الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. قَوْلُهُ: ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكُمْ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، ظاهِرُهُ أنَّ اللَّهَ يُحاسِبُ العِبادَ عَلى ما أضْمَرَتْهُ أنْفُسُهم أوْ أظْهَرَتْهُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُحاسَبُ عَلَيْها، فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ مِنهم ما يَغْفِرُهُ مِنها، ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ مِنهم بِما أسَرَّ أوْ أظْهَرَ مِنها، هَذا مَعْنى الآيَةِ عَلى مُقْتَضى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى أقْوالٍ: الأوَّلُ: أنَّها وإنْ كانَتْ عامَّةً، فَهي مَخْصُوصَةٌ بِكِتْمانِ الشَّهادَةِ، وأنَّ الكاتِمَ لِلشَّهادَةِ يُحاسَبُ عَلى كَتْمِهِ سَواءً أظَهَرَ لِلنّاسِ أنَّهُ كاتِمٌ لِلشَّهادَةِ أوْ لَمْ يُظْهِرْ. وقَدْ رُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ والشَّعْبِيِّ ومُجاهِدٍ، وهو مَرْدُودٌ بِما في الآيَةِ مِن عُمُومِ اللَّفْظِ، ولا يَصْلُحُ ما تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ كَتْمِ الشَّهادَةِ أنْ تَكُونَ مُخْتَصَّةً بِهِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ ما في الآيَةِ مُخْتَصٌّ بِما يَطْرَأُ عَلى النُّفُوسِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي هي بَيْنَ الشَّكِّ واليَقِينِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وهو أيْضًا تَخْصِيصٌ بِلا مُخَصَّصٍ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّها مُحْكَمَةٌ عامَّةٌ، ولَكِنَّ العَذابَ عَلى ما في النَّفْسِ يَخْتَصُّ بِالكُفّارِ والمُنافِقِينَ. حَكاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ، وهو أيْضًا تَخْصِيصٌ بِلا مُخَصَّصٍ، فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ لا يَخْتَصُّ بِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ إلّا بِدَلِيلٍ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وعائِشَةُ وأبُو هُرَيْرَةَ والشَّعْبِيُّ وعَطاءٌ ومُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ومُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ، وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وجَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ، وهَذا هو الحَقُّ لِما سَيَأْتِي مِنَ التَّصْرِيحِ بِنَسْخِها، ولِما ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ غَفَرَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها» . قَوْلُهُ: ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ قَدَّمَ الجارَّ والمَجْرُورَ عَلى الفاعِلِ لِإظْهارِ العِنايَةِ بِهِ، وقَدَّمَ الإبْداءَ عَلى الإخْفاءِ؛ لِأنَّ الأصْلَ في الأُمُورِ الَّتِي يُحاسَبُ عَلَيْها هو الأعْمالُ البادِيَةُ، وأمّا تَقْدِيمُ الإخْفاءِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ إنْ تُخْفُوا ما في صُدُورِكم أوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٢٩] فَلِكَوْنِ العِلْمِ يَتَعَلَّقُ بِالأعْمالِ الخافِيَةِ والبادِيَةِ عَلى السَّوِيَّةِ، وقَدَّمَ المَغْفِرَةَ عَلى التَّعْذِيبِ لِكَوْنِ رَحْمَتِهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وجُمْلَةُ قَوْلِهِ: ﴿فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ، أيْ فَهو يَغْفِرُ، وهي مُتَضَمِّنَةٌ لِتَفْصِيلِ ما أُجْمِلَ في قَوْلِهِ: ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ وهَذا عَلى قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ وعاصِمٍ. وأمّا عَلى قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ ونافِعٍ وأبِي عَمْرٍو وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ بِجَزْمِ الرّاءِ والباءِ، فالفاءُ عاطِفَةٌ لِما بَعْدَها عَلى المَجْزُومِ قَبْلَها، وهو جَوابُ الشَّرْطِ، أعْنِي قَوْلَهُ: ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ . وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ والأعْرَجُ وأبُو العالِيَةِ وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ بِنَصْبِ الرّاءِ والباءِ في قَوْلِهِ: " فَيَغْفِرَ " " ويُعَذِّبَ " عَلى إضْمارِ " أنْ " عَطْفًا عَلى المَعْنى. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ " يَغْفِرُ " بِغَيْرِ فاءٍ عَلى البَدَلِ، وبِهِ قَرَأ الجُعْفِيُّ وخَلّادٌ. وقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ في ناسِخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم﴾ الآيَةَ، اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَأتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ثُمَّ جَثَوْا عَلى الرُّكَبِ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنا مِنَ الأعْمالِ ما نُطِيقُ، الصَّلاةُ والصِّيامُ والجِهادُ والصَّدَقَةُ، وقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةَ ولا نُطِيقُها، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولُوا كَما قالَ أهْلُ الكِتابَيْنِ مِن قَبْلِكم: سَمِعْنا وعَصَيْنا، بَلْ قُولُوا: ﴿سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [البقرة: ٢٨٥] فَلَمّا اقْتَرَأها القَوْمُ وذَلَّتْ بِها ألْسِنَتُهم أنْزَلَ اللَّهُ في أثَرِها ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] الآيَةَ، فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَها اللَّهُ فَأنْزَلَ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] إلى آخِرِها» . وأخْرَجَ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وزادَ: فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦] قالَ: قَدْ فَعَلْتُ. ﴿رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِنا﴾ [البقرة: ٢٨٦] قالَ: قَدْ فَعَلْتُ. ﴿رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٦] قالَ: قَدْ فَعَلْتُ ﴿واعْفُ عَنّا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦] الآيَةَ، قالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ القِصَّةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَن طُرُقٍ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنْ مَرْوانَ الأصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أحْسَبُهُ ابْنَ عُمَرَ ﴿وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أوْ تُخْفُوهُ﴾ قالَ: نَسَخَتْها الآيَةُ الَّتِي بَعْدَها. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عائِشَةَ نَحْوَهُ أيْضًا. وبِمَجْمُوعِ ما تَقَدَّمَ يَظْهَرُ لَكَ ضَعْفُ ما أخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ قالَ: نَزَلَتْ في كِتْمانِ الشَّهادَةِ فَإنَّها لَوْ كانَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَشْتَدَّ الأمْرُ عَلى الصَّحابَةِ. وعَلى كُلِّ حالٍ فَبَعْدَ هَذِهِ الأحادِيثِ المُصَرِّحَةِ بِالنَّسْخِ والنّاسِخِ لَمْ يَبْقَ مَجالٌ لِمُخالَفَتِها، ومِمّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ والسُّنَنِ الأرْبَعِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لَمْ تَتَكَلَّمْ أوْ تَعْمَلْ بِهِ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: كُلُّ عَبْدٍ هَمَّ بِسُوءٍ ومَعْصِيَةٍ وحَدَّثَ نَفْسَهُ بِهِ حاسَبَهُ اللَّهُ في (p-١٩٧)الدُّنْيا يَخافُ ويَحْزَنُ ويَشْتَدُّ هَمُّهُ لا يَنالُهُ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ كَما هَمَّ بِالسُّوءِ ولَمْ يَعْمَلْ مِنهُ بِشَيْءٍ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْها نَحْوَهُ، والأحادِيثُ المُتَقَدِّمَةُ المُصَرِّحَةُ بِالنَّسْخِ تَدْفَعُهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ القِيامَةِ: إنَّ كُتّابِي لَمْ يَكْتُبُوا مِن أعْمالِكم إلّا ما ظَهَرَ مِنها، فَأمّا ما أسْرَرْتُمْ في أنْفُسِكم فَأنا أُحاسِبُكم بِهِ اليَوْمَ فَأغْفِرُ لِمَن شِئْتَ وأُعَذِّبُ مَن شِئْتَ، وهو مَدْفُوعٌ بِما تَقَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب