الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل. فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل. ونَظيرُ ذلك قولهُ تعالى: ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [سورة الحجرات: ١١] وقوله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [سورة النساء: ٢٩] بمعنى: لا يلمزْ بعضكم بعضا، ولا يقتُلْ بعضكم بعضا [[انظر ما سلف مثل ذلك في ٢: ٣٠٠، ثم الآية: ٨٥ من سورة البقرة ٢: ٣٠٣ لم يذكر فيها شيئا من ذلك. ولم يبين هذا البيان فيما سلف. وهذا دليل على أنه كان أحيانا يختصر الكلام اختصارا، اعتمادا على ما مضى من كلامه، أو ما يستقبل منه. كما قلت في مقدمة التفسير.]] لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزُه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها، فتقول:"أخي وأخوك أيُّنا أبطش". يعني: أنا وأنت نصْطرع، فننظر أيُّنا أشدّ [[انظر تأويل مشكل القرآن: ١١٤، هذا بنصه.]] - فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عندها كنفسه، ومن ذلك قول الشاعر: [[هو ثعلبة بن عمرو (حزن) العبدي، ابن أم حزنة. ويقال هو من بني شيبان حليف في عبد القيس. وكان من الفرسان (الاشتقاق لابن دريد: ١٩٧) . وانظر التعليق التالي.]] أخِي وَأَخُوكَ بِبَطْنِ النُّسَيْرِ ... لَيْسَ بِهِ مِنْ مَعَدٍّ عَرِيبْ [[المفضليات: ٥١٣، وتأويل مشكل القرآن: ١١٤، معجم ما استعجم: ١٠٣٨. وفي المطبوعة: "ليس لنا"، وأثبت ما في المراجع، وكأنها الصواب. ويقال: ليس بالدار عريب، أي ليس بها أحدا. و"النسير"، تصغير"النسر"، وهو مكان بديار بني سليم. بيد أن ياقوت نقل عن الحازمي أنه بناحية نهاوند، واستشهد بهذا البيت. فإن يكن ذلك فابن أم حزنة هذا إسلامي: قال ياقوت، قال سيف: "سار المسلمون من مرج القلعة نحو نهاوند، حتى انتهوا إلى قلعة فيها قوم، ففتحوها، وخلفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة. وفتحها بعد فتح نهاوند، ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي، لأنهم أقاموا مع النسير على القلعة، فسميت به" (انظر تاريخ الطبري ٤: ٢٤٣، ٢٥١) . فإن صح أن ابن أم حزنة كان في بعث المسلمين، كان هذا البيت مؤيدا لهذا القول. فإنه يقول له: أنا وأنت ببطن النسير، ليس معنا فيه من أبناء معد (وهم العرب) أحد. وأما عن الحازمي إذا كان الموضع ببلاد العرب، فهو يقول: ليس به أحد، وقوله"من معد" فضول من القول. وقد ترجح عندي أنه شاعر إسلامي، من بعض شعره في المفضليات رقم ٧٤، وفي الوحشيات رقم: ٢١٧، (وانظر من نسب إلى أمه رقم: ٢٢، ٣٢) ، وله شعر في حماسة البحتري: ٩٧، ١٠٣. وإن صحت رواية الطبري: "ليس لنا من معد عريب". فعريب، في هذا البيت، هو صاحبه الذي ذكره في أول الشعر فقال: إِنَّ عَرِبيًا وَإِنْ سَاءَني ... أَحَبُّ حَبِيبٍ وَأَدْنَى قَرِيبْ فيكون قوله: "معد" مصدر"عد يعد". يقول: أنا وأنت ببطن النسير وحدنا، لا يعد معنا أحد، يعني أنهما خاليين بالمكان، ليس لك من ينصرك ولا لي من ينصرني، فهناك يظهر صاحب للبأس منهما، وقال بعد البيت: فأقْسَم بِاللهِ لاَ يَأتَلِي ... وأقْسَمْتُ إِنْ نلتُهُ لاَ يَؤُوبْ فَأَقْبَلَ نَحْوِي عَلَى قُدْرةٍ ... فَلَمَّا دَنَا صَدَقَتْه الكَذُوبْ]] * * * فتأويل الكلام: ولا يأكلْ بعضكم أموال بعضٍ فيما بينكم بالباطل. "وأكله بالباطل": أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه. * * * وأما قوله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" فإنه يعني: وتخاصموا بها - يعني: بأموالكم - إلى الحكام"لتأكلوا فريقا" = طائفة = [[انظر ما سلف في تفسير"فريق" ٢: ٢٢٤، ٤٠٢.]] من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. ويعني بقوله:"بالإثم" بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم [[انظر ما سلف في تفسير"الإثم" من هذا الجزء ٣: ٣٩٩-٤٠٨.]] "وأنتم تعلمون"، أي: وأنتم تتعمَّدون أكل ذلك بالإثم، على قصد منكم إلى ما حَرّم الله عليكم منه، ومعرفةٍ بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم. [[في المطبوعة: "معصية الله"، خطأ.]] . كما: ٣٠٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام" فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم: آكلٌ حراما. ٣٠٦٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تخاصم وأنت ظالم. ٣٠٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. ٣٠٦٢ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالم، فهو آثم حتى يرجع إلى الحق. واعلم يَا ابن آدم أن قَضاء القاضي لا يُحلّ لك حراما ولا يُحقّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرَى ويشهدُ به الشهود، والقاضي بَشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قُضي له بالباطل، فإن خصومته لم تنقض حتّى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبُطل للمحق، بأجود مما قُضي به للمبطل على المحقّ في الدنيا [[في المطبوعة: "ويأخذ مما قضي به. . "، والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير ١: ٤٣٠.]] . ٣٠٦٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنتَ تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يُحلّ لك شيئا كان حراما عليك. ٣٠٦٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" أما"الباطل" يقول: يظلم الرجل منكم صاحبَه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام". ٣٠٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني خالد الواسطي، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال: هو الرجل يشتري السِّلعة فيردُّها ويردُّ معها دَرَاهم. ٣٠٦٦ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بَينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" يقول: يكون أجدل منه وأعرَف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [سورة النساء: ٢٩] قال: هذا القِمار الذي كان يَعمل به أهل الجاهلية. * * * وأصل"الإدلاء": إرسال الرجل الدلو في سَبب متعلقا به في البئر. [[السبب: الحبل.]] فقيل للمحتج لدعواه:"أدلَى بحجة كيت وكيت" إذا كان حجته التي يحتج بها سببا له، هو به متعلقٌ في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدَلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فيهما جميعا - أعني من الاحتجاج، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب:"أدلى فلان بحجته، فهو يُدلي بها إدلاء = وأدلى دلوه في البئر، فهو يدليها إدلاء". * * * فأما قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام"، فإن فيه وَجهين من الإعراب: أحدهما: أن يكون قوله:"وتُدْلوا" جزما عطفا على قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" أي: ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة أُبَيٍّ بتكرير حرف النهي:"وَلا تدلوا بها إلى الحكام". والآخر منهما: النصب على الصرْف، [[في المطبوعة: "على الظرف"، وهو محض خطأ. وقد مضى تفسير معنى"الصرف" في ١: ٥٦٩-٥٧٠، واالتعليق: ١.]] فيكون معناه حينئذ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام، كما قال الشاعر: لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ [[سلف تخريج هذا البيت في ١: ٥٦٩، إلا أني سهوت فلم أذكر أنه آت في هذا الموضع من التفسير، وفي ٩: ١٤٦ (بولاق) ، فقيده. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء ١: ١١٥.]] يعني: لا تنه عن خلق وأنتَ تأتي مثله. وهو أنْ يكون في موضع جزم - على ما ذُكر في قراءة أبيّ - أحسن منه أن يكون نَصبا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب