الباحث القرآني

﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ﴾ أيْ قَصَصِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وأُمَمِهِمْ وقِيلَ: قَصَصُ يُوسُفَ وأبِيهِ وإخْوَتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجاهِدٍ وقِيلَ: قَصَصُ أُولَئِكَ وهَؤُلاءِ والقَصَصُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ ورَجَّحَ الزَّمَخْشَرِيُّ الأوَّلَ بِقِراءَةِ أحْمَدَ بْنِ جُبَيْرٍ الأنْطاكِيِّ عَنِ الكِسائِيِّ وعَبْدِ الوارِثِ عَنْ أبِي عَمْرٍو ( قِصَصِهِمْ ) بِكَسْرِ القافِ جَمْعُ قِصَّةٍ ورُدَّ بِأنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ وأبِيهِ وإخْوَتِهِ مُشْتَمِلَةٌ عَلى قِصَصٍ وأخْبارٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلى أنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ الجَمْعُ عَلى الواحِدِ وفِيهِ أنَّهُ كَما قِيلَ إلّا أنَّهُ خِلافُ المُتَبادَرِ المُعْتادِ فَإنَّهُ يُقالُ في مِثْلِهِ قِصَّةُ قِصَصٍ واقْتَصَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَلى القَوْلِ الثّالِثِ وهو ظاهِرٌ في اخْتِيارِهِ ﴿عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبابِ﴾ أيْ لِذَوِي العُقُولِ المُبَرَّأةِ عَنِ الأوْهامِ النّاشِئَةِ عَنِ الإلْفِ والحِسِّ وأصْلُ اللُّبِّ الخالِصُ مِنَ الشَّيْءِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى ما زَكا مِنَ العَقْلِ فَكُلُّ لُبٍّ عَقَلٌ ولَيْسَ كُلُّ عَقْلٍ لُبًّا وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: إنَّ اللُّبَّ هو العَقْلُ مُطْلَقًا وسُمِّي بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ خالِصَ ما في الإنْسانِ مِن قُواهُ ولَمْ يَرِدْ في القُرْآنِ إلّا جَمْعًا والعِبْرَةُ كَما قالَ الرّاغِبُ الحالَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِها مِن مَعْرِفَةِ المَشاهِدِ إلى ما لَيْسَ بِمَشاهِدَ وفي البَحْرِ أنَّها الدَّلالَةُ الَّتِي تَعْبُرُ بِها إلى العِلْمِ ﴿ما كانَ﴾ أيِ القُرْآنُ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِما سَبَقَ دَلالَةً واضِحَةً واسْتَظْهَرَ أبُو حَيّانَ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلى القَصَصِ فِيما قَبْلُ واخْتارَ بَعْضُهُمُ الأوَّلَ لِأنَّهُ يَجْرِي عَلى القِراءَتَيْنِ بِخِلافِ عَوْدِهِ إلى المُتَقَدِّمِ فَإنَّهُ لا يَجْرِي عَلى قِراءَةِ القِصَصِ بِكَسْرِ القافِ لِأنَّهُ كانَ يَلْزَمُ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ وجَوَّزَ بَعْضُهم عَوْدَهُ إلى القَصَصِ في القِراءَةِ بِهِ وإلَيْهِ في ضِمْنِ المَكْسُورِ في القِراءَةِ بِهِ وكَذا إلى المَكْسُورِ نَفْسِهِ والتَّذْكِيرُ بِاعْتِبارِ الخَبَرِ وهو كَما تَرى ﴿حَدِيثًا يُفْتَرى﴾ أيْ يُخْتَلَقُ ﴿ولَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ مِنَ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ ﴿وتَفْصِيلَ﴾ أيْ تَبْيِينَ ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ قِيلَ: أيْ مِمّا يُحْتاجُ إلَيْهِ في الدِّينِ إذْ ما مِن أمْرٍ دِينِيٍّ إلّا وهو يَسْتَنِدُ إلى القُرْآنِ بِالذّاتِ أوْ بِوَسَطٍ وقالَ ابْنُ الكَمالِ: إنَّ ( كُلِّ ) لِلتَّكْثِيرِ والتَّفْخِيمِ لا لِلْإحاطَةِ والتَّعْمِيمِ (p-74)كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ ومَن لَمْ يَنْتَبِهْ لِهَذا احْتاجَ إلى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ ثُمَّ تَكَلَّفَ في بَيانِهِ فَقالَ: إذْ ما مِن أمْرٍ .. إلَخْ ولَمْ يَدْرِ أنَّ عِبارَةَ التَّفْصِيلِ لا تَتَحَمَّلُ هَذا التَّأْوِيلَ ورُدَّ بِأنَّهُ مَتى أمْكَنَ حَمْلُ كَلِمَةِ ( كُلِّ ) عَلى الِاسْتِغْراقِ الحَقِيقِيِّ لا يُحْمَلُ عَلى غَيْرِهِ والتَّخْصِيصُ مِمّا لا بَأْسَ بِهِ عَلى أنَّهُ نَفْسَهُ قَدِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ وكَوْنُ عِبارَةِ التَّفْصِيلِ لا تَتَحَمَّلُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ في حَيِّزِ المَنعِ ومِنَ النّاسِ مَن حَمَلَ ( كُلِّ ) عَلى الِاسْتِغْراقِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ ذاهِبًا إلى أنَّ في القُرْآنِ تَبْيِينَ كُلِّ شَيْءٍ مِن أُمُورِ الدِّينِ والدُّنْيا وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا شاءَ اللَّهُ تَعالى ولَكِنَّ مَراتِبَ التَّبْيِينِ مُتَفاوِتَةٌ حَسَبَ تَفاوُتِ ذَوِي العِلْمِ ولَيْسَ ذَلِكَ بِالبَعِيدِ عِنْدَ مَن لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ وقِيلَ: المُرادُ تَفْصِيلُ كُلِّ شَيْءٍ واقِعٍ لِيُوسُفَ وأبِيهِ وإخْوَتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِمّا يُهْتَمُّ بِهِ وهو مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في ( كانَ ) لِقَصَصِهِمْ ﴿وهُدًى﴾ مِنَ الضَّلالَةِ ﴿ورَحْمَةً﴾ يَنالُ بِها خَيْرَ الدّارَيْنِ ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ . (111) . يُصَدِّقُونَ تَصْدِيقًا بِهِ وخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ ونُصِبَ ﴿تَصْدِيقَ﴾ عَلى أنَّهُ خَبَرُ كانَ مَحْذُوفًا أيْ ولَكِنْ كانَ تَصْدِيقَ والإخْبارُ بِالمَصْدَرِ لا يَخْفى أمْرُهُ. وقَرَأ حُمْرانُ بْنُ أعْيُنَ وعِيسى الكُوفَةُ فِيما ذَكَرَ صاحِبُ اللَّوامِحِ وعِيسى الثَّقَفِيُّ فِيما ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ ( تَصْدِيقُ ) بِالرَّفْعِ وكَذا بِرَفْعِ ما عُطِفَ عَلَيْهِ عَلى تَقْدِيرِ ولَكِنْ هو تَصْدِيقُ .. إلَخْ وقَدْ سُمِعَ مِنَ العَرَبِ في مِثْلِ ذَلِكَ الرَّفْعُ والنَّصْبُ ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: ؎وما كانَ مالِي مِن تُراثٍ ورِثْتُهُ ولا دِيَةَ كانَتْ ولا كَسْبَ مَأْثَمِ ؎ولَكِنَّ عَطاءَ اللَّهِ مِن كُلِّ رِحْلَةٍ ∗∗∗ إلى كُلِّ مَحْجُوبِ السُّرَدِاقِ خَضْرَمِ فَإنَّهُ رُوِيَ بِنَصْبِ عَطاءً ورَفْعِهِ هَذا واللَّهُ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ. * * * ( ومِن بابِ الإشارَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ ) قالَ سُبْحانَهُ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أحْسَنَ القَصَصِ﴾ وهو اقْتِصاصُ ما جَرى لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأبِيهِ وإخْوَتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وإنَّما كانَ ذَلِكَ أحْسَنَ القَصَصِ لِتَضَمُّنِهِ ذِكْرَ العاشِقِ والمَعْشُوقِ وذَلِكَ مِمّا تَرْتاحُ لَهُ النُّفُوسُ أوْ لِما فِيهِ مِن بَيانِ حَقائِقِ مَحَبَّةِ المُحِبِّينَ وصَفاءِ سِرِّ العارِفِينَ والتَّنْبِيهُ عَلى حُسْنِ عَواقِبِ الصّادِقِينَ والحَثُّ عَلى سُلُوكِ سَبِيلِ المُتَوَكِّلِينَ والِاقْتِداءُ بِزُهْدِ الزّاهِدِينَ والدَّلالَةُ عَلى الِانْقِطاعِ إلى اللَّهِ تَعالى والِاعْتِمادُ عَلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ الشَّدائِدِ والكَشْفُ عَنْ أحْوالِ الخائِنِينَ وقُبْحُ طَرائِقِ الكاذِبِينَ وابْتِلاءُ الخَواصِّ بِأنْواعِ المِحَنِ وتَبْدِيلُها بِأنْواعِ الألْطافِ والمِنَنِ مَعَ ذِكْرِ ما يَدُلُّ عَلى سِياسَةِ المُلُوكِ وحالِهِمْ مَعَ رَعِيَّتِهِمْ إلى غَيْرِ ذَلِكَ وقِيلَ: لِخُلُوِّ ذَلِكَ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي الَّتِي يَشْغَلُ سَماعُها القَلْبَ ﴿إذْ قالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يا أبَتِ إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ هَذِهِ أوَّلُ مَبادِي الكُشُوفِ فَقَدْ ذَكَرُوا أنَّ أحْوالَ المُكاشِفِينَ أوائِلُها المَناماتُ فَإذا قَوِيَ الحالُ تَصِيرُ الرُّؤْيا كَشْفًا قِيلَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ سَلَكَ بِهِ نَحْوًا مِمّا سَلَكَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وذَلِكَ أنَّهُ بُدِئَ بِالرُّؤْيا الصّادِقَةِ كَما بُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِها فَكانَ لا يَرى رُؤْيا إلّا كانَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ عَلى ما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ﴾ كَما حُبِّبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَكانَ يَتَحَنَّثُ في غارِ حِراءَ اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ وفِيهِ أنَّ حَدِيثَ السِّجْنِ بَعْدَ إيتاءِ النُّبُوَّةِ فَتَدَبَّرْ. وذَكَرَ بَعْضُ الكِبارِ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ آدَمَ الثّانِيَ لِما كانَ عَلَيْهِ مِن كُسْوَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ما كانَ (p-75)عَلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو مَجْلى الحَقِّ لِلْخَلْقِ لَوْ يَعْلَمُونَ فَلَمّا رَأتِ المَلائِكَةُ ما رَأتْ مِن آدَمَ سَجَدُوا لَهُ وها هُنا سَجَدَ لِيُوسُفَ مَن سَجَدَ وهُمُ الشَّمْسُ والقَمَرُ والكَواكِبُ المَعْدُودَةُ المُشارُ بِهِمْ إلى أبَوَيْهِ وإخْوَتِهِ الَّذِينَ هم عَلى القَوْلِ بِنُبُوَّتِهِمْ خَيْرٌ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ولا بِدْعَ إذْ سَجَدُوا لِمَن يَتَلَأْلَأُ مِن وجْهِهِ الأنْوارُ القُدُسِيَّةُ والأشِعَّةُ السُّبُوحِيَّةُ. ؎لَوْ يَسْمَعُونَ كَما سَمِعْتُ حَدِيثَها خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وسُجُودا وقَدْ يُقالُ: إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَأى في وجْنَةِ الكَوْكَبِ ونُقْطَةِ حالِ القَمَرِ وأُسْرَةِ جَبِينِ الشَّمْسِ أماراتِ الحَدَثانِ وصَرَفَ وجْهَهُ عَنْها مُتَوَجِّهًا إلى ساحَةِ القِدَمِ المُنَزَّهَةِ عَنِ التَّغَيُّرِ المَصُونَةِ عَمّا يُوجِبُ النَّقْصَ قائِلًا: ﴿إنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ﴾ أسْجَدَ اللَّهُ تَعالى الشَّمْسَ والقَمَرَ وأسْجَدَ بَدَلَ الكَواكِبِ كَواكِبَ لِبَعْضِ بَنِيهِ إعْظامًا لِأمْرِهِ ومُبالَغَةً في تَنْزِيهِ جَلالِ الكِبْرِياءِ وحَيْثُ تَأخَّرَتِ البَراءَةُ إلى الثّالِثِ تَأخَّرَ أمْرُ الإسْجادِ إلى ثالِثِ البَنِينَ ولَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا إلّا بَيانَ بَعْضٍ مِن أسْرارِ تَخْصِيصِ المَذْكُورِ بِالإراءَةِ مَعَ احْتِمالِ أنْ يَكُونَ هُناكَ ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ رُؤْياهُ ساجِدًا مُعَبِّرًا بِسُجُودِ أبَوَيْهِ وإخْوَتِهِ لَهُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في عالَمِ الحُسْنِ فَتَدَبَّرْ. ﴿قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى بَعْضِ آدابِ المُرِيدِينَ فَقَدْ قالُوا: إنَّهُ لا يَنْبَغِي لَهم أنْ يُفْشُوا سِرَّ المُكاشَفَةِ إلّا لِشُيُوخِهِمْ وألّا يَقَعُوا في ورْطَةٍ ويَكُونُوا مُرْتَهِنِينَ بِعُيُونِ الغَيْرَةِ. بِالسِّرِّ إنْ باحُوا تُباحُ دِماؤُهم وكَذا دِماءُ البائِحِينَ تُباحُ ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ هَذا مِنَ الإلْهاماتِ المُجْمَلَةِ وهي إنْذاراتٌ وبِشاراتٌ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلِمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَلِكَ مِنَ الرُّؤْيا قالَ بَعْضُهم: إنَّ يَعْقُوبَ دَبَّرَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِما السَّلامُ في ذَلِكَ الوَقْتِ خَوْفًا عَلَيْهِ فَوُكِلَ إلى تَدْبِيرِهِ فَوَقَعَ بِهِ ما وقَعَ ولَوْ تَرَكَ التَّدْبِيرَ ورَجَعَ إلى التَّسْلِيمِ لَحُفِظَ ﴿لَقَدْ كانَ في يُوسُفَ وإخْوَتِهِ آياتٌ لِلسّائِلِينَ﴾ وذَلِكَ كَسَواطِعِ نُورِ الحَقِّ مِن وجْهِهِ وظُهُورِ عِلْمِ الغَيْبِ مِن قِبَلِهِ ومَزِيدِ الكَرَمِ مِن أفْعالِهِ وحُسْنِ عُقْبى الصَّبْرِ مِن عاقِبَتِهِ وكَسُوءِ حالِ الحاسِدِ وعَدَمِ نَقْضِ ما أبْرَمَهُ اللَّهُ تَعالى وغَيْرِ ذَلِكَ وقالَ بَعْضُهم: إنَّ مِنَ الآياتِ في يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ حُجَّةٌ عَلى كُلِّ مَن حَسَّنَ اللَّهُ تَعالى خَلْقَهُ أنْ لا يُشَوِّهَهُ بِمَعْصِيَتِهِ ومَن لَمْ يُراعِ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعالى فَعَصى كانَ أشْبَهَ شَيْءٍ بِالكَنِيفِ المُبَيَّضِ والرَّوْثِ المُفَضَّضِ. وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: مِنَ الآياتِ أنْ لا يَسْمَعَ هَذِهِ القِصَّةَ مَحْزُونٌ مُؤْمِنٌ بِها إلّا اسْتَرْوَحَ وتَسَرّى بِهِ ما فِيهِ ﴿وجاءُوا أباهم عِشاءً يَبْكُونَ﴾ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ كانَ بُكاءَ فَرَحٍ بِظَفَرِهِمْ بِمَقْصُودِهِمْ لَكِنَّهم أظْهَرُوا أنَّهُ بُكاءُ حُزْنٍ عَلى فَقْدِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ بُكاءً حَقِيقَةً وإنَّما هو تَباكٍ مِن غَيْرِ عَبْرَةٍ، وجاءَوُا عِشاءً لِيَكُونُوا أجْرَأ في الظُّلْمَةِ عَلى الِاعْتِذارِ أوْ لِيُدَلِّسُوا عَلى أبِيهِمْ ويُوهِمُوهُ أنَّ ذَلِكَ بُكاءٌ حَقِيقَةً لا تَباكٍ فَإنَّهم لَوْ جاءُوا ضُحًى لافْتُضِحُوا. ؎إذا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ في خُدُودٍ ∗∗∗ تَبَيَّنَ مَن بَكى مِمَّنْ تَباكى ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ وهو السُّكُونُ إلى مَوارِدِ القَضاءِ سِرًّا وعَلَنًا وقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: الصَّبْرُ الجَمِيلُ أنْ يَتَلَقّى البَلاءَ بِقَلْبٍ رَحِيبٍ ووَجْهٍ مُسْتَبْشِرٍ وقالَ التِّرْمِذِيُّ: هو أنْ يُلْقِيَ العَبْدُ عِنانَهُ إلى مَوْلاهُ ويُسَلِّمَ إلَيْهِ نَفْسَهُ مَعَ حَقِيقَةِ المَعْرِفَةِ فَإذا جاءَ حُكْمٌ مِن أحْكامِهِ ثَبَتَ لَهُ مُسَلِّمًا ولا يُظْهِرُ لِوُرُودِهِ جَزَعًا ولا يُرى لِذَلِكَ مُغْتَمًّا وأنْشَدَ الشِّبْلِيُّ في حَقِيقَةِ الصَّبْرِ: (p-76) ؎عَبَراتٌ خَطَطْنَ في الخَدِّ سَطْرًا ∗∗∗ فَقَراهُ مَن لَمْ يَكُنْ قَطُّ يَقْرا ؎صابِرُ الصَّبْرِ فاسْتَغاثَ بِهِ الصَّبْرُ ∗∗∗ فَصاحَ المُحِبُّ بِالصَّبْرِ صَبْرا ﴿قالَ يا بُشْرى هَذا غُلامٌ﴾ قالَ جَعْفَرٌ: كانَ لِلَّهِ تَعالى في يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ سِرٌّ فَغَطّى عَلَيْهِمْ مَوْضِعَ سِرِّهِ ولَوْ كَشَفَ لِلسَّيّارَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ما أوْدَعَ في ذَلِكَ البَدْرِ الطّالِعِ مِن بُرْجِ دَلْوِهِمْ لَما اكْتَفى قائِلُهم بِذَلِكَ ولَما اتَّخَذُوهُ بِضاعَةً ولِهَذا لَمّا كُشِفَ لِلنِّسْوَةِ بَعْضُ الأمْرِ قُلْنَ: ﴿ما هَذا بَشَرًا إنْ هَذا إلا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ ولِجَهْلِهِمْ أيْضًا بِما أوْدَعَ فِيهِ مِن خَزائِنِ الغَيْبِ باعُوهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ وهو مَعْنى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ قالَ الجُنَيْدُ قُدِّسَ سِرُّهُ: كُلُّ ما وقَعَ تَحْتَ العَدِّ والإحْصاءِ فَهو بَخْسٌ ولَوْ كانَ جَمِيعَ ما في الكَوْنَيْنِ فَلا يَكُنْ حَظُّكَ البَخْسَ مِن رَبِّكَ فَتَمِيلَ إلَيْهِ وتَرْضى بِهِ دُونَ رَبِّكَ جَلَّ جَلالُهُ وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: لَيْسَ ما باعَ إخْوَةُ يُوسُفَ مِن نَفْسٍ لا يَقَعُ عَلَيْها البَيْعُ بِأعْجَبَ مِن بَيْعِ نَفْسِكَ بِأدْنى شَهْوَةٍ بَعْدَ أنْ بِعْتَها مِن رَبِّكَ بِأوْفَرِ الثَّمَنِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ الآيَةَ فَبَيْعُ ما تَقَدَّمَ بَيْعُهُ باطِلٌ وإنَّما باعَ يُوسُفَ أعْداؤُهُ وأنْتَ تَبِيعُ نَفْسَكَ مِن أعْدائِكَ ﴿وقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِن مِصْرَ لامْرَأتِهِ أكْرِمِي مَثْواهُ﴾ قِيلَ: أيْ لا تَنْظُرِي إلَيْهِ نَظَرَ الشَّهْوَةِ فَإنَّ وجْهَهُ مِرْآةٌ تُجْلِي الحَقَّ في العالَمِ أوْ لا تَنْظُرِي إلَيْهِ بِنَظَرِ العُبُودِيَّةِ ولَكِنِ انْظُرِي إلَيْهِ بِنَظَرِ المَعْرِفَةِ لِتَرَيْ فِيهِ أنْوارَ الرُّبُوبِيَّةِ أوِ اجْعَلِي مَحَبَّتَهُ في قَلْبِكِ لا في نَفْسِكِ فَإنَّ القَلْبَ مَوْضِعُ المَعْرِفَةِ والطّاعَةَ والنَّفْسَ مَوْضِعُ الفِتْنَةِ والشَّهْوَةِ ﴿عَسى أنْ يَنْفَعَنا﴾ قِيلَ: أيْ بِأنْ يُعَرِّفَنا مَنازِلَ الصِّدِّيقِينَ ومَراتِبَ الرَّوْحانِيِّينَ ويُبَلِّغَنا بِبَرَكَةِ صُحْبَتِهِ إلى مُشاهَدَةِ رَبِّ العالَمِينَ وقِيلَ: أرادَ حُسْنى صُحْبَتِهِ في الدُّنْيا لَعَلَّهُ أنْ يَشْفَعَ لَنا في العُقْبى ﴿وراوَدَتْهُ الَّتِي هو في بَيْتِها﴾ حَيْثُ غَلَبَ عَلَيْها العِشْقُ ﴿وغَلَّقَتِ الأبْوابَ﴾ قَطَّعَتِ الأسْبابَ وجَمَعَتِ الهِمَّةَ إلَيْهِ أوْ غَلَّقَتْ أبْوابَ الدّارِ غَيْرَةَ أنْ يَرى أحَدٌ أسْرارَهُما ﴿ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ قالَ ابْنُ عَطاءٍ: هَمَّ شَهْوَةٍ ﴿وهَمَّ بِها﴾ هَمَّ زَجْرٍ عَمّا هَمَّتْ بِهِ بِضَرْبٍ أوْ نَحْوِهِ ﴿لَوْلا أنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ﴾ وهو الواعِظُ الإلَهِيُّ في قَلْبِهِ ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ﴾ والخَواطِرَ الرَّدِيئَةَ ﴿والفَحْشاءَ﴾ الأفْعالَ القَبِيحَةَ وقِيلَ: البُرْهانُ هو أنَّهُ لَمْ يُشاهِدْ في ذَلِكَ الوَقْتِ إلّا الحَقَّ سُبْحانَهُ وتَعالى وقِيلَ: هو مُشاهَدَةُ أبِيهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ عاضًّا عَلى سَبّابَتِهِ وجَعَلَ ذَلِكَ بَعْضُ أجِلَّةِ مَشايِخِنا أحَدَ الأدِلَّةِ عَلى أنَّ لِلرّابِطَةِ المَشْهُورَةِ عِنْدَ ساداتِنا النَّقْشَبَنْدِيَّةِ أصْلًا أصِيلًا وهو عَلى فَرْضِ صِحَّتِهِ بِمَراحِلَ عَنْ ذَلِكَ ﴿واسْتَبَقا البابَ﴾ فِرارًا مِن مَحَلِّ الخَطَرِ: قِيلَ: لَوْ فَرَّ إلى اللَّهِ تَعالى لَكَفاهُ ولَما نالَهُ بَعْدُ ما عَناهُ ﴿وألْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَن أرادَ بِأهْلِكَ سُوءًا﴾ نَفَتْ عَنْ نَفْسِها الذَّنْبَ لِأنَّها عَلِمَتْ إذْ ذاكَ أنَّها لَوْ بَيَّنَتِ الحَقَّ لَقُتِلَتْ وحُرِمَتْ مِن حَلاوَةِ مَحَبَّةِ يُوسُفَ والنَّظَرِ إلى وجْهِهِ. ؎لِحُبِّكَ أحْبَبْتُ البَقاءَ لِمُهْجَتِي ∗∗∗ فَلا طالَ إنْ أعْرَضْتَ عَنِّي بَقائِيا وإنَّما عَرَّضَتْ بِنِسْبَةِ الذَّنْبِ إلَيْهِ لِعِلْمِها بِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَبْقَ في البُؤْسِ ولا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى أنْ يُؤْذِيَهُ لِما أنَّ وجْهَهُ سالِبٌ القُلُوبَ وجالِبٌ الأرْواحَ. ؎لَهُ في طَرْفِهِ لَحَظاتُ سِحْرٍ ∗∗∗ يُمِيتُ بِها ويُحْيِي مَن يُرِيدُ ؎ويَسْبِي العالِمِينَ بِمُقْلَتَيْهِ ∗∗∗ كَأنَّ العالَمِينَ لَهُ عَبِيدُ وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: إنَّها إذْ ذاكَ لَمْ تَسْتَغْرِقْ في مَحَبَّتِهِ بَعْدُ فَلِذا لَمْ تُخْبِرْ بِالصِّدْقِ وآثَرَتْ نَفْسَها عَلَيْهِ ولِهَذا لَمّا اسْتَغْرَقَتْ في المَحَبَّةِ آثَرَتْ نَفْسَهُ عَلى نَفْسِها فَقالَتِ: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ﴾ الآيَةَ ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَسَعْهُ بَعْدَ تُهْمَتِها (p-77)لَهُ إلّا الذَّبُّ عَنْ ساحَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هي أمانَةُ اللَّهِ تَعالى العُظْمى فَقالَ: ﴿هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ وإلّا فاللّائِقُ بِمَقامِ الكَرَمِ السُّكُوتُ عَنْ جَوابِها لِئَلّا يَفْضَحَها وقِيلَ: إنَّها ادَّعَتْ مَحَبَّةَ يُوسُفَ وتَبَرَّأتْ مِنها عِنْدَ نُزُولِ البَلاءِ أرادَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يُلْزِمَها مَلامَةَ المَحَبَّةِ فَإنَّ المَلامَةَ شِعارُ المُحِبِّينَ ومَن لَمْ يَكُنْ مَلُومًا في العِشْقِ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا فِيهِ أنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ عِظَمَ كَيْدِهِنَّ لِأنَّهُنَّ إذا ابْتُلِينَ بِالحُبِّ أظْهَرْنَ مِمّا يَجْلِبُ القَلْبَ ما يَعْجِزُ عَنْهُ إبْلِيسُ مَعَ مُساعَدَةِ الطَّبِيعَةِ إلى المَيْلِ إلَيْهِنَّ وقُوَّةِ المُناسِبَةِ بَيْنَ الرِّجالِ وبَيْنَهُنَّ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ فَما في العالَمِ فِتْنَةٌ أضَرَّ عَلى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ ﴿قَدْ شَغَفَها حُبًّا﴾ قالَ الجُنَيْدُ قُدِّسَ سِرُّهُ: الشَّغَفُ أنْ لا يَرى المُحِبُّ جَفاءً لَهُ جَفاءً بَلْ يَراهُ عَدْلًا مِنهُ ووَفاءً. وتَعْذِيبُكم عَذْبٌ لَدَيَّ وجَوْرُكم عَلَيَّ بِما يَقْضِي الهَوى لَكم عَدْلُ ﴿إنّا لَنَراها في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ قالَ ابْنُ عَطاءٍ: في عِشْقٍ مُزْعِجٍ ﴿فَلَمّا رَأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ﴾ عَظَّمْنَهُ لَمّا رَأيْنَ في وجْهِهِ نُورَ الهَيْبَةِ ﴿وقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ لِاسْتِغْراقِهِنَّ في عَظَمَتِهِ وجَلالِهِ ولَعَلَّهُ كَشَفَ لَهُنَّ ما لَمْ يَكْشِفْ لِزُلَيْخا قالَ ابْنُ عَطاءٍ: دَهِشْنَ في يُوسُفَ وتَحَيَّرْنَ حَتّى قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ ولَمْ يَشْعُرْنَ بِالألَمِ وهَذِهِ غَلَبَةُ مُشاهَدَةِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقٍ فَكَيْفَ بِمَن يَحْظى بِمُشاهَدَةٍ مِنَ الحَقِّ فَيَنْبَغِي أنَّ لا يُنْكَرَ عَلَيْهِ إنْ تَغَيَّرَ وصَدَرَ عَنْهُ ما صَدَرَ وأعْظَمُ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذا البابِ عِنْدَ ذَوِي الأبْصارِ السَّلِيمَةِ النُّورُ المُحَمَّدِيُّ المُنْقَدِحُ مِنَ النُّورِ الإلَهِيِّ والمُتَشَعْشِعُ في مِشْكاةِ خاتَمِ الرُّسُلِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَإنَّهُ لَعَمْرِي أبُو الأنْوارِ وما نُورُ يُوسُفَ بِالنِّسْبَةِ إلى نُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلّا النَّجْمُ وشَمْسُ النَّهارِ. ؎لِواحِي زُلَيْخا لَوْ رَأيْنَ جَبِينَهُ ∗∗∗ لَآثَرْنَ بِالقَطْعِ القُلُوبَ عَلى الأيْدِي وقُلْنَ: ﴿ما هَذا بَشَرًا إنْ هَذا إلا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ قُلْنَ ذَلِكَ إعْظامًا لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن أنْ يَكُونَ مِنَ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: أرَدْنَ ما هَذا بِأهْلٍ أنْ يُدْعى إلى المُباشَرَةِ بَلْ مِثْلُهُ مَن يُكَرَّمُ ويُنَزَّهُ عَنْ مَواضِعِ الشُّبَهِ والأوَّلُ أوْفَقُ بِقَوْلِها: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ أرادَتْ أنْ لَوْ مُكِّنَ لَمْ يَقَعْ في مَحَزِّهِ وكَيْفَ يُلامُ مَن هَذا مَحْبُوبُهُ وكَأنَّها أشارَتْ إلى أنَّها مَجْبُورَةٌ في ذَلِكَ الوَلَهِ مَعْذُورَةٌ في مَزِيدِ حُبِّها لَهُ: ؎خَلِيلَيَّ إنِّي قُلْتُ بِالعَدْلِ مَرَّةً ∗∗∗ ومُنْذُ عَلانِي الحُبُّ مَذْهَبِي الجَبْرُ وفِي ذَلِكَ إشارَةٌ أيْضًا إلى أنَّ اللَّوْمَ لا يَصْدُرُ إلّا عَنْ خَلِيٍّ ولِذا لَمْ تُعاتِبْهُنَّ حَتّى رَأتْ ما صَنَعَ الهَوى بِهِنَّ وما أحْسَنَ ما قِيلَ: ؎وكُنْتُ إذا ما حَدَّثَ النّاسُ بِالهَوى ∗∗∗ ضَحِكْتُ وهم يَبْكُونَ في حَسَراتِ ؎فَصِرْتُ إذا ما قِيلَ هَذا مُتَيَّمٌ ∗∗∗ تَلَقَّيْتُهم بِالنَّوْحِ والعَبَراتِ وقالَ سُلْطانُ العاشِقِينَ: ؎دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وذُقْ طَعْمَ الهَوى ∗∗∗ فَإذا عَشِقْتَ فَبَعْدَ ذَلِكَ عَنِّفِ ﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾ قِيلَ: لِأنَّ السِّجْنَ مَقامُ الأُنْسِ والخَلْوَةِ والمُناجاةِ والمُشاهَداتِ والمُواصَلاتِ وفِيما يَدْعُونَهُ إلَيْهِ ما يُوجِبُ البُعْدَ عَنِ الحَضْرَةِ والحِجابَ عَنْ مُشاهَدَةِ القُرْبَةِ وقِيلَ: طَلَبَ السَّجْنَ لِيَحْتَجِبَ عَنْ زُلَيْخا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِازْدِيادِ عِشْقِها وانْقِلابِهِ رُوحانِيًّا قُدُسِيًّا كَعِشْقِ أبِيهِ لَهُ وقالَ ابْنُ عَطاءٍ: ما أرادَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِطَلَبِ ذَلِكَ إلّا الخَلاصُ مِنَ الزِّنا ولَعَلَّهُ لَوْ تَرَكَ الِاخْتِيارَ لَعُصِمَ مِن غَيْرِ امْتِحانٍ كَما عُصِمَ في (p-78)وقْتِ المُراوَدَةِ ﴿ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وعَلى النّاسِ﴾ قالَ أبُو عَلِيٍّ: أحْسَنُ النّاسِ حالًا مَن رَأى نَفْسَهُ تَحْتَ ظِلِّ الفَضْلِ والمِنَّةِ لا تَحْتَ ظِلِّ العَمَلِ والسَّعْيِ ﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أأرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ دُعاءٌ إلى التَّوْحِيدِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ وحُكِي أنَّ رَجُلًا قالَ لِلْفُضَيْلِ: عِظْنِي فَقَرَأ لَهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿وقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أنَّهُ ناجٍ مِنهُما اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ كانَ ذَلِكَ عَلى ما قِيلَ غَفْلَةً مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمّا يَقْتَضِيهِ مَقامُهُ ويُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُهُ ولِهَذا أدَّبَهُ رَبُّهُ بِاللُّبْثِ في السِّجْنِ لِيَبْلُغَ أقْصى دَرَجاتِ الكَمالِ والأنْبِياءِ مُؤاخَذُونَ بِمَثاقِيلِ الذَّرِّ لِمَكانَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقَدْ يُحْمَلُ كَلامُهُ هَذا عَلى ما لا يُوجِبُ العِتابَ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ ذَوِي الألْبابِ ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ﴾ قالَ أبُو حَفْصٍ: الصِّدِّيقُ مَن لا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ باطِنُ أمْرِهِ مِن ظاهِرِهِ وقِيلَ: الَّذِي لا يُخالِفُ قالَهُ حالَهُ وقِيلَ: الَّذِي يَبْذُلُ الكَوْنَيْنِ في رِضا مَحْبُوبِهِ ﴿وما أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأمّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا ما رَحِمَ رَبِّي﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ النَّفْسَ بِطَبْعِها كَثِيرَةُ المَيْلِ إلى الشَّهَواتِ قالَ أبُو حَفْصٍ: النَّفْسُ ظُلْمَةٌ كُلُّها وسِراجُها التَّوْفِيقُ فَمَن لَمْ يَصْحَبْهُ التَّوْفِيقُ كانَ في ظُلْمَةٍ وقَدْ تَخْفى دَسائِسُ النَّفْسِ إلى حَيْثُ تَتَأمَّرُ بِخَيْرٍ وتُضْمِرُ فِيهِ شَرًّا ولا يَفْطَنُ لِدَسائِسِها إلّا لَوْذَعِيٌّ: فَخالِفِ النَّفْسَ والشَّيْطانَ واعْصِمْها وإنْ هُما مَحَضاكَ النُّصْحَ فاتَّهِمِ وذَكَرَ بَعْضُ السّادَةِ أنَّ النَّفْسَ تَتَرَقّى بِواسِطَةِ المُجاهَدَةِ والرِّياضَةِ مِن مَرْتَبَةِ كَوْنِها أمّارَةً إلى مَرْتَبَةٍ أُخْرى مِن كَوْنِها لَوّامَةً وراضِيَةً مَرْضِيَّةً ومُطَمْئِنَةً وغَيْرَ ذَلِكَ وجَعَلُوا لَها في كُلِّ مَرْتَبَةٍ ذِكْرًا مَخْصُوصًا وأطْنَبُوا في ذَلِكَ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِ ﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ قِيلَ: خَزائِنُ الأرْضِ رِجالُها أيِ اجْعَلْنِي عَلَيْهِمْ أمِينًا فَإنِّيَ حَفِيظٌ لِما يُظْهِرُونَهُ عَلِيمٌ بِما يُضْمِرُونَهُ وقِيلَ: أرادَ الظّاهِرَ إلّا أنَّهُ أشارَ أنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنَ التَّصَرُّفِ مَعَ عَدَمِ الغَفْلَةِ أيْ حَفِيظٌ لِلْأنْفاسِ بِالذِّكْرِ ولِلْخَواطِرِ بِالفِكْرِ عَلِيمٌ بِسِواكِنِ الغُيُوبِ وخَفايا الأسْرارِ ﴿وجاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهم وهم لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ قالَ بَعْضُهم: لَمّا جَفَوْهُ صارَ جَفاؤُهم حِجابًا بَيْنَهم وبَيْنَ مَعْرِفَتِهِمُ إيّاهُ وكَذَلِكَ المَعاصِي تَكُونُ حِجابًا عَلى وجْهِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى ﴿قالَ ائْتُونِي بِأخٍ لَكم مِن أبِيكُمْ﴾ كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَ بِذَلِكَ لِيُكْمِلَ لِأبِيهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مَقامَ الحُزْنِ الَّذِي هو كَما قالَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ: مِن أعْلى المَقاماتِ وقالَ بَعْضُهم: إنَّ عَلاقَةَ المَحَبَّةِ كانَتْ بَيْنَ يُوسُفَ ويَعْقُوبَ عَلَيْهِما السَّلامُ مِنَ الجانِبَيْنِ فَتَعَلَّقَ أحَدُهُما بِالآخَرِ كَتَعَلُّقِ الآخَرِ بِهِ كَما يُرى ذَلِكَ في بَعْضِ العُشّاقِ مَعَ مَن يَعْشَقُونَهُ وأنْشَدُوا: ؎لَمْ يَكُنِ المَجْنُونُ في حالَةٍ ∗∗∗ إلّا وقَدْ كُنْتَ كَما كانا ؎لَكِنَّهُ باحَ بِسِرِّ الهَوى ∗∗∗ وإنَّنِي قَدْ ذُبْتُ كِتْمانا فَغارَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَنْظُرَ أبُوهُ إلى أخِيهِ نَظَرَهُ إلَيْهِ فَيَكُونا شِرْكَيْنِ في ذَلِكَ والمُحِبُّ غَيُورٌ فَطَلَبَ أنْ يَأْتُوهُ بِهِ لِذَلِكَ والحَقُّ أنَّ الأمْرَ كانَ عَنْ وحْيٍ لِحِكْمَةٍ غَيْرِ هَذِهِ ﴿وإنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ﴾ إشارَةٌ إلى العِلْمِ اللَّدُنِّي وهو عَلى نَوْعَيْنِ ظاهِرُ الغَيْبِ وهو عِلْمُ دَقائِقِ المُعامَلاتِ والمَقاماتِ والحالاتِ والكَراماتِ والفِراساتِ وباطِنُ الغَيْبِ وهو عِلْمُ بُطُونِ الأفْعالِ ويُسَمّى حِكْمَةَ المَعْرِفَةِ وعَلَمُ الصِّفاتِ ويُسَمّى المَعْرِفَةَ الخاصَّةَ وعِلْمُ الذّاتِ ويُسَمّى التَّوْحِيدَ والتَّفْرِيدَ والتَّجْرِيدَ وعِلْمُ أسْرارِ القِدَمِ ويُسَمّى عِلْمَ الفَناءِ والبَقاءِ وفي الأوَّلَيْنِ لِلرُّوحِ مَجالٌ وفي الثّالِثِ لِلسِّرِّ والرّابِعِ لِسِرِّ السِّرِّ وفي المَقامِ تَفْصِيلٌ وبَسْطٌ يُطْلَبُ مِن مَحَلِّهِ ﴿ولَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أخاهُ﴾ كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما فَعَلَ ذَلِكَ لِيُعَرِّفَهُ الحالَ بِالتَّدْرِيجِ حَتّى يَتَحَمَّلَ أثْقالَ السُّرُورِ إذِ المُفاجَأةُ في مِثْلِ ذَلِكَ رُبَّما (p-79)تَكُونُ سَبَبَ الهَلاكِ ومِن هُنا كانَ كَشْفَ سُجُفِ الجَمالِ لِلسّالِكِينَ عَلى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ ﴿فَلَمّا جَهَّزَهم بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ﴾ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَكُونَ شَرِيكًا لِإخْوَتِهِ في الإيذاءِ بِحَسَبِ الظّاهِرِ فَلا يَخْجَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ إذا كُشِفَ الأمْرُ وحَيْثُ طُلِبَ قَلْبُ بِنْيامِينَ لِعَيْنٍ بِرُؤْيَةِ يُوسُفَ احْتَمَلَ المَلامَةَ وكَيْفَ لا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ وبَلاءُ العالِمِ مَحْمُولٌ بِلَمْحَةِ رُؤْيَةِ المَعْشُوقِ والعاشِقِ الصّادِقِ يُؤْثِرُ المَلامَةَ مِمَّنْ كانَتْ في هَوى مَحْبُوبِهِ. ؎أجِدُ المَلامَةَ في هَواكَ لَذِيذَةً ∗∗∗ حُبًّا لِذِكْرِكَ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ وفِي الآيَةِ عَلى ما قِيلَ إشارَةٌ لَطِيفَةٌ إلى أنَّ مَنِ اصْطَفاهُ اللَّهُ تَعالى في الأزَلِ لِمَحَبَّتِهِ ومُشاهَدَتِهِ وضَعَ في رَحْلِهِ صاعَ مَلامَةِ الثَّقَلَيْنِ ألا تَرى إلى ما فَعَلَ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ صَفِيِّهِ كَيْفَ اصْطَفاهُ ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ الأمانَةَ الَّتِي لَمْ يَحْمِلْها السَّماواتُ والأرْضُ والجِبالُ وأشْفَقْنَ مِنها فَحَمَلَها ثُمَّ هَيَّجَ شَهْوَتَهُ إلى حَبَّةِ حِنْطَةٍ ثُمَّ نادى عَلَيْهِ بِلِسانِ الأزَلِ ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ وذَلِكَ لِغايَةِ حُبِّهِ لَهُ حَتّى صَرَفَهُ عَنِ الكَوْنِ وما فِيهِ ومِن فِيهِ إلَيْهِ ولَوْلا أنْ كَشَفَ جَمالَهُ لَهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ بَلاءَ المَلامَةِ وهَذا كَما فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأخِيهِ آواهُ إلَيْهِ وكَشَفَ جَمالَهُ لَهُ وخاطَبَهُ بِما خاطَبَهُ ثُمَّ جَعَلَ السِّقايَةَ في رَحْلِهِ ثُمَّ نادى عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ لِيُبْقِيَهُ مَعَهُ ﴿نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ أيْ نَرْفَعُ دَرَجاتِهِمْ في العِلْمِ فَلا يَزالُ السّالِكُونَ يَتَرَقَّوْنَ في العِلْمِ وتَشْرَبُ أطْيارُ أرْواحِهِمُ القُدُسِيَّةِ مِن بِحارِ عُلُومِهِ تَعالى عَلى مَقادِيرِ حَواصِلِها وتَنْتَهِي الدَّرَجاتُ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعالى فَإنَّ عُلُومَ الخَلْقِ مَحْدُودَةٌ وعِلْمَهُ تَعالى غَيْرُ مَحْدُودٍ وإلى اللَّهِ تَعالى تَصِيرُ الأُمُورُ ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ قالَ بَعْضُ السّاداتِ: لَمّا كانَ بِنْيامِينُ بَرِيئًا مِمّا رُمِيَ بِهِ مِنَ السَّرِقَةِ أنْطَقَهُمُ اللَّهُ تَعالى حَتّى رَمَوْا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالسَّرِقَةِ وهو بَرِيءٌ مِنها فَكانَ ذَلِكَ مِن قَبِيلِ واحِدَةٍ بِواحِدَةٍ لِيَعْلَمَ العالِمُونَ أنَّ الجَزاءَ واجِبٌ. وقالَ بَعْضُ العارِفِينَ: إنَّهم صَدَقُوا بِنِسْبَةِ السَّرِقَةِ إلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَكِنَّها سَرِقَةُ ألْبابِ العاشِقِينَ وأفْئِدَةِ المُحِبِّينَ بِما أوْدَعَ فِيهِ مِن مَحاسِنِ الأزَلِ ﴿قالَ مَعاذَ اللَّهِ أنْ نَأْخُذَ إلا مَن وجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ﴾ الإشارَةُ في ذَلِكَ مِنَ الحَقِّ عَزَّ وجَلَّ أنْ لا نُفْشِيَ أسْرارَنا ونُدْنِيَ إلى حَضْرَتِنا إلّا مَن كانَ في قَلْبِهِ اسْتِعْدادُ قَبُولِ مَعْرِفَتِنا أوْ لا نَخْتارُ لِكَشْفِ جَمالِنا إلّا مَن كانَ في قَلْبِهِ شَوْقٌ إلى وِصالِنا وقالَ بَعْضُ الخُراسانِيِّينَ: الإشارَةُ فِيهِ أنّا لا نَأْخُذُ مِن عِبادِنا أشَدَّ أخْذٍ إلّا مَنِ ادَّعى فِينا أوْ أخْبَرَ عَنّا ما لَمْ يَكُنْ لَهُ الإخْبارُ عَنْهُ والِادِّعاءُ فِيهِ وقالَ بَعْضُهم: إلّا مَن مَدَّ يَدَهُ إلى مالِنا وادَّعاهُ لِنَفْسِهِ وقالَ أبُو عُثْمانَ: الإشارَةُ أنّا لا نَتَّخِذُ مِن عِبادِنا ولِيًّا إلّا مَنِ ائْتَمَنّاهُ عَلى ودائِعِنا فَحَفِظَها ولَمْ يَخُنْ فِيها ولَطِيفَةُ الواقِعَةِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَرْضَ أنْ يَأْخُذَ بَدَلَ حَبِيبِهِ أذْ لَيْسَ لِلْحَبِيبِ بَدِيلٌ في شَرْعِ المَحَبَّةِ. ؎أبى القَلْبُ إلّا أُحِبُّ لَيْلى فَبُغِّضَتْ ∗∗∗ إلَيَّ نِساءٌ ما لَهُنَّ ذُنُوبُ ﴿إنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ قالَ بَعْضُهم: إنَّهم صَدَقُوا بِذَلِكَ لَكِنَّهُ سَرَقَ أسْرارَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ سَمِعَ مِنهُ في الخَلْوَةِ ما سَمِعَ ولَمْ يُبْدِهِ لَهم ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَأى اشْتِدادَ البَلاءِ قَوِيَ رَجاؤُهُ بِالفَرَجِ فَقالَ ما قالَ. ؎اشْتَدِّي أزْمَةُ تَنْفَرِجِي ∗∗∗ قَدْ آذَنَ لَيْلُكِ بِالبَلَجِ وكَأنَّ لِسانَ حالِهِ يَقُولُ:(p-80) ؎دَنا وِصالُ الحَبِيبِ واقْتَرَبا ∗∗∗ وأطْرَبا لِلْوِصالِ وأطْرَبا ﴿وقالَ يا أسَفى عَلى يُوسُفَ﴾ قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: إنَّ تَأسُّفَهُ عَلى رُؤْيَةِ جَمالِ اللَّهِ تَعالى مِن مِرْآةِ وجْهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وقَدْ تَمَتَّعَ بِذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمانِ حَتّى حالَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ طَوارِقُ الحَدَثانِ فَتَأسَّفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِذَلِكَ واشْتاقَتْ نَفْسُهُ لِما هُنالِكَ. ؎سَقى اللَّهُ أيّامًا لَنا ولَيالِيا ∗∗∗ مَضَتْ فَجَرَتْ مِن ذِكْرِهِنَّ دُمُوعُ ؎فَيا هَلْ لَها يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ أوْبَةٌ ∗∗∗ وهَلْ لِي إلى أرْضِ الحَبِيبِ رُجُوعُ ﴿وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الحُزْنِ﴾ حَيْثُ بَكى حَتّى أضَرَّ بِعَيْنَيْهِ وكانَ ذَلِكَ حَتّى لا يَرى غَيْرَ حَبِيبِهِ. ؎لَمّا تَيَقَّنْتُ أنِّي لَسْتُ أُبْصِرُكم ∗∗∗ غَمَّضْتُ عَيْنَيَّ فَلَمْ أنْظُرْ إلى أحَدِ قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: الحِكْمَةُ في ذَهابِ بَصَرِ يَعْقُوبَ وبَقاءِ بَصَرِ آدَمَ وداوُدَ عَلَيْهِما السَّلامُ مَعَ أنَّهُما بَكَيا دَهْرًا طَوِيلًا إنَّ بُكاءَ يَعْقُوبَ كانَ بُكاءَ حُزْنٍ مَعْجُونٍ بِألَمِ الفِراقِ حَيْثُ فَقَدْ تَجَلّى جَمالُ الحَقِّ مِن مِرْآةِ وجْهِ يُوسُفَ ولا كَذَلِكَ بُكاءُ آدَمَ وداوُدَ فَإنَّهُ كانَ بُكاءَ النَّدَمِ والتَّوْبَةِ وأيْنَ ذَلِكَ المَقامُ مِن مَقامِ العِشْقِ وقالَ أبُو سَعِيدٍ القُرَشِيُّ: إنَّما لَمْ يَذْهَبْ بَصَرُهُما لِأنَّ بُكاءَهُما كانَ مِن خَوْفِ اللَّهِ تَعالى فَحُفِظا وبُكاءُ يَعْقُوبَ كانَ لِفَقْدِ لَذَّةٍ فَعُوتِبَ وقِيلَ: يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ذَهابُ بَصَرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن غَيْرَةِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ حِينَ بَكى لِغَيْرِهِ وإنْ كانَ واسِطَةً بَيْنَهُ وبَيْنَهُ ولِهَذا جاءَ أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْحى إلَيْهِ يا يَعْقُوبُ أتَتَأسَّفُ عَلى غَيْرِي وعِزَّتِي لَآخُذَنَّ عَيْنَيْكَ ولا أرُدُّهُما عَلَيْكَ حَتّى تَنْساهُ واخْتارَ بَعْضُ العارِفِينَ أنَّ ذَلِكَ الأسَفَ والبُكاءَ لَيْسا إلّا لِفَواتِ ما انْكَشَفَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن تَجَلِّي اللَّهِ تَعالى في مِرْآةِ وجْهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَعَمْرِي إنَّهُ لَوْ كانَ شاهِدُ تَجَلِّيهِ تَعالى في أوَّلِ التَّعَيُّناتِ وعَيْنِ أعْيانِ المَوْجُوداتِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَنَسِيَ ما رَأى ولَما عَراهُ ما عَرا ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ سَيِّدِي ابْنِ الفارِضِ حَيْثُ يَقُولُ: ؎لَوْ أسْمَعُوا يَعْقُوبَ بَعْضَ مَلاحَةٍ ∗∗∗ في وجْهِهِ نَسِيَ الجَمالَ اليُوسُفِيَّ ﴿قالُوا تاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضًا أوْ تَكُونَ مِنَ الهالِكِينَ﴾ هَذا مِنَ الجَهْلِ بِأحْوالِ العِشْقِ وما عَلَيْهِ العاشِقُونَ فَإنَّ العاشِقَ يَتَغَذّى بِذِكْرِ مَعْشُوقِهِ. ؎فَإنْ تَمْنَعُوا لَيْلى وحُسْنَ حَدِيثِها ∗∗∗ فَلَنْ تَمْنَعُوا مِنِّي البُكا والقَوافِيا وإذا لَمْ يَسْتَطِعْ ذِكْرَهُ بِلِسانِهِ كانَ مُسْتَغْرِقًا بِذِكْرِهِ إيّاهُ بِجَنانِهِ. ؎غابَ وفي قَلْبِي لَهُ شاهِدٌ ∗∗∗ يَوْلَعُ إضْمارِي بِذِكْراهُ ؎مَثَّلَتِ الفِكْرَةُ لِي شَخْصَهُ ∗∗∗ حَتّى كَأنِّي أتَراءاهُ وكَيْفَ يُخَوَّفُ العاشِقُ بِالهَلاكِ في عِشْقِ مَحْبُوبِهِ وهَلاكِهِ عَيْنَ حَياتِهِ كَما قِيلَ: ؎ولَكِنْ لَدى المَوْتِ فِيهِ صَبابَةً ∗∗∗ حَياةٌ لِمَن أهْوى عَلَيَّ بِها الفَضْلُ ؎ومَن لَمْ يَمُتْ في حُبِّهِ لَمْ يَعِشْ بِهِ ∗∗∗ ودُونَ اجْتِناءِ النَّحْلِ ما جَنَتِ النَّحْلُ ﴿قالَ إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ وأعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ أيْ أنا لا أشْكُو إلى غَيْرِهِ فَإنِّي أعْلَمُ غَيْرَتَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى أحْبابِهِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ وأيْضًا مَنِ انْقَطَعَ إلَيْهِ تَعالى كَفاهُ ومَن أناخَ بِبابِهِ أعْطاهُ وأنْشَدَ ذُو النُّونِ:(p-81) ؎إذا ارْتَحَلَ الكِرامُ إلَيْكَ يَوْمًا ∗∗∗ لِيَلْتَمِسُوكَ حالًا بَعْدَ حالِ ؎فَإنَّ رِحالَنا حَطَّتْ رِضاءً ∗∗∗ بِحُكْمِكَ عَنْ حُلُولٍ وارْتِحالِ ؎فَسُسْنا كَيْفَ شِئْتَ ولا تَكِلْنا ∗∗∗ إلى تَدْبِيرِنا يا ذا المَعالِي وعَلى هَذا دَرَجَ العاشِقُونَ إذا اشْتَدَّ بِهِمُ الحالُ فَزِعُوا إلى المَلِكِ المُتَعالِ ومِن ذَلِكَ: ؎إلى اللَّهِ أشْكُو ما لَقِيتُ مِنَ الهَجْرِ ∗∗∗ ومِن كَثْرَةِ البَلْوى ومِن ألَمِ الصَّبْرِ ؎ومِن حَرْقٍ بَيْنَ الجَوانِحِ والحَشا ∗∗∗ كَجَمْرِ الغَضا بَلْ أحَرُّ مِنَ الجَمْرِ وقَدْ يُقالُ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما رَفَعَ قِصَّةَ شَكْواهُ إلى عالِمِ سِرِّهِ ونَجْواهُ اسْتِرْواحًا مِمّا يَجِدُهُ بِتِلْكَ المُناجاةِ كَما قِيلَ: ؎إذا ما تَمَنّى النّاسُ رَوْحًا وراحَةً ∗∗∗ تَمَنَّيْتُ أنْ أشْكُوَ إلَيْهِ فَيَسْمَعُ ﴿يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وأخِيهِ﴾ كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَنَسَّمَ نَسائِمَ الفَرَجِ بَعْدَ أنْ رَفَعَ الأمْرُ إلى مَوْلاهُ عَزَّ وجَلَّ فَقالَ ذَلِكَ: ﴿ولا تَيْأسُوا مِن رَوْحِ اللَّهِ﴾ مِن رَحْمَتِهِ بِإرْجاعِهِما إلَيَّ أوْ مِن رَحْمَتِهِ تَعالى بِتَوْفِيقِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِرَفْعِ خَجالَتِكم إذا وجَدْتُمُوهُ ﴿قالُوا يا أيُّها العَزِيزُ مَسَّنا وأهْلَنا الضُّرُّ﴾ أرادُوا ضُرَّ المَجاعَةِ ولَوْ أنَّهم عَلِمُوا وأنْصَفُوا لَقَصَدُوا ضُرَّ فِراقِكَ فَإنَّهُ قَدْ أضَرَّ بِأبِيهِمْ وبِهِمْ وبِأهْلِهِمْ لَوْ يَعْلَمُونَ. ؎كَفى حُزْنًا بِالوالِهِ الصَّبِّ أنْ يَرى ∗∗∗ مَنازِلَ مَن يَهْوى مُعَطَّلَةً قَفْرا واعْلَمْ أنَّ فِيما قالَهُ إخْوَةُ يُوسُفَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن هُنا إلى المُتَصَدِّقِينَ تَعْلِيمَ آدابِ الدُّعاءِ والرُّجُوعَ إلى الأكابِرِ ومُخاطَبَةَ السّاداتِ فَمَن لَمْ يَرْجِعْ إلى بابِ سَيِّدِهِ بِالذِّلَّةِ والِافْتِقارِ وتَذْلِيلِ النَّفْسِ وتَصْغِيرِ ما يَبْدُو مِنها ويَرَ أنَّ ما مِن سَيِّدِهِ إلَيْهِ عَلى طَرِيقِ الصُّدْفَةِ والفَضْلِ لا عَلى طَرِيقِ الِاسْتِحْقاقِ كانَ مُبْعَدًا مَطْرُودًا ويَنْبَغِي لِعُشّاقِ جَمالِ القِدَمِ إذا دَخَلُوا الحَضْرَةَ أنْ يَقُولُوا: يا أيُّها العَزِيزُ مَسَّنا وأهْلَنا مِن ضُرِّ فِراقِكَ والبُعْدِ عَنْ ساحَةِ وِصالِكَ ما لا يَحْتَمِلُهُ الصُّمُّ الصِّلابُ. ؎خَلِيلَيَّ ما ألْقاهُ في الحُبِّ إنْ يَدُمْ ∗∗∗ عَلى صَخْرَةٍ صَمّاءَ يَنْفَلِقِ الصَّخْرُ ويَقُولُوا: ( جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) مِن أعْمالٍ مَعْلُولَةٍ وأفْعالٍ مَغْشُوشَةٍ ومَعْرِفَةٍ قَلِيلَةٍ لَمْ تُحِطْ بِذَرَّةٍ مِن أنْوارِ عَظَمَتِكَ وكُلُّ ذَلِكَ لا يَلِيقُ بِكَمالِ عِزَّتِكَ وجَلالِ صَمَدِيَّتِكَ ﴿فَأوْفِ لَنا﴾ كَيْلَ قُرْبِكَ مِن بَيادِرِ جُودِكَ وفَضْلِكَ وتَصَدَّقْ عَلَيْنا بِنِعَمِ مُشاهَدَتِكَ فَإنَّهُ إذا عُومِلَ المَخْلُوقُ بِما عُومِلَ فَمُعامَلَةُ الخالِقِ بِذَلِكَ أوْلى ﴿قالُوا أإنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ﴾ خاطَبُوهُ بَعْدَ المَعْرِفَةِ بِخِطابِ المَوَدَّةِ لا بِخِطابِ التَّكَلُّفِ وفِيهِ مِن حُسْنِ الظَّنِّ فِيهِ عَلَيْهِ السَّلامُ ما فِيهِ. ؎إذا صَفَتِ المَوَدَّةُ بَيْنَ قَوْمٍ ∗∗∗ ودامَ ولاؤُهم سَمِجَ الثَّناءُ ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهم لَمّا عَرَفُوهُ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الهَيْبَةُ وهاجَتِ الحَمِيَّةُ فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ عَلى النَّمَطِ الأوَّلِ وقَوْلُهُ: ﴿قالَ أنا يُوسُفُ وهَذا أخِي﴾ جَوابٌ لَهم لَكِنَّ زِيادَةً ﴿وهَذا أخِي﴾ قِيلَ: لِتَهْوِينِ حالِ بَدِيهَةِ الخَجَلِ وقِيلَ: لِلْإشارَةِ إلى أنَّ أُخُوَّتَهم لا تُعَدُّ أُخُوَّةً لِأنَّ الأُخُوَّةَ الصَّحِيحَةَ ما لَمْ يَكُنْ فِيها جَفاءٌ ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَأى (p-82)اعْتِرافَهم واعْتِذارَهم قالَ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكم وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ وهَذا مِن شَرائِطِ الكَرَمِ فالكَرِيمُ إذا قَدَرَ عَفا. ؎والعُذْرُ عِنْدَ كِرامِ النّاسِ مَقْبُولُ وقالَ شاهٌ الكَرْمانِيُّ: مَن نَظَرَ إلى الخَلْقِ بِعَيْنِ الحَقِّ لَمْ يَعْبَأْ بِمُخالَفَتِهِمْ ومَن نَظَرَ إلَيْهِمْ بِعَيْنِهِ أفْنى أيّامَهُ بِمُخاصَمَتِهِمْ ألا تَرى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا عَلِمَ مَجارِيَ القَضاءِ كَيْفَ عَذَرَ إخْوَتَهُ ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَألْقُوهُ عَلى وجْهِ أبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ لَمّا عَلِمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ أباهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يَحْتَمِلُ الوِصالَ الكُلِّيَّ بِالبَدِيهَةِ جَعَلَ وِصالَهُ بِالتَّدْرِيجِ فَأرْسَلَ إلَيْهِ بِقَمِيصِهِ ولَمّا كانَ مَبْدَأُ الهَمِّ الَّذِي أصابَهُ مِنَ القَمِيصِ الَّذِي جاءُوا عَلَيْهِ بِدَمٍ كَذِبٍ عَيَّنَ هَذا القَمِيصُ مَبْدَأً لِلسُّرُورِ دُونَ غَيْرِهِ مِن آثارِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيُدْخِلَ عَلَيْهِ السُّرُورَ مِنَ الجِهَةِ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهِ الهَمُّ مِنها ﴿وأْتُونِي بِأهْلِكم أجْمَعِينَ﴾ كانَ كَرَمُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقْتَضِي أنْ يَسِيرَ بِنَفْسِهِ إلى أبِيهِ ولَعَلَّهُ إنَّما لَمْ يَفْعَلْ لِعِلْمِهِ أنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلى أبِيهِ لِكَثْرَةِ مَن يَسِيرُ مَعَهُ ولا يُمْكِنُ أنْ يَسِيرَ إلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ أوْ لِأنَّ في ذَلِكَ تَعَطُّلَ أمْرِ العامَّةِ ولَيْسَ هُناكَ مَن يَقُومُ بِهِ غَيْرُهُ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أُوحِيَ إلَيْهِ بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ أُخْرى وقِيلَ: إنَّ المَعْشُوقِيَّةَ اقْتَضَتْ ذَلِكَ ومَن رَأى مَعْشُوقًا رَحِيمًا بِعاشِقِهِ وفِيهِ ما لا يَخْفى ﴿ولَمّا فَصَلَتِ العِيرُ قالَ أبُوهم إنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ يُقالُ: إنَّ رِيحَ الصَّبا سَألَتِ اللَّهَ تَعالى فَقالَتْ: يا رَبِّ خُصَّنِي أنْ أُبَشِّرَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِابْنِهِ فَأذِنَ لَها بِذَلِكَ فَحَمَلَتْ نَشْرَهُ إلى مَشامِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وكانَ ساجِدًا فَرَفَعَ رَأسَهُ وقالَ ذَلِكَ وكَأنَّ لِسانُ حالِهِ يَقُولُ: ؎أيا جَبَلَيْ نُعْمانَ بِاللَّهِ خَلِّيا ∗∗∗ نَسِيمَ الصَّبا يَخْلُصْ إلى نَسِيمِها ؎أجِدْ بَرْدَها أوْ تَشِفَّ مِنِّي حَرارَةٌ ∗∗∗ عَلى كَبِدٍ لَمْ يَبْقَ إلّا صَمِيمُها ؎فَإنَّ الصَّبا رِيحٌ إذا ما تَنَسَّمَتْ ∗∗∗ عَلى نَفْسِ مَهْمُومٍ تَجَلَّتْ هُمُومُها وهَكَذا عُشّاقُ الحَضْرَةِ لا يَزالُونَ يَتَعَرَّضُونَ لِنَفَحاتِ رِيحِ وِصالِ الأزَلِ وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إنَّ لِرَبِّكم في أيّامِ دَهْرِكم نَفَحاتٍ ألا فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحاتِ الرَّحْمَنِ» ويُقالُ: المُؤْمِنُ المُتَحَقِّقُ يَجِدُ نَسِيمَ الإيمانِ في قَلْبِهِ ورُوحَ المَعْرِفَةِ السّابِقَةِ لَهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى في سِرِّهِ وإنَّما وجَدَ عَلَيْهِ السَّلامُ هَذا الرِّيحَ حَيْثُ بَلَغَ الكِتابُ أجَلَهُ ودَنَتْ أيّامُ الوِصالِ وحانَ تَصَرَّمُ أيّامِ الهَجْرِ والبِلْبالِ وإلّا فَلِمَ لَمْ يَجِدْهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا كانَ يُوسُفُ في الجُبِّ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ إلّا سُوَيْعَةٌ مِن نَهارٍ وما ذَلِكَ إلّا لِأنَّ الأُمُورَ مَرْهُونَةٌ بِأوْقاتِها وعَلى هَذا كُشُوفاتُ الأوْلِياءِ فَإنَّهم آوِنَةٌ يُكْشَفُ لَهم عَلى ما قِيلَ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ وأُخْرى لا يَعْرِفُونَ ما تَحْتَ أقْدامِهِمْ ﴿فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ ألْقاهُ عَلى وجْهِهِ فارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ العاشِقَ الهائِمَ المُنْتَظَرَ لِقاءَ الحَقِّ سُبْحانَهُ إذا ذَهَبَتْ عَيْناهُ مِن طُولِ البُكاءِ يَجِيءُ إلَيْهِ بَشِيرُ تَجَلِّيهِ فَيُلْقِي عَلَيْهِ قَمِيصَ أُنْسِهِ في حَضَراتِ قَدُسِهِ فَيَرْتَدُّ بَصِيرًا بِشَمِّ ذَلِكَ فَهُنالِكَ يَرى الحَقَّ بِالحَقِّ ويَنْجَلِي الغَيْنُ عَنِ العَيْنِ ويُقالُ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما ارْتَدَّ بَصِيرًا حِينَ وضَعَ القَمِيصَ عَلى وجْهِهِ لِأنَّهُ وجَدَ لَذَّةَ نَفْحَةِ الحَقِّ تَعالى مِنهُ حَيْثُ كانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَحَلَّ تَجَلِّيهِ جَلَّ جَلالُهُ وكانَ القَمِيصُ مُعَبَّقًا بِرِيحِ جِنانِ قُدُسِهِ فَعادَ لِذَلِكَ نُورُ بَصَرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى مَجارِيهِ فَأبْصَرُ ﴿قالَ سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ وعَدَهم إلى أنْ يَتَعَرَّفَ مِنهم صِدْقَ التَّوْبَةِ أوْ حَتّى يَسْتَأْذِنَ رَبَّهُ تَعالى في الِاسْتِغْفارِ لَهم فَيَأْذَنَ سُبْحانَهُ لِئَلّا يَكُونَ مَرْدُودًا فِيهِ كَما رُدَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ في ولَدِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ وقالَ بَعْضُهم: وعَدَهُمُ الِاسْتِغْفارَ لِأنَّهُ لَمْ يَفْرَغْ بَعْدُ مِنَ اسْتِبْشارِهِ إلى اسْتِغْفارِهِ وقِيلَ: إنَّما أسْرَعَ يُوسُفُ بِالِاسْتِغْفارِ لَهم ووَعَدَ (p-83)يَعْقُوبُ عَلَيْهِما السَّلامُ لِأنَّ يَعْقُوبَ كانَ أشَدَّ حُبًّا لَهم فَعاتَبَهم بِالتَّأْخِيرِ ويُوسُفَ لَمْ يَرَهم أهْلًا لِلْعِتابِ فَتَجاوَزَ عَنْهم مِن أوَّلِ وهْلَةٍ أوِ اكْتَفى بِما أصابَهم مِنَ الخَجَلِ وكانَ خَجَلُهم مِنهُ أقْوى مِن خَجَلِهِمْ مِن أبِيهِمْ وفي المَثَلِ كَفى لِلْمُقَصِّرِ حَياءً يَوْمَ اللِّقاءِ ﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ﴾ لِأنَّهُما ذاقا طَعْمَ مَرارَةِ الفِراقِ فَخَصَّهُما مِن بَيْنِهِمْ بِمَزِيدِ الدُّنُوِّ يَوْمَ التَّلاقِي ومِن هُنا يَتَبَيَّنُ أيْنَ مَنازِلُ العاشِقِينَ يَوْمَ الوِصالِ ﴿وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ حَيْثُ بانَ لَهم أنْواعُ جَلالِ اللَّهِ تَعالى في مِرْآةِ وجْهِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وعايَنُوا ما عايَنَتِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ وقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ وما هو إذْ ذاكَ إلّا كَعْبَةُ اللَّهِ تَعالى الَّتِي فِيها آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِنَ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ أنْتَ ولِيِّي في الدُّنْيا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ مُفَوِّضًا إلَيْكَ شَأْنِيَ كُلَّهُ بِحَيْثُ لا يَكُونُ لِي رُجُوعٌ إلى نَفْسِي ولا إلى سَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ ﴿وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ بِمَن أصْلَحْتَهم لِحَضْرَتِكَ وأسْقَطْتَ عَنْهم سِماتِ الخَلْقِ وأزَلْتَ عَنْهم رَعُوناتِ الطَّبْعِ ولا يَخْفى ما في تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ الثَّناءَ عَلى الدُّعاءِ مِنَ الأدَبِ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ المَقامُ ﴿وما يُؤْمِنُ أكْثَرُهم بِاللَّهِ إلا وهم مُشْرِكُونَ﴾ قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: مَنِ التَفَتَ إلى غَيْرِ اللَّهِ تَعالى فَهو مُشْرِكٌ وقالَ قائِلُهم: ؎ولَوْ خَطَرَتْ لِي في سِواكَ إرادَةٌ ∗∗∗ عَلى خاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ﴾ بَيانٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى وعِلْمٌ لا مُعارَضَةَ لِلنَّفْسِ والشَّيْطانِ فِيهِ ﴿أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ وذَكَرَ بَعْضُ العارِفِينَ أنَّ البَصِيرَةَ أعْلى مِنَ النُّورِ لِأنَّها لا تَصِحُّ لِأحَدٍ وهو رَقِيقُ المَيْلِ إلى السُّوى وفي الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ يَنْبَغِي لِلدّاعِي إلى اللَّهِ تَعالى أنْ يَكُونَ عارِفًا بِطَرِيقِ الإيصالِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ عالِمًا بِما يَجِبُ لَهُ تَعالى وما يَجُوزُ وما يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ والدُّعاةُ إلى اللَّهِ تَعالى اليَوْمَ مِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ نَصَّبُوا أنْفُسَهم إلى الإرْشادِ بِزَعْمِهِمْ أجْهَلَ مِن حِمارِ الحَكِيمِ تُوما وهم لَعَمْرِي في ضَلالَةٍ مُدْلَهِمَّةٍ ومَهامِهَ يَحارُ فِيها الخِرِّيتُ وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا ولَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ﴿لَقَدْ كانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبابِ﴾ وهم ذَوُو الأحْوالِ مِنَ العارِفِينَ والعاشِقِينَ والصّابِرِينَ والصّادِقِينَ وغَيْرِهِمْ وفِيها أيْضًا عِبْرَةٌ لِلْمُلُوكِ في بَسْطِ العَدْلِ كَما فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ ولِأهْلِ التَّقْوى في تَرْكِ ما تُراوِدُهُمُ النَّفْسُ الشَّهْوانِيَّةُ عَلَيْهِ ولِلْمَمالِيكِ في حِفْظِ حَرَمِ السّادَةِ ولا أحَدَ أغَيَرُ مِنَ اللَّهِ تَعالى ولِذَلِكَ حَرَّمَ الفَواحِشَ ولِلْقادِرِينَ في العَفْوِ عَمَّنْ أساءَ إلَيْهِمْ ولِغَيْرِهِمْ في غَيْرِ ذَلِكَ ولَكِنْ أيْنَ المُعْتَبِرُونَ أشْباحٌ ولا أرْواحَ ودِيارٌ ولا دِيارَ فَإنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ هَذا. وقَدْ أوَّلَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم يُوسُفَ بِالقَلْبِ المُسْتَعِدِّ الَّذِي هو في غايَةِ الحُسْنِ ويَعْقُوبَ بِالعَقْلِ والإخْوَةَ بَنِيَ العِلّاتِ بِالحَواسِّ الخَمْسِ الظّاهِرَةِ والخَمْسِ الباطِنَةِ والقُوَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ وبِنْيامِينَ بِالقُوَّةِ العاقِلَةِ العَمَلِيَّةِ وراحِيلَ أُمَّ يُوسُفَ اللَّوّامَةَ ولِيا بِالنَّفْسِ الأمّارَةِ والجُبَّ بِعَقْرِ الطَّبِيعَةِ البَدَنِيَّةِ والقَمِيصَ الَّذِي ألْبَسَهُ يُوسُفَ في الجُبِّ بِصِفَةِ الِاسْتِعْدادِ الأصْلِيِّ والنُّورَ الفِطْرِيَّ والذِّئْبَ بِالقُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ والدَّمَ الكَذِبَ بِأثَرِها وابْيِضاضَ عَيْنِ يَعْقُوبَ بِكَلالِ البَصِيرَةِ وفِقْدانَ نُورِ العَقْلِ وشِراؤُهُ مِن عَزِيزِ مِصْرَ بِثَمَنِ بَخْسٍ بِتَسْلِيمِ الطَّبِيعَةِ لَهُ إلى عَزِيزِ الرُّوحِ الَّذِي في مِصْرَ مَدِينَةِ القُدُسِ بِما يَحْصُلُ لِلْقُوَّةِ الفِكْرِيَّةِ مِنَ المَعانِي الفائِضَةِ عَلَيْها مِنَ الرُّوحِ وامْرَأةَ العَزِيزِ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ وقَدَّ القَمِيصِ مِن دُبُرٍ بِخَرْقِها لِباسَ الصِّفَةِ النُّورِيَّةِ الَّتِي هي مِن قِبَلِ الأخْلاقِ الحَسَنَةِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ ووَجَدَ أنَّ السَّيِّدَ بِالبابِ بِظُهُورِ نُورِ الرُّوحِ عِنْدَ إقْبالِ (p-84)القَلْبِ إلَيْهِ بِواسِطَةِ تَذَكُّرِ البُرْهانِ العَقْلِيِّ ووِرْدِ الوارِدِ القُدُسِيِّ عَلَيْهِ والشّاهِدِ بِالفِكْرِ الَّذِي هو ابْنُ عَمِّ امْرَأةِ العَزِيزِ أوْ بِالطَّبِيعَةِ الجُسْمانِيَّةِ الَّذِي هو ابْنُ خالَتِها والصّاحِبَيْنِ بِقُوَّةِ المَحَبَّةِ الرُّوحِيَّةِ وبِهَوى النَّفْسِ والخَمْرِ بِخَمْرِ العِشْقِ والخَبْزِ. بِاللَّذّاتِ والطَّيْرَ بِطَيْرِ القُوى الجُسْمانِيَّةِ والمُلْكَ بِالعَقْلِ الفَعّالِ والبَقَراتِ بِمَراتِبِ النَّفْسِ والسِّقايَةَ بِقُوَّةِ الإدْراكِ والمُؤَذِّنَ بِالوَهْمِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ وطَبَّقَ القِصَّةَ عَلى ما ذَكَرَ وتَكَلَّفَ لَهُ أشَدَّ تَكَلُّفٍ وما أغْناهُ عَنْ ذَلِكَ واللَّهُ تَعالى الهادِي إلى سَواءِ السَّبِيلِ لا رَبَّ غَيْرُهُ ولا يُرْجى إلّا خَيْرُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب