الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - الصِّيامَ وما فِيهِ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الأكْلِ الحَرامِ المُفْضِي إلى عَدَمِ قَبُولِ عِبادَتِهِ مِن صِيامِهِ واعْتِكافِهِ، فَقالَ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ والمُرادُ مِنَ الأكْلِ ما يَعُمُّ الأخْذَ والِاسْتِيلاءَ، وعَبَّرَ بِهِ (p-70)لِأنَّهُ أهَمُّ الحَوائِجِ - وبِهِ يَحْصُلُ إتْلافُ المالِ غالِبًا - والمَعْنى لا يَأْكُلُ بَعْضُكم مالَ بَعْضٍ، فَهو عَلى حَدِّ ﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾ ولَيْسَ مِن تَقْسِيمِ الجَمْعِ عَلى الجَمْعِ كَما فِي: رَكِبُوا دَوابَّهُمْ، حَتّى يَكُونَ مَعْناهُ لا يَأْكُلُ كُلُّ واحِدٍ مِنكم مالَ نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: (بَيْنَكُمْ) فَإنَّهُ بِمَعْنى الواسِطَةِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ما يُضافُ إلَيْهِ مُنْقَسِمًا إلى طَرَفَيْنِ بِكَوْنِ الأكْلِ والمالِ حالَ الأكْلِ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُما، وذَلِكَ ظاهِرٌ عَلى المَعْنى المَذْكُورِ، والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ تَأْكُلُوا كالجارِّ والمَجْرُورِ بَعْدَهُ، أوْ بِمَحْذُوفِ حالٍ مِنَ الأمْوالِ والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، والمُرادُ مِنَ الباطِلِ الحَرامُ؛ كالسَّرِقَةِ، والغَصْبِ، وكُلُّ ما لَمْ يَأْذَنْ بِأخْذِهِ الشَّرْعُ.
﴿وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ﴾ عَطْفٌ عَلى تَأْكُلُوا، فَهو مَنهِيٌّ عَنْهُ مِثْلُهُ مَجْزُومٌ بِما جُزِمَ بِهِ، وجُوِّزَ نَصْبُهُ بِأنْ مُضْمَرَةً، ومِثْلُ هَذا التَّرْكِيبِ وإنْ كانَ لِلنَّهْيِ عَنِ الجَمْعِ، إلّا أنَّهُ لا يُنافِي أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الأمْرَيْنِ مَنهِيًّا عَنْهُ، والإدْلاءُ في الأصْلِ إرْسالُ الحَبْلِ في البِئْرِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّوَصُّلِ إلى الشَّيْءِ أوِ الإلْقاءِ، والباءُ صِلَةُ الإدْلاءِ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً والضَّمِيرُ المَجْرُورُ ( لِلْأمْوالِ )؛ أيْ: لا تَتَوَصَّلُوا، أوْ لا تُلْقُوا بِحُكُومَتِها، والخُصُومَةُ فِيها إلى الحُكّامِ، وقِيلَ: لا تُلْقُوا بَعْضَها إلى حُكّامِ السُّوءِ عَلى وجْهِ الرِّشْوَةِ، وقَرَأ أُبَيٌّ: ( ولا تُدِلُّوا ﴿لِتَأْكُلُوا﴾ بِالتَّحاكُمِ والرَّفْعِ إلَيْهِمْ.
﴿فَرِيقًا﴾ قِطْعَةً وجُمْلَةً ﴿مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ﴾ أيْ: بِسَبَبِ ما يُوجِبُ إثْمًا كَشَهادَةِ الزُّورِ واليَمِينِ الفاجِرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الباءُ لِلْمُصاحَبَةِ؛ أيْ: مُتَلَبِّسِينَ بِالإثْمِ والجارُّ والمَجْرُورُ عَلى الأوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بِـ ( تأكلوا ) وعَلى الثّانِي حالٌ مِن فاعِلِهِ، وكَذَلِكَ ﴿وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ 188﴾ ومَفْعُولُ العِلْمِ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: تَعْلَمُونَ أنَّكم مُبْطِلُونَ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ مَن لا يَعْلَمُ أنَّهُ مُبْطِلٌ، وحَكَمَ لَهُ الحاكِمُ بِأخْذِ مالٍ، فَإنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أخْذُهُ، أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا، «أنَّ عَبْدانَ بْنَ أشْوَعَ الحَضْرَمِيَّ، وامْرُؤَ القَيْسِ بْنَ عابِسٍ اخْتَصَما في أرْضٍ، ولَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، فَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِأنْ يَحْلِفَ امُرُؤُ القَيْسِ فَهَمَّ بِهِ، فَقَرَأ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ فارْتَدَعَ عَنِ اليَمِينِ وسَلَّمَ الأرْضَ فَنَزَلَتْ».
واسْتُدِلَّ بِها عَلى أنَّ حُكْمَ القاضِي لا يَنْفُذُ باطِنًا، فَلا يَحِلُّ بِهِ الأخْذُ في الواقِعِ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «”إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكم تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكم أنْ يَكُونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فَأقْضِيَ لَهُ عَلى نَحْوِ ما أسْمَعُ مِنهُ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِن حَقِّ أخِيهِ، فَلا يَأْخُذَنَّهُ، فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النّارِ“».
وذَهَبَ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - إلى أنَّ الحاكِمَ إذا حَكَمَ بِبَيِّنَةٍ بِعَقْدٍ أوْ فَسْخِ عَقْدٍ مِمّا يَصِحُّ أنْ يُبْتَدَأ، فَهو نافِذٌ ظاهِرًا وباطِنًا، ويَكُونُ كَعَقْدٍ عَقْداهُ بَيْنَهُما، وإنْ كانَ الشُّهُودُ زُورًا، كَما رُوِيَ أنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأةً هو دُونَها فَأبَتْ، فادَّعى عِنْدَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - أنَّهُ تَزَوَّجَها، وأقامَ شاهِدَيْنِ، فَقالَتِ المَرْأةُ: لَمْ أتَزَوَّجْهُ، وطَلَبَتْ عَقْدَ النِّكاحِ، فَقالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -: قَدْ زَوَّجَكِ الشّاهِدانِ، وذَهَبَ فِيمَنِ ادَّعى حَقًّا في يَدَيْ رَجُلٍ، وأقامَ بَيِّنَةً تَقْتَضِي أنَّهُ لَهُ، وحَكَمَ بِذَلِكَ الحاكِمُ أنَّهُ لا يُباحُ لَهُ أخْذُهُ، وإنَّ حُكْمَ الحاكِمِ لا يُبِيحُ لَهُ ما كانَ قَبْلُ مَحْظُورًا عَلَيْهِ، وحُمِلَ الحَدِيثُ عَلى ذَلِكَ، والآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا في مُدَّعِي مُخالِفِيهِ؛ لِأنَّهم إنْ أرادُوا أنَّها دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ النُّفُوذِ مُطْلَقًا فَمَمْنُوعٌ، وإنْ أرادُوا أنَّها دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ النُّفُوذِ في الجُمْلَةِ فَمُسَلَّمٌ، ولا نِزاعَ فِيهِ؛ لِأنَّ الإمامَ الأعْظَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - يَقُولُ بِذَلِكَ، ولَكِنْ فِيما سَمِعْتُ، والمَسْألَةُ مَعْرُوفَةٌ في الفُرُوعِ والأُصُولِ، ولَها تَفْصِيلٌ في أدَبِ القاضِي، فارْجِعْ إلَيْهِ.
{"ayah":"وَلَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتُدۡلُوا۟ بِهَاۤ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُوا۟ فَرِیقࣰا مِّنۡ أَمۡوَ ٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق