الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ ما كانَ حَدِيثًا يُفْتَرى ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وهُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّ الِاعْتِبارَ عِبارَةٌ عَنِ العُبُورِ مِنَ الطَّرَفِ المَعْلُومِ إلى الطَّرَفِ المَجْهُولِ، والمُرادُ مِنهُ التَّأمُّلُ والتَّفَكُّرُ، ووَجْهُ الِاعْتِبارِ بِقَصَصِهِمْ أُمُورٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلى إعْزازِ يُوسُفَ بَعْدَ إلْقائِهِ في الجُبِّ، وإعْلائِهِ بَعْدَ حَبْسِهِ في السِّجْنِ، وتَمْلِيكِهِ مِصْرَ بَعْدَ أنْ كانُوا يَظُنُّونَ بِهِ أنَّهُ عَبْدٌ لَهم، وجَمْعِهِ مَعَ والِدَيْهِ وإخْوَتِهِ عَلى ما أحَبَّ بَعْدَ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، لَقادِرٌ عَلى إعْزازِ مُحَمَّدٍ -ﷺ- وإعْلاءِ كَلِمَتِهِ.
الثّانِي: أنَّ الإخْبارَ عَنْهُ جارٍ مَجْرى الإخْبارِ عَنِ الغَيْبِ، فَيَكُونُ مُعْجِزَةً دالَّةً عَلى صِدْقِ مُحَمَّدٍ -ﷺ .
الثّالِثُ: أنَّهُ ذَكَرَ في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ﴾ (يُوسُفَ: ٣) ثُمَّ ذَكَرَ في آخِرِها: ﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ﴾ (p-١٨٢)تَنْبِيهًا عَلى أنَّ حُسْنَ هَذِهِ القِصَّةِ إنَّما كانَ بِسَبَبِ أنَّهُ يَحْصُلُ مِنها العِبْرَةُ ومَعْرِفَةُ الحِكْمَةِ والقُدْرَةِ.
والمُرادُ مِن قَصَصِهِمْ قِصَّةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وإخْوَتِهِ وأبِيهِ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: المُرادُ قَصَصُ الرُّسُلِ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ في القُرْآنِ ذِكْرُ قَصَصِ سائِرِ الرُّسُلِ إلّا أنَّ الأوْلى أنْ يَكُونَ المُرادُ قِصَّةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ قالَ: ﴿عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ﴾ مَعَ أنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ -ﷺ- كانُوا ذَوِي عُقُولٍ وأحْلامٍ، وقَدْ كانَ الكَثِيرُ مِنهم لَمْ يَعْتَبِرْ بِذَلِكَ.
قُلْنا: إنَّ جَمِيعَهم كانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الِاعْتِبارِ، والمُرادُ مِن وصْفِ هَذِهِ القِصَّةِ بِكَوْنِها عِبْرَةً كَوْنُها بِحَيْثُ يُمْكِنُ أنْ يَعْتَبِرَ بِها العاقِلُ، أوْ نَقُولُ: المُرادُ مِن أُولِي الألْبابِ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا وتَفَكَّرُوا وتَأمَّلُوا فِيها وانْتَفَعُوا بِمَعْرِفَتِها؛ لِأنَّ (أُولِي الألْبابِ) لَفْظٌ يَدُلُّ عَلى المَدْحِ والثَّناءِ فَلا يَلِيقُ إلّا بِما ذَكَرْناهُ، واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَ هَذِهِ القِصَّةَ بِصِفاتٍ:
الصِّفَةُ الأُولى: كَوْنُها ﴿عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبابِ﴾ وقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ما كانَ حَدِيثًا يُفْتَرى﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ الَّذِي جاءَ بِهِ وهو مُحَمَّدٌ -ﷺ- لا يَصِحُّ مِنهُ أنْ يَفْتَرِيَ لِأنَّهُ لَمْ يَقْرَأِ الكُتُبَ ولَمْ يُتَلْمَذْ لِأحَدٍ، ولَمْ يُخالِطِ العُلَماءَ؛ فَمِنَ المُحالِ أنْ يَفْتَرِيَ هَذِهِ القِصَّةَ بِحَيْثُ تَكُونُ مُطابِقَةً لِما ورَدَ في التَّوْراةِ مِن غَيْرِ تَفاوُتٍ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ أنَّهُ لَيْسَ يَكْذِبُ في نَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَصِحُّ الكَذِبُ مِنهُ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ كَوْنَهُ غَيْرَ مُفْتَرًى، فَقالَ: ﴿ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ وهو إشارَةٌ إلى أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ ورَدَتْ عَلى الوَجْهِ المُوافِقِ لِما في التَّوْراةِ وسائِرِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، ونُصِبَ تَصْدِيقًا عَلى تَقْدِيرِ: ولَكِنْ كانَ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكم ولَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ (الأحْزابِ: ٤٠) قالَهُ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ، ثُمَّ قالَ: ويَجُوزُ رَفْعُهُ في قِياسِ النَّحْوِ عَلى مَعْنى: ولَكِنْ هو تَصْدِيقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
والصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: المُرادُ: وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ مِن واقِعَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ أبِيهِ وإخْوَتِهِ.
والثّانِي: أنَّهُ عائِدٌ إلى القُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ (الأنْعامِ: ٣٨) فَإنَّ جَعْلَ هَذا الوَصْفِ وصْفًا لِكُلِّ القُرْآنِ ألْيَقُ مِن جَعْلِهِ وصْفًا لِقِصَّةِ يُوسُفَ وحْدَها، ويَكُونُ المُرادُ: ما يَتَضَمَّنُ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ وسائِرِ ما يَتَّصِلُ بِالدِّينِ.
قالَ الواحِدِيُّ عَلى التَّفْسِيرَيْنِ جَمِيعًا: فَهو مِنَ العامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الخاصُّ كَقَوْلِهِ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعْرافِ: ١٥٦) يُرِيدُ: كُلُّ شَيْءٍ يَجُوزُ أنْ يَدْخُلَ فِيها، وقَوْلُهُ: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ (النَّمْلِ: ٢٣) .
الصِّفَةُ الرّابِعَةُ والخامِسَةُ: كَوْنُها هُدًى في الدُّنْيا وسَبَبًا لِحُصُولِ الرَّحْمَةِ في القِيامَةِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خَصَّهم بِالذِّكْرِ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهِ كَما قَرَّرْناهُ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البَقَرَةِ: ٢) واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ، وإلَيْهِ المَرْجِعُ والمَآبُ.
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعالى يَوْمَ الأرْبِعاءِ السّابِعِ مِن شَعْبانَ، خُتِمَ بِالخَيْرِ والرِّضْوانِ، سَنَةَ إحْدى وسِتِّمِائَةٍ، وقَدْ كُنْتُ ضَيِّقَ الصَّدْرِ جِدًّا بِسَبَبِ وفاةِ الوَلَدِ الصّالِحِ مُحَمَّدٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ والغُفْرانِ وخَصَّهُ بِدَرَجاتِ الفَضْلِ والإحْسانِ، وذَكَرْتُ هَذِهِ الأبْياتَ في مَرْثِيَّتِهِ عَلى (p-١٨٣)سَبِيلِ الإيجازِ:
؎فَلَوْ كانَتِ الأقْدارُ مُنْقادَةً لَنا فَدَيْناكَ مِن حِماكَ بِالرُّوحِ والجِسْمِ
؎ولَوْ كانَتِ الأمْلاكُ تُؤْخَذُ رِشْوَةً ∗∗∗ خَضَعْنا لَها بِالرِّقِّ في الحُكْمِ والِاسْمِ
؎ولَكِنَّهُ حُكْمٌ إذا حانَ حِينُهُ ∗∗∗ سَرى مِن مَقَرِّ العَرْشِ في لُجَّةِ اليَمِّ
؎سَأبْكِي عَلَيْكَ العُمْرَ بِالدَّمِ دائِمًا ∗∗∗ ولَمْ أنْحَرِفْ عَنْ ذاكَ في الكَيْفِ والكَمِّ
؎سَلامٌ عَلى قَبْرٍ دُفِنْتَ بِتُرْبِهِ ∗∗∗ وأتْحَفَكَ الرَّحْمَنُ بِالكَرَمِ الجَمِّ
؎وما صَدَّنِي عَنْ جَعْلِ جَفْنِي مَدْفَنًا ∗∗∗ لِجِسْمِكَ إلّا أنَّهُ أبَدًا يَهْمِي
؎وأُقْسِمُ إنْ مَسُّوا رُفاتِي ورِمَّتِي ∗∗∗ أحَسُّوا بِنارِ الحُزْنِ في مَكْمَنِ العَظْمِ
؎حَياتِي ومَوْتِي واحِدٌ بَعْدَ بُعْدِكم ∗∗∗ بَلِ المَوْتُ أوْلى مِن مُداوَمَةِ الغَمِّ
؎رَضِيتُ بِما أمْضى الإلَهُ بِحُكْمِهِ ∗∗∗ لِعِلْمِي بِأنِّي لا يُجاوِزُنِي حُكْمِي
وأنا أُوصِي مَن طالَعَ كِتابِي واسْتَفادَ ما فِيهِ مِنَ الفَوائِدِ النَّفِيسَةِ العالِيَةِ أنْ يَخُصَّ ولَدِي ويَخُصَّنِي بِقِراءَةِ الفاتِحَةِ، ويَدْعُوَ لِمَن قَدْ ماتَ في غُرْبَةٍ بَعِيدًا عَنِ الإخْوانِ والأبِ والأُمِّ بِالرَّحْمَةِ والمَغْفِرَةِ، فَإنِّي كُنْتُ أيْضًا كَثِيرَ الدُّعاءِ لِمَن فَعَلَ ذَلِكَ في حَقِّي وصَلّى اللَّهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا آمِينَ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ.
{"ayah":"لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ مَا كَانَ حَدِیثࣰا یُفۡتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَتَفۡصِیلَ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











