الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لِلَّهِ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ وإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أو تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ واللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ المَعْنى: جَمِيعُ ما في السَمَواتِ وما في الأرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ وطاعَةٌ لِأنَّهُ المُوجِدُ المُخْتَرِعُ لا رَبَّ غَيْرُهُ، وعَبَّرَ بِـ "ما" وإنْ كانَ ثَمَّ مَن يَعْقِلُ لِأنَّ الغالِبَ إنَّما هو جَمادٌ وحَيَوانٌ لا يَعْقِلُ، ويَقِلُّ مَن يَعْقِلُ مِن حَيْثُ قِلَّةِ أجْناسِهِ إذْ هي ثَلاثَةٌ: مَلائِكَةٌ، وإنْسٌ، وجِنٌّ - وأجْناسُ الغَيْرِ كَثِيرَةٌ. (p-١٣٢) وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أو تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللهُ﴾ مَعْناهُ أنَّ الأمْرَ سَواءٌ لا تَنْفَعُ فِيهِ المُواراةُ والكَتْمُ، بَلْ يَعْلَمُهُ ويُحاسِبُ بِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فِي أنْفُسِكُمْ﴾ تَقْتَضِي قُوَّةُ اللَفْظِ أنَّهُ ما تَقَرَّرَ في النَفْسِ، واعْتُقِدَ، واسْتُصْحِبَتِ الفِكْرَةُ فِيهِ، وأمّا الخَواطِرُ الَّتِي لا يُمْكِنُ دَفْعُها فَلَيْسَتْ في النَفْسِ إلّا عَلى تَجَوُّزٍ. واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ - فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، والشَعْبِيُّ: هي في مَعْنى الشَهادَةِ الَّتِي نُهِيَ عن كَتْمِها، ثُمَّ أعْلَمَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الكاتِمَ لَها، المُخْفِيَ في نَفْسِهِ مُحاسَبٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وأبُو هُرَيْرَةَ والشَعْبِيُّ، وجَماعَةٌ مِنَ الصَحابَةِ والتابِعِينَ: « "إنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلى أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ وقالُوا: هَلَكْنا يا رَسُولَ اللهِ إنْ حُوسِبْنا بِخَواطِرِ نُفُوسِنا، وشَقَّ ذَلِكَ عَلى النَبِيِّ ﷺ، لَكِنَّهُ قالَ لَهُمْ: أتُرِيدُونَ أنْ تَقُولُوا كَما قالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: سَمِعْنا وعَصَيْنا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنا وأطَعْنا - فَقالُوها، فَأنْزَلَ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] فَكَشَفَ عنهُمُ الكُرْبَةَ، ونَسَخَ اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ تِلْكَ"». هَذا مَعْنى الحَدِيثِ المَرْوِيِّ، ولَهُ طُرُقٌ مِن جِهاتٍ، واخْتَلَفَتْ عِباراتُهُ، واسْتَتَبَّتْ عِبارَةُ هَؤُلاءِ القائِلِينَ بِلَفْظَةِ النَسْخِ في هَذِهِ النازِلَةِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجانَةَ: جِئْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ فَتَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أو تُخْفُوهُ يُحاسِبْكم بِهِ اللهُ﴾ ثُمَّ قالَ: واللهِ لَئِنْ أُخِذْنا بِهَذِهِ الآيَةِ لَنَهْلِكَنَّ، ثُمَّ بَكى (p-١٣٣)حَتّى سالَتْ دُمُوعُهُ وسُمِعَ نَشِيجُهُ، قالَ ابْنُ مَرْجانَةَ: فَقُمْتُ حَتّى جِئْتُ ابْنَ عَبّاسٍ فَأخْبَرْتُهُ بِما قالَ ابْنُ عُمَرَ وبِما فَعَلَ، فَقالَ: يَرْحَمُ اللهُ أبا عَبْدِ الرَحْمَنِ، لَقَدْ وجَدَ المُسْلِمُونَ مِنها حِينَ نَزَلَتْ مِثْلَ ما وجَدَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ فَأنْزَلَ اللهُ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها﴾ [البقرة: ٢٨٦] الآيَةَ، فَنَسَخَتِ الوَسْوَسَةَ وثَبَتَ القَوْلُ والفِعْلُ - وقالَ الطَبَرِيُّ، وقالَ آخَرُونَ: هَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ واللهُ تَعالى يُحاسِبُ خَلْقَهُ عَلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ وعَلى ما لَمْ يَعْمَلُوهُ مِمّا ثَبَتَ في نُفُوسِهِمْ فَأضْمَرُوهُ ونَوَوْهُ وأرادُوهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ ويَأْخُذُ بِهِ أهْلَ الكُفْرِ والنِفاقِ، ثُمَّ أدْخَلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ما يُشْبِهُ هَذا المَعْنى، وقالَ مُجاهِدٌ: الآيَةُ فِيما يَطْرَأُ عَلى النُفُوسِ مِنَ الشَكِّ واليَقِينِ. وقالَ الحَسَنُ: الآيَةُ مُحْكَمَةٌ، لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ. قالَ الطَبَرِيُّ: وقالَ آخَرُونَ نَحْوَ هَذا المَعْنى الَّذِي ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. إلّا أنَّهم قالُوا: إنَّ العَذابَ الَّذِي يَكُونُ جَزاءً لِما خَطَرَ في النَفْسِ وصَحِبَهُ الفِكْرُ هو بِمَصائِبِ الدُنْيا وآلامِها وسائِرِ مَكارِهِها، ثُمَّ أسْنَدَ عن عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها نَحْوَ هَذا المَعْنى. ورَجَّحَ الطَبَرِيُّ أنَّ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تُبْدُوا ما في أنْفُسِكم أو تُخْفُوهُ﴾ مَعْناهُ: مِمّا هو في وُسْعِكم وتَحْتَ كَسْبِكُمْ، وذَلِكَ اسْتِصْحابُ المُعْتَقَدِ والفِكْرُ فِيهِ، فَلَمّا كانَ اللَفْظُ مِمّا يُمْكِنُ أنْ تَدْخُلَ فِيهِ الخَواطِرُ أشْفَقَ الصَحابَةُ والنَبِيُّ ﷺ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعالى لَهم ما أرادَ بِالآيَةِ الأُولى وخَصَّصَها، ونَصَّ عَلى حُكْمِهِ أنَّهُ لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها - والخَواطِرُ لَيْسَتْ هي ولا دَفْعُها في الوُسْعِ، بَلْ هو أمْرٌ غالِبٌ، ولَيْسَتْ مِمّا يُكْسَبُ ولا يُكْتَسَبُ، وكانَ في هَذا البَيانِ فَرَحُهُمْ، وكَشْفُ كَرْبِهِمْ وباقِي الآيَةِ مُحْكَمَةٌ لا نَسْخَ فِيها. ومِمّا يَدْفَعُ أمْرَ النَسْخِ أنَّ الآيَةَ خَبَرٌ، والأخْبارُ لا يَدْخُلُها النَسْخُ، فَإنْ ذَهَبَ ذاهِبٌ (p-١٣٤)إلى تَقْرِيرِ النَسْخِ فَإنَّما يَتَرَتَّبُ لَهُ في الحُكْمِ الَّذِي لَحِقَ الصَحابَةَ حِينَ فَزِعُوا مِنَ الآيَةِ، وذَلِكَ أنَّ قَوْلَ النَبِيِّ ﷺ لَهُمْ: « "قُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا"» يَجِيءُ مِنهُ الأمْرُ بِأنْ يَثْبُتُوا عَلى هَذا ويَلْتَزِمُوهُ، ويَنْتَظِرُوا لُطْفَ اللهِ في الغُفْرانِ، فَإذا قُرِّرَ هَذا الحُكْمُ فَصَحِيحٌ وُقُوعُ النَسْخِ فِيهِ، وتُشْبِهُ الآيَةُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنْ يَكُنْ مِنكم عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٦٥] فَهَذا لَفْظُ الخَبَرِ ولَكِنَّ مَعْناهُ: التَزِمُوا هَذا، واثْبُتُوا عَلَيْهِ، واصْبِرُوا بِحَسَبِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، وأجْمَعَ الناسُ - فِيما عَلِمْتُ - عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في الجِهادِ مَنسُوخَةٌ بِصَبْرِ المِائَةِ لِلْمِائَتَيْنِ، وهَذِهِ الآيَةُ في البَقَرَةِ أشْبَهُ شَيْءٍ بِها. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "فَيَغْفِرْ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبْ" جَزْمًا، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ "فَيَغْفِرُ ويُعَذِّبُ" رَفْعًا - فَوَجْهُ الجَزْمِ أنَّهُ أتْبَعَهُ ما قَبْلَهُ ولَمْ يَقْطَعْهُ وهَكَذا تَحْسُنُ المُشاكَلَةُ في كَلامِهِمْ، ووَجْهُ الرَفْعِ أنَّهُ قَطَعَهُ مِنَ الأوَّلِ - وقَطْعُهُ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ - إمّا أنْ تَجْعَلَ الفِعْلَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، فَيَرْتَفِعُ الفِعْلُ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ خَبَرِ المُبْتَدَإ، وإمّا أنْ تَعْطِفَ جُمْلَةً مِن فِعْلٍ وفاعِلٍ عَلى ما تَقَدَّمَها. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والأعْرَجُ، وأبُو حَيْوَةَ: "فَيَغْفِرَ ويُعَذِّبَ" بِالنَصْبِ عَلى إضْمارِ "أنْ" وهو مَعْطُوفٌ عَلى المَعْنى كَما في قَوْلِهِ: "فَيُضاعِفَهُ" وقَرَأ الجُعْفِيُّ، وخَلّادٌ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "يَغْفِرْ" بِغَيْرِ فاءٍ، ورُوِيَ أنَّها كَذَلِكَ في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: هي عَلى (p-١٣٥)البَدَلِ مِن "يُحاسِبُكُمْ" فَهي تَفْسِيرُ المُحاسَبَةِ، وهَذا كَقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ رُوَيْدًا بَنِي شَيْبانَ بَعْضَ وعِيدِكم ∗∗∗ تُلاقُوا غَدًا خَيْلِي عَلى سَفَوانِ ؎ تُلاقُوا جِيادًا لا تَحِيدُ عَنِ الوَغى ∗∗∗ ∗∗∗ إذا ما غَدَتْ في المَأْزِقِ المُتَدانِ فَهَذا عَلى البَدَلِ، وكَرَّرَ الشاعِرُ الفِعْلَ لِأنَّ الفائِدَةَ فِيما يَلِيهِ مِنَ القَوْلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ يَعْنِي مِنَ العُصاةِ الَّذِينَ يَنْفُذُ فِيهِمُ الوَعِيدُ، قالَ النَقّاشُ: يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ، أيْ: لِمَن يَنْزِعُ عنهُ، ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ، أيْ مَن أقامَ عَلَيْهِ، وقالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ العَظِيمَ، ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ عَلى الصَغِيرِ. وتَعَلَّقَ بِهَذِهِ قَوْمٌ مِمَّنْ قالَ بِجَوازِ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ، وقالَ: إنَّ اللهَ قَدْ كَلَّفَهم أمْرَ الخَواطِرِ وذَلِكَ مِمّا لا يُطاقُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا غَيْرُ بَيِّنٍ، وإنَّما كانَ أمْرُ الخَواطِرِ تَأْوِيلًا تَأوَّلَهُ أصْحابُ النَبِيِّ ﷺ، ولَمْ يَثْبُتْ تَكْلِيفًا إلّا عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنا مِن تَقْرِيرِ النَبِيِّ ﷺ إيّاهم عَلى ذَلِكَ، ومَسْألَةُ تَكْلِيفِ ما لا يُطاقُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْها فِيما بَعْدُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. ولَمّا ذَكَرَ المَغْفِرَةَ والتَعْذِيبَ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ تَعالى عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ القُدْرَةِ عَلى جَمِيعِ الأشْياءِ إذْ ما ذَكَرَ جُزْءٌ مِنها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب