الباحث القرآني
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ في إضافَةِ ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ إضافَةُ تَمْلِيكٍ تَقْدِيرُهُ: اللَّهُ يَمْلِكُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ.
والثّانِي: مَعْناهُ تَدْبِيرُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ.
﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ إبْداءُ ما في النَّفْسِ هو العَمَلُ بِما أضْمَرُوهُ، وهو مُؤاخَذٌ بِهِ ومُحاسَبٌ عَلَيْهِ، وأمّا إخْفاؤُهُ فَهو ما أضْمَرَهُ وحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ ولَمْ يَعْمَلْ بِهِ.
وَفِيما أرادَ بِهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ بِهِ كِتْمانُ الشَّهادَةِ خاصَّةً، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، والشَّعْبِيُّ.
والثّانِي: أنَّهُ عامٌّ في جَمِيعِ ما حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِن سُوءٍ، أوْ أضْمَرَ مِن مَعْصِيَةٍ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ.
واخْتُلِفَ في هَذِهِ الآيَةِ، هَلْ حُكْمُها ثابِتٌ في المُؤاخَذَةِ بِما أضْمَرَهُ وحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ؟ أوْ مَنسُوخٌ؟ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ حُكْمَها ثابِتٌ في المُؤاخَذَةِ بِما أضْمَرَهُ، واخْتَلَفَ فِيهِ مَن قالَ بِثُبُوتِهِ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّ حُكْمَها ثابِتٌ عَلى العُمُومِ فِيما أضْمَرَهُ الإنْسانُ فَيُؤاخِذُ بِهِ مَن يَشاءُ، ويَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ، والحَسَنُ.
والثّانِي: حُكْمُها ثابِتٌ في مُؤاخَذَةِ الإنْسانِ بِما أضْمَرَهُ وإنْ لَمْ يَفْعَلْهُ، إلّا أنَّ اللَّهَ يَغْفِرُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ويُؤاخِذُ بِهِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ، قالَهُ الضَّحّاكُ، والرَّبِيعُ، (p-٣٦١)
وَيَكُونُ ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ﴾ مَحْمُولًا عَلى المُسْلِمِينَ، ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ مَحْمُولًا عَلى الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ.
والثّالِثُ: أنَّها ثابِتَةُ الحُكْمِ عَلى العُمُومِ في مُؤاخَذَتِهِ المُسْلِمِينَ بِما حَدَثَ لَهم في الدُّنْيا مِنَ المَصائِبِ والأُمُورِ الَّتِي يَحْزَنُونَ لَها، ومُؤاخَذَةِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ بِعَذابِ الآخِرَةِ، وهَذا قَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ حُكْمَ الآيَةِ في المُؤاخَذَةِ بِما أضْمَرَهُ الإنْسانُ وحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ وإنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مَنسُوخٌ.
واخْتَلَفَ مَن قالَ بِنَسْخِها فِيما نُسِخَتْ بِهِ عَلى قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: بِما رَواهُ العَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «أنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ فاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى القَوْمِ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنّا لَمُؤاخَذُونَ بِما نُحَدِّثُ بِهِ أنْفُسَنا، هَلَكْنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾» وهو أيْضًا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
والثّانِي: أنَّها نُسِخَتْ بِما رَواهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ دَخَلَ قُلُوبَهم مِنها شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْها مِن شَيْءٍ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: (قُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وسَلَّمْنا.
قالَ: فَألْقى اللَّهُ الإيِمانُ في قُلُوبِهِمْ، قالَ: فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ الآيَةَ.
فَقَرَأ: ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ فَقالَ تَعالى: قَدْ فَعَلْتُ.
﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ قالَ: قَدْ فَعَلْتُ ﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ قالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
﴿واعْفُ عَنّا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ قالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
» (p-٣٦٢)
والَّذِي أقُولُهُ فِيما أضْمَرَهُ وحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ ولَمْ يَفْعَلْهُ إنَّهُ مُؤاخَذٌ بِمَأْثَمِ الِاعْتِقادِ دُونَ الفِعْلِ، إلّا أنْ يَكُونَ كَفُّهُ عَنِ الفِعْلِ نَدَمًا، فالنَّدَمُ تَوْبَةٌ تُمَحِّصُ عَنْهُ مَأْثَمَ الِاعْتِقادِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ﴾ أمّا إيمانُ الرَّسُولِ فَيَكُونُ بِأمْرَيْنِ: تَحَمُّلِ الرِّسالَةِ، وإبْلاغِ الأُمَّةِ، وأمّا إيمانُ المُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ بِالتَّصْدِيقِ والعَمَلِ.
﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ﴾ والإيمانُ بِاللَّهِ يَكُونُ بِأمْرَيْنِ: بِتَوْحِيدِهِ، وقَبُولِ ما أنْزَلَ عَلى رَسُولِهِ.
وَفي الإيمانِ بِالمَلائِكَةِ وجْهانِ: أحَدُهُما: الإيمانُ بِأنَّهم رُسُلُ اللَّهِ إلى أنْبِيائِهِ.
والثّانِي: الإيمانُ بِأنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنهم رَقِيبٌ وشَهِيدٌ.
( وكُتُبِهِ ) قِراءَةُ الجُمْهُورِ وقَرَأ حَمْزَةُ: ( وكِتابِهِ ) فَمَن قَرَأ: ( وكُتُبِهِ ) فالمُرادُ بِهِ جَمِيعُ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنها عَلى أنْبِيائِهِ.
وَمَن قَرَأ: ( وكِتابِهِ ) فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ عَنى القُرْآنَ خاصَّةً.
والثّانِي: أنَّهُ أرادَ الجِنْسَ، فَيَكُونُ مَعْناهُ بِمَعْنى الأوَّلِ وأنَّهُ أرادَ جَمِيعَ الكُتُبِ والإيمانَ بِها والِاعْتِرافَ بِنُزُولِها مِنَ اللَّهِ عَلى أنْبِيائِهِ.
وَفي لُزُومِ العَمَلِ بِما فِيها ما لَمْ يَرِدْ نَسْخٌ قَوْلانِ: ثُمَّ فِيما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن إيمانِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ - وإنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الخَبَرِ - قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ بِهِ مَدْحُهم بِما أخْبَرَ مِن إيمانِهِمْ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِهِ أنَّهُ يَقْتَدِي بِهِمْ مَن سِواهم.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ﴾ يَعْنِي في أنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِهِمْ (p-٣٦٣)
دُونَ بَعْضٍ، كَما فَعَلَ أهْلُ الكِتابِ، فَيَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهم في التَّصْدِيقِ، وفي لُزُومِ التَّسْوِيَةِ في التِزامِ شَرائِعِهِمْ ما قَدَّمْناهُ مِنَ القَوْلَيْنِ، وجَعَلَ هَذا حِكايَةً عَنْ قَوْلِهِمْ وما تَقَدَّمَهُ خَبَرًا عَنْ حالِهِمْ لِيَجْمَعَ لَهم بَيْنَ قَوْلٍ وعَمَلٍ وماضٍ ومُسْتَقْبَلٍ.
﴿وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا﴾ أيْ سَمِعْنا قَوْلَهُ وأطَعْنا أمْرَهُ.
وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثانِيًا: أنْ يُرادَ بِالسَّماعِ القَبُولُ، وبِالطّاعَةِ العَمَلُ.
﴿غُفْرانَكَ رَبَّنا﴾ مَعْناهُ نَسْألُكَ غُفْرانَكَ، فَلِذَلِكَ جاءَ بِهِ مَنصُوبًا.
﴿وَإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ يَعْنِي إلى جَزائِكَ.
وَيَحْتَمِلُ وجْهًا ثانِيًا: يُرِيدُ بِهِ إلى لِقائِكَ لِتَقَدُّمِ اللِّقاءِ عَلى الجَزاءِ.
{"ayahs_start":284,"ayahs":["لِّلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُوا۟ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ یُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَیَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ","ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ"],"ayah":"لِّلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُوا۟ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ یُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَیَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق