الباحث القرآني
(p-64)﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ مِنَ الأُمُورِ الدّاخِلَةِ في حَقِيقَتِهِما والخارِجَةِ عَنْهُما كَيْفَ كانَتْ أيْ كُلُّها مِلْكٌ لَهُ تَعالى ومُخْتَصَّةٌ بِهِ فَلَهُ أنْ يُلْزِمَ مَن شاءَ مِن مَمْلُوكاتِهِ بِما شاءَ مِن تَكْلِيفاتِهِ ولَيْسَ لِأحَدٍ أنَّ يَقُولَ المالُ مالِي أتَصَرَّفُ بِهِ كَيْفَ شِئْتُ، ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ هَذِهِ الجُمْلَةَ كالدَّلِيلِ لِما قَبْلَها ﴿وإنْ تُبْدُوا﴾ أيْ تُظْهِرُوا لِلنّاسِ ﴿ما في أنْفُسِكُمْ﴾ أيْ ما حَصَلَ فِيها حُصُولًا أصْلِيًّا بِحَيْثُ يُوجِبُ اِتِّصافَها بِهِ كالمَلَكاتِ الرَّدِيئَةِ والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ كالحَسَدِ والكِبْرِ والعَجَبِ والكُفْرانِ وكِتْمانِ الشَّهادَةِ ﴿أوْ تُخْفُوهُ﴾ بِأنْ لا تُظْهِرُوهُ.
﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ أيْ يُجازِيكم بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وأمّا تَصَوُّرُ المَعاصِي والأخْلاقِ الذَّمِيمَةِ فَهو لِعَدَمِ إيجابِهِ اِتِّصافَ النَّفْسِ بِهِ لا يُعاقَبُ عَلَيْهِ ما لَمْ يُوجَدْ في الأعْيانِ، وإلى هَذا الإشارَةُ بِقَوْلِهِ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عَنْ أُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لَمْ تَعْمَلْ أوْ تَتَكَلَّمْ» أيْ إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُعاقِبُ أُمَّتِي عَلى تَصَوُّرِ المَعْصِيَةِ وإنَّما يُعاقِبُ عَلى عَمَلِها، فَلا مُنافاةَ بَيْنَ الحَدِيثِ والآيَةِ خِلافًا لِمَن تَوَهَّمَ ذَلِكَ ووَقَعَ في حَيْصَ بَيْصَ لِدَفْعِهِ. ولا يُشْكِلُ عَلى هَذا أنَّهم قالُوا: إذا وصَلَ التَّصَوُّرُ إلى حَدِّ التَّصْمِيمِ والعَزْمِ يُؤاخَذُ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ لِأنّا نَقُولُ: المُؤاخَذَةُ بِالحَقِيقَةِ عَلى تَصْمِيمِ العَزْمِ عَلى إيقاعِ المَعْصِيَةِ في الأعْيانِ وهو أيْضًا مِنَ الكَيْفِيّاتِ النَّفْسانِيَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ بِالمَلَكاتِ ولا كَذَلِكَ سائِرُ ما يَحْدُثُ في النَّفْسِ ونَظَمَهُ بَعْضُهم بِقَوْلِهِ:
؎مَراتِبُ القَصْدِ خَمْسٌ هاجِسٌ ذَكَرُوا فَخاطِرٌ فَحَدِيثُ النَّفْسِ فاسْتَمِعا
؎يَلِيهِ هَمٌّ فَعَزْمٌ كُلُّها رُفِعَتْ ∗∗∗ سِوى الأخِيرِ فَفِيهِ الأخْذُ قَدْ وقَعا
فالآيَةُ عَلى ما قَرَّرَنا مُحْكَمَةٌ، وادَّعى بَعْضُهم أنَّها مَنسُوخَةٌ مُحْتَجًّا بِما أخْرَجَهُ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ الآيَةَ اِشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ جَثَوا عَلى الرَّكْبِ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنا مِنَ الأعْمالِ ما نُطِيقُ الصَّلاةَ والصَّوْمَ والجِهادَ والصَّدَقَةَ وقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةَ ولا نُطِيقُها، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولُوا كَما قالَ أهْلُ الكِتابَيْنِ مِن قَبْلِكُمْ: سَمِعْنا وعَصَيْنا؟ بَلْ قُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ ”، فَلَمّا اِقْتَرَأها القَوْمُ وزَلَّتْ بِها ألْسِنَتُهم أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى في إثْرِها ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآيَةَ فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَها اللَّهُ تَعالى فَأنْزَلَ سُبْحانَهُ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ الخ،» وصَحَّ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وأخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ مَرْوانَ الأصْغَرِ عَنْ رَجُلٍ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ [قالَ] أحْسَبُهُ اِبْنَ عُمَرَ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ قالَ: نَسَخَتْها الآيَةُ الَّتِي بَعْدَها، وعَلى هَذا لا يُحْتاجُ إلى التَّوْفِيقِ بَيْنَ الآيَةِ وذَلِكَ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِوَجْهٍ، ويَكُونُ الحَدِيثُ إخْبارًا عَمّا كانَ بَعْدَ النَّسْخِ.
واسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأنَّ النَّسْخَ مُخْتَصٌّ بِالإنْشاءِ ولا يَجْرِي في الخَبَرِ والآيَةُ الكَرِيمَةُ مِنَ القِسْمِ الثّانِي ومِن هُنا قالَ الطَّبَرْسِيُّ وأخْطَأ أنَّ الرِّواياتِ في النَّسْخِ كُلُّها ضَعِيفَةٌ، وأُجِيبَ بِأنَّ النُّسَخَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلى مَدْلُولِ الخَبَرِ نَفْسِهِ سَواءٌ قُلْنا إنَّهُ مِمّا يَتَغَيَّرُ كَإيمانِ زَيْدٍ وكُفْرِ عَمْرٍو أمْ لا كَوُجُودِ الصّانِعِ وحُدُوثِ العالِمِ بَلْ إنَّ النَّهْيَ المَفْهُومَ مِنهُ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الصَّحابَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ««كُلِّفْنا مِنَ الأعْمالِ ما نُطِيقُ وقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةَ ولا نُطِيقُها»» فَإنَّ ذَلِكَ صَرِيحٌ في أنَّهم فَهِمُوا مِنَ الآيَةِ تَكْلِيفًا، والحُكْمُ الشَّرْعِيُّ المَفْهُومُ مِنَ (p-65)الخَبَرِ يَجُوزُ نَسْخُهُ بِالِاتِّفاقِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلامُ العَضُدِ وغَيْرِهِ.
وبَعْضُ مَنِ اِدَّعى أنَّ الآيَةَ مَحْكَمَةٌ وتَوَقَّفَ في قَبُولِ هَذا الجَوابِ ذَهَبَ إلى أنَّ المُرادَ مِنَ النَّسْخِ البَيانُ وإيضاحُ المُرادِ مَجازًا كَما مَرَّتِ الإشارَةُ إلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾ كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يُحْمَلُ ﴿ما في أنْفُسِكُمْ﴾ عَلى ما يَعُمُّ الوَساوِسَ الضَّرُورِيَّةَ وهو يَسْتَلْزِمُ التَّكْلِيفَ بِما لَيْسَ في الوُسْعِ واَللَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها، واعْتُرِضَ هَذا بِأنَّهُ عَلى بُعْدِهِ يَسْتَلْزِمُ أنَّهُ ﷺ أقَرَّ الصَّحابَةَ عَلى ما فَهِمُوهُ وهو بِمَعْزِلٍ عَنْ مُرادِ اللَّهِ تَعالى ولَمْ يُبَيِّنْهُ لَهم مَعَ ما هم فِيهِ مِنَ الِاضْطِرابِ والوَجَلِ الَّذِي جَثَوا بِسَبَبِهِ عَلى الرَّكْبِ حَتّى نَزَلَتِ الآيَةُ الأُخْرى، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَلى بُعْدٍ بِأنَّهُ لا مَحْذُورَ في هَذا اللّازِمِ ويَلْتَزِمُ بِأنَّهُ مِن قَبِيلِ إقْرارِهِ ﷺ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ حِينَ فَسَّرَ الرُّؤْيا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ، والسَّلامُ وقالَ: «“ أخْطَأْتُ أمْ أصَبْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقالَ لَهُ ﷺ: أصَبْتَ بَعْضَها وأخْطَأْتَ بَعْضَها» ولَمْ يُبَيِّنْ لَهُ فِيما أصابَ وفِيما أخْطَأ لِأمْرٍ ما، ولَعَلَّهُ هُنا اِبْتِلاؤُهم وأنْ يُمَحِّصَ ما في صُدُورِهِمْ وهَذا عَلى العِلّاتِ أوْلى مِن حَمْلِ النَّسْخِ عَلى التَّخْصِيصِ لِاسْتِلْزامِهِ مَعَ ما فِيهِ وُقُوعَ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ كَما لا يَخْفى، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ إنْ تُعْلِنُوا ما في أنْفُسِكم مِنَ السُّوءِ، أوْ لَمْ تُعْلِنُوهُ بِأنْ تَأْتُوا بِهِ خُفْيَةً يُعاقِبْكُمُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، ويَؤُولُ إلى قَوْلِنا إنْ تُدْخِلُوا الأعْمالَ السَّيِّئَةَ في الوُجُودِ ظاهِرًا أوْ خُفْيَةً يُحاسِبْكم بِها اللَّهُ تَعالى، أوْ إنْ تُظْهِرُوا ما في أنْفُسِكم مِن كِتْمانِ الشَّهادَةِ بِأنْ تَقُولُوا لِرَبِّ الشَّهادَةِ عِنْدَنا شَهادَةٌ ولَكِنْ نَكْتُمُها ولا نُؤَدِّيها لَكَ عِنْدَ الحُكّامِ، أوْ تُخْفُوهُ بِأنْ تَقُولُوا لَهُ لَيْسَ في عِلْمِنا خَبَرُ ما تُرِيدُ أنْ نَشْهَدَ بِهِ وأنْتُمْ كاذِبُونَ في ذَلِكَ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ وأُيِّدَ هَذا بِما أخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ مُجاهِدٍ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ قالَ: نَزَلَتْ في الشَّهادَةِ، وقِيلَ: الآيَةُ عَلى ظاهِرِها، و﴿ما في أنْفُسِكُمْ﴾ عَلى عُمُومِهِ الشّامِلِ لِجَمِيعِ الخَواطِرِ إلّا أنَّ مَعْنى ﴿يُحاسِبْكُمْ﴾ يُخْبِرْكم بِهِ اللَّهُ تَعالى يَوْمَ القِيامَةِ، وقَدْ عُدُّوا مِن جُمْلَةِ مَعْنى الحَسِيبِ العَلِيمِ، وجَمِيعُ هَذِهِ الأقْوالِ لا تَخْلُو عَنْ نَظَرٍ، فَتَدَبَّرْ.
وارْجِعْ إلى ذِهْنِكَ فَلا أخالُكَ تَجِدُ فَوْقَ ما ذَكَرْناهُ أوْ مِثْلَهُ في كِتابٍ.
وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى الفاعِلِ لِلِاعْتِناءِ بِهِ، وأمّا تَقْدِيمُ الإبْداءِ عَلى الإخْفاءِ عَلى عَكْسِ ما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ فَلَمّا قِيلَ: إنَّ المُعَلَّقَ بِما في أنْفُسِهِمْ هُنا المُحاسَبَةُ والأصْلُ فِيها الأعْمالُ البادِيَةُ، وأمّا العِلْمُ فَتَعَلُّقُهُ بِها كَتَعَلُّقِهِ بِالأعْمالِ الخافِيَةِ ولا يَخْتَلِفُ الحالُ عَلَيْهِ تَعالى بَيْنَ الأشْياءِ البارِزَةِ والكامِنَةِ بَلْ لا كامِنَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ خَلا أنَّ مَرْتَبَةَ الإخْفاءِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى مَرْتَبَةِ الإبْداءِ [إذْ] ما مِن شَيْءٍ يَبْدُو إلّا وهو أوْ مُبادِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُضْمَرٌ في النَّفْسِ فَتَعَلُّقُ عِلْمِهِ تَعالى بِحالَتِهِ الأُولى مُتَقَدِّمٌ عَلى تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِحالَتِهِ الثّانِيَةِ.
﴿فَيَغْفِرُ﴾ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ أيْ فَهو يَغْفِرُ بِفَضْلِهِ ﴿لِمَن يَشاءُ﴾ أنْ يَغْفِرَ لَهُ مِن عِبادِهِ ﴿ويُعَذِّبُ﴾ بِعَدْلِهِ.
﴿مَن يَشاءُ﴾ أنْ يُعَذِّبَهُ مِن عِبادِهِ، وتَقْدِيمُ المَغْفِرَةِ عَلى التَّعْذِيبِ لِتَقَدُّمِ رَحْمَتِهِ عَلى غَضَبِهِ، وقَرَأ غَيْرُ اِبْنِ عامِرٍ وعاصِمٍ ويَعْقُوبَ بِجَزْمِ الفِعْلَيْنِ عَطْفًا عَلى جَوابِ الشَّرْطِ، وقَرَأ اِبْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما بِنَصْبِهِما بِإضْمارِ أنْ وتَكُونُ هي وما في حَيِّزِها بِتَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَعْطُوفٍ عَلى المَصْدَرِ المُتَوَهَّمِ مِنَ الفِعْلِ السّابِقِ، والتَّقْدِيرُ تَكُنْ مُحاسَبَةٌ فَغُفْرانٌ وعَذابٌ، ومِنَ القَواعِدِ المُطَّرِدَةِ أنَّهُ إذا وقَعَ بَعْدَ جَزاءِ الشَّرْطِ فِعْلٌ بَعْدَ واوٍ أوْ فاءٍ جاءَ فِيهِ الأوْجُهُ الثَّلاثَةُ وقَدْ أشارَ لَها اِبْنُ مالِكٍ:
؎والفِعْلُ مِن بَعْدِ الجَزا إنْ يَقْتَرِنْ ∗∗∗ بِالفاءِ أوِ الواوِ بِتَثْلِيثٍ قَمِن
(p-66)وقَرَأ اِبْنُ مَسْعُودٍ يَغْفِرُ ويُعَذِّبُ بِالجَزْمِ بِغَيْرِ فاءٍ، ووَجْهُهُ عِنْدَ القائِلِ بِجَوازِ تَعَدُّدِ الجَزاءِ كالخَبَرِ ظاهِرٌ، وأمّا عِنْدُ غَيْرِهِ فالجَزْمُ عَلى أنَّهُما بَدَلٌ مِن ﴿يُحاسِبْكُمْ﴾ بَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ أوِ الِاشْتِمالِ، فَإنَّ كُلًّا مِنَ المَغْفِرَةِ والتَّعْذِيبِ بَعْضٌ مِنَ الحِسابِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِ (يُحاسِبْكُمْ) ومُطْلَقُ الحِسابِ جامِعٌ لَهُما فَإنِ اُعْتُبِرَ جَمْعُهُ لَهُما عَلى طَرِيقِ اِشْتِمالِ الكُلِّ عَلى الأجْزاءِ يَكُونُ بَدَلَ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ وإنِ اُعْتُبِرَ عَلى طَرِيقِ الشُّمُولِ كَشُمُولِ الكُلِّيِّ لِأفْرادِهِ يَكُونُ بَدَلَ اِشْتِمالٍ كَذا قِيلَ، وقِيلَ: إنْ أُرِيدَ بِ (يُحاسِبْكُمْ) مَعْناهُ الحَقِيقِيُّ فالبَدَلُ بَدَلُ اِشْتِمالٍ كَأُحِبُّ زَيْدًا عِلْمَهُ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ المُجازاةُ فالبَدَلُ بَدَلُ بَعْضٍ كَ ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وذَهَبَ أبُو حَيّانَ إلى تَعَيُّنِ الِاشْتِمالِ، قالَ: ووُقُوعُهُ في الأفْعالِ صَحِيحٌ لِأنَّ الفِعْلَ يَدُلُّ عَلى جِنْسٍ تَحْتَهُ أنْواعٌ يَشْتَمِلُ عَلَيْها ولِذَلِكَ إذا وقَعَ عَلَيْهِ النَّفْيُ اِنْتَفَتْ جَمِيعُ أنْواعِ ذَلِكَ الجِنْسِ، وأمّا بَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ فَلا يُمْكِنُ في الفِعْلِ إذِ الفِعْلُ لا يَقْبَلُ التَّجَزِّي فَلا يُقالُ فِيهِ لَهُ كُلٌّ وبَعْضٌ إلّا بِمَجازٍ بَعِيدٍ، واعْتَرَضَهُ الحَلَبِيُّ بِأنَّهُ لَيْسَ بِظاهِرٍ لِأنَّ الكُلِّيَّةَ والبَعْضِيَّةَ صادِقَتانِ عَلى الجِنْسِ ونَوْعِهِ فَإنَّ الجِنْسَ كُلٌّ والنَّوْعَ بَعْضٌ فالصَّحِيحُ وُقُوعُ النَّوْعَيْنِ في الفِعْلِ وقَدْ قِيلَ بِهِما في قَوْلِهِ:
؎مَتى تَأْتِنا تَلْمُمْ بِنا في دِيارِنا ∗∗∗ تَجِدْ خَيْرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مَوْقِدِ
فَإنَّهم جَعَلُوا الإلْمامَ بَدَلًا مِنَ الإتْيانِ؛ إمّا بَدَلُ بَعْضٍ لِأنَّهُ إتْيانٌ لا تَوَقُّفٌ فِيهِ فَهو بَعْضُهُ، أوِ اِشْتِمالٍ لِأنَّهُ نُزُولٌ خَفِيفٌ، ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو إدْغامُ الرّاءِ في اللّامِ، وطَعَنَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلى عادَتِهِ في الطَّعْنِ في القِراءاتِ السَّبْعِ إذا لَمْ تَكُنْ عَلى قَواعِدِ العَرَبِيَّةِ ومِن قَواعِدِهِمْ أنَّ الرّاءَ لا تُدْغَمُ إلّا في الرّاءِ لِما فِيها مِنَ التَّكْرارِ الفائِتِ بِالإدْغامِ في اللّامِ وقَدْ يُجابُ بِأنَّ القِراءاتِ السَّبْعَ مُتَواتِرَةٌ والنَّقْلَ بِالمُتَواتِرِ إثْباتٌ عِلْمِيٌّ، وقَوْلُ النُّحاةِ نَفْيٌ ظَنِّيٌّ ولَوْ سُلِّمَ عَدَمُ التَّواتُرِ فَأقَلُّ الأمْرِ أنْ تَثْبُتَ لُغَةً بِنَقْلِ العُدُولِ وتُرَجَّحَ بِكَوْنِهِ إثْباتًا، ونُقِلَ إدْغامُ الرّاءِ في اللّامِ عَنْ أبِي عَمْرٍو مِنَ الشُّهْرَةِ والوُضُوحِ بِحَيْثُ لا مَدْفَعَ لَهُ، ومِمَّنْ رَوى ذَلِكَ عَنْهُ أبُو مُحَمَّدٍ اليَزِيدِيُّ وهو إمامٌ في النَّحْوِ إمامٌ في القِراءاتِ إمامٌ في اللُّغاتِ، ووَجْهُهُ مِن حَيْثُ التَّعْلِيلُ ما بَيْنَهُما مِن شِدَّةِ التَّقارُبِ حَتّى كَأنَّهُما مَثَلانِ بِدَلِيلِ لُزُومِ إدْغامِ اللّامِ في الرّاءِ في اللُّغَةِ الفَصِيحَةِ إلّا أنَّهُ لَمَحَ تَكْرارَ الرّاءِ فَلَمْ يَجْعَلْ إدْغامَهُ في اللّامِ لازِمًا عَلى أنَّ مَنعَ إدْغامِ الرّاءِ في اللّامِ مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، وقَدْ أجازَهُ الكُوفِيُّونَ وحَكَوْهُ سَماعًا، مِنهُمُ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ وأبُو جَعْفَرٍ الرُّؤاسِيُّ، ولِسانُ العَرَبِ لَيْسَ مَحْصُورًا فِيما نَقَلَهُ البَصْرِيُّونَ فَقَطْ، والقُرّاءُ مِنَ الكُوفِيِّينَ لَيْسُوا بِمُنْحَطِّينَ عَنْ قُرّاءِ البَصْرَةِ وقَدْ أجازُوهُ عَنِ العَرَبِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ والرُّجُوعُ فِيهِ إلى عِلْمِهِمْ ونَقْلِهِمْ إذْ مَن عَلِمَ حُجَّةٌ عَلى مَن لَمْ يَعْلَمْ.
﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [ 284 ] تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ فَإنَّ كَمالَ قُدْرَتِهِ تَعالى عَلى جَمِيعِ الأشْياءِ مُوجِبٌ لِقُدْرَتِهِ عَلى ما ذَكَرَ مِنَ المُحاسَبَةِ وما فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنَ المَغْفِرَةِ والتَّعْذِيبِ، وفي الآيَةِ دَلِيلٌ لِأهْلِ السُّنَّةِ في نَفْيِ وُجُوبِ التَّعْذِيبِ حَيْثُ عُلِّقَ بِالمَشِيئَةِ واحْتِمالِ أنَّ تِلْكَ المَشِيئَةَ واجِبَةٌ كَمَن يَشاءُ صَلاةَ الفَرْضِ فَإنَّهُ لا يَقْتَضِي عَدَمَ الوُجُوبِ خِلافَ الظّاهِرِ.
{"ayah":"لِّلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُوا۟ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ یُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَیَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق