الباحث القرآني
بابُ الرَّهْنِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾؛ يَعْنِي - واللَّهُ أعْلَمُ -: "إذا عَدِمْتُمُ التَّوَثُّقَ بِالكِتابِ؛ والإشْهادِ؛ فالوَثِيقَةُ بِرِهانٍ مَقْبُوضَةٍ"؛ فَأقامَ الرَّهْنَ في بابِ التَّوَثُّقِ في الحالِ الَّتِي لا يَصِلُ فِيها إلى التَّوَثُّقِ بِالكِتابِ؛ والإشْهادِ مَقامَها؛ وإنَّما ذَكَرَ حالَ السَّفَرِ لِأنَّ الأغْلَبَ فِيها عَدَمُ الكِتابِ؛ والشُّهُودِ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ كانَ يَكْرَهُ الرَّهْنَ؛ إلّا في السَّفَرِ؛ وكانَ عَطاءٌ لا يَرى بِهِ بَأْسًا في الحَضَرِ؛ فَذَهَبَ مُجاهِدٌ إلى أنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَمّا كانَ مَأْخُوذًا مِنَ الآيَةِ؛ وإنَّما أباحَتْهُ الآيَةُ في السَّفَرِ؛ لَمْ يَثْبُتْ في غَيْرِهِ؛ ولَيْسَ هَذا عِنْدَ سائِرِ أهْلِ العِلْمِ كَذَلِكَ؛ ولا خِلافَ بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ؛ وعامَّةِ السَّلَفِ في جَوازِهِ في الحَضَرِ؛ وقَدْ رَوى إبْراهِيمُ عَنِ الأسْوَدِ؛ عَنْ عائِشَةَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اشْتَرى مِن يَهُودِيٍّ طَعامًا إلى أجَلٍ؛ ورَهَنَهُ دِرْعَهُ»؛ ورَوى قَتادَةُ؛ عَنْ أنَسٍ قالَ: «"رَهَنَ النَّبِيُّ ﷺ دِرْعًا عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِالمَدِينَةِ؛ وأخَذَ مِنهُ شَعِيرًا لِأهْلِهِ؛» فَثَبَتَ جَوازُ الرَّهْنِ في الحَضَرِ؛ بِفِعْلِهِ ﷺ؛ وقالَ (تَعالى): ( فاتَّبِعُوهُ )؛ وقالَ: ﴿لَقَدْ كانَ (p-٢٥٩)لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]؛ فَدَلَّ عَلى أنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ (تَعالى) لِحالِ السَّفَرِ بِذِكْرِ الرَّهْنِ إنَّما هو لِأنَّ الأغْلَبَ فِيها عَدَمُ الكاتِبِ؛ والشَّهِيدِ؛ وهَذا كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"فِي خَمْسٍ وعِشْرِينَ مِنَ الإبِلِ ابْنَةُ مَخاضٍ؛ وفي سِتٍّ وثَلاثِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ"؛» لَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ المَخاضِ؛ واللَّبَنِ بِالأُمِّ؛ وإنَّما أخْبَرَ عَنِ الأغْلَبِ الأعَمِّ مِنَ الحالِ؛ وإنْ كانَ جائِزًا ألّا يَكُونَ بِأُمِّها مَخاضٌ؛ ولا لَبَنٌ؛ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ السَّفَرِ هو عَلى هَذا الوَجْهِ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «"لا قَطْعَ في ثَمَرٍ حَتّى يُؤْوِيَهُ الجَرِينُ"؛» والمُرادُ اسْتِحْكامُهُ؛ وجَفافُهُ؛ لا حُصُولُهُ في الجَرِينِ؛ لِأنَّهُ لَوْ حَصَلَ في بَيْتِهِ؛ أوْ حانُوتِهِ؛ بَعْدَ اسْتِحْكامِهِ؛ وجَفافِهِ؛ فَسَرَقَهُ سارِقٌ؛ قُطِعَ فِيهِ؛ فَكانَ ذِكْرُ الجَرِينِ عَلى الأغْلَبِ الأعَمِّ مِن حالِهِ في اسْتِحْكامِهِ؛ فَكَذَلِكَ ذِكْرُهُ لِحالِ السَّفَرِ؛ هو عَلى هَذا المَعْنى.
وقَوْلُهُ: ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّهْنَ لا يَصِحُّ إلّا مَقْبُوضًا؛ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما أنَّهُ عَطْفٌ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكم فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِن الشُّهَداءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]؛ فَلَمّا كانَ اسْتِيفاءُ العَدَدِ المَذْكُورِ؛ والصِّفَةِ المَشْرُوطَةِ لِلشُّهُودِ واجِبًا؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيما شُرِطَ لَهُ مِنَ الصِّفَةِ؛ فَلا يَصِحُّ إلّا عَلَيْها؛ كَما لا تَصِحُّ شَهادَةُ الشُّهُودِ إلّا عَلى الأوْصافِ المَذْكُورَةِ؛ إذْ كانَ ابْتِداءُ الخِطابِ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الأمْرِ المُقْتَضِي لِلْإيجابِ؛ والوَجْهُ الثّانِي أنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ مَأْخُوذٌ مِنَ الآيَةِ؛ والآيَةُ إنَّما أجازَتْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ إجازَتُهُ عَلى غَيْرِها؛ إذْ لَيْسَ هَهُنا أصْلٌ آخَرُ يُوجِبُ جَوازَ الرَّهْنِ غَيْرُ الآيَةِ؛ ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَصِحُّ إلّا مَقْبُوضًا أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ وثِيقَةٌ لِمُرْتَهِنٍ بِدَيْنِهِ؛ ولَوْ صَحَّ غَيْرَ مَقْبُوضٍ لَبَطَلَ مَعْنى الوَثِيقَةِ؛ وكانَ بِمَنزِلَةِ سائِرِ أمْوالِ الرّاهِنِ الَّتِي لا وثِيقَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِيها؛ وإنَّما جُعِلَ وثِيقَةً لَهُ لِيَكُونَ مَحْبُوسًا في يَدِهِ بِدَيْنِهِ؛ فَيَكُونَ عِنْدَ المَوْتِ والإفْلاسِ أحَقَّ بِهِ مِن سائِرِ الغُرَماءِ؛ ومَتى لَمْ يَكُنْ في يَدِهِ كانَ لَغْوًا؛ لا مَعْنى فِيهِ؛ وهو وسائِرُ الغُرَماءِ فِيهِ سَواءٌ؛ ألا تَرى أنَّ المَبِيعَ إنَّما يَكُونُ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ ما دامَ في يَدِ البائِعِ؟ فَإنْ هو سَلَّمَهُ إلى المُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ؛ وكانَ هو وسائِرُ الغُرَماءِ سَواءً فِيهِ؛ واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في إقْرارِ المُتَعاقِدَيْنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ؛ فَقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا؛ والشّافِعِيُّ: إذا قامَتِ البَيِّنَةُ عَلى إقْرارِ الرّاهِنِ بِالقَبْضِ؛ والمُرْتَهِنُ يَدَّعِيهِ؛ جازَتِ الشَّهادَةُ؛ وحُكِمَ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ؛ وعِنْدَ مالِكٍ أنَّ البَيِّنَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلى إقْرارِ المُصَدَّقِ بِالقَبْضِ؛ حَتّى يَشْهَدُوا عَلى مُعايَنَةِ القَبْضِ؛ فَقِيلَ: إنَّ القِياسَ قَوْلُهُ في الرَّهْنِ كَذَلِكَ؛ والدَّلِيلُ عَلى جَوازِ الشَّهادَةِ عَلى إقْرارِهِما بِقَبْضِ الرَّهْنِ اتِّفاقُ (p-٢٦٠)الجَمِيعِ عَلى جَوازِ إقْرارِهِ بِالبَيْعِ؛ والغَصْبِ؛ والقَتْلِ؛ فَكَذَلِكَ قَبْضُ الرَّهْنِ؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ذِكْرُ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ في رَهْنِ المُشاعِ
قالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ: "لا يَجُوزُ رَهْنُ المُشاعِ فِيما يُقْسَمُ؛ ولا فِيما لا يُقْسَمُ"؛ وقالَ مالِكٌ؛ والشّافِعِيُّ: "يَجُوزُ فِيما لا يُقْسَمُ؛ وما يُقْسَمُ"؛ وذَكَرَ ابْنُ المُبارَكِ عَنِ الثَّوْرِيِّ؛ في رَجُلٍ يَرْتَهِنُ الرَّهْنَ؛ ويَسْتَحِقُّ بَعْضَهُ؛ قالَ: "يَخْرُجُ مِنَ الرَّهْنِ؛ ولَكِنْ لَهُ أنْ يُجْبِرَ الرّاهِنَ عَلى أنْ يَجْعَلَهُ رَهْنًا؛ فَإنْ ماتَ قَبْلَ أنْ يَجْعَلَهُ رَهْنًا كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الغُرَماءِ"؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: "يَجُوزُ رَهْنُ المُشاعِ فِيما لا يُقْسَمُ؛ ولا يَجُوزُ فِيما يُقْسَمُ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا صَحَّ بِدَلالَةِ الآيَةِ أنَّ الرَّهْنَ لا يَصِحُّ إلّا مَقْبُوضًا مِن حَيْثُ كانَ رَهْنُهُ عَلى جِهَةِ الوَثِيقَةِ؛ وكانَ في ارْتِفاعِ القَبْضِ ارْتِفاعُ مَعْنى الرَّهْنِ؛ وهو الوَثِيقَةُ؛ وجَبَ ألّا يَصِحَّ رَهْنُ المُشاعِ فِيما يُقْسَمُ؛ وفِيما لا يُقْسَمُ؛ لِأنَّ المَعْنى المُوجِبَ لِاسْتِحْقاقِ القَبْضِ؛ وإبْطالِ الوَثِيقَةِ؛ مُقارِنٌ لِلْعَقْدِ؛ وهو الشَّرِكَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِها دَفْعَ القَبْضِ لِلْمُهايَأةِ؛ فَلَمْ يَجُزْ أنْ يَصِحَّ مَعَ وُجُودِ ما يُبْطِلُهُ؛ ألا تَرى أنَّهُ مَتى اسْتَحَقَّ ذَلِكَ القَبْضَ بِالمُهايَأةِ؛ وعادَ إلى يَدِ الشَّرِيكِ؛ فَقَدْ بَطَلَ مَعْنى الوَثِيقَةِ؛ وكانَ بِمَنزِلَةِ الرَّهْنِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ؟ ولَيْسَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ عارِيَّةِ الرَّهْنِ المَقْبُوضِ؛ إذا أعادَهُ الرّاهِنُ فَلا يَبْطُلُ الرَّهْنُ؛ ولَهُ أنْ يَرُدَّهُ إلى يَدِهِ مِن قِبَلِ أنَّ هَذا القَبْضَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ؛ ولِلْمُرْتَهِنِ أخْذُهُ مِنهُ مَتى شاءَ؛ وإنَّما هو ابْتَدَأ بِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ القَبْضُ مُسْتَحَقًّا بِمَعْنًى يُقارِنُ العَقْدَ؛ ولَيْسَ هَذا أيْضًا بِمَنزِلَةِ هِبَةِ المُشاعِ فِيما لا يُقْسَمُ؛ فَيَجُوزُ عِنْدَنا؛ وإنْ كانَ مِن شَرْطِ الهِبَةِ القَبْضُ؛ كالرَّهْنِ؛ مِن قِبَلِ أنَّ الَّذِي يُحْتاجُ إلَيْهِ في الهِبَةِ مِنَ القَبْضِ؛ لِصِحَّةِ المِلْكِ؛ ولَيْسَ مِن شَرْطِ بَقاءِ المِلْكِ اسْتِصْحابُ اليَدِ؛ فَلَمّا صَحَّ القَبْضُ بَدِيًّا لَمْ يَكُنْ في اسْتِحْقاقِ اليَدِ تَأْثِيرٌ في رَفْعِ المِلْكِ؛ ولَمّا كانَ في اسْتِحْقاقِ المُرْتَهِنِ رَفْعُ مَعْنى الوَثِيقَةِ لَمْ يَصِحَّ مَعَ وُجُودِ ما يُبْطِلُهُ؛ ويُنافِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: هَلّا أجَزْتَ رَهْنَهُ مِن شَرِيكِهِ؟ إذْ لَيْسَ فِيهِ اسْتِحْقاقُ يَدِهِ في الثّانِي؛ لِأنَّ يَدَهُ تَكُونُ باقِيَةً عَلَيْهِ إلى وقْتِ الفِكاكِ؛ قِيلَ لَهُ: لِأنَّ لِلشَّرِيكِ اسْتِخْدامَهُ إنْ كانَ عَبْدًا بِالمُهايَأةِ بِحَقِّ مِلْكِهِ؛ ومَن فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ فِيهِ يَدَ رَهْنٍ؛ فَقَدِ اسْتُحِقَّتْ يَدُ الرَّهْنِ في اليَوْمِ الثّانِي؛ فَلا فارِقَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وبَيْنَ الأجْنَبِيِّ؛ لِوُجُودِ المَعْنى المُوجِبِ لِاسْتِحْقاقِ قَبْضِ الرَّهْنِ مُقارِنًا لِلْعَقْدِ.
واخْتُلِفَ في رَهْنِ الدَّيْنِ؛ فَقالَ سائِرُ الفُقَهاءِ: "لا يَصِحُّ رَهْنُ الدَّيْنِ بِحالٍ"؛ وقالَ ابْنُ القاسِمِ؛ عَنْ مالِكٍ؛ في قِياسِ قَوْلِهِ: "إذا كانَ لِرَجُلٍ عَلى رَجُلٍ دَيْنٌ؛ فَبِعْتَهُ بَيْعًا؛ وارْتَهَنْتَ مِنهُ الدَّيْنَ الَّذِي (p-٢٦١)لَهُ عَلَيْهِ؛ فَهو جائِزٌ؛ وهو أقْوى مِن أنْ يَرْتَهِنَ دِينًا عَلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ حائِزٌ لِما عَلَيْهِ"؛ قالَ: "ويَجُوزُ في قَوْلِ مالِكٍ أنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الدَّيْنَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ عَلى ذَلِكَ الرَّجُلِ؛ ويَبْتاعَ مِن رَجُلٍ بَيْعًا؛ ويَرْهَنَ مِنهُ الدَّيْنَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ عَلى ذَلِكَ الرَّجُلِ؛ ويَقْبِضَ ذَلِكَ الحَقَّ لَهُ؛ ويُشْهِدَ لَهُ"؛ وهَذا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِهِ مِن أهْلِ العِلْمِ سِواهُ؛ وهو فاسِدٌ أيْضًا؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾؛ وقَبْضُ الدَّيْنِ لا يَصِحُّ ما دامَ دَيْنًا؛ لا إذا كانَ عَلَيْهِ؛ ولا إذا كانَ عَلى غَيْرِهِ؛ لِأنَّ الدَّيْنَ هو حَقٌّ لا يَصِحُّ فِيهِ قَبْضٌ؛ وإنَّما يَتَأتّى القَبْضُ في الأعْيانِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ لا يَخْلُو ذَلِكَ الدَّيْنُ مِن أنْ يَكُونَ باقِيًا عَلى حُكْمِ الضَّمانِ الأوَّلِ؛ أوْ مُنْتَقِلًا إلى ضَمانِ الرَّهْنِ؛ فَإنِ انْتَقَلَ إلى ضَمانِ الرَّهْنِ؛ فالواجِبُ أنْ يَبْرَأ مِنَ الفَضْلِ؛ إذا كانَ الدَّيْنُ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ أقَلَّ مِنَ الرَّهْنِ؛ وإنْ كانَ باقِيًا عَلى حُكْمِ الضَّمانِ الأوَّلِ فَلَيْسَ هو رَهْنًا؛ لِبَقائِهِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ؛ والدَّيْنُ الَّذِي عَلى الغَيْرِ أبْعَدُ في الجَوازِ؛ لِعَدَمِ الحِيازَةِ فِيهِ؛ والقَبْضِ بِحالٍ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في الرَّهْنِ إذا وُضِعَ عَلى يَدَيْ عَدْلٍ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ والثَّوْرِيُّ: "يَصِحُّ الرَّهْنُ إذا جَعَلاهُ عَلى يَدَيْ عَدْلٍ؛ ويَكُونُ مَضْمُونًا عَلى المُرْتَهِنِ"؛ وهو قَوْلُ الحَسَنِ؛ وعَطاءٍ؛ والشَّعْبِيِّ؛ وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى؛ وابْنُ شُبْرُمَةَ؛ والأوْزاعِيُّ: "لا يَجُوزُ؛ حَتّى يَقْبِضَهُ المُرْتَهِنُ"؛ وقالَ مالِكٌ: "إذا جَعَلاهُ عَلى يَدَيْ عَدْلٍ؛ فَضَياعُهُ مِنَ الرّاهِنِ"؛ وقالَ الشّافِعِيُّ؛ في رَهْنِ شِقْصِ السَّيْفِ: "إنَّ قَبْضَهُ أنْ يُحَوِّلَ حَتّى يَضَعَهُ الرّاهِنُ والمُرْتَهِنُ عَلى يَدَيْ عَدْلٍ؛ أوْ عَلى يَدَيِ الشَّرِيكِ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾؛ يَقْتَضِي جَوازَهُ إذا قَبَضَهُ العَدْلُ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ قَبْضِ المُرْتَهِنِ؛ والعَدْلِ؛ وعُمُومُهُ يَقْتَضِي جَوازَ قَبْضِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما؛ وأيْضًا فَإنَّ العَدْلَ وكِيلٌ لِلْمُرْتَهِنِ في القَبْضِ؛ فَكانَ القَبْضُ بِمَنزِلَةِ الوَكالَةِ في الهِبَةِ؛ وسائِرِ المَقْبُوضاتِ؛ بِوَكالَةِ مَن لَهُ القَبْضُ فِيها؛ فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ العَدْلُ وكِيلًا لِلْمُرْتَهِنِ لَكانَ لَهُ أنْ يَقْبِضَهُ مِنهُ؛ ولَما كانَ لِلْعَدْلِ أنْ يَمْنَعَهُ إيّاهُ؛ قِيلَ لَهُ: هَذا لا يُخْرِجُهُ عَنْ أنْ يَكُونَ وكِيلًا؛ وقابِضًا لَهُ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ القَبْضِ مِن قِبَلِ أنَّ الرّاهِنَ لَمْ يَرْضَ بِيَدِهِ؛ وإنَّما رَضِيَ بِيَدِ وكِيلِهِ؛ ألا تَرى أنَّ الوَكِيلَ بِالشِّراءِ هو قابِضٌ لِلسِّلْعَةِ لِلْمُوَكِّلِ؛ ولَهُ أنْ يَحْبِسَها بِالثَّمَنِ؛ ولَوْ هَلَكَ قَبْلَ الحَبْسِ هَلَكَ مِن مالِ المُوَكِّلِ؟ ولَيْسَ جَوازُ حَبْسِ الوَكِيلِ الرَّهْنَ عَنِ المُرْتَهِنِ عَلَمًا لِنَفْيِ الوَكالَةِ؛ وكَوْنِهِ قابِضًا لَهُ؛ ويَدُلُّ عَلى أنَّ يَدَ العَدْلِ يَدُ المُرْتَهِنِ؛ وأنَّهُ وكِيلُهُ في القَبْضِ؛ أنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَتى شاءَ أنْ يَفْسَخَ هَذا الرَّهْنَ؛ ويُبْطِلَ يَدَ العَدْلِ؛ ويَرُدَّهُ إلى الرّاهِنِ؛ ولَيْسَ لِلرّاهِنِ إبْطالُ يَدِ العَدْلِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ (p-٢٦٢)عَلى أنَّ العَدْلَ وكِيلٌ لِلْمُرْتَهِنِ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ جَعَلا المَبِيعَ عَلى يَدَيْ عَدْلٍ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ضَمانِ البائِعِ؛ ولَمْ يَصِحَّ أنْ يَكُونَ العَدْلُ وكِيلًا لِلْمُشْتَرِي في قَبْضِهِ؛ كَذَلِكَ المُرْتَهِنُ؛ قِيلَ لَهُ: الفارِقُ بَيْنَهُما أنَّ العَدْلَ في البَيْعِ لَوْ صارَ وكِيلًا لِلْمُشْتَرِي لَخَرَجَ عَنْ ضَمانِ البائِعِ؛ وفي خُرُوجِهِ مِن ضَمانِ بائِعِهِ سُقُوطُ حَقِّهِ مِنهُ؛ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ أجازَ قَبْضَهُ بَطَلَ حَقُّهُ؛ ولَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِرْجاعُهُ؟ لِأنَّ المَبِيعَ لَيْسَ لَهُ إلّا قَبْضٌ واحِدٌ؛ فَمَتى وُجِدَ سَقَطَ حَقُّ البائِعِ؛ ولَمْ يَكُنْ لَهُ أنْ يَرُدَّهُ إلى يَدِهِ؛ وكَذَلِكَ إذا أوْدَعَهُ إيّاهُ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ العَدْلُ وكِيلًا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأنَّهُ لَوْ صارَ وكِيلًا لَهُ لَصارَ قابِضًا لَهُ قَبْضَ بَيْعٍ؛ ولَمْ يَكُنِ المُشْتَرِي مَمْنُوعًا مِنهُ؛ فَكانَ لا مَعْنى لِقَبْضِ العَدْلِ؛ بَلْ يَكُونُ المُشْتَرِي كَأنَّهُ قَبَضَهُ؛ والبائِعُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُهُ؛ ولَمْ يَصِحَّ أنْ يَكُونَ العَدْلُ وكِيلًا لِلْمُشْتَرِي؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ لَوْ قَبَضَهُ لِلْمُشْتَرِي لَتَمَّ البَيْعُ فِيهِ؛ وفي تَمامِ البَيْعِ سُقُوطُ حَقِّ البائِعِ فِيهِ؛ فَلا مَعْنى لِبَقائِهِ في يَدَيِ العَدْلِ؛ بَلْ يَجِبُ أنْ يَأْخُذَهُ المُشْتَرِي؛ والبائِعُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ الرَّهْنُ؛ لِأنَّ كَوْنَ العَدْلِ وكِيلًا لِلْمُرْتَهِنِ لا يُوجِبُ إبْطالَ حَقِّ الرّاهِنِ؛ ألا تَرى أنَّ حَقَّ الرّاهِنِ باقٍ بَعْدَ قَبْضِ المُرْتَهِنِ؟ فَكَذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِ العَدْلِ؛ فَلا فارِقَ بَيْنَ قَبْضِ العَدْلِ؛ وقَبْضِ المُرْتَهِنِ؛ وفارَقَ العَدْلَ في الشِّراءِ؛ لِامْتِناعِ كَوْنِهِ وكِيلًا لِلْمُشْتَرِي؛ إذْ كانَ يَصِيرُ في مَعْنى قَبْضِ المُشْتَرِي؛ في خُرُوجِهِ مِن ضَمانِ البائِعِ؛ ودُخُولِهِ في ضَمانِهِ؛ وفي مَعْنى تَمامِ البَيْعِ فِيهِ؛ وسُقُوطِ حَقِّ البائِعِ مِنهُ؛ والبائِعُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَدْلًا لِلْبائِعِ؛ مِن قِبَلِ أنَّ حَقَّ الحَبْسِ مُوجِبٌ لَهُ بِالعَقْدِ؛ فَلا يَسْقُطُ ذَلِكَ؛ أوْ يَرْضى بِتَسْلِيمِهِ إلى المُشْتَرِي؛ أوْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ ضَمانِ الرَّهْنِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾؛ فَعَطَفَ بِذِكْرِ الأمانَةِ عَلى الرَّهْنِ؛ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّهْنَ لَيْسَ بِأمانَةٍ؛ وإذا لَمْ يَكُنْ أمانَةً كانَ مَضْمُونًا؛ إذْ لَوْ كانَ الرَّهْنُ أمانَةً لَما عَطَفَ عَلَيْهِ الأمانَةَ؛ لِأنَّ الشَّيْءَ لا يَعْطَفُ عَلى نَفْسِهِ؛ وإنَّما يُعْطَفُ عَلى غَيْرِهِ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في حُكْمِ الرَّهْنِ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ وابْنُ أبِي لَيْلى؛ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: "اَلرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِأقَلَّ مِن قِيمَتِهِ؛ ومِنَ الدَّيْنِ"؛ وقالَ الثَّقَفِيُّ؛ عَنْ عُثْمانَ البَتِّيِّ: "ما كانَ مِن رَهْنٍ؛ ذَهَبًا؛ أوْ فِضَّةً؛ أوْ ثِيابًا؛ فَهو مَضْمُونٌ؛ يَتَرادّانِ الفَضْلَ؛ وإنْ كانَ عَقارًا؛ أوْ حَيَوانًا؛ فَهَلَكَ؛ فَهو مِن مالِ الرّاهِنِ؛ والمُرْتَهِنُ عَلى حَقِّهِ؛ إلّا أنْ يَكُونَ الرّاهِنُ (p-٢٦٣)اشْتَرَطَ الضَّمانَ؛ فَهو عَلى شَرْطِهِ"؛ وقالَ ابْنُ وهْبٍ؛ عَنْ مالِكٍ: "إنْ عَلِمَ هَلاكَهُ فَهو مِن مالِ الرّاهِنِ؛ ولا يَنْقُصُ مِن حَقِّ المُرْتَهِنِ شَيْءٌ؛ وإنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلاكَهُ فَهو مِن مالِ المُرْتَهِنِ؛ وهو ضامِنٌ لِقِيمَتِهِ؛ يُقالُ لَهُ: صِفْهُ؛ فَإذا وصَفَهُ حَلَفَ عَلى صِفَتِهِ؛ وتَسْمِيَةِ مالِهِ فِيهِ؛ ثُمَّ يُقَوِّمُهُ أهْلُ البَصَرِ بِذَلِكَ؛ فَإنْ كانَ فِيهِ فَضْلٌ عَمّا سَمّى فِيهِ أخَذَهُ الرّاهِنُ؛ وإنْ كانَ أقَلَّ مِمّا سَمّى الرّاهِنُ حَلَفَ عَلى ما سَمّى؛ وبَطَلَ عَنْهُ الفَضْلُ؛ وإنْ أبى الرّاهِنُ أنْ يَحْلِفَ أُعْطِيَ المُرْتَهِنُ ما فَضُلَ؛ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ"؛ ورَوى عَنْهُ ابْنُ القاسِمِ مِثْلَ ذَلِكَ؛ وقالَ فِيهِ: "إذا شَرَطَ أنَّ المُرْتَهِنَ مُصَدَّقٌ في ضَياعِهِ؛ وأنْ لا ضَمانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ فَشَرْطُهُ باطِلٌ؛ وهو ضامِنٌ"؛ وقالَ الأوْزاعِيُّ: "إذا ماتَ العَبْدُ الرَّهْنُ فَدَيْنُهُ باقٍ؛ لِأنَّ الرَّهْنَ لا يَغْلَقُ"؛ ومَعْنى قَوْلِهِ: " لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ "؛ أنَّهُ لا يَكُونُ بِما فِيهِ إذا عَلِمَ؛ ولَكِنْ يَتَرادّانِ الفَضْلَ؛ إذا لَمْ يَعْلَمْ هَلاكَهُ"؛ وقالَ الأوْزاعِيُّ - في قَوْلِهِ: "لَهُ غُنْمُهُ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ" -؛ قالَ: "فَأمّا غُنْمُهُ فَإنْ كانَ فِيهِ فَضْلٌ رُدَّ إلَيْهِ؛ وأمّا غُرْمُهُ فَإنْ كانَ فِيهِ نُقْصانٌ وفّاهُ إيّاهُ"؛ وقالَ اللَّيْثُ: " اَلرَّهْنُ بِما فِيهِ إذا هَلَكَ؛ ولَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلى ما فِيهِ؛ إذا اخْتَلَفا في ثَمَنِهِ؛ فَإنْ قامَتِ البَيِّنَةُ عَلى ما فِيهِ تَرادّا الفَضْلَ"؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: "هُوَ أمانَةٌ؛ لا ضَمانَ عَلَيْهِ فِيهِ بِحالٍ إذا هَلَكَ؛ سَواءٌ كانَ هَلاكُهُ ظاهِرًا؛ أوْ خَفِيًّا".
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحابَةِ؛ والتّابِعِينَ؛ عَلى ضَمانِ الرَّهْنِ؛ لا نَعْلَمُ بَيْنَهم خِلافًا فِيهِ؛ إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ ضَمانِهِ؛ واخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ؛ فَرَوى إسْرائِيلُ؛ عَنْ عَبْدِ الأعْلى؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ؛ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: "إذا كانَ أكْثَرَ مِمّا رَهَنَ فَهَلَكَ؛ فَهو بِما فِيهِ؛ لِأنَّهُ أمِينٌ في الفَضْلِ"؛ وإذا كانَ بِأقَلَّ مِمّا رَهَنَهُ بِهِ فَهَلَكَ؛ رَدَّ الرّاهِنُ الفَضْلَ"؛ ورَوى عَطاءٌ؛ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ؛ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ؛ وهو قَوْلُ إبْراهِيمَ النَّخْعِيِّ؛ ورَوى الشَّعْبِيُّ عَنِ الحارِثِ؛ عَنْ عَلِيٍّ - في الرَّهْنِ إذا هَلَكَ - قالَ: "يَتَرادّانِ الفَضْلَ"؛ ورَوى قَتادَةُ عَنْ خِلاسِ بْنِ عَمْرٍو؛ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: "إذا كانَ فِيهِ فَضْلٌ فَأصابَتْهُ جائِحَةٌ؛ فَهو بِما فِيهِ؛ وإنْ لَمْ تُصِبْهُ جائِحَةٌ؛ واتُّهِمَ؛ فَإنَّهُ يَرُدُّ الفَضْلَ"؛ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ هَذِهِ الرِّواياتُ الثَّلاثُ؛ وفي جَمِيعِها ضَمانُهُ؛ إلّا أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا عَنْهُ في كَيْفِيَّةِ الضَّمانِ؛ عَلى ما وصَفْنا؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: "يَتَرادّانِ الفَضْلَ"؛ وقالَ شُرَيْحٌ؛ والحَسَنُ؛ وطاوُسٌ؛ والشَّعْبِيُّ؛ وابْنُ شُبْرُمَةَ: "إنَّ الرَّهْنَ بِما فِيهِ "؛ وقالَ شُرَيْحٌ: "وإنْ كانَ خاتَمًا مِن حَدِيدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ"؛ فَلَمّا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلى ضَمانِهِ؛ وكانَ اخْتِلافُهم إنَّما هو في كَيْفِيَّةِ الضَّمانِ؛ كانَ قَوْلُ القائِلِ: "إنَّهُ أمانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ"؛ خارِجًا عَنْ قَوْلِ الجَمِيعِ؛ وفي الخُرُوجِ عَنِ اخْتِلافِهِمْ مُخالَفَةٌ لِإجْماعِهِمْ؛ وذَلِكَ أنَّهم لَمّا اتَّفَقُوا عَلى ضَمانِهِ فَذَلِكَ اتِّفاقٌ مِنهم عَلى (p-٢٦٤)بُطْلانِ قَوْلِ القائِلِ بِنَفْيِ ضَمانِهِ؛ ولا فارِقَ بَيْنَ اخْتِلافِهِمْ في كَيْفِيَّةِ ضَمانِهِ؛ وبَيْنَ اتِّفاقِهِمْ عَلى وجْهٍ واحِدٍ فِيهِ؛ بَعْدَ أنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ مِنَ اتِّفاقِهِمْ أنَّهُ مَضْمُونٌ؛ فَهَذا اتِّفاقٌ قاضٍ بِفَسادِ قَوْلِ مَن جَعَلَهُ أمانَةً؛ وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ دَلالَةِ الآيَةِ عَلى ضَمانِهِ.
ومِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ؛ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثابِتٍ قالَ: سَمِعْتُ عَطاءً يُحَدِّثُ «أنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا؛ فَنَفَقَ في يَدِهِ؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلْمُرْتَهِنِ: "ذَهَبَ حَقُّكَ"؛ وفي لَفْظٍ آخَرَ: "لا شَيْءَ لَكَ» "؛ فَقَوْلُهُ لِلْمُرْتَهِنِ: "ذَهَبَ حَقُّكَ"؛ إخْبارٌ بِسُقُوطِ دَيْنِهِ؛ لِأنَّ حَقَّ المُرْتَهِنِ هو دَيْنُهُ؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الغَنَوِيُّ؛ وعَبْدُ الوارِثِ بْنُ إبْراهِيمَ؛ قالا: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ الزّارِعُ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتادَةَ؛ عَنْ أنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «"اَلرَّهْنُ بِما فِيهِ"؛» وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بْنُ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنا المُسَيِّبُ بْنُ واضِحٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ المُبارَكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثابِتٍ قالَ: حَدَّثَنا عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ؛ عَنْ مُحارِبِ بْنِ دِثارٍ قالَ: «قَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ الرَّهْنَ بِما فِيهِ»؛ والمَفْهُومُ مِن ذَلِكَ ضَمانُهُ بِما فِيهِ مِنَ الدَّيْنِ؛ ألا تَرى إلى قَوْلِ شُرَيْحٍ: " اَلرَّهْنُ بِما فِيهِ؛ ولَوْ خاتَمًا مِن حَدِيدٍ"؟ وكَذَلِكَ قَوْلُ مُحارِبِ بْنِ دِثارٍ؛ إنَّما رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في خاتَمٍ رُهِنَ بِدَيْنٍ فَهَلَكَ؛ أنَّهُ بِما فِيهِ»؛ وظاهِرُ ذَلِكَ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ بِما فِيهِ؛ قَلَّ الدَّيْنُ أوْ كَثُرَ إلّا أنَّهُ قَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ مُرادَهُ: إذا كانَ الدَّيْنُ مِثْلَ الرَّهْنِ؛ أوْ أقَلَّ؛ وأنَّهُ إذا كانَ الدَّيْنُ أكْثَرَ رَدَّ الفَضْلَ؛ ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَضْمُونُ اتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ المُرْتَهِنَ أحَقُّ بِهِ بَعْدَ المَوْتِ مِن سائِرِ الغُرَماءِ؛ حَتّى يُباعَ فَيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنهُ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ مَقْبُوضٌ لِلِاسْتِيفاءِ؛ فَقَدْ وجَبَ أنْ يَكُونَ مَضْمُونًا ضَمانَ الِاسْتِيفاءِ؛ لِأنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَقْبُوضٍ عَلى وجْهٍ فَإنَّما يَكُونُ هَلاكُهُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي هو مَقْبُوضٌ بِهِ؛ كالمَغْصُوبِ؛ مَتى هَلَكَ هَلَكَ عَلى ضَمانِ الغَصْبِ؛ وكَذَلِكَ المَقْبُوضُ عَلى بَيْعٍ فاسِدٍ؛ أوْ جائِزٍ؛ إنَّما يَهْلَكُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي حَصَلَ قَبْضُهُ عَلَيْهِ؛ فَلَمّا كانَ الرَّهْنُ مَقْبُوضًا لِلِاسْتِيفاءِ بِالدَّلالَةِ الَّتِي ذَكَرْنا؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ هَلاكُهُ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ؛ فَيَكُونَ مُسْتَوْفِيًا بِهَلاكِهِ لِدَيْنِهِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ الِاسْتِيفاءُ؛ فَإذا كانَ الرَّهْنُ أقَلَّ قِيمَةً فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَجْعَلَ اسْتِيفاءَ العِدَّةِ بِما هو أقَلُّ مِنها؛ وإذا كانَ أكْثَرَ مِنهُ لَمْ يَجُزْ أنْ يَسْتَوْفِيَ مِنهُ أكْثَرَ مِن مِقْدارِ دَيْنِهِ؛ فَيَكُونَ أمِينًا في الفَضْلِ.
ويَدُلُّ عَلى ضَمانِهِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى بُطْلانِ الرَّهْنِ بِالأعْيانِ؛ نَحْوَ الوَدائِعِ؛ والمُضارَبَةِ؛ والشَّرِكَةِ؛ لا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِها؛ لِأنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْفِيًا لِلْعَيْنِ؛ وصَحَّ بِالدُّيُونِ المَضْمُونَةِ؛ وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ (p-٢٦٥)بِالدَّيْنِ؛ فَيَكُونُ المُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لَهُ بِهَلاكِهِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنا لَمْ نَجِدْ في الأُصُولِ حَبْسًا لِمِلْكِ الغَيْرِ لِحَقٍّ لا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمانٌ؛ ألا تَرى أنَّ المَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلى البائِعِ حَتّى يُسَلِّمَهُ إلى المُشْتَرِي لَمّا كانَ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ؟ وكَذَلِكَ الشَّيْءُ المُسْتَأْجَرُ؛ يَكُونُ مَحْبُوسًا في يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ؛ مَضْمُونًا بِالمَنافِعِ؛ اسْتَعْمَلَهُ؛ أوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ؛ ويَلْزَمُهُ بِحَبْسِهِ ضَمانُ الأُجْرَةِ الَّتِي هي بَدَلُ المَنافِعِ؛ فَثَبَتَ أنَّ حَبْسَ مِلْكِ الغَيْرِ لا يَخْلُو مِن تَعَلُّقِ ضَمانٍ؛ واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ لِكَوْنِهِ أمانَةً بِحَدِيثِ ابْنِ أبِي ذُؤَيْبٍ؛ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِن صاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ؛ لَهُ غُنْمُهُ؛ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛» قالَ الشّافِعِيُّ: "ووَصَلَهُ ابْنُ المُسَيِّبِ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّما يُوَصِّلُهُ يَحْيى بْنُ أبِي أُنَيْسَةَ؛ وقَوْلُهُ: "لَهُ غُنْمُهُ؛ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ مِن كَلامِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ؛ كَما رَوى مالِكٌ؛ ويُونُسُ؛ وابْنُ أبِي ذُؤَيْبٍ؛ عَنِ ابْنِ شِهابٍ؛ عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» قالَ يُونُسُ بْنُ زَيْدٍ؛ قالَ ابْنُ شِهابٍ: "وكانَ ابْنُ المُسَيِّبِ يَقُولُ: "اَلرَّهْنُ لِمَن رَهَنَهُ؛ لَهُ غُنْمُهُ؛ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ فَأخْبَرَ ابْنُ شِهابٍ أنَّ هَذا قَوْلُ ابْنِ المُسَيِّبِ؛ لا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ ولَوْ كانَ ابْنُ المُسَيِّبِ قَدْ رَوى ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَما قالَ: وكانَ ابْنُ المُسَيِّبِ يَقُولُ ذَلِكَ؛ بَلْ كانَ يُعَزِّيهِ إلى النَّبِيِّ ﷺ؛ فاحْتَجَّ الشّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ: "لَهُ غُنْمُهُ؛ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ بِأنَّهُ قَدْ أوْجَبَ لِصاحِبِ الرَّهْنِ زِيادَتَهُ؛ وجَعَلَ عَلَيْهِ نُقْصانَهُ؛ والدَّيْنُ بِحالِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأمّا قَوْلُهُ: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛ فَإنَّ إبْراهِيمَ النَّخَعِيَّ؛ وطاوِسًا ذَكَرا جَمِيعًا أنَّهم كانُوا يَرْهَنُونَ؛ ويَقُولُونَ: "إنْ جِئْتُكَ بِالمالِ إلى وقْتِ كَذا؛ وإلّا فَهو لَكَ"؛ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» وتَأوَّلَهُ عَلى ذَلِكَ أيْضًا مالِكٌ؛ وسُفْيانُ؛ وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: لا يَجُوزُ في كَلامِ العَرَبِ أنْ يُقالَ لِلرَّهْنِ إذا ضاعَ: "قَدْ غَلِقَ الرَّهْنُ"؛ إنَّما يُقالُ: "غَلِقَ" إذا اسْتَحَقَّهُ المُرْتَهِنُ فَذَهَبَ بِهِ؛ وهَذا كانَ مِن فِعْلِ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ؛ فَأبْطَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِقَوْلِهِ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ: "إنَّهم يَقُولُونَ: "غَلِقَ الرَّهْنُ" إذا ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ"؛ قالَ زُهَيْرٌ:
؎وفارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لا فِكاكَ لَهُ ∗∗∗ يَوْمَ الوَداعِ فَأمْسى رَهْنُها غَلَقا
يَعْنِي: ذَهَبَتْ بِقَلْبِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎فَهَلْ يَمْنَعَنِّي ارْتِيادُ البِلا ∗∗∗ دِ مِن حَذَرِ المَوْتِ أنْ يَأْتِيَنْ
؎عَلَيَّ رَقِيبٌ لَهُ حافِظٌ ∗∗∗ فَقُلْ في امْرِئٍ غَلِقٍ مُرْتَهَنْ
فَقالَ في البَيْتِ الثّانِي: "فَقُلْ في امْرِئٍ غَلِقٍ مُرْتَهَنْ"؛ يَعْنِي أنَّهُ يَمُوتُ فَيَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ كَأنْ لَمْ (p-٢٦٦)يَكُنْ؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» يَنْصَرِفُ عَلى وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما: إنْ كانَ قائِمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ المُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ عِنْدَ مُضِيِّ الأجَلِ؛ والثّانِي: عِنْدَ الهَلاكِ لا يَذْهَبُ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ وأمّا قَوْلُهُ: "لَهُ غُنْمُهُ؛ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ فَقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ مِن قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ؛ أدْرَجَهُ في الحَدِيثِ بَعْضُ الرُّواةِ؛ وفَصَلَهُ بَعْضُهُمْ؛ وبَيَّنَ أنَّهُ مِن قَوْلِهِ؛ ولَيْسَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وأمّا ما تَأوَّلَهُ الشّافِعِيُّ مِن أنَّ لَهُ زِيادَتَهُ؛ وعَلَيْهِ نُقْصانَهُ؛ فَإنَّهُ تَأْوِيلٌ خارِجٌ عَنْ أقاوِيلِ الفُقَهاءِ؛ خَطَأٌ في اللُّغَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الغُرْمَ في أصْلِ اللُّغَةِ هو اللُّزُومُ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿إنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا﴾ [الفرقان: ٦٥]؛ يَعْنِي: ثابِتًا؛ لازِمًا؛ والغَرِيمُ: اَلَّذِي قَدْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ؛ ويُسَمّى بِهِ أيْضًا الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ؛ لِأنَّ لَهُ اللُّزُومَ والمُطالَبَةَ؛ وقَدْ «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ المَأْثَمِ؛ والمَغْرَمِ؛ فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ؛ فَقالَ: "إنَّ الرَّجُلَ إذا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ؛ ووَعَدَ فَأخْلَفَ» "؛ فَجَعَلَ الغُرْمَ هو لُزُومُ المُطالَبَةِ لَهُ؛ مِن قِبَلِ الآدَمِيِّ؛ وفي حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ المُخارِقِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «"إنَّ المَسْألَةَ لا تَحِلُّ إلّا مِن ثَلاثٍ: فَقْرٍ مُدْقِعٍ؛ أوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ؛ أوْ دَمٍ مُوجِعٍ"؛» وقالَ (تَعالى): ﴿إنَّما الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ﴾ [التوبة: ٦٠]؛ إلى قَوْلِهِ: ﴿والغارِمِينَ﴾ [التوبة: ٦٠]؛ وهُمُ المَدِينُونَ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿إنّا لَمُغْرَمُونَ﴾ [الواقعة: ٦٦]؛ يَعْنِي: مُلْزَمُونَ؛ مُطالَبُونَ بِدُيُونِنا؛ فَهَذا أصْلُ الغُرْمِ في أصْلِ اللُّغَةِ؛ وحَدَّثَنا أبُو عُمَرَ؛ غُلامُ ثَعْلَبٍ؛ عَنْ ثَعْلَبٍ؛ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ؛ في مَعْنى الغُرْمِ: قالَ أبُو عُمَرَ: "أخْطَأ مَن قالَ: إنَّ هَلاكَ المالِ؛ ونُقْصانَهُ يُسَمّى غُرْمًا؛ لِأنَّ الفَقِيرَ الَّذِي ذَهَبَ مالُهُ لا يُسَمّى غَرِيمًا؛ وإنَّما الغَرِيمُ مَن تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ المُطالَبَةُ لِلْآدَمِيِّ بِدَيْنٍ"؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ مَن تَأوَّلَ "وعَلَيْهِ غُرْمُهُ" أنَّهُ نُقْصانُهُ خَطَأٌ؛ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ هو راوِي الحَدِيثِ؛ وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ هو القائِلُ: "لَهُ غُنْمُهُ؛ وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ ولَمْ يَتَأوَّلْهُ عَلى ما قالَهُ الشّافِعِيُّ؛ لِأنَّ مِن مَذْهَبِهِ ضَمانُ الرَّهْنِ.
وذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي الزِّنادِ؛ في كِتابِ "اَلسَّبْعَةُ"؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ؛ وعُرْوَةَ؛ والقاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ وأبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ وخارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ؛ وعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ وغَيْرِهِمْ؛ أنَّهم قالُوا: " اَلرَّهْنُ بِما فِيهِ؛ إذا هَلَكَ وعُمِّيَتْ قِيمَتُهُ "؛ ويَرْفَعُ ذَلِكَ مِنهُمُ الثِّقَةُ إلى النَّبِيِّ ﷺ؛ وقَدْ ثَبَتَ أنَّ مِن مَذْهَبِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ ضَمانَ الرَّهْنِ؛ فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَتَأوَّلَ مُتَأوِّلٌ قَوْلَهُ: "وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ عَلى نَفْيِ الضَّمانِ؟! فَإنْ كانَ ذَلِكَ رِوايَةً عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فالواجِبُ عَلى مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ أنْ يَقْضِيَ بِتَأْوِيلِ الرّاوِي عَلى مُرادِ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِأنَّهُ زَعَمَ أنَّ الرّاوِيَ لِلْحَدِيثِ أعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ؛ فَجَعَلَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ في الشّاهِدِ واليَمِينِ؛ أنَّهُ في الأمْوالِ حُجَّةٌ في ألّا يُقْضى في غَيْرِ الأمْوالِ؛ وقَضى بِقَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ في حَدِيثِ القُلَّتَيْنِ أنَّهُ بِقِلالِ (p-٢٦٧)هَجَرَ؛ عَلى مُرادِ النَّبِيِّ ﷺ؛ وجَعَلَ مَذْهَبَ ابْنِ عُمَرَ؛ في خِيارِ المُتَبايِعَيْنِ ما لَمْ يَفْتَرِقا؛ أنَّهُ عَلى التَّفَرُّقِ بِالأبْدانِ؛ قاضِيًا عَلى مُرادِ النَّبِيِّ ﷺ في ذَلِكَ؛ فَلَزِمَهُ عَلى هَذا أنْ يَجْعَلَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قاضِيًا عَلى مُرادِ النَّبِيِّ ﷺ؛ إنْ كانَ قَوْلُهُ: "وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ ثابِتًا عَنْهُ.
وإنَّما مَعْنى قَوْلِهِ: "لَهُ غُنْمُهُ" أنَّ لِلرّاهِنِ زِيادَتَهُ؛ وعَلَيْهِ غُرْمَهُ؛ يَعْنِي دَيْنَهُ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ؛ وهو تَفْسِيرُ قَوْلِهِ ﷺ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» لِأنَّهم كانُوا يُوجِبُونَ اسْتِحْقاقَ مِلْكِ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ بِمُضِيِّ الأجَلِ قَبْلَ انْقِضاءِ الدَّيْنِ؛ فَقالَ ﷺ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» أيْ: لا يَسْتَحِقُّهُ المُرْتَهِنُ بِمُضِيِّ الأجَلِ؛ ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقالَ: "لِصاحِبِهِ - يَعْنِي لِلرّاهِنِ – غُنْمُهُ"؛ يَعْنِي: زِيادَتُهُ؛ فَبَيَّنَ أنَّ المُرْتَهِنَ لا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ عَيْنِ الرَّهْنِ؛ لا نَماءَهُ وزِيادَتَهُ؛ وأنَّ دَيْنَهُ باقٍ عَلَيْهِ كَما كانَ؛ وهو مَعْنى قَوْلِهِ: "وعَلَيْهِ غُرْمُهُ"؛ كَقَوْلِهِ: "وعَلَيْهِ دَيْنُهُ"؛ فَإذًا لَيْسَ في الخَبَرِ دَلالَةٌ عَلى كَوْنِ الرَّهْنِ غَيْرَ مَضْمُونٍ؛ بَلْ هو دالٌّ عَلى أنَّهُ مَضْمُونٌ؛ عَلى ما بَيَّنّا.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَوْلُهُ ﷺ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» إذا أرادَ بِهِ حالَ بَقائِهِ عِنْدَ الفِكاكِ؛ وإبْطالُ النَّبِيِّ ﷺ شَرْطَ اسْتِحْقاقِ مِلْكِهِ بِمُضِيِّ الأجَلِ قَدْ حَوى مَعانِيَ؛ مِنها أنَّ الرَّهْنَ لا تُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ الفاسِدَةُ؛ بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ ويَجُوزُ هُوَ؛ لِإبْطالِ النَّبِيِّ ﷺ شَرْطَهُمْ؛ وإجازَتِهِ الرَّهْنَ؛ ومِنها أنَّ الرَّهْنَ لَمّا كانَ شَرْطُ صِحَّتِهِ القَبْضَ؛ كالهِبَةِ؛ والصَّدَقَةِ؛ ثُمَّ لَمْ تُفْسِدْهُ الشُّرُوطُ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ ما لا يَصِحُّ إلّا بِالقَبْضِ مِنَ الهِباتِ؛ والصَّدَقاتِ؛ في أنَّ الشُّرُوطَ لا تُفْسِدُها؛ لِاجْتِماعِها في كَوْنِ القَبْضِ شَرْطًا لِصِحَّتِها؛ وقَدْ دَلَّ هَذا الخَبَرُ أيْضًا عَلى أنَّ عُقُودَ التَّمْلِيكاتِ لا تُعَلَّقُ عَلى الأخْطارِ؛ لِأنَّ شَرْطَهم لِمِلْكِ الرَّهْنِ بِمُضِيِّ المُدَّةِ كانَ تَمْلِيكًا مُعَلَّقًا عَلى خَطَرٍ؛ وعَلى مَجِيءِ وقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ؛ فَأبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ شَرْطَ التَّمْلِيكِ عَلى هَذا الوَجْهِ؛ فَصارَ ذَلِكَ أصْلًا في سائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكاتِ؛ والبَراءَةِ في امْتِناعِ تَعَلُّقِها عَلى الأخْطارِ؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا - فِيمَن قالَ: إذا جاءَ غَدًا فَقَدْ وهَبْتُ لَكَ العَبْدَ؛ أوْ قالَ: قَدْ بِعْتُكَهُ -: إنَّهُ باطِلٌ؛ لا يَقَعُ بِهِ المِلْكُ؛ وكَذَلِكَ إذا قالَ: إذا جاءَ غَدًا فَقَدْ أبْرَأْتُكَ مِمّا لِي عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ؛ كانَ ذَلِكَ باطِلًا؛ وفارَقَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ العَتاقَ؛ والطَّلاقَ؛ في جَوازِ تَعَلُّقِهِما عَلى الأخْطارِ؛ لِأنَّ لَهُما أصْلًا آخَرَ؛ وهو أنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ أجازَ الكِتابَةَ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿فَكاتِبُوهم إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ٣٣]؛ وهو أنْ يَقُولَ: "كاتَبْتُكَ عَلى ألْفِ دِرْهَمٍ؛ فَإنْ أدَّيْتَ فَأنْتَ حُرٌّ؛ وإنْ عَجَزْتَ فَأنْتَ رَقِيقٌ"؛ وذَلِكَ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ عَلى خَطَرٍ؛ وعَلى مَجِيءِ حالٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ وقالَ في شَأْنِ الطَّلاقِ: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]؛ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ إيقاعِهِ في الحالِ؛ وبَيْنَ إضافَتِهِ إلى وقْتِ السُّنَّةِ؛ ولَمّا كانَ إيجابُ هَذا العَقْدِ - أعْنِي العِتْقَ عَلى مالٍ؛ والخُلْعَ بِمالٍ (p-٢٦٨)مَشْرُوطٍ لِلزَّوْجِ - يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيما أوْجَبَهُ قَبْلَ قَبُولِ العَبْدِ؛ والمَرْأةِ؛ صارَ ذَلِكَ عِتْقًا مُعَلَّقًا عَلى شَرْطٍ؛ بِمَنزِلَةِ شُرُوطِ الأيْمانِ؛ الَّتِي لا سَبِيلَ إلى الرُّجُوعِ فِيها؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ تَعَلُّقِهِما عَلى شُرُوطٍ؛ وأوْقاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ والمَعْنى في هَذَيْنِ أنَّهُما لا يَلْحَقُهُما الفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِما؛ وسائِرُ العُقُودِ الَّتِي ذَكَرْناها؛ مِن عُقُودِ التَّمْلِيكاتِ؛ يَلْحَقُها الفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِها؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَعَلُّقُها عَلى الأخْطارِ.
ونَظِيرُ دَلالَةِ قَوْلِهِ ﷺ «-: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» عَلى ما ذَكَرْنا؛ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ نَهى عَنْ بَيْعِ المُنابَذَةِ؛ والمُلامَسَةِ؛ وعَنْ بَيْعِ الحَصاةِ»؛ وهَذِهِ بِياعاتٌ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَتَعامَلُونَ بِها؛ فَكانَ أحَدُهم إذا لَمَسَ السِّلْعَةَ؛ أوْ ألْقى الثَّوْبَ إلى صاحِبِهِ؛ أوْ وضَعَ عَلَيْهِ حَصاةً؛ وجَبَ البَيْعُ؛ فَكانَ وُقُوعُ المِلْكِ مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِ الإيجابِ والقَبُولِ؛ بَلْ بِفِعْلٍ آخَرَ يَفْعَلُهُ أحَدُهُما؛ فَأبْطَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ عُقُودَ التَّمْلِيكاتِ لا تَتَعَلَّقُ عَلى الأخْطارِ؛ وإنَّما جَعَلَ أصْحابُنا الرَّهْنَ مَضْمُونًا بِأقَلَّ مِن قِيمَتِهِ؛ ومِنَ الدَّيْنِ؛ مِن قِبَلِ أنَّهُ لَمّا كانَ مَقْبُوضًا لِلِاسْتِيفاءِ وجَبَ اعْتِبارُ ما يَصِحُّ الِاسْتِيفاءُ بِهِ؛ وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُسْتَوْفى مِن عِدَّةٍ أقَلَّ مِنها؛ ولا أكْثَرَ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ أمِينًا في الفَضْلِ؛ وضامِنًا لِما نَقَصَ مِنَ الرَّهْنِ عَنِ الدَّيْنِ؛ ومَن جَعَلَهُ بِما فِيهِ؛ قَلَّ أوْ كَثُرَ؛ شَبَّهَهُ بِالمَبِيعِ إذا هَلَكَ في يَدِ البائِعِ؛ أنَّهُ يَهْلَكُ بِالثَّمَنِ؛ قَلَّ أوْ كَثُرَ؛ والمَعْنى الجامِعُ بَيْنَهُما أنَّ كُلَّ واحِدٍ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ؛ ولَيْسَ هَذا كَذَلِكَ عِنْدَنا؛ لِأنَّ المَبِيعَ إنَّما كانَ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ؛ قَلَّ أوْ كَثُرَ؛ لِأنَّ البَيْعَ يُنْتَقَضُ بِهَلاكِهِ؛ فَسَقَطَ الثَّمَنُ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ بَقاءُ الثَّمَنِ مَعَ انْتِقاضِ البَيْعِ؛ وأمّا الرَّهْنُ فَإنَّهُ يَتِمُّ بِهَلاكِهِ؛ ولا يُنْتَقَضُ؛ وإنَّما يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ بِهِ؛ فَوَجَبَ اعْتِبارُ ضَمانِهِ بِما وصَفْنا.
فَإنْ قِيلَ: إذا جازَ أنْ يَكُونَ الفَضْلُ عَنِ الدَّيْنِ أمانَةً؛ فَما أنْكَرْتَ أنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ أمانَةً؛ وألّا يَكُونَ حَبْسُهُ بِالدَّيْنِ لِلِاسْتِيفاءِ مُوجِبًا لِضَمانِهِ؛ لِوُجُودِنا هَذا المَعْنى في الزِّيادَةِ؛ مَعَ عَدَمِ الضَّمانِ فِيها؛ وكَذَلِكَ ولَدُ المَرْهُونَةِ؛ المَوْلُودُ بَعْدَ الرَّهْنِ؛ يَكُونُ مَحْبُوسًا في يَدِ المُرْتَهِنِ مَعَ الأُمِّ؛ ولَوْ هَلَكَ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِيهِ؛ ولَمْ يَكُنْ كَوْنُهُ مَحْبُوسًا في يَدِ المُرْتَهِنِ عِلَّةً لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا؛ قِيلَ لَهُ: إنَّ الزِّيادَةَ عَلى الدَّيْنِ؛ مِن مِقْدارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ ووَلَدِ المَرْهُونَةِ؛ كِلاهُما تابِعٌ لِلْأصْلِ؛ غَيْرُ جائِزٍ إفْرادُهُما دُونَ الأصْلِ؛ إذا أُدْخِلا في العَقْدِ عَلى وجْهِ التَّبَعِ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إفْرادُهُما بِحُكْمِ الضَّمانِ؛ لِامْتِناعِ إفْرادِهِما بِالعَقْدِ المُتَقَدِّمِ قَبْلَ حُدُوثِ الوِلادَةِ؛ ولَيْسَ حُكْمُ ما يَدْخُلُ في العَقْدِ عَلى وجْهِ التَّبَعِ حُكْمَ ما يُفْرَدُ بِهِ؛ ألا تَرى أنَّ ولَدَ أُمِّ الوَلَدِ يَدْخُلُ في حُكْمِ الأُمِّ؛ ويَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيلادِ؛ عَلى وجْهِ التَّبَعِ؛ ولا يَصِحُّ انْفِرادُهُ في الأصْلِ (p-٢٦٩)بِهَذا الحَقِّ؛ لا عَلى وجْهِ التَّبَعِ؟ وكَذَلِكَ ولَدُ المُكاتَبَةِ؛ يَدْخُلُ في الكِتابَةِ؛ وهو حَمْلٌ مَعَ اسْتِحالَةِ إفْرادِهِ بِالعَقْدِ في تِلْكَ الحالِ؛ فَكَذَلِكَ ما ذَكَرْتَ مِن زِيادَةِ الرَّهْنِ؛ ووَلَدِ المَرْهُونَةِ؛ لَمّا دَخَلا في العَقْدِ عَلى وجْهِ التَّبَعِ لَمْ يَلْزَمْ عَلى ذَلِكَ أنْ يُجْعَلَ حُكْمُهُما حُكْمَ الأصْلِ؛ ولا أنْ يَلْحَقَهُما بِمَنزِلَةِ ما ابْتُدِئَ العَقْدُ عَلَيْهِما؛ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ رَجُلًا لَوْ أهْدى بَدَنَةً فَزادَتْ في بَدَنِها؛ أوْ ولَدَتْ؛ أنَّ عَلَيْهِ أنْ يُهْدِيَها بِزِيادَتِها ووَلَدِها؛ ولَوْ ذَهَبَتِ الزِّيادَةُ؛ وهَلَكَ الوَلَدُ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالهَلاكِ شَيْءٌ غَيْرُ ما كانَ عَلَيْهِ؛ وكَذَلِكَ لَوْ كانَ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وسَطٌ؛ فَأهْدى بَدَنَةً خِيارًا؛ مُرْتَفِعَةً؛ أنَّ هَذِهِ الزِّيادَةَ حُكْمُها ثابِتٌ ما بَقِيَ الأصْلُ؛ فَإنْ هَلَكَ قَبْلَ أنْ يَنْحَرَ بَطَلَ حُكْمُ الزِّيادَةِ؛ وعادَ إلى ما كانَ عَلَيْهِ في ذِمَّتِهِ؛ وكَذَلِكَ لَوْ كانَ بَدَلُ الزِّيادَةِ ولَدًا ولَدَتْهُ؛ كانَ في هَذِهِ المَنزِلَةِ؛ فَكَذَلِكَ ولَدُ المَرْهُونَةِ؛ وزِيادَتُها عَلى قِيمَةِ الرَّهْنِ هَذا حُكْمُها في بَقاءِ حُكْمِها؛ ما داما قائِمَيْنِ؛ وسُقُوطِ حُكْمِهِما إذا هَلَكا؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ذِكْرُ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ في الِانْتِفاعِ بِالرَّهْنِ
قالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ؛ وزُفَرُ: "لا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الِانْتِفاعُ بِشَيْءٍ مِنَ الرَّهْنِ؛ ولا الرّاهِنُ أيْضًا"؛ وقالُوا: "إذا آجَرَ المُرْتَهِنُ الرَّهْنَ بِإذْنِ الرّاهِنِ؛ أوْ آجَرَهُ الرّاهِنُ بِإذْنِ المُرْتَهِنِ؛ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ؛ ولا يَعُودُ"؛ وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: "إذا آجَرَهُ المُرْتَهِنُ بِإذْنِ الرّاهِنِ فَهو رَهْنٌ عَلى حالِهِ؛ والغَلَّةُ لِلْمُرْتَهِنِ قَضاءً مِن حَقِّهِ"؛ وقالَ ابْنُ القاسِمِ؛ عَنْ مالِكٍ: "إذا خَلّى المُرْتَهِنُ بَيْنَ الرَّهْنِ؛ والرّاهِنِ؛ يُكْرِيهِ؛ أوْ يُسَكِّنُهُ؛ أوْ يُعِيرُهُ؛ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا؛ وإذا آجَرَهُ المُرْتَهِنُ بِإذْنِ الرّاهِنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الرَّهْنِ؛ وكَذَلِكَ إذا أعارَهُ المُرْتَهِنُ بِإذْنِ الرّاهِنِ؛ فَهو رَهْنٌ عَلى حالِهِ؛ فَإذا آجَرَهُ المُرْتَهِنُ بِإذْنِ الرّاهِنِ فالأجْرُ لِرَبِّ الأرْضِ؛ ولا يَكُونُ الكَرْيُ رَهْنًا بِحَقِّهِ؛ إلّا أنْ يَشْتَرِطَ المُرْتَهِنُ"؛ فَإنِ اشْتَرَطَ في البَيْعِ أنْ يَرْتَهِنَ؛ ويَأْخُذَ حَقَّهُ مِنَ الكَرْيِ؛ فَإنَّ مالِكًا كَرِهَ ذَلِكَ؛ وإنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ في البَيْعِ؛ وتَبَرَّعَ بِهِ الرّاهِنُ بَعْدَ البَيْعِ؛ فَلا بَأْسَ بِهِ؛ وإنْ كانَ البَيْعُ وقَعَ بِهَذا الشَّرْطِ إلى أجَلٍ مَعْلُومٍ؛ أوْ شَرَطَ فِيهِ البائِعُ بَيْعَهُ الرَّهْنَ لِيَأْخُذَها مِن حَقِّهِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ جائِزٌ عِنْدَ مالِكٍ؛ في الدُّورِ؛ والأرْضِ؛ وكَرِهَهُ في الحَيَوانِ.
وذَكَرَ المُعافى؛ عَنِ الثَّوْرِيِّ أنَّهُ كَرِهَ أنْ يُنْتَفَعَ مِنَ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ؛ ولا يُقْرَأ في المُصْحَفِ المَرْهُونِ؛ وقالَ الأوْزاعِيُّ: "غَلَّةُ الرَّهْنِ لِصاحِبِهِ؛ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنها؛ والفَضْلُ لَهُ؛ فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ؛ وكانَ يَسْتَخْدِمُهُ؛ فَطَعامُهُ بِخِدْمَتِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَخْدِمُهُ فَنَفَقَتُهُ عَلى صاحِبِهِ"؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: "لا يَسْتَعْمِلُ الرَّهْنَ؛ (p-٢٧٠)ولا يَنْتَفِعُ بِهِ؛ إلّا أنْ يَكُونَ دارًا يَخافُ خَرابَها؛ فَيَسْكُنَها المُرْتَهِنُ؛ لا يُرِيدُ الِانْتِفاعَ بِها؛ وإنَّما يُرِيدُ إصْلاحَها"؛ وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى: "إذا لَبِسَ المُرْتَهِنُ الخاتَمَ لِلتَّجَمُّلِ ضَمِنَ؛ وإنْ لَبِسَهُ لِيَحُوزَهُ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ"؛ وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: "لا بَأْسَ بِأنْ يَسْتَعْمِلَ العَبْدُ الرَّهْنَ بِطَعامِهِ؛ إذا كانَتِ النَّفَقَةُ بِقَدْرِ العَمَلِ؛ فَإنْ كانَ العَمَلُ أكْثَرَ أخَذَ فَضْلَ ذَلِكَ مِنَ المُرْتَهِنِ"؛ وقالَ المُزَنِيُّ عَنِ الشّافِعِيِّ؛ فِيما رَوى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «"اَلرَّهْنُ مَحْلُوبٌ؛ ومَرْكُوبٌ"؛» أيْ: مَن رَهَنَ ذاتَ ظَهْرٍ ودَرٍّ؛ لَمْ يَمْنَعِ الرَّهْنُ مِن ظَهْرِها ودَرِّها؛ ولِلرّاهِنِ أنْ يَسْتَخْدِمَ العَبْدَ؛ ويَرْكَبَ الدّابَّةَ؛ ويَحْلُبَ الدَّرَّ؛ ويَجُزَّ الصُّوفَ؛ ويَأْوِيَ بِاللَّيْلِ إلى المُرْتَهِنِ؛ أوِ المَوْضُوعِ عَلى يَدِهِ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾؛ فَجَعَلَ القَبْضَ مِن صِفاتِ الرَّهْنِ؛ أوْجَبَ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ اسْتِحْقاقُ القَبْضِ مُوجِبًا لِإبْطالِ الرَّهْنِ؛ فَإذا آجَرَهُ أحَدُهُما بِإذْنِ صاحِبِهِ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأنَّ المُسْتَأْجِرَ قَدِ اسْتَحَقَّ القَبْضَ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ الرَّهْنُ؛ ولَيْسَ ذَلِكَ كالعارِيَّةِ عِنْدَنا؛ لِأنَّ العارِيَّةَ لا تُوجِبُ اسْتِحْقاقَ القَبْضِ؛ إذْ لِلْمُعِيرِ أنْ يَرُدَّ العارِيَّةَ إلى يَدِهِ مَتى شاءَ؛ واحْتَجَّ مَن أجازَ إجارَتَهُ؛ والِانْتِفاعَ بِهِ؛ بِما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا هَنّادٌ عَنِ ابْنِ المُبارَكِ؛ عَنْ زَكَرِيّا؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «"لَبَنُ الدَّرِّ يُحْلَبُ بِنَفَقَتِهِ؛ إذا كانَ مَرْهُونًا؛ والظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ؛ إذا كانَ مَرْهُونًا؛ وعَلى الَّذِي يَرْكَبُ ويَحْلُبُ النَّفَقَةُ"؛» فَذَكَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ لِرُكُوبِ ظَهْرِهِ؛ وشُرْبِ لَبَنِهِ؛ ومَعْلُومٌ أنَّ الرّاهِنَ إنَّما يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ لِمِلْكِهِ؛ لا لِرُكُوبِهِ ولَبَنِهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِمّا يُرْكَبُ أوْ يُحْلَبُ؛ لَزِمَتْهُ النَّفَقَةُ؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ أنَّ اللَّبَنَ والظَّهْرَ لِلْمُرْتَهِنِ بِالنَّفَقَةِ الَّتِي يُنْفِقُها؛ وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ هُشَيْمٌ في حَدِيثِهِ؛ فَإنَّهُ رَواهُ عَنْ زَكَرِيّا بْنِ أبِي زائِدَةَ؛ عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «"إذا كانَتِ الدّابَّةُ مَرْهُونَةً؛ فَعَلى المُرْتَهِنِ عَلَفُها؛ ولَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ؛ وعَلى الَّذِي يَشْرَبُ نَفَقَتُها؛ ويَرْكَبُ"؛» فَبَيَّنَ في هَذا الخَبَرِ أنَّ المُرْتَهِنَ هو الَّذِي تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ؛ ويَكُونُ لَهُ ظَهْرُهُ ولَبَنُهُ؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: "إنَّ نَفَقَتَهُ عَلى الرّاهِنِ دُونَ المُرْتَهِنِ"؛ فَهَذا الحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ؛ لا لَهُ؛ وقَدْ رَوى الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي خالِدٍ؛ عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: "لا يُنْتَفَعُ مِنَ الرَّهْنِ بِشَيْءٍ"؛ فَقَدْ تَرَكَ الشَّعْبِيُّ ذَلِكَ؛ وهو رِوايَةٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أحَدِ مَعْنَيَيْنِ؛ إمّا أنْ يَكُونَ الحَدِيثُ غَيْرَ ثابِتٍ في الأصْلِ؛ وإمّا أنْ يَكُونَ ثابِتًا؛ وهو مَنسُوخٌ عِنْدَهُ؛ وهو كَذَلِكَ عِنْدَنا؛ لِأنَّ مِثْلَهُ كانَ جائِزًا قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبا؛ فَلَمّا حُرِّمَ الرِّبا؛ ورُدَّتِ الأشْياءُ إلى مَقادِيرِها؛ صارَ ذَلِكَ مَنسُوخًا؛ ألا تَرى أنَّهُ جَعَلَ النَّفَقَةَ بَدَلًا مِنَ اللَّبَنِ؛ قَلَّ أوْ كَثُرَ؟ وهو نَظِيرُ (p-٢٧١)ما رُوِيَ في المُصَرّاةِ أنَّهُ يَرُدُّها؛ ويَرُدُّ مَعَها صاعًا مِن تَمْرٍ؛ ولَمْ يَعْتَبِرْ مِقْدارَ اللَّبَنِ الَّذِي أخَذَهُ؛ وذَلِكَ أيْضًا عِنْدَنا مَنسُوخٌ بِتَحْرِيمِ الرِّبا؛ ويَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ القائِلِينَ بِإيجابِ الرُّكُوبِ واللَّبَنِ لِلرّاهِنِ؛ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) جَعَلَ مِن صِفاتِ الرَّهْنِ القَبْضَ؛ كَما جَعَلَ مِن صِفاتِ الشَّهادَةِ العَدالَةَ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [المائدة: ١٠٦]؛ وقَوْلِهِ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ [البقرة: ٢٨٢]؛ ومَعْلُومٌ أنَّ زَوالَ هَذِهِ الصِّفَةِ عَنِ الشَّهادَةِ يَمْنَعُ جَوازَ الشَّهادَةِ؛ فَكَذَلِكَ لَمّا جَعَلَ مِن صِفاتِ الرَّهْنِ أنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا؛ بِقَوْلِهِ: ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾؛ وجَبَ إبْطالُ الرَّهْنِ؛ لِعَدَمِ هَذِهِ الصِّفَةِ؛ وهو اسْتِحْقاقُ القَبْضِ؛ فَلَوْ كانَ الرّاهِنُ مُسْتَحِقًّا لِلْقَبْضِ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ الرَّهْنُ؛ لَمَنَعَ ذَلِكَ مِن صِحَّتِهِ بَدِيًّا؛ لِمُقارَنَةِ ما يُبْطِلُهُ؛ ولَوْ صَحَّ بَدِيًّا لَوَجَبَ أنْ يَبْطُلَ بِاسْتِحْقاقِ قَبْضِهِ وُجُوبُ رَدِّهِ إلى يَدِهِ؛ وأيْضًا لَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ الرّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِن وطْءِ الأمَةِ المَرْهُونَةِ؛ والوَطْءُ مِن مَنافِعِها؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ سائِرِ المَنافِعِ في بُطْلانِ حَقِّ الرّاهِنِ فِيها؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الرّاهِنَ إنَّما لَمْ يَسْتَحِقَّ الوَطْءَ لِأنَّ المُرْتَهِنَ يَسْتَحِقُّ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَيْها؛ كَذَلِكَ الِاسْتِخْدامُ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيمَن شَرَطَ مِلْكَ الرَّهْنِ لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ حُلُولِ الأجَلِ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ: "إذا رَهَنَهُ رَهْنًا؛ وقالَ: إنْ جِئْتُكَ بِالمالِ إلى شَهْرٍ؛ وإلّا فَهو بَيْعٌ؛ فالرَّهْنُ جائِزٌ؛ والشَّرْطُ باطِلٌ"؛ وقالَ مالِكٌ: اَلرَّهْنُ فاسِدٌ؛ ويُنْقَضُ؛ فَإنْ لَمْ يُنْقَضْ حَتّى حَلَّ الأجَلُ فَإنَّهُ لا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ بِذَلِكَ الشَّرْطِ؛ ولِلْمُرْتَهِنِ أنْ يَحْبِسَهُ بِحَقِّهِ؛ وهو أحَقُّ بِهِ مِن سائِرِ الغُرَماءِ؛ فَإنْ تَغَيَّرَ في يَدِهِ لَمْ يُرَدَّ؛ ولَزِمَتْهُ القِيمَةُ في ذَلِكَ يَوْمَ حَلَّ الأجَلُ؛ وهَذا في السِّلَعِ؛ والحَيَوانِ؛ وأمّا في الدُّورِ والأرْضِينَ؛ فَإنَّهُ يَرُدُّها إلى الرّاهِنِ؛ وإنْ تَطاوَلَ؛ إلّا أنْ تَنْهَدِمَ الدّارُ؛ أوْ يُبْنى فِيها؛ أوْ يُغْرَسَ في الأرْضِ؛ فَهَذا فَوْتٌ؛ ويُغْرَمُ القِيمَةَ؛ مِثْلَ البَيْعِ الفاسِدِ.
وقالَ المُعافى؛ عَنِ الثَّوْرِيِّ - في الرَّجُلِ يَرْهَنُ صاحِبَهُ المَتاعَ؛ ويَقُولُ: إنْ لَمْ آتِكَ فَهو لَكَ - قالَ: لا يَغْلَقُ ذَلِكَ الرَّهْنُ؛ وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: "لَيْسَ قَوْلُهُ هَذا بِشَيْءٍ"؛ وقالَ الرَّبِيعُ؛ عَنِ الشّافِعِيِّ: "لَوْ رَهَنَهُ وشَرَطَ لَهُ إنْ لَمْ يَأْتِهِ بِالحَقِّ إلى كَذا فالرَّهْنُ لَهُ بَيْعٌ؛ فالرَّهْنُ فاسِدٌ؛ والرَّهْنُ لِصاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: اِتَّفَقُوا أنَّهُ لا يَمْلِكُهُ بِمُضِيِّ الأجَلِ؛ واخْتَلَفُوا في جَوازِ الرَّهْنِ وفَسادِهِ؛ وقَدْ بَيَّنّا فِيما سَلَفَ أنَّ قَوْلَهُ: «"لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ"؛» أنَّهُ لا يَمْلِكُ بِالدَّيْنِ بِمُضِيِّ الأجَلِ؛ لِلشَّرْطِ الَّذِي شَرَطاهُ؛ فَإنَّما نَفى النَّبِيُّ ﷺ غَلْقَهُ بِذَلِكَ؛ ولَمْ يَنْفِ صِحَّةَ الرَّهْنِ الَّذِي شَرَطاهُ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى جَوازِ الرَّهْنِ؛ وبُطْلانِ الشَّرْطِ؛ وهو أيْضًا قِياسُ العُمْرى؛ الَّتِي أبْطَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِيها الشَّرْطَ؛ وأجازَ الهِبَةَ؛ والمَعْنى الجامِعُ (p-٢٧٢)بَيْنَهُما أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما لا يَصِحُّ بِالعَقْدِ دُونَ القَبْضِ.
واخْتَلَفُوا أيْضًا في مِقْدارِ الدَّيْنِ إذا اخْتَلَفَ فِيهِ الرّاهِنُ والمُرْتَهِنُ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ: "إذا هَلَكَ واخْتَلَفَ الرّاهِنُ والمُرْتَهِنُ في مِقْدارِ الدَّيْنِ؛ فالقَوْلُ قَوْلُ الرّاهِنِ في الدَّيْنِ؛ مَعَ يَمِينِهِ"؛ وهو قَوْلُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ؛ والشّافِعِيِّ؛ وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ؛ وعُثْمانَ البَتِّيِّ؛ وقالَ طاوُسٌ: "يُصَدَّقُ المُرْتَهِنُ إلى ثَمَنِ الرَّهْنِ؛ ويُسْتَحْلَفُ"؛ وكَذَلِكَ قَوْلُ الحَسَنِ؛ وقَتادَةَ؛ والحَكَمِ؛ وقالَ إياسُ بْنُ مُعاوِيَةَ قَوْلًا بَيْنَ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ؛ قالَ: "إنْ كانَ لِلرّاهِنِ بَيِّنَةٌ بِدَفْعِهِ الرَّهْنَ فالقَوْلُ قَوْلُ الرّاهِنِ؛ وإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فالقَوْلُ قَوْلُ المُرْتَهِنِ؛ لِأنَّهُ لَوْ شاءَ جَحَدَهُ الرَّهْنَ؛ ومَتى أقَرَّ بِشَيْءٍ ولَيْسَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ؛ فالقَوْلُ قَوْلُهُ"؛ وقالَ ابْنُ وهْبٍ؛ عَنْ مالِكٍ: "إذا اخْتَلَفا في الدَّيْنِ؛ والرَّهْنُ قائِمٌ؛ فَإنْ كانَ الرَّهْنُ قَدْرَ حَقِّ المُرْتَهِنِ؛ أخَذَهُ المُرْتَهِنُ؛ وكانَ أوْلى بِهِ؛ ويُحَلِّفُهُ؛ إلّا أنْ يَشاءَ رَبُّ الرَّهْنِ أنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ عَلَيْهِ؛ ويَأْخُذَ رَهْنَهُ"؛ وقالَ ابْنُ القاسِمِ؛ عَنْ مالِكٍ: "اَلْقَوْلُ قَوْلُ المُرْتَهِنِ فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لا يُصَدَّقُ عَلى أكْثَرَ مِن ذَلِكَ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٨٢]؛ فِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لِأنَّهُ وعَظَهُ في البَخْسِ؛ وهو النُّقْصانُ؛ فَيَدُلُّ عَلى أنَّ القَوْلَ قَوْلُهُ؛ وأيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «"اَلْبَيِّنَةُ عَلى المُدَّعِي؛ واليَمِينُ عَلى المُدَّعى عَلَيْهِ"؛» والمُرْتَهِنُ هو المُدَّعِي؛ والرّاهِنُ هو المُدَّعى عَلَيْهِ؛ فالقَوْلُ قَوْلُهُ بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ ﷺ؛ وأيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ رَهْنٌ لَكانَ القَوْلُ قَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ في مِقْدارِهِ بِالِاتِّفاقِ؛ كَذَلِكَ إذا كانَ بِهِ رَهْنٌ؛ لِأنَّ الرَّهْنَ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ مُدَّعًى عَلَيْهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وزَعَمَ بَعْضُ مَن يَحْتَجُّ لِمالِكٍ أنَّ قَوْلَهُ أشْبَهُ بِظاهِرِ القُرْآنِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾؛ فَأقامَ الرَّهْنَ مَقامَ الشَّهادَةِ؛ ولَمْ يَأْتَمِنِ الذِي عَلَيْهِ الحَقُّ؛ حِينَ أخَذَ مِنهُ وثِيقَةً؛ كَما لَمْ يَأْتَمِنهُ عَلى مَبْلَغِهِ إذا أشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودَ؛ لِأنَّ الشُّهُودَ والكِتابَ تُنَبِّئُ عَنْ مَبْلَغِ الحَقِّ؛ فَلَمْ يُصَدَّقِ الرّاهِنُ؛ وقامَ الرَّهْنُ مَقامَ الشُّهُودِ؛ إلى أنْ يَبْلُغَ قِيمَتَهُ؛ فَإذا جاوَزَ قِيمَتَهُ فَلا وثِيقَةَ فِيهِ؛ والمُرْتَهِنُ مُدَّعٍ فِيهِ؛ والرّاهِنُ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا مِن عَجِيبِ الحِجاجِ؛ وذَلِكَ أنَّهُ زَعَمَ أنَّهُ لَمّا لَمْ يَأْتَمِنهُ حَتّى أخَذَ الرَّهْنَ؛ قامَ الرَّهْنُ مَقامَ الشَّهادَةِ؛ وزَعَمَ مَعَ ذَلِكَ أنَّ ذَلِكَ مُوافِقٌ لِظاهِرِ القُرْآنِ؛ وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ (تَعالى) القَوْلَ قَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ؛ حِينَ قالَ: ﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [البقرة: ٢٨٢]؛ فَجَعَلَ القَوْلَ قَوْلَهُ في الحالِ الَّتِي أُمِرَ فِيها بِالإشْهادِ والكِتابِ؛ ولَمْ يَجْعَلْ عَدَمَ ائْتِمانِ الطّالِبِ (p-٢٧٣)لِلْمَطْلُوبِ مانِعًا مِن أنْ يَكُونَ القَوْلُ قَوْلَ المَطْلُوبِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ ائْتِمانِهِ إيّاهُ بِالتَّوَثُّقِ مِنهُ بِالرَّهْنِ مانِعًا مِن قَبُولِ قَوْلِ المَطْلُوبِ؛ ومُوجِبًا لِتَصْدِيقِ الطّالِبِ عَلى ما يَدَّعِيهِ؟ والَّذِي ذَكَرَهُ مُخالِفٌ لِظاهِرِ القُرْآنِ؛ والعِلَّةُ الَّتِي نَصَبَها لِتَصْدِيقِ المُرْتَهِنِ في تَرْكِ ائْتِمانِهِ مُنْتَقِضَةٌ بِنَصِّ الكِتابِ؛ ثُمَّ دَعْواهُ مُوافَقَتَهُ لِظاهِرِ القُرْآنِ أعْجَبُ الأشْياءِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ القُرْآنَ قَدْ قَضى بِبُطْلانِ قَوْلِهِ حِينَ جَعَلَ القَوْلَ قَوْلَ المَطْلُوبِ؛ في الحالِ الَّتِي لَمْ يُؤْتَمَن فِيها؛ حَتّى اسْتَوْثَقَ مِنهُ بِالكِتابِ والإشْهادِ؛ وهو إنَّما زَعَمَ أنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنهُ حِينَ أخَذَ الرَّهْنَ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ القَوْلُ قَوْلَ الطّالِبِ؛ ثُمَّ زَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ مُوافِقٌ لِظاهِرِ القُرْآنِ؛ وبَنى عَلَيْهِ أنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنهُ؛ وأنَّ الرَّهْنَ تَوَثُّقٌ؛ كَما أنَّ الشَّهادَةَ تَوَثُّقٌ؛ فَقامَ الرَّهْنُ مَقامَ الشَّهادَةِ؛ ولَيْسَ ما ذَكَرَهُ مِنَ المَعْنى مِن ظاهِرِ القُرْآنِ في شَيْءٍ؛ وإنّا كُنّا قَدْ دَلَلْنا عَلى أنَّهُ مُخالِفٌ لَهُ؛ وإنَّما هو قِياسٌ ورَدَ لِمَسْألَةِ الرَّهْنِ إلى مَسْألَةِ الشَّهادَةِ بِعِلَّةِ أنَّهُ لَمْ يُؤْتَمَن في الحالَيْنِ عَلى الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ؛ وهو قِياسٌ باطِلٌ مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها أنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ يَرُدُّهُ؛ وهو ما قَدَّمْناهُ؛ والثّانِي أنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ مَن لَهُ عَلى رَجُلٍ دَيْنٌ فَأخَذَ مِنهُ كَفِيلًا؛ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في مِقْدارِهِ؛ كانَ القَوْلُ قَوْلَ المَطْلُوبِ فِيما يَلْزَمُهُ؛ ولَمْ يَكُنْ عَدَمُ الِائْتِمانِ بِأخْذِهِ الكَفِيلَ مُوجِبًا لِتَصْدِيقِ الطّالِبِ؛ مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ فِيهِ؛ فانْتَقَضَتْ عِلَّتُهُ بِالكَفالَةِ؛ والثّالِثِ أنَّ المَعْنى الَّذِي مِن أجَلِهِ لَمْ يُصَدَّقِ الطّالِبُ؛ إذا قامَتِ البَيِّنَةُ؛ أنَّ شَهادَةَ الشُّهُودِ مَقْبُولَةٌ؛ مَحْكُومٌ بِتَصْدِيقِهِمْ فِيها؛ وهم قَدْ شَهِدُوا عَلى إقْرارِهِ بِأكْثَرَ مِمّا ذَكَرَهُ؛ وبِما ادَّعاهُ المُدَّعِي؛ فَصارَ كَإقْرارِهِ عِنْدَ القاضِي بِالزِّيادَةِ؛ ولا دَلالَةَ في قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلى أنَّ الدَّيْنَ بِمِقْدارِهِ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ جائِزٌ أنْ يَرْهَنَ بِالقَلِيلِ الكَثِيرَ؛ وبِالكَثِيرِ القَلِيلَ؛ ولا تُنْبِئُ قِيمَةُ الرَّهْنِ عَنْ مِقْدارِ الدَّيْنِ؛ ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّهْنُ بِمَنزِلَةِ الشَّهادَةِ؟ ويَدُلُّ عَلى فَسادِ قِياسِهِ هَذا أنَّهُما لَوِ اتَّفَقا عَلى أنَّ الدَّيْنَ أقَلُّ مِن قِيمَةِ الرَّهْنِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ بُطْلانَ الرَّهْنِ؛ ولَوْ أقَرَّ الطّالِبُ أنَّ دَيْنَهُ أقَلُّ مِمّا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ بَطَلَتْ شَهادَةُ شُهُودِهِ؛ فَهَذِهِ الوُجُوهُ كُلُّها تُوجِبُ بُطْلانَ ما ذَكَرَهُ هَذا المُحْتَجُّ.
* * *
وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ﴾؛ كَلامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ؛ وإنْ كانَ مَعْطُوفًا عَلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الأمْرِ بِالإشْهادِ عِنْدَ التَّبايُعِ؛ بِقَوْلِهِ: ﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢]؛ فَهو عُمُومٌ في سائِرِ الشَّهاداتِ الَّتِي يَلْزَمُ الشّاهِدَ إقامَتُها؛ وأداؤُها؛ وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وأقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: ٢]؛ وقَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها (p-٢٧٤)الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: ١٣٥]؛ فَنَهى اللَّهُ (تَعالى) الشّاهِدَ بِهَذِهِ الآياتِ عَنْ كِتْمانِ الشَّهادَةِ الَّتِي تَرَكَها يُؤَدِّي إلى تَضْيِيعِ الحُقُوقِ؛ وهو - عَلى ما بَيَّنّا مِن إثْباتِ الشَّهادَةِ في كُتُبِ الوَثائِقِ؛ وأدائِها بَعْدَ إثْباتِها - فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ؛ فَإذا لَمْ يَكُنْ مَن يَشْهَدُ عَلى الحَقِّ؛ غَيْرُ هَذَيْنِ الشّاهِدَيْنِ؛ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِما فَرْضُ أدائِها؛ ويَلْحَقُهُما إنْ تَخَلَّفا عَنْها الوَعِيدُ المَذْكُورُ في الآيَةِ؛ وقَدْ كانَ نَهْيُهُ عَنِ الكِتْمانِ مُفِيدًا لِوُجُوبِ أدائِها؛ ولَكِنَّهُ (تَعالى) أكَّدَ الفَرْضَ فِيها بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾؛ وإنَّما أضافَ الإثْمَ إلى القَلْبِ؛ وإنْ كانَ في الحَقِيقَةِ الكاتِمُ هو الآثِمَ؛ لِأنَّ المَأْثَمَ فِيهِ إنَّما يَتَعَلَّقُ بِعَقْدِ القَلْبِ؛ ولِأنَّ كِتْمانَ الشَّهادَةِ إنَّما هو عَقْدُ النِّيَّةِ لِتَرْكِ أدائِها بِاللِّسانِ؛ فَعَقْدُ النِّيَّةِ مِن أفْعالِ القَلْبِ؛ لا نَصِيبَ لِلْجَوارِحِ فِيهِ.
وقَدِ انْتَظَمَ الكاتِمُ لِلشَّهادَةِ المَأْثَمَ مِن وجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما عَزْمُهُ عَلى ألّا يُؤَدِّيَها؛ والثّانِي تَرْكُ أدائِها بِاللِّسانِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿آثِمٌ قَلْبُهُ﴾؛ مَجازٌ؛ لا حَقِيقَةٌ؛ وهو آكَدُ في هَذا المَوْضِعِ مِنَ الحَقِيقَةِ لَوْ قالَ: "ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ"؛ وأبْلَغُ مِنهُ؛ وأدَلُّ عَلى الوَعِيدِ؛ وهو مِن بَدِيعِ البَيانِ؛ ولَطِيفِ الإعْرابِ عَنِ المَعانِي - تَعالى اللَّهُ الحَكِيمُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وآيَةُ الدَّيْنِ - بِما فِيها مِن ذِكْرِ الِاحْتِياطِ بِالكِتابِ؛ والشُّهُودِ المَرْضِيِّينَ؛ والرَّهْنِ - تَنْبِيهٌ عَلى مَوْضِعِ صَلاحِ الدِّينِ؛ والدُّنْيا مَعَهُ؛ فَأمّا في الدُّنْيا فَصَلاحُ ذاتِ البَيْنِ؛ ونَفْيُ التَّنازُعِ والِاخْتِلافِ؛ وفي التَّنازُعِ والِاخْتِلافِ فَسادُ ذاتِ البَيْنِ؛ وذَهابُ الدِّينِ والدُّنْيا؛ قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦]؛ وذَلِكَ أنَّ المَطْلُوبَ إذا عَلِمَ أنَّ عَلَيْهِ دِينًا؛ وشُهُودًا؛ وكِتابًا؛ ورَهْنًا بِما عَلَيْهِ؛ وثِيقَةً في يَدِ الطّالِبِ؛ قَلَّ الخِلافُ؛ عِلْمًا مِنهُ أنَّ خِلافَهُ؛ وبَخْسَهُ لِحَقِّ المَطْلُوبِ لا يَنْفَعُهُ؛ بَلْ يَظْهَرُ كَذِبُهُ بِشَهادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ؛ وفِيهِ وثِيقَةٌ واحْتِياطٌ لِلطّالِبِ؛ وفي ذَلِكَ صَلاحٌ لَهُما جَمِيعًا في دِينِهِما؛ ودُنْياهُما؛ لِأنَّ في تَرْكِهِ بَخْسَ حَقِّ الطّالِبِ صَلاحَ دِينِهِ؛ وفي جُحُودِهِ وبَخْسِهِ ذَهابَ دِينِهِ؛ إذا عَلِمَ وُجُوبَهُ؛ وكَذَلِكَ الطّالِبُ إذا كانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ؛ وشُهُودٌ؛ أثْبَتُوا ما لَهُ؛ وإذا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ؛ وجَحَدَ الطّالِبُ؛ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلى مُقابَلَتِهِ بِمِثْلِهِ؛ والمُبالَغَةِ في كَيْدِهِ؛ حَتّى رُبَّما لَمْ يَرْضَ بِمِقْدارِ حَقِّهِ دُونَ الإضْرارِ بِهِ في أضْعافِهِ؛ مَتى أمْكَنَهُ؛ وذَلِكَ مُتَعالَمٌ مِن أحْوالِ عامَّةِ النّاسِ؛ وهَذا نَظِيرُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ (تَعالى) عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ﷺ مِنَ البِياعاتِ المَجْهُولَةِ القَدْرِ؛ والآجالِ المَجْهُولَةِ؛ والأُمُورِ الَّتِي كانَتْ عَلَيْها النّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ ﷺ؛ مِمّا كانَ يُؤَدِّي إلى الِاخْتِلافِ؛ وفَسادِ ذاتِ البَيْنِ؛ وإيقاعِ العَداوَةِ؛ والبَغْضاءِ؛ ونَحْوِهِ؛ مِمّا حَرَّمَ اللَّهُ (تَعالى) مِنَ المَيْسِرِ؛ والقِمارِ؛ وشُرْبِ الخَمْرِ؛ وما يُسْكِرُ؛ فَيُؤَدِّي إلى (p-٢٧٥)العَداوَةِ؛ والبَغْضاءِ؛ والِاخْتِلافِ؛ والشَّحْناءِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوَةَ والبَغْضاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ [المائدة: ٩١]؛ فَأخْبَرَ اللَّهُ (تَعالى) أنَّهُ إنَّما نَهى عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ لِنَفْيِ الِاخْتِلافِ؛ والعَداوَةِ؛ ولِما في ارْتِكابِها مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (تَعالى) وعَنِ الصَّلاةِ؛ فَمَن تَأدَّبَ بِأدَبِ اللَّهِ (تَعالى) وانْتَهى إلى أوامِرِهِ؛ وانْزَجَرَ بِزَواجِرِهِ؛ حازَ صَلاحَ الدِّينِ؛ والدُّنْيا؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولَوْ أنَّهم فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْرًا لَهم وأشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: ٦٦] ﴿وإذًا لآتَيْناهم مِن لَدُنّا أجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٦٧] ﴿ولَهَدَيْناهم صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [النساء: ٦٨]؛ وفي هَذِهِ الآياتِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ (تَعالى) فِيها بِالكِتابِ والإشْهادِ عَلى الدَّيْنِ؛ والعُقُودِ؛ والِاحْتِياطِ فِيها تارَةً بِالشَّهادَةِ؛ وتارَةً بِالرَّهْنِ؛ دَلالَةٌ عَلى وُجُوبِ حِفْظِ المالِ؛ والنَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِهِ؛ وهو نَظِيرُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا﴾ [النساء: ٥]؛ وقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا﴾ [الفرقان: ٦٧]؛ وقَوْلِهِ: ﴿ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٦]؛ اَلْآيَةَ؛ فَهَذِهِ الآيُ دَلالَةٌ عَلى وُجُوبِ حِفْظِ المالِ؛ والنَّهْيِ عَنْ تَبْذِيرِهِ وتَضْيِيعِهِ؛ وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ حَدَّثَنا بَعْضُ مَن لا أتَّهِمُ في الرِّوايَةِ قالَ: أخْبَرَنا مُعاذُ بْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا مُسَدِّدٌ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ الفَضْلِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحاقَ؛ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ؛ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"لا يُحِبُّ اللَّهُ إضاعَةَ المالِ؛ ولا قِيلَ ولا قالَ"؛» وحَدَّثَنا مَن لا أتَّهِمُ قالَ: أخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمِنَ المَسْرُوقِيُّ قالَ: حَدَّثَنا حَسَنٌ الجُعْفِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ؛ عَنْ ورّادٍ قالَ: «كَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: "اُكْتُبْ إلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ لَيْسَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ أحَدٌ"؛ قالَ: فَأمْلى عَلَيَّ؛ وكَتَبْتُ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ثَلاثًا؛ ونَهى عَنْ ثَلاثٍ؛ فَأمّا الثَّلاثُ الَّتِي حَرَّمَ فَعُقُوقُ الأُمَّهاتِ؛ ووَأْدُ البَناتِ؛ ولا وهاتِ؛ والثَّلاثُ الَّتِي نَهى عَنْهُنَّ فَقِيلَ وقالَ؛ وإلْحافُ السُّؤالِ؛ وإضاعَةُ المالِ"».
قالَ (تَعالى): ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ أنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦]؛ حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ المَرْوَزِيُّ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ الجُرْجانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ؛ عَنْ مَعْمَرٍ؛ عَنْ قَتادَةَ؛ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾؛ قالَ: نَسَخَها قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦]؛ وحَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ قالَ: أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ؛ عَنْ مَعْمَرٍ قالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ - في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ - (p-٢٧٦)قالَ: قَرَأها ابْنُ عُمَرَ وبَكى؛ وقالَ: "إنّا لَمَأْخُوذُونَ بِما نُحَدِّثُ بِهِ أنْفُسَنا؟"؛ فَبَكى حَتّى سُمِعَ نَشِيجُهُ؛ فَقامَ رَجُلٌ مِن عِنْدِهِ فَأتى ابْنَ عَبّاسٍ؛ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ؛ فَقالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عُمَرَ؛ لَقَدْ وجَدَ مِنها المُسْلِمُونَ نَحْوًا مِمّا وجَدَ؛ حَتّى نَزَلَتْ بَعْدَها: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] "؛ ورُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ؛ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: "نَسَخَتْها الآيَةُ الَّتِي تَلِيها: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦] "؛ ورَوى مُعاوِيَةُ بْنُ صالِحٍ؛ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾: "إنَّها لَمْ تُنْسَخْ؛ لَكِنَّ اللَّهَ إذا جَمَعَ الخَلْقَ يَوْمَ القِيامَةِ يَقُولُ: (إنِّي أُخْبِرُكم بِما في أنْفُسِكم مِمّا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَلائِكَتِي؛) فَأمّا المُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ؛ ويَغْفِرُ لَهم ما حَدَّثُوا بِهِ أنْفُسَهُمْ؛ وهو قَوْلُهُ: ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥]؛ مِنَ الشَّكِّ؛ والنِّفاقِ".
ورُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ مِثْلُ ذَلِكَ؛ وقالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: كانَ الحَسَنُ يَقُولُ: "هِيَ مُحْكَمَةٌ؛ لَمْ تُنْسَخْ"؛ ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّها مُحْكَمَةٌ في الشَّكِّ؛ واليَقِينِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَنسُوخَةً؛ لِمَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما أنَّ الأخْبارَ لا يَجُوزُ فِيها النَّسْخُ؛ لِأنَّ نَسْخَ مُخْبَرِها يَدُلُّ عَلى البَداءِ؛ واللَّهُ (تَعالى) عالِمٌ بِالعَواقِبِ؛ غَيْرُ جائِزٍ عَلَيْهِ البَداءُ؛ والثّانِي أنَّهُ لا يَجُوزُ تَكْلِيفُ [نَفْسٍ] ما لَيْسَ في وُسْعِها؛ لِأنَّهُ سَفَهٌ؛ وعَبَثٌ؛ واللَّهُ (تَعالى) يَتَعالى عَنْ فِعْلِ العَبَثِ؛ وإنَّما قَوْلُ مَن رُوِيَ عَنْهُ أنَّها مَنسُوخَةٌ؛ فَإنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الرّاوِي في اللَّفْظِ؛ وإنَّما أرادَ بَيانَ مَعْناها؛ وإزالَةَ التَّوَهُّمِ عَنْ صَرْفِهِ إلى غَيْرِ وجْهِهِ؛ وقَدْ رَوى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في كِتْمانِ الشَّهادَةِ؛ ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُهُ؛ ورُوِيَ عَنْ غَيْرِهِما أنَّها في سائِرِ الأشْياءِ؛ وهَذا أوْلى؛ لِأنَّهُ عُمُومٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ؛ فَهو عامٌّ في الشَّهادَةِ وغَيْرِها؛ ومِن نَظائِرِ ذَلِكَ؛ في المُؤاخَذَةِ بِكَسْبِ القَلْبِ؛ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٥]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [النور: ١٩]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: ١٠]؛ أيْ: شَكٌّ.
فَإنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"إنَّ اللَّهَ عَفا لِأُمَّتِي عَمّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ؛ أوْ يَعْمَلُوا بِهِ"؛» قِيلَ لَهُ: هَذا فِيما يَلْزَمُهُ مِنَ الأحْكامِ؛ فَلا يَقَعُ عِتْقُهُ؛ ولا طَلاقُهُ؛ ولا بَيْعُهُ؛ ولا صَدَقَتُهُ؛ ولا هِبَتُهُ بِالنِّيَّةِ؛ ما لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ؛ وما ذُكِرَ في الآيَةِ فِيما يُؤاخَذُ بِهِ مِمّا بَيْنَ العَبْدِ؛ وبَيْنَ اللَّهِ (تَعالى)؛ وقَدْ رَوى الحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ عَطِيَّةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾؛ فَقالَ: "سِرُّ عَمَلِكَ؛ وعَلانِيَتُهُ يُحاسِبُكَ بِهِ اللَّهُ؛ ولَيْسَ مِن عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُسِرُّ في نَفْسِهِ خَيْرًا لِيَعْمَلَ (p-٢٧٧)بِهِ؛ فَإنْ عَمِلَ بِهِ كُتِبَ لَهُ بِهِ عَشْرُ حَسَناتٍ؛ وإنْ هو لَمْ يَقْدِرْ [لَهُ أنْ ] يَعْمَلَ بِهِ؛ كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ؛ مِن أجْلِ أنَّهُ مُؤْمِنٌ؛ وإنَّ اللَّهَ رَضِيَ بِسِرِّ المُؤْمِنِينَ؛ وعَلانِيَتِهِمْ؛ وإنْ كانَ شَرًّا حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ؛ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ وأخْبَرَ بِهِ يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرُ؛ فَإنْ هو لَمْ يَعْمَلْ بِهِ؛ لَمْ يُؤاخِذْهُ اللَّهُ بِهِ حَتّى يَعْمَلَ بِهِ؛ فَإنْ هو عَمِلَ بِهِ تَجاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ؛ كَما قالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهم أحْسَنَ ما عَمِلُوا ونَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: ١٦]؛ وهَذا عَلى مَعْنى قَوْلِهِ: «"إنَّ اللَّهَ عَفا لِأُمَّتِي عَمّا حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها؛ ما لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ؛ أوْ يَعْمَلُوا بِهِ"».
{"ayahs_start":283,"ayahs":["۞ وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ وَلَمۡ تَجِدُوا۟ كَاتِبࣰا فَرِهَـٰنࣱ مَّقۡبُوضَةࣱۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضࣰا فَلۡیُؤَدِّ ٱلَّذِی ٱؤۡتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُۥ وَلۡیَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُوا۟ ٱلشَّهَـٰدَةَۚ وَمَن یَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥۤ ءَاثِمࣱ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِیمࣱ","لِّلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُوا۟ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ یُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَیَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"],"ayah":"لِّلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُوا۟ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ یُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَیَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق