الباحث القرآني
* بابُ ما يُحِلُّهُ حُكْمُ الحاكِمِ وما لا يُحِلُّهُ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا (p-٣١٢)فَرِيقًا مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ﴾
والمُرادُ، واللَّهُ أعْلَمُ: لا يَأْكُلْ بَعْضُكم مالَ بَعْضٍ بِالباطِلِ، كَما قالَ تَعالى ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١] يَعْنِي بَعْضَكم بَعْضًا، وكَما قالَ ﷺ: «أمْوالُكم وأعْراضُكم عَلَيْكم حَرامٌ» يَعْنِي أمْوالَ بَعْضِكم عَلى بَعْضٍ، أكْلُ المالِ بِالباطِلِ عَلى وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أخْذُهُ عَلى وجْهِ الظُّلْمِ والسَّرِقَةِ والخِيانَةِ والغَصْبِ وما جَرى مَجْراهُ، والآخَرُ: أخْذُهُ مِن جِهَةٍ مَحْظُورَةٍ، نَحْوُ القِمارِ وأُجْرَةِ الغِناءِ والقِيانِ والمَلاهِي والنّائِحَةِ وثَمَنِ الخَمْرِ والخِنْزِيرِ والحِرِّ وما لا يَجُوزُ أنْ يَتَمَلَّكَهُ وإنْ كانَ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِن مالِكِهِ؛ وقَدِ انْتَظَمَتِ الآيَةُ حَظْرَ أكْلِها مِن هَذِهِ الوُجُوهِ كُلِّها.
ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ﴾ فِيما يُرْفَعُ إلى الحاكِمِ فَيَحْكُمُ بِهِ في الظّاهِرِ لِيُحِلَّها، مَعَ عِلْمِ المَحْكُومِ لَهُ أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهُ في الظّاهِرِ؛ فَأبانَ تَعالى أنَّ حُكْمَ الحاكِمِ بِهِ لا يُبِيحُ أخْذَهُ، فَزَجَرَ عَنْ أكْلِ بَعْضِنا لِمالِ بَعْضٍ بِالباطِلِ، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ ما كانَ مِنهُ بِحُكْمِ الحاكِمِ فَهو في حَيِّزِ الباطِلِ الَّذِي هو مَحْظُورٌ عَلَيْهِ أخْذُهُ؛ وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] فاسْتَثْنى مِنَ الجُمْلَةِ ما وقَعَ مِنَ التِّجارَةِ بِتَراضٍ مِنهم بِهِ ولَمْ يَجْعَلْهُ مِنَ الباطِلِ، وهَذا هو في التِّجارَةِ الجائِزَةِ دُونَ المَحْظُورَةِ.
وما تَلَوْنا مِنَ الآيِ أصْلٌ في أنَّ حُكْمَ الحاكِمِ لَهُ بِالمالِ لا يُبِيحُ لَهُ أخْذَ المالِ الَّذِي لا يَسْتَحِقُّهُ، وبِمِثْلِهِ ورَدَتِ الأخْبارُ والسُّنَّةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؛ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا الحُمَيْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أبِي حازِمٍ، عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رافِعٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قالَتْ: «كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَجاءَ رَجُلانِ يَخْتَصِمانِ في مَوارِيثَ وأشْياءَ قَدْ دَرَسَتْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّما أقْضِي بَيْنَكُما بِرَأْيِي فِيما لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِحُجَّةٍ أراها فاقْتَطَعَ بِها قِطْعَةً ظُلْمًا فَإنَّما يَقْتَطِعُ قِطْعَةً مِنَ النّارِ يَأْتِي بِها إسْطامًا يَوْمَ القِيامَةِ في عُنُقِهِ فَبَكى الرَّجُلانِ، فَقالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما: يا رَسُولَ اللَّهِ حَقِّي لَهُ، فَقالَ ﷺ: لا، ولَكِنِ اذْهَبا فَتَوَخَّيا لِلْحَقِّ ثُمَّ اسْتَهِما ولْيُحْلِلْ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما صاحِبَهُ» .
ومَعْنى هَذا الخَبَرِ مُواطِئٌ لِما ورَدَ بِهِ نَصُّ التَّنْزِيلِ في أنَّ حُكْمَ الحاكِمِ لَهُ بِالمالِ لا يُبِيحُ لَهُ أخْذَهُ وقَدْ حَوى هَذا الخَبَرُ مَعانِيَ أُخَرَ، مِنها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ كانَ يَقْضِي بِرَأْيِهِ واجْتِهادِهِ فِيما لَمْ يَنْزِلْ بِهِ وحْيٌ لِقَوْلِهِ ﷺ: «أقْضِي بَيْنَكُما بِرَأْيِي فِيما لَمْ يُنْزَلْ عَلَيَّ فِيهِ» .
وقَدْ دَلَّ ذَلِكَ أيْضًا عَلى أنَّ الَّذِي كُلِّفَ الحاكِمُ مِن ذَلِكَ الأمْرُ الظّاهِرُ، وأنَّهُ لَمْ يُكَلَّفَ المُغَيَّبَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيما يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهادُ (p-٣١٣)مُصِيبٌ؛ إذْ لَمْ يُكَلَّفْ غَيْرَ ما أدّاهُ إلَيْهِ اجْتِهادُهُ.
ألا تَرى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أخْبَرَ أنَّهُ مُصِيبٌ في حُكْمِهِ بِالظّاهِرِ وإنْ كانَ الأمْرُ في المُغَيَّبِ خِلافَهُ ولَمْ يُبِحْ مَعَ ذَلِكَ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ أخْذُ ما قَضى لَهُ بِهِ ؟ ودَلَّ أيْضًا عَلى أنَّ الحاكِمَ جائِزٌ لَهُ أنْ يُعْطِيَ إنْسانًا مالًا ويَأْمُرَ لَهُ بِهِ وإنْ لَمْ يَسَعِ المَحْكُومَ لَهُ أخْذُهُ إذا عَلِمَ أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، ودَلَّ أيْضًا عَلى جَوازِ الصُّلْحِ عَنْ غَيْرِ إقْرارٍ؛ لِأنَّ واحِدًا مِنهُما لَمْ يُقِرَّ بِالحَقِّ وإنَّما بَذَلَ مالَهُ لِصاحِبِهِ، فَأمَرَهُما النَّبِيُّ ﷺ بِالصُّلْحِ وأنْ يَسْتَهِما عَلَيْهِ، والِاسْتِهامُ هو الِاقْتِسامُ ويَدُلُّ عَلى أنَّ القِسْمَةَ في العَقارِ وغَيْرِهِ واجِبَةٌ إذا طَلَبَها أحَدُهُما.
ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ الحاكِمَ يَأْمُرُ بِالقِسْمَةِ ويَدُلُّ عَلى جَوازِ البَراءَةِ مِنَ المَجاهِيلِ أيْضًا؛ لِأنَّهُ أخْبَرَ بِجَهالَةِ المَوارِيثِ الَّتِي قَدْ دَرَسَتْ ثُمَّ أمَرَهُما مَعَ ذَلِكَ بِالتَّحْلِيلِ.
وعَلى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أنَّها مَوارِيثُ قَدْ دَرَسَتْ لَكانَ يَقْتَضِي قَوْلُهُ " ولْيُحْلِلْ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما صاحِبَهُ" جَوازَ البَراءَةِ مِنَ المَجاهِيلِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ المَجْهُولِ مِن ذَلِكَ والمَعْلُومِ ودَلَّ أيْضًا عَلى جَوازِ تَراضِي الشَّرِيكَيْنِ عَلى القِسْمَةِ مِن غَيْرِ حُكْمِ الحاكِمِ ودَلَّ أيْضًا عَلى أنَّ مَن لَهُ قِبَلَ رَجُلٍ حَقٌّ فَوَهَبَهُ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ أنَّهُ لا يَصِحُّ ويَعُودُ المِلْكُ إلى الواهِبِ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما رَدَّ ما وهَبَهُ الآخَرُ وجَعَلَ حَقَّ نَفْسِهِ لِصاحِبِهِ؛ ولَمّا لَمْ يُفَرِّقْ في ذَلِكَ بَيْنَ الأعْيانِ والدُّيُونِ وجَبَ أنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الجَمِيعِ إذا رَدَّ البَراءَةَ والهِبَةَ في وُجُوبِ بُطْلانِهِما ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ قَوْلَ القائِلِ: " لِفُلانٍ مِن مالِي ألْفُ دِرْهَمٍ " أنَّهُ هِبَةٌ مِنهُ ولَيْسَ بِإقْرارٍ؛ لِأنَّهُ ﷺ لَمْ يَجْعَلْ قَوْلَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما: " الَّذِي لِي لَهُ " إقْرارًا؛ لِأنَّهُ لَوْ جُعِلَ إقْرارًا لَجازَ عَلَيْهِ ولَمْ يَحْتاجا بَعْدَ ذَلِكَ إلى الصُّلْحِ والتَّحْلِيلِ والقِسْمَةِ؛ وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا فِيمَن قالَ: لِفُلانٍ مِن مالِي ألْفُ دِرْهَمٍ.
ويَدُلُّ أيْضًا عَلى جَوازِ التَّحَرِّي والِاجْتِهادِ في مُوافَقَةِ الحَقِّ وإنْ لَمْ يَكُنْ يَقِينًا، لِقَوْلِهِ ﷺ: «وتَوَخَّيا لِلْحَقِّ» أيْ تَحَرَّيا واجْتَهِدا ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ الحاكِمَ جائِزٌ لَهُ أنْ يَرُدَّ الخُصُومَ لِلصُّلْحِ إذا رَأى ذَلِكَ، وأنَّ لا يَحْمِلَهُما عَلى مُرِّ الحُكْمِ؛ ولِهَذا قالَ عُمَرُ: " رُدُّوا الخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا " وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: أخْبَرَنا سُفْيانُ، عَنْ هِشامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكم تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ ولَعَلَّ بَعْضَكم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن صاحِبِهِ فَأقْضِيَ لَهُ عَلى نَحْوٍ مِمّا أسْمَعُ مِنهُ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ مِن حَقِّ أخِيهِ بِشَيْءٍ فَلا يَأْخُذْ مِنهُ شَيْئًا فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النّارِ» .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا (p-٣١٤)أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا الرَّبِيعُ بْنُ نافِعٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ المُبارَكِ، عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رافِعٍ مَوْلى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قالَتْ: «أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلانِ يَخْتَصِمانِ في مَوارِيثَ لَهُما لَمْ تَكُنْ لَهُما بَيِّنَةٌ إلّا دَعْواهُما، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَبَكى الرَّجُلانِ، وقالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما: حَقِّي لَكَ، فَقالَ لَهُما النَّبِيُّ ﷺ: أما إذْ فَعَلْتُما ما فَعَلْتُما فاقْتَسِما وتَوَخَّيا الحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِما ثُمَّ تَحالّا» وهَذانِ الحَدِيثانِ في مَعْنى الحَدِيثِ الَّذِي قَدَّمْناهُ في حَظْرِ أخْذِ ما يَحْكُمُ لَهُ بِهِ الحاكِمُ إذا عَلِمَ أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ؛ وفِيهِما فَوائِدُ أُخَرُ، مِنها: أنَّ قَوْلَهُ في حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ «أقْضِي لَهُ عَلى نَحْوٍ مِمّا أسْمَعُ» يَدُلُّ عَلى جَوازِ إقْرارِ المُقِرِّ بِما أقَرَّ بِهِ عَلى نَفْسِهِ؛ لِإخْبارِهِ أنَّهُ يَقْضِي بِما يَسْمَعُ؛ وكَذَلِكَ قَدِ اقْتَضى الحُكْمُ بِمُقْتَضى ما يَسْمَعُهُ مِن شَهادَةِ الشُّهُودِ واعْتِبارِ لَفْظِهِما فِيما يَقْتَضِيهِ ويُوجِبُهُ وقالَ في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رافِعٍ هَذا: «اقْتَسِما وتَوَخَّيا الحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِما» وهَذا الِاسْتِهامُ هو القُرْعَةُ الَّتِي يُقْرَعُ بِها عِنْدَ القِسْمَةِ.
وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى جَوازِ القُرْعَةِ في القِسْمَةِ والَّذِي ورَدَ التَّنْزِيلُ مِن حَظْرِ ما حَكَمَ لَهُ بِهِ الحاكِمُ إذا عَلِمَ المَحْكُومُ لَهُ أنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ لَهُ بِحَقٍّ قَدِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَيْهِ فِيمَنِ ادَّعى حَقًّا في يَدَيْ رَجُلٍ وأقامَ بَيِّنَةً فَقَضى لَهُ، أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ أخْذُهُ وأنَّ حُكْمَ الحاكِمِ لا يُبِيحُ لَهُ ما كانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ.
واخْتَلَفُوا في حُكْمِ الحاكِمِ بِعَقْدٍ أوْ فَسْخِ عَقْدٍ بِشَهادَةِ شُهُودٍ إذا عَلِمَ المَحْكُومُ لَهُ أنَّهم شُهُودُ زُورٍ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " إذا حَكَمَ الحاكِمُ بِبَيِّنَةٍ بِعَقْدٍ أوْ فَسْخِ عَقْدٍ مِمّا يَصِحُّ أنْ يُبْتَدَأ فَهو نافِذٌ ويَكُونُ كَعَقْدٍ نافِذٍ عَقَداهُ بَيْنَهُما وإنْ كانَ الشُّهُودُ شُهُودَ زُورٍ " وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والشّافِعِيُّ: حُكْمُ الحاكِمِ في الظّاهِرِ كَهو في الباطِنِ " .
وقالَ أبُو يُوسُفَ: فَإنْ حَكَمَ بِفُرْقَةٍ لَمْ تَحِلَّ لِلْمَرْأةِ أنْ تَتَزَوَّجَ ولا يَقْرَبُها زَوْجُها أيْضًا "
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عُمَرَ والشَّعْبِيِّ، ذَكَرَ أبُو يُوسُفَ عَنْ عَمْرِو بْنِ المِقْدامِ عَنْ أبِيهِ أنَّ رَجُلًا مِنَ الحَيِّ خَطَبَ امْرَأةً وهو دُونَها في الحَسَبِ، فَأبَتْ أنْ تُزَوَّجَهُ، فادَّعى أنَّهُ تَزَوَّجَها وأقامَ شاهِدَيْنِ عِنْدَ عَلِيٍّ، فَقالَتْ: إنِّي لَمْ أتَزَوَّجْهُ، قالَ: قَدْ زَوَّجَكِ الشّاهِدانِ؛ فَأمْضى عَلَيْهِما النِّكاحَ.
قالَ أبُو يُوسُفَ: وكَتَبَ إلَيَّ شُعْبَةُ بْنُ الحَجّاجِ يَرْوِيهِ عَنْ زَيْدٍ أنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدا عَلى رَجْلٍ أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأتَهُ بِزُورٍ، فَفَرَّقَ القاضِي بَيْنَهُما، ثُمَّ تَزَوَّجَها أحَدُ الشّاهِدَيْنِ، قالَ الشَّعْبِيُّ: ذَلِكَ جائِزٌ، وأمّا ابْنُ عُمَرَ فَإنَّهُ باعَ عَبْدًا بِالبَراءَةِ، فَرَفَعَهُ المُشْتَرِي إلى عُثْمانَ، فَقالَ عُثْمانُ: أتَحْلِفُ بِاللَّهِ ما بِعْتَهُ وبِهِ داءٌ كَتَمْتَهُ ؟ فَأبى أنْ يَحْلِفَ؛ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ عُثْمانُ، فَباعَهُ مِن غَيْرِهِ بِفَضْلٍ كَثِيرٍ، فاسْتَجازَ ابْنُ عُمَرَ بَيْعَ العَبْدِ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّ باطِنَ ذَلِكَ الحُكْمِ خِلافُ (p-٣١٥)ظاهِرِهِ، وأنَّ عُثْمانَ لَوْ عَلِمَ مِنهُ مِثْلَ عِلْمِ ابْنِ عُمَرَ لَما رَدَّهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّهُ كانَ مِن مَذْهَبِهِ أنَّ فَسْخَ الحاكِمِ العَقْدَ يُوجِبُ عَوْدَهُ إلى مِلْكِهِ وإنْ كانَ في الباطِنِ خِلافُهُ.
ومِمّا يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ في ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ في قِصَةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ ولِعانِ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَهُما، ثُمَّ قالَ: «إنْ جاءَتْ بِهِ عَلى صِفَةِ كَيْتَ وكَيْتَ فَهو لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وإنْ جاءَتْ بِهِ عَلى صِفَةٍ أُخْرى فَهو لِشَرِيكِ بْنِ سَحْماءَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ فَجاءَتْ بِهِ عَلى الصِّفَةِ المَكْرُوهَةِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَوْلا ما مَضى مِنَ الأيْمانِ لَكانَ لِي ولَها شَأْنٌ» ولَمْ تَبْطُلِ الفُرْقَةُ الواقِعَةُ بِلِعانِهِما مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِ المَرْأةِ وصِدْقِ الزَّوْجِ، فَصارَ ذَلِكَ أصْلًا في أنَّ العُقُودَ وفَسْخَها مَتى حَكَمَ بِها الحاكِمُ مِمّا لَوِ ابْتَدَأ أيْضًا بِحُكْمِ الحاكِمِ وقَعَ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا أنَّ الحاكِمَ مَأْمُورٌ بِإمْضاءِ الحُكْمِ عِنْدَ شَهادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ ظاهِرُهُمُ العَدالَةُ، ولَوْ تَوَقَّفَ عَنْ إمْضاءِ الحُكْمِ بِما شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ مِن عَقْدٍ أوْ فَسْخِ عَقَدٍ لَكانَ آثِمًا تارِكًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّهُ إنَّما كُلِّفَ الظّاهِرَ ولَمْ يُكَلَّفْ عِلْمَ الباطِنِ المُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وإذا مَضى الحُكْمُ بِالعَقْدِ صارَ ذَلِكَ كَعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ بَيْنَهُما.
وكَذَلِكَ إذا حَكَمَ بِالفَسْخِ صارَ كَفَسْخٍ فِيما بَيْنَهُما؛ وإنَّما نَفَذَ العَقْدُ والفَسْخُ إذا تَراضى المُتَعاقِدانِ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِذَلِكَ، وكَذَلِكَ حُكْمُ الحاكِمِ.
فَإنْ قِيلَ: فَلَوْ حَكَمَ بِشَهادَةِ عَبِيدٍ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ إذا تَبَيَّنَ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِإمْضاءِ الحُكْمِ بِهِ، قِيلَ لَهُ: إنَّما لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ مِن قِبَلِ أنَّ الرِّقَّ مَعْنًى يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ، وكَذَلِكَ الشِّرْكُ والحَدُّ في القَذْفِ، فَجازَ فَسْخُ حُكْمِ الحاكِمِ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ؛ ألا تَرى أنَّهُ يَصِحُّ قِيامُ البَيِّنَةِ بِهِ والخُصُومَةُ فِيهِ عِنْدَ الحاكِمِ ؟
فَلِذَلِكَ جازَ أنْ لا يَنْفُذَ حُكْمُ الحاكِمِ بِشَهادَةِ هَؤُلاءِ؛ لِوُجُودِ ما ذَكَرْنا مِنَ المَعانِي الَّتِي يَصِحُّ إثْباتُها، مِن طَرِيقِ الحُكْمِ، وأمّا الفِسْقُ وجَرْحُ الشَّهادَةِ مِن قِبَلِ أنَّهم شُهُودُ زُورٍ، فَلَيْسَ هو مَعْنًى يَصِحُّ إثْباتُهُ مِن طَرِيقِ الحُكْمِ ولا تُقْبَلُ فِيهِ الخُصُومَةُ، فَلَمْ يَنْفَسِخْ ما أمْضاهُ الحاكِمُ، فَإنْ ألْزَمْنا عَلى العَقْدِ وفَسْخِهِ الحُكْمَ بِمِلْكٍ مُطْلَقٍ ولَمْ نُبِحْ لَهُ أخْذَهُ لَمْ يَلْزَمْنا ذَلِكَ؛ لِأنَّ الحاكِمَ عِنْدَنا إنَّما يُحْكَمُ لَهُ بِالتَّسْلِيمِ لا بِالمِلْكِ؛ لِأنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِالمِلْكِ لاحْتِيجَ إلى ذِكْرِ جِهَةِ المِلْكِ في شَهادَةِ الشُّهُودِ، فَلَمّا اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّهُ تُقْبَلُ شَهادَةُ الشُّهُودِ مِن غَيْرِ ذِكْرِ جِهَةِ المِلْكِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَحْكُومَ بِهِ هو التَّسْلِيمُ، والحُكْمُ بِالتَّسْلِيمِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِنَقْلِ المِلْكِ؛ فَلِذَلِكَ كانَ الشَّيْءُ باقِيًا عَلى مِلْكِ مالِكِهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ فِيمَن عَلِمَ أنَّهُ أخَذَ ما لَيْسَ لَهُ، فَأمّا مَن لَمْ يَعْلَمْ فَجائِزٌ لَهُ أنْ يَأْخُذَهُ بِحُكْمِ الحاكِمِ (p-٣١٦)لَهُ بِالمالِ إذا قامَتْ بَيِّنَةٌ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ البَيِّنَةَ إذا قامَتْ بِأنَّ لِأبِيهِ المَيِّتِ عَلى هَذا ألْفَ دِرْهَمٍ أوْ أنَّ هَذِهِ الدّارَ تَرَكَها المَيِّتُ مِيراثًا، أنَّهُ جائِزٌ لِلْوارِثِ أنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ ويَأْخُذَهُ بِحُكْمِ الحاكِمِ لَهُ بِهِ وإنْ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّةَ ذَلِكَ؛ إذْ هو غَيْرُ عالِمٍ بِأنَّهُ مُبْطِلٌ فِيما يَأْخُذُهُ، واللَّهُ تَعالى إنَّما ذَمَّ العالِمَ بِهِ إذا أخَذَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ومِمّا يَدُلُّ عَلى نَفاذِ حُكْمِ الحاكِمِ بِما وصَفْنا مِنَ العُقُودِ وفَسْخِها، اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ ما اخْتَلَفَ فِيهِ الفُقَهاءُ إذا حَكَمَ الحاكِمُ بِأحَدِ وُجُوهِ الِاخْتِلافِ نَفَذَ حُكْمُهُ وقُطِعَ ما أمْضاهُ تَسْوِيغُ الِاجْتِهادِ في رَدِّهِ، ووَسِعَ المَحْكُومَ لَهُ أخْذُهُ ولَمْ يَسَعِ المَحْكُومَ عَلَيْهِ مَنعُهُ، وإنْ كانَ اعْتِقادُهُما خِلافَهُ، كَنَحْوِ الشُّفْعَةِ بِالجِوارِ والنِّكاحِ بِغَيْرِ ولِيٍّ ونَحْوِهِما مِنِ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ.
بابُ الإهْلالِ
{"ayah":"وَلَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتُدۡلُوا۟ بِهَاۤ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُوا۟ فَرِیقࣰا مِّنۡ أَمۡوَ ٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق