أن الصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله وهو أعلاها، وصبر عن معصيته، وصبر على أقداره المؤلمة؛ الجهاد فيه صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله، فهو جامع لأنواع الصبر الثلاثة، صبر على طاعة الله لأيش؟ لأن المجاهد في سبيل الله مطيع لله عز وجل، ما الذي بذل في هذه الطاعة؟ بذل أغلى ما يملك وهي نفسه، يعرض رقبته لسيوف القوم ابتغاء وجه الله، وامتثالًا لأمره، صبر عن معصية الله فلم يفر حين لاقى العدو، بل ثبت، ففيه صبر عن أيش؟
* طالب: المعصية.
* الشيخ: عن معصية الله، صبر على أقدار الله، يُجرح ويُكسر وهو في ذلك صابر، يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء ١٠٤] لا تظنوا أن ألم الحرب عليكم فقط، هو عليكم وعليهم، وتتميزون عليهم بميزة وهي ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء ١٠٤] أنتم تقاتلون تؤملون الدرجات العلا من الجنة، وهؤلاء يقاتلون- والعياذ بالله- لا يرجون من الله ذلك، بل قتلاهم في النار «كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال أبو سفيان في غزوة أحد: يومٌ بيومِ بدر، والحربُ سِجال، قالوا له: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» وهل بينهما مساواة؟ أبدًا، فرق عظيم فأين السجال بيننا وبينكم، المهم أن قول هؤلاء الفئة المؤمنة التي تظن ملاقاة الله حصل فيها التثبيت من جهتين: من جهة مشهودة، ومن جهة معلومة تُدرك بآثارها، المشهودة: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، والمعلومة: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، والصبر بأنواعه الثلاثة متحقق في الجهاد في سبيل الله.
قال: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ ﴿بَرَزُوا﴾ أي ظهروا من البَراز، وهي الأرض الواسعة البارزة الظاهرة، برزوا وتلاقى الجمعان ورأوا أنفسهم مستضعفين، ودائمًا يكون نصر الله عز وجل عند المنكسرة قلوبهم الذين يرون أنهم مستضعفون، لما برزوا لجالوت وجنوده ما اعتمدوا على قوتهم، بل لجؤوا إلى الله عز وجل وقالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ طلبوا ثلاثة أمور، قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ يعني: املأ قلوبنا به، والإفراغ إفراغ الشيء على الشيء يدل على عمومه له، يعني: املأ قلوبنا وأجسادنا صبرًا حتى نثبت، وهذا فيه زوال المانع. ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ يعني اجعلها ثابتة لا تزول فلا نفر ولا نهرب، وربما يراد بالأقدام ما هو أعم من ذلك وهو تثبيت القلوب أيضًا. المطلوب الثالث: النتيجة من هذا الغزو وهو ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ما قالوا: انصرنا على مثلًا على عدونا أو ما أشبه ذلك، على القوم الكافرين الذين نقاتلهم لكفرهم، لا انتقامًا لأنفسنا، ولكن لأن هؤلاء كافرون فنحن نقاتلهم لكفرهم، ولاحظوا أن القتال عن عقيدة هو القتال الذي فيه نكاية العدو، أما القتال عن حمية وعصبية وقومية فهذا قتال فاشل، وهذا لو شئتم ورجعتم إلى التاريخ لعلمتم هذا، من الذي حرَّر فلسطين من جيوش النصارى؟
* طالب: صلاح الدين.
* الشيخ: صلاح الدين الأيوبي، وقد قيل: إنه ليس بعربي، ومن الذي أراد أن يحرر فلسطين من حفنة اليهود؟ العرب، ولكن ما حرروها، بل هي أخذتهم بالنّكال والعقوبات عدة مرات؛ لأنهم لا يقاتلون عن عقيدة، يقاتلون لقومية يستوي فيها الملحد واليهودي والنصراني والمسلم وكل من انضاف إلى العروبة، لكن لو قاتلوا عن عقيدة وعن إيمان، وقالوا: نحن نقاتل اليهود لا لأنهم يهود ونحن عرب، لكن نقاتلهم لأنهم كفار ونحن مسلمون، لو أن الأمر كذلك لحق لنا قول الله تعالى: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ [الحشر ١٤] ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ يعني: أنتم بوصفكم الإيماني والإسلامي، لا لأنكم عرب، ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ [الحشر ١٤]، أما وأنتم تقاتلون لأنكم عرب فسوف يقاتلونكم ليس من وراء الجدر، ولكن من فوق، من الأفق حتى يقضوا عليكم، أعرفتم الآن؟ هنا يقول هؤلاء الفئة لما لاقوا العدو: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾، ما هو على قوم؛ لأنهم أعداؤنا فقط، ولكن لأنهم قوم كافرون، فأجاب الله عز وجل دعاءهم؛ لأنه سبحانه وتعالى يجيب دعوة المفتقر إليه، أنت افتقر إلى الله واصدق في افتقارك إليه، واعتقد أنه لا حول لك ولا قوة، وأن الأمر كله بيد الله وثِق بأن الله سيجيبك، لكن المشكِل أننا ندعو الله وكأننا غير مفتقرين إلى هذا الدعاء، كأننا في استغناء عنه، أو كأن دعاءنا أمر روتيني كما يقولون، كل يوم نقول بين السجدتين: «رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي» كل يوم نقول، هل نحن نشعر ونحن ندعو الله بهذا أننا مفتقرون إلى هذه الأمور، وأننا نسأل الله حقيقة هذه الأمور؟
* طالب: إلا ما شاء الله.
* الشيخ: إلا ما شاء الله، لكن القليل وهذا قليل، أكثر الناس يقوله، ولذلك يعرف أنه جالس بين السجدتين يعرف بالزمن لا بالقول. لو يسجد على طول بالثانية قال: والله كأن ما قلتهن كلهن، فالحاصل أنك إذا صدقت مع الله عز وجل في اللجوء إليه والثقة به فإن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة المضطرين، هؤلاء القوم استجاب الله دعاءهم.
﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ لا بحولهم وقوتهم، ولكن بإذن الله تعالى الكوني أو الشرعي؟
* الطلبة: الكوني.
* الشيخ: الكوني، وقد يقال: الكوني والشرعي، لكن هي في الكوني أظهر، هزموهم بإذن الله، هؤلاء الجنود الكثيرة الذين لما شاهدوهم على طول قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ لكن هزموهم بإذن الله.
﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ داود وأيش اللي جاب داود؟ من جنود طالوت، من جنوده، لكنه عليه الصلاة والسلام كان قويًّا شجاعًا، يقال: إن جالوت طلب البراز، طلب البِراز قال: من يبارزني؟ لأن هذا الجالوت قائد جبار عنيد قوي، فخرج إليه داود يقال: إنه خرج إليه بمقلاع، تعرفون المقلاع؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا، المقلاع عبارة عن حبل في وسطه قبة، القبة هذه يحط فيها حجر، حجر كالبيضة مثلًا، ثم يميبه ها الإنسان، يميبه كذا كذا، ثم يحذفه كذا ويطلق أحد الطرفين ويبقى الطرف الآخر بيده، إذا قال هكذا خرجت الحجر وضربت اللي قدامه.
* طالب: مثل المنجنيق؟
* الشيخ: نعم، على غرار المنجنيق، لما خرج إليه بالمقلاع يقول: كأن هذا الرجل الخبيث جالوت غضب واستشاط غضبًا، وقال: تطلع إليَّ بمقلاع، وأنا يعني الشجاع المقدام؟ ولكنه قال به هكذا فشج رأسه فسقط، ثم احتز رأسه وأتى به إلى طالوت، هذه كيفية القتل نحن ليس لنا فيها كبير فائدة، صح ولَّا لا؟ كونها فيها كبيرة فائدة؟ ليس لنا فيها كبيرة فائدة، ولذلك ما وصف الله القتل، قال: ﴿قَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ والمقصود الغاية، وقد حصلت، قتل داود جالوت، وأظنكم تعلمون أنه إذا قُتل القائد انهزم الجند، ولهذا صاح الشيطان في (أُحد)، وأيش قال؟ قال: إن محمدًا قد قتل، علشان يرعب القوم وينصرفون، حتى في الصيد، ممكن الإخوان اللي يصطادون، إذا جاءت الظبا عادة يكون لها قائد، واحدة قدامهم تقودهم، إذا جاء الصيَّاد ما يروح يقتل المؤخر، يقتل القائد، فإذا قتل القائد خلاص تفرقت الجملة، حتى -يعني حسب اللي شاهدوا- حتى يطلعون واحد يكون قائد بدله -سبحان الله- كذلك الطيور، انظر إلى فرق الطير تجد أنه لا بد أن يكون يقدمها قائد، إذا قُتل القائد تفرقوا، يعني معناه أمكن الاطلاع عليهم. لما قال: قتل داود جالوت تبين عند القوم قُدرة داود وشجاعته، وأنه أهل لأن يكون ملكًا، أهل لأن يكون ملكًا، فقيل: إن طالوت زوَّجه ابنته وتنازل له عن الملك، وهذا طبعًا من أخبار بني إسرائيل قد يكون كذلك وقد لا يكون، المهم أن الْمُلك آل بعد طالوت إلى مَنْ؟ إلى داود سواء تنازل عنه، أو توفاه الله عز وجل، الله أعلم، المهم أن الملك آل إلى داود، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ﴿آتَاهُ﴾ بمعنى أعطاه، أعطاه الله الملك والحكمة. ﴿الْمُلْكَ﴾ طبعًا ليس الملك المطلق على كل شيء؛ لأن الملك المطلق على كل شيء لله الواحد القهار، لكن الملك في هذا الجانب من الأرض فقط.
﴿وَالْحِكْمَةَ﴾ الحكمة قيل: إنها الوحي، وقيل: إنه الزبور لاشتماله على الحكمة؛ لأن الله يقول: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء ١٦٣] وعلى كل حال أعطى الله داود أمرين عظيمين: أحدهما: به سياسة الدنيا، والثاني: به سياسة الدنيا والدين، الدنيا: الملك، والدين والدنيا: الحكمة.
ثم قال: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ ما علمه كل شيء، علم داود مما يشاء، ومما علمه: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ [الأنبياء ٨٠] علمه الله تعالى مما يشاء بأن كل أحد لا يعلم شيئًا إلا ما علمه الله ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل ٧٨] فكل ما علمناه من معقول أو محسوس فإنه من الله عز وجل، ولولا ذلك ما مشينا شبرًا. قال: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ أي من الذي يشاؤه، والآية هنا عامة، ولكننا يمكن أن نقول: ومما علمه صنعة الدروع، صنعة لبوس لكم. ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ ﴿دَفْعُ﴾ وفي قراءة: ﴿دِفَاعُ﴾ وهي سبعية ﴿وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ ، وهنا الإعراب ﴿دَفْعُ اللَّهِ﴾ ﴿دَفْعُ﴾ مصدر مضاف إلى فاعله، والناسَ: مفعول به، وبعضَهم: بدل منه، وببعض: متعلق بدفع. ﴿لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أين خبر المبتدأ؟ محذوف تقديره: موجود، يعني: لولا أن دفع الله الناس بعضهم ببعض موجود (...) أنه يدفع الكافرين بالمؤمنين، فيقاتلون في سبيل الله حتى يقوم دين الله، ويدفع الكفار بعضهم ببعض حتى لا يسيطر أحد الطرفين على الأرض، ما ظنكم مثلًا الآن، ولدى الناس ما يسمى بالدولتين العُظميين لو كانت السيطرة لإحداهما لطغت وسيطرت على الأرض، ولكن الله عز وجل جعل هذه القوة لها مقابل يدافعها ويمنعها ويخيفها وإلا لفسدت الأرض، وبماذا تفسد؟
استمع ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج ٤٠] هذا هو الفساد الحقيقي في الأرض، ليس الفساد أن تأتي العواصف وتُسقط الثمار، أو تأتي الفيضانات وتهدم البناء وتغرق الزروع، هذا لا شك أنه فساد، لكن الفساد الحقيقي أن يُقضى على دين الله ومعالم دين الله ﴿لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾، وهذا وقع ولَّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: نعم، الأمم الطاغية الكافرة لما استولت على بلاد المسلمين، هل أبقت المساجد والمؤذنين يؤذنون ويرفعون اسم الله؟ أبدًا، انظر إلى البلاد التي سيطر عليها الكفر منعوهم، منعوهم من إقامة دين الله، وهم- أعني الكفار- يتظاهرون ويُكبِّرون أجسامهم بأنهم أصحاب الحرية والديمقراطية، وكذبوا فيما قالوا، ولكنها دعوى كقول الشيطان لآدم: ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف ٢١] والحاصل أن الله عز وجل يبين في هذه الآية: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ بماذا؟ بطمس معالم الدين وحلول معالم الكفر والمعاصي، هذا هو الفساد الحقيقي، ولكنه يراد بالآية ما هو أعم من ذلك من إفساد الديار، هدم البناء، إغراق الزروع، إحراقها على أيدي المتسلطين، كل هذا داخل.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ فحمى بعضهم ببعض. ﴿ذُو فَضْلٍ﴾ أي صاحب فضل، والفضل هو العطاء الزائد الواسع الكثير، ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي كلهم ولّا على العالِمين؟ على العالَمين أي: كل الخلق فلله تعالى عليهم فضل، وسُموا عالَمًا؛ لأنهم علَم على خالقهم سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى ذو فضل على جميع الخلق، الكافر من أين له الرزق؟
* الطلبة: من الله.
* الشيخ: هو الذي أنبت الزرع، وأدرّ الضرع، وأجرى الأنهار، وفجر العيون أعني الكافر؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا؟ من الذي فعل ذلك؟
* الطلبة: الله عز وجل.
* الشيخ: ومن الذي انتفع به؟ الكافر والمسلم، إذن فالله عز وجل له فضل على العالمين كلهم، كل العالمين له فضل عليهم، لكن فضله على المؤمن يمتد إلى الآخرة، وفضله على الكافر ينقطع بالموت، وتأمل قوله تعالى في المؤمنين المتقين، حيث قال عنهم: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى﴾ [الدخان ٥٦] إلا الموتة الأولى، وهل في الجنة موتة أولى؟ لا، لكن لما كانت الجنة للمتقين ممتدة حتى في الدنيا هم في جنة، حتى في الدنيا المتقي في جنة؛ لأن الله يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل ٩٧] ذوقوا يا إخواني طعم هذا، ذوقوا طعم التقوى تكونوا في جنة الدنيا الممتدة إلى جنة الآخرة، وعند الموت أين ينتقلون؟ إلى جنة، إذن صدق أنهم لم يذوقوا فيها الموت إلا أيش الموتة الأولى فقط، لما حُبس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأُغلق عليه باب الحبس، قال: ما يصنع أعدائي بي؟ يعني أي شيء يصنعون، ما يصنع أعدائي بي إن جنتي في صدري، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة. يقول: إن قتلوني فأنا شهيد، وإن حبسوني فحبسي خلوة أختلي بالله عز وجل عن الناس وأعمر أوقاتي في طاعة الله، وإن نفوني فسياحة، أسيح في أرض الله وأتفكر في آيات الله عز وجل، لكن الشاهد قوله رحمه الله: إن جنتي في صدري. وهكذا المؤمن، وجرب تجد، والله إنه ليمر بالإنسان ساعات يقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا النعيم فهم سعداء، أحيانًا يمر بك ساعات يعني: تذهل كل شيء، وأحيانًا تستولى علينا الغفلة والشيطان يجينا من كل جانب ويزين لنا بعض الأشياء من الدنيا وننسى هذا، والقلوب مثل الأرض أو أشد تأثرًا من الأرض إذا وقف عنها المطر يبست، وإذا تدارك عليها المطر رويت وأنبتت، بل القلوب أشد؛ لأن القلوب- نسأل الله السلامة- زيغها قريب جدًّا، زيغها قريب جدًّا، فهي كسفينة في الأمواج إذا لم يتداركها الإنسان ويثبت المراسي غرقت، فالحاصل أن الله عز وجل ذو فضل على العالمَين في الدنيا والآخرة بالنسبة لمن؟
* الطلبة: للمؤمنين.
* الشيخ: للمؤمنين، وفي الدنيا فقط بالنسبة للكافرين ابتلاء وامتحانًا من الله عز وجل.
ثم قال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ آيات الله تعالى الشرعية ولا الكونية؟
* طالب: يشمل الأمرين.
* الشيخ: الظاهر أنه يشمل الأمرين، آيات الله الكونية نخبرك بها وتشاهد وتعتبر، والشرعية اللي هي القرآن ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران ٥٨] فالله سبحانه وتعالى يتلو على نبيه محمد ﷺ من آيات الله تعالى الكونية والشرعية ما يكون عبرة للمعتبرين، ثم هذه التلاوة هل يعتريها كذب؟ لا، ولهذا قال: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: مصحوبة بالحق لا يعتريها كذب بوجه من الوجوه، القصص الإخبارية من غير القرآن يمكن أن تكون كذبًا، لكن القرآن حق؛ أي صدق ليس فيه مرية ولا كذب.
﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الخطاب لمن؟ لمحمد ﷺ، وأكد هذا بإن واللام، ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ بل إنه عليه الصلاة والسلام هو أفضل المرسلين وخاتم النبيين ﷺ.
وفي قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ بعد قوله: ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾ إشارة إلى أنه ﷺ قد شهدت برسالاته مطابقة ما أخبر به للواقع، فإن الذي جرى لهؤلاء الملأ من بني إسرائيل موجود له شواهد في كتب بني إسرائيل، قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ والله أعلم.
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ إلى آخره. في هذا دليل على أنه ينبغي للقائد على أن يتفقد جنوده لقوله: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ﴾ انفصل بهم مشى بهم وتدبر أحوالهم ورتّبهم.
ومن فوائدها أيضًا: أنه ينبغي له، بل يجب عليه أن يمنع من لا يصلح للحرب، سواء كان مُخذِّلا، أو مرجفًا، أو مُلحدًا، المهم الذي لا يصلح للحرب يجب أن يُمنع، من أين يؤخذ؟ لأنه قال: ﴿فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ ما هو صالح للقتال. ﴿وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ فيجب أن يمنع من ليس بصالح، ما الفرق بين المخذِّل والمرجف؟ المخذِّل هو الذي يخذل الجيش، يقول: ما أنتم بمنتصرين، والمرجف هو الذي يُهيِّب من العدو، فالأول يضعِّف، والثاني يُهيِّب من العدو، هذا الفرق بينهما، المخذِّل من يذكر صفة الضعف، والمرجف من يذكر صفة القوة في العدو، وكل منهم يجب أن يُبعد.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجب اختبار الجند وهو ما يُعرف الآن بالمناورات، يجب أن نختبر قدرة الجند على التحمُّل والثبات والطاعة، والأساليب الحربية الآن مأخوذة من هذا لكنها متطورة حسب الزمن ولا هي مأخوذة من هذا؟
* طالب: وجهه؟
* الشيخ: إنه قال: ﴿مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي﴾ على سبيل التمارين.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء القوم مع علمهم بأن طالوت صالح للملكية، انقسموا في شأنه إلى ثلاثة أقسام.
* ومن فوائدها: أن أكثر عباد الله لا يُنفِّذ أمر الله، أكثرهم لقوله: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾، وهذا أمر يشهد به الحال، قال الله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ ١٣] فالطائع قليل والمعاند كثير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز إخبار الإنسان بالواقع إذا لم يقصد أو إذا لم يترتب عليه مفسده؛ لأنهم قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾، وقد يقال: إن هذا لا تدل عليه الآية، وأن فيه دليلًا على أن الجبان في ذعر دائم ورعب لقولهم: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾.
* ومن فوائدها: أن من فوائد الإيمان الصبر والتحمل ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾. ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ إلى آخره.
يستفاد من هذه الآية الكريمة: مشروعية اختبار الجند بصبرهم وعدم صبرهم، ويُشبه هذا ما يصنع اليوم ويُسمى بالمناورات الحربية، فإن هذه المناورات عبارة عن تدريب واختبار للجند، كيف ينفذون الخطة التي تعلموها؟
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده، إما بالامتناع عن شيء محبوب، وإما بالوقوع في شيء مكروه ليعلم سبحانه وتعالى صبره، ولهذا نظائر، منها ما قصه الله تعالى عن بني إسرائيل حين حرم عليهم الصيد صيد الحوت في يوم السبت، فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شُرّعًا، وفي غير يوم السبت لا يرون شيئًا، فماذا صنعوا؟ فعلوا حيلة، هذه الحيلة هي أنهم وضعوا شُباكًا في يوم الجمعة، فإذا جاء الحيتان يوم السبت دخلت في هذا الشباك ثم نشبت فيه، فإذا كان يوم الأحد استخرجوها منه، فكان في ذلك حيلة على محارم الله، ولهذا انتقم الله منهم، ووقع ذلك أيضًا للصحابة رضي الله عنهم في أيش؟
* الطلبة: في الصيد.
* الشيخ: في الصيد حين حُرم عليهم وهم في حال الإحرام فابتلاهم الله بصيد تناله أيديهم ورماحهم، ولكنهم رضي الله عنهم امتنعوا عن ذلك، هنا هذا النهر ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به وصاروا عطاشًا فقال لهم نبيهم: ﴿مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم لقوله هنا: ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾؛ لأنه لا بد أن يشربوا للنجاة من الموت.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على الجبرية، من قوله: ﴿فَمَنْ شَرِبَ﴾ ﴿إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن القليل من الناس هم الذي يصبرون عند البلوى لقوله: ﴿فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ في هذا دليل على أن من الناس من يكون مرجفًا، أو مخذلًا، والفرق بين المرجف و المخذل، أن المرجف هو الذي يذكر قوة العدو فيرجف به، والمخذِّل هو الذي يقول: إننا لا نقدر على هذا الشيء، فيذكر ضعف نفسه، هنا قالوا: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ هؤلاء مخذلون ولا مرجفون؟
* الطلبة: مخذلون.
* الشيخ: مخذلون، وفي نفس الوقت أيضًا مرجفون؛ لأنهم يقولون: لا طاقة لنا بهم؛ لأنهم أعظم منا وأقوى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن اليقين يحمل الإنسان على الصبر والتحمل والأمل والرجاء لقولهم: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ شوف مع اليقين قالوا هذا القول، وهل قالوه بأنفسهم أو قالوه لغيرهم؟ سبق أنهم قالوه لغيرهم لما قال أولئك: ﴿لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾ ردوا عليهم.
وفي هذه الآية الكريمة: إثبات ملاقاة الله لقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق ٦]، وقد استدل به بعض أهل السنة على إثبات رؤية الله عز وجل، قال: لأن الملاقاة لا تصدق إلا إذا رأى كل من المتلاقَين صاحبه، وهذا الاستدلال قد يكون فيه مناقشة، إذ لا يلزم من الملاقاة الرؤية.
* ومن فوائدها: أن الظن يأتي في محل اليقين، بمعنى أنه يستعمل الظن استعمال اليقين، من أين تؤخذ؟ ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ﴾؛ لأنه ليس الظن هنا بمعنى الشيء الراجح، إذ إن ملاقاة الله يجب أن يُؤمن بها الإنسان قطعًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: ما ذكره هؤلاء الموقنون بأنه قد تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة بإذن الله، وهذا قد وقع فيما سبق من الأمم ووقع في هذه الأمة، مثل غزوة بدر، فإن غزوة بدر فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، وقد يكون العكس قد تُغلب الفئة الكثيرة، قد تُغلب الفئة الكثيرة وإن كان الحق معها كما في غزوة حنين، لكن لسبب.
ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أنه ينبغي للإنسان إذا ذَكر الشيء أن يقيده بإذن الله أو بمشيئة الله أو ما أشبه ذلك لقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
ومنها: إثبات الإذن لله سبحانه وتعالى، وقد مر علينا أنه ينقسم إلى قسمين: إذْن كوني، وإذْن شرعي، في هذه الآية إذن كوني ولَّا شرعي؟
* الطلبة: كوني.
* الشيخ: كوني، وفي قوله تعالى عن السحرة: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة ١٠٢]؟
* الطلبة: كوني.
* الشيخ: كوني أيضًا، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس ٥٩] هذا؟
* الطلبة: شرعي.
* الشيخ: شرعي ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى ٢١]،
* الطلبة: شرعي.
* الشيخ: هذا شرعي أيضًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة الصبر لقوله: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
ومنها: إثبات المعية لله عز وجل لقوله: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ فإن قلت: هذه الآية ظاهرها تخصيص معية الله بالصابرين مع أنه في آيات أخرى أثبت الله معيته لعموم الناس فقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤] هذا عام، وقال: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة ٧] فما هو الجواب؟
قلنا: الجواب إن هذه المعية خاصة، وتلك معية عامة، والمعية التي أضافها الله لنفسه منها ما يقتضي التهديد، ومنها ما يقتضي التأييد، ومنها ما هو لبيان الإحاطة والشمول، فالذي يقتضي التأييد مثل: ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦]، ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة ٤٠] وأمثلتها كثيرة، والذي يقتضي التهديد مثل قوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ [النساء ١٠٨] والتي للعموم مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤]
* طالب: الإحاطة، (...)
* الشيخ: لا لا، انتهينا، هي الشمول هي الإحاطة، فإن قلت: ما الجمع بين إثبات المعية لله عز وجل؟ وإثبات العلو له؟
فالجواب أنه لا تناقض بينهما؛ إذ لا يلزم من كونه معنا أن يكون حالًّا في الأمكنة التي نحن فيها، بل هو معنا وهو في السماء كما نقول: القمر معنا، والقطب معنا، والثريا معنا، وما أشبه ذلك، مع أنها في السماء.
﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ قوله: ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ تشمل الصبر على أقدار الله، وعلى طاعته، وعن معصيته.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة ٢٥٠]
في هذه الآية من الفوائد: أنه ينبغي للإنسان عند الشدائد أن يلجأ إلى الله عز وجل؛ لأنه هنا لما برزوا والتقى الجمعان لجؤوا إلى الله قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾.
ومن فوائدها أيضًا: أن التجاء الإنسان إلى الله سبب لنجاحه؛ لأنه قال بعد ذلك: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وأن اعتماده على نفسه واعتداده بها سبب لخذلانه ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾. وهذا مشهد عظيم في الواقع فإن كثيرًا من الناس إذا أعطاه الله سبحانه وتعالى نعمة في بدنه أو ماله أو أهله يرى أن ذلك من حوله وقوته وكسبه، وهذا لا شك أنه خطأ عظيم بل هو من عند الله هو الذي منَّ به عليك، فانظر إلى الأصل لا إلى الفرع، والنظر إلى الفرع وإهمال الأصل هذا خطأ في العقل والتفكير، ولذلك يجب عليك إذا أنعم الله عليك نِعمة أن تُثني على الله بها بلسانك وتعترف له بها بقلبك وتقوم بطاعته بجوارحك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اضطرار الإنسان إلى تثبيت قدمه على طاعة الله لقوله: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ ضد تثبيت الأقدام: الفرار، ولا شك أن الفرار حين يلتقي الصفَّانِ من كبائر الذنوب.
* ومن فوائد الآية الكريمة: ذكر ما يكون سببًا للإجابة لقوله: ﴿وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ ما قالوا: على أعدائنا. ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ كأنهم يقولون: انصرنا عليهم من أجل كفرهم، وهذا في غاية ما يكون من البُعد عن العصبية والحمية، يعني ما طلبنا أن تنصرنا عليهم إلا لأنهم كافرون.
ثم قال الله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ إلى آخره، في هذا دليل على ما أشرنا إليه من قبل أن اللجوء إلى الله تعالى سبب للنجاح، وأن الإعجاب بالنفس سبب لعكسه للخذلان.
ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: إضافة الحوادث إلى الله عز وجل، وإن كان من فِعل الإنسان لقوله: ﴿فَهَزَمُوهُمْ﴾ هذا فعلهم، لكن ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فالله هو الذي أذن بانتصار هؤلاء وخذلان هؤلاء.
* ومن فوائدها: أن داود عليه الصلاة والسلام من أنبياء بني إسرائيل. ﴿قَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾.
* طالب: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾؟
* الشيخ: لا لا.
* الطالب: ذكر من قبل.
* الشيخ: لأنه قال من قبل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ ففيه دليل على أن داود من بني إسرائيل، وأنه بعد موسى أيضًا؛ لأنه قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ وكان داود من بينهم.
ومن فوائدها أيضًا: شجاعة داود عليه الصلاة والسلام حيث قتل جالوت حين برز له، والشجاعة عند المبارزة لها أهمية عظيمة؛ لأنه إذا قُتل المبارِز أمام جنده لا شك أنه سيجعل في قلوبهم الوَهن والرعب، ولكن هل يجوز في هذه الحال أن يخدع الإنسان من بارزه؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: يجوز؟
* الطلبة: يجوز كما فعل عليّ.
* الشيخ: أي يجوز، لماذا يجوز أن نخدعه والخداع ليس بجيد؟ لأن المقام مقام حرب، وكل منهما يريد أن يقتل صاحبه، فلا حرج أن يخدعه،« ويُذكر أن عمرو بن وُدٍّ لما خرج لمبارزة علي بن أبي طالب صاح به علي وقال: ما خرجت لأبارز رجلين، فظن عمرو أن أحدًا قد لحقه، فالتفت فضربه عليٌّ» . هذه خدعة لكنها جائزة؛ لأن المقام مقام حرب، هو يريد أن يقتلني بكل وسيلة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن داود عليه الصلاة والسلام أوتي الملك والنبوة لقوله: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾.
ومن فوائدها أيضًا: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس عندهم من العلم إلا ما علمهم الله لقوله: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ فالنبي نفسه ليس عالِمًا، لا يعلم الغيب ولا يعلم الشرع إلا ما آتاه الله سبحانه وتعالى.
* ومن فوائدها: إثبات المشيئة لله لقوله: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾.
ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن الله عز وجل يدفع الناس بعضهم ببعض لتصلح الأرض ومن عليها، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾، وبماذا تفسد؟ تفسد بالمعاصي وترك الواجبات، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج ٤٠].
* ومن فوائدها: إثبات حكمة الله، حيث جعل الناس يدفع بعضهم بعضًا ويقابل بعضهم بعضًا؛ لأنه لو جعل السلطة لقوم معينين لأفسدوا الأرض؛ لأنه لا مُعارض لهم، ولكن الله عز وجل يعارض هذا بهذا، واعتبر هذا الآن في قوة الأمم الكافرة الآن، ما ظنكم لو كان لأحد هذه الدول الكبرى القوة المطلقة على الدولة الأخرى لكانت تكتسحها وتكتسح غيرها أيضًا، ولكن الله جعل هذه لها قوة، وهذه لها قوة ليدفع بعضهم ببعض.
ومنها: أن المعاصي وهدم بيوت العبادة سبب للفساد، لأنه قلنا إن فساد الأرض بُيِّن في آيات أخرى وهو كذلك، فإن هدم بيوت العبادة لا شك أنه من الفساد في الأرض، طيب والمانع من العبادة؟
* طالب: أشد وأولى.
* الشيخ: أشد وأوْلى، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة ١١٤].
ومنها: إثبات فضل الله سبحانه وتعالى على جميع الخلق لقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ حتى الكفار؟ إي نعم حتى الكفار، لكن فضل الله على الكفار فضل خاص في الدنيا فقط، أما في الآخرة فيعاملهم بماذا؟
* طالب: بما يستحقون.
* الشيخ: بالعدل، في الدنيا يعاملهم بالفضل، وأما في الآخرة فإنه يعاملهم بالعدل، هذا بالنسبة للكفار، أما بالنسبة للمؤمنين، فإن الله يعاملهم بالفضل في الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ في هذا إثبات آيات الله سبحانه وتعالى الشرعية؛ لأن المراد بالآيات هنا الآيات الشرعية وهي القرآن.
وفيها: أن الله تعالى يتلو على نبيه، يتلو على نبيه ما أوحاه إليه لقوله: ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾، ولكن هل الذي يتلو ذلك هو الله، أو جبريل؟
* طالب: جبريل.
* الشيخ: اقرأ في آية القيامة: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة ١٦ - ١٨] يعني إذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه، فجبريل يتلوها على النبي عليه الصلاة والسلام وقد تلقاه من الله سبحانه وتعالى.
* ومن فوائدها: أن القرآن كله حق، كله حق من الله ونازل بالحق؛ لأن الباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ للمصاحبة والملابسة أيضًا، فهو نازل من عند الله حقًّا، وهو كذلك مشتمل على الحق، فلم يُكذَب على الله، وليس فيه كذب في أخباره ولا جور في أحكامه، بل أحكامه كلها عدل وأخباره كلها صدق.
* ومن فوائدها: إثبات رسالة النبي ﷺ لقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾.
ومنها: أن هناك رسلًا آخرين غير الرسول لقوله: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ولكنه ﷺ كان خاتم النبيين إذ لا نبي بعده.
هذا ما تيسر لنا من فوائد هذه الآيات الكريمة مع أنها عند التأمل تحتمل معاني أكثر من ذلك.
* طالب: (...): ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾؟
* الشيخ: الحكمة هي الوحي اللي أوحاه الله إليه، الوحي سواء كان سنة أو كان الزبور الذي أوحاه الله إليه.
{"ayahs_start":249,"ayahs":["فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِیكُم بِنَهَرࣲ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَیۡسَ مِنِّی وَمَن لَّمۡ یَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّیۤ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِیَدِهِۦۚ فَشَرِبُوا۟ مِنۡهُ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ قَالُوا۟ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡیَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ","وَلَمَّا بَرَزُوا۟ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦ قَالُوا۟ رَبَّنَاۤ أَفۡرِغۡ عَلَیۡنَا صَبۡرࣰا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ","فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا یَشَاۤءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ","تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَیۡكَ بِٱلۡحَقِّۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ"],"ayah":"فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا یَشَاۤءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق