الباحث القرآني

ولَمّا أذِنَ سُبْحانَهُ وتَعالى فِيما كانَ قَدْ مَنَعَ مِنهُ مِنَ المَطْعَمِ والمَنكَحِ لِلصّائِمِ وقَدَّمَ المَنكَحَ لِأنَّهُ أشْهى إذِ الطَّبْعُ إلَيْهِ أدْعى ولِأنَّ المَنعَ مِنهُ كانَ في جَمِيعِ الشَّهْرِ فالضَّرَرُ فِيهِ أقْوى، وأتْبَعَهُ الإذْنَ في الأكْلِ لِأنَّهُ قِوامُ الجِسْمِ وأوْلاهُ المَنعُ مِنَ النِّكاحِ في بَعْضِ الأحْوالِ، فَعَلَ كَذَلِكَ في المالِ الَّذِي مِنهُ الأكْلُ لِأنَّهُ قَدْ كانَ مِمّا خانَ فِيهِ أهْلُ الكِتابِ عَهْدَ كِتابِهِمْ واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا كَثِيرًا مِن أمْرِهِ لا سِيَّما تَحْرِيمَ الرَّشْوَةِ فَإنَّهم أخْفَوْهُ واسْتَباحُوها حَتّى صارَتْ بَيْنَهم شَرْعًا مُتَعارَفًا (p-٩٤)وكانَ طَيِّبُ المَطْعَمِ مَحْثُوثًا عَلَيْهِ لا سِيَّما في الصَّوْمِ فَنَهى عَنْ بَعْضِ أسْبابِ تَحْصِيلِ المالِ أعَمَّ مِن أنْ تَكُونَ رَشْوَةً أوْ غَيْرَها فَقالَ: ﴿ولا تَأْكُلُوا﴾ أيْ يَتَناوَلُ بَعْضُكم مالَ بَعْضٍ، ولَكِنَّهُ عَبَّرَ بِالأكْلِ لِأنَّهُ المَقْصِدُ الأعْظَمُ مِنَ المالِ. ولَمّا كانَ المالُ مَيّالًا يَكُونُ في يَدِ هَذا اليَوْمَ وفي يَدِ غَيْرِهِ غَدًا فَمَن صَبَرَ وصَلَ إلَيْهِ ما كُتِبَ لَهُ مِمّا في يَدِ غَيْرِهِ بِالحَقِّ ومَنِ اسْتَعْجَلَ وصَلَ إلَيْهِ بِالباطِلِ فَحازَ السُّخْطَ ولَمْ يَنَلْ أكْثَرَ مِمّا قُدِّرَ لَهُ قالَ: ﴿أمْوالَكُمْ﴾ وقالَ: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ تَقْبِيحًا لِهَذِهِ المَعْصِيَةِ وتَهْيِيجًا عَلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ ﴿بِالباطِلِ﴾ وهو ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ بِأيِّ وجْهٍ كانَ سَواءً كانَ بِأصْلِهِ أوْ بِوَصْفِهِ. ولَمّا كانَ مِن وُجُوهِ أكْلِهِ بِالباطِلِ التَّوَصُّلُ بِالحاكِمِ بِحُجَّةٍ باطِلَةٍ (p-٩٥)يَعْجِزُ الخَصْمُ عَنْ دَفْعِها كَما قالَ ﷺ: «ولَعَلَّ بَعْضَكم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ فَأقْضِيَ لَهُ عَلى حَسَبِ ما أسْمَعُ مِنهُ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِن حَقِّ أخِيهِ فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النّارِ» . فَيَكُونُ الإثْمُ خاصًّا بِالأكْلِ دُونَ الحاكِمِ عَطْفٌ عَلَيْهِ ما يُشارِكُهُ فِيهِ الحاكِمُ فَقالَ عاطِفًا عَلى ﴿تَأْكُلُوا﴾ ﴿وتُدْلُوا﴾ أيْ ولا تَتَواصَلُوا في خَفائِها ﴿بِها إلى الحُكّامِ﴾ بِالرِّشْوَةِ العَمِيَّةِ لِلْبَصائِرِ، مِنَ الإدْلاءِ. قالَ الحَرالِيُّ وهو مِن مَعْنى إنْزالِ الدَّلْوِ خُفْيَةً في البِئْرِ لِيَسْتَخْرِجَ مِنهُ ماءً فَكَأنَّ الرّاشِيَ يُدْلِي دَلْوَ رِشَوْتِهِ لِلْحاكِمِ خُفْيَةً لِيَسْتَخْرِجَ جَوْرَهُ لِيَأْكُلَ بِهِ مالًا - انْتَهى. ﴿لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا﴾ أيْ شَيْئًا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ صاحِبِهِ (p-٩٦)﴿مِن أمْوالِ النّاسِ﴾ مِن أيِّ طائِفَةٍ كانُوا ﴿بِالإثْمِ﴾ أيِ الجَوْرِ العَمْدِ، ومِن مَدْلُولاتِهِ الذَّنْبُ وأنْ يَعْمَلَ ما لا يَحِلُّ ﴿وأنْتُمْ﴾ أيْ والحالُ أنَّكم ﴿تَعْلَمُونَ﴾ أيْ مِن أهْلِ العِلْمِ مُطْلَقًا فَإنَّ الباطِلَ مِنهم أشْنَعُ ويَلْزَمُ مِنهُ العِلْمُ بِأنَّ ذَلِكَ التَّوَصُّلَ لا يُفِيدُ الحَلَّ، ولَعَلَّهُ إيماءٌ إلى جَوازِ التَّوَصُّلِ إلى مالِهِ عِنْدَ جاحِدٍ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا إلى خَلاصِهِ إلّا ذَلِكَ. وقالَ الحَرالِيُّ في مُناسَبَةِ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها: لَمّا كانَ مَنزِلُ القُرْآنِ لِإقامَةِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ الَّتِي بِها قِيامُ المُخاطَبِينَ بِهِ وهو صَلاحُ دِينِهِمْ وهو ما بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّهِ مِن عَمَلٍ أوْ إلْقاءٍ بِالسَّلَمِ إلَيْهِ وإصْلاحِ دُنْياهم وهو ما فِيهِ مَعاشُ المَرْءِ وإصْلاحُ آخِرَتِهِمْ وهو ما إلَيْهِ مَعادُهُ كانَ لِذَلِكَ مَنزِلُ القُرْآنِ مُفَصَّلًا بِأحْكامِ تِلْكَ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ فَكانَ شَذْرَةً لِلدِّينِ وشَذْرَةً لِلدُّنْيا وشَذْرَةً لِلْآخِرَةِ، فَلَمّا كانَ في صَدْرِ هَذا الخِطابِ ﴿يا أيُّها النّاسُ كُلُوا مِمّا في الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا﴾ [البقرة: ١٦٨] وهو خِطابٌ لِلْمُلُوكِ ومَن تَبِعَهم مِن رُؤَساءِ القَبائِلِ ومَن تَبِعَهُمُ انْتَظَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمٌ مِن أحْكامِ (p-٩٧)أهْلِ العِلْمِ ومَن تَبِعَهم في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: ١٧٤] ثُمَّ انْتَظَمَ بِهِ ذِكْرُ الوَصِيَّةِ مِن أهْلِ الجِدَّةِ، ثُمَّ انْتَظَمَ بِهِ ذِكْرُ أحْوالِ الرِّشى مِنَ الرّاشِي والمُرْتَشِي، لِيَقَعَ نَظْمُ التَّنْزِيلِ ما بَيْنَ أمْرٍ في الدِّينِ ونَهْيٍ في الدُّنْيا لِيَكُونَ ذَلِكَ أجْمَعَ لِلْقَلْبِ في قَبُولِ حُكْمِ الدُّنْيا عَقِبَ حُكْمِ الدِّينِ ويُفْهَمُ حالُ المَعادِ مِن عِبْرَةِ أمْرِ الدُّنْيا، فَلِذَلِكَ تَعْتَوِرُ الآياتُ هَذِهِ المَعانِيَ ويَعْتَقِبُ بَعْضُها لِبَعْضٍ ويَتَفَصَّلُ بَعْضُها بِبَعْضٍ، كَما هو حالُ المَرْءِ في يَوْمِهِ وفي مُدَّةِ عُمْرِهِ حَيْثُ تَعْتَوِرُ عَلَيْهِ أحْوالُ دِينِهِ ودُنْياهُ ومَعادِهِ، يُطابِقُ الأمْرُ الخَلْقَ في التَّنْزِيلِ والتَّطَوُّرِ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب