الباحث القرآني
قال اللهُ تعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالباطِلِ وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ١٨٨].
بيَّن اللهُ حُرْمةَ الأموالِ، لأنّ بها صلاحَ الدُّنْيا، كما بيَّنَ حُرْمةَ الدِّينِ، لأنّ به صلاحَ الآخِرةِ، فالمالُ والدِّينُ حَقٌّ للهِ لا يُتصرَّفُ فيهما بغيرِ إذنِه، ولذا نسَبَهُما اللهُ إليه تعظيمًا لحُرْمَتِهما، فقال النبيُّ ﷺ في المالِ: (إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النّارُ يَوْمَ القِيامَةِ) [[أخرجه البخاري (٣١١٨) (٤/٨٥).]]، وقال اللهُ في دِينِهِ: ﴿وإذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام: ٦٨]، فسمّى اللهُ التعدِّيَ على مالِهِ وآياتِهِ خَوْضًا.
أحوالُ تعدِّي الإنسان على المالِ:
والتَّعدِّي على المالِ إمّا أن يكونَ بيدِ صاحبِهِ الذي ملَّكَهُ اللهُ إيّاهُ، وهو الإنسانُ، أو بيدِ غيرِهِ، فليس للإنسانِ تمامُ التصرُّفِ في مالِهِ ولو ملَكَهُ، لأنّه ومالَهُ مِلْكٌ للهِ، فإفسادُ الإنسانِ لمالِهِ حرامٌ كأَخْذِهِ لمالِ غيرِه بغيرِ حقٍّ، ولذا قالَ تعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالباطِلِ﴾، فجعَلَ اللهُ آكِلَ مالِ أخِيهِ بالباطلِ، كالآكِلِ مالَ نَفْسِهِ بالباطلِ، فالأوَّلُ أفسَدَهُ على أخيهِ، والثاني أفسَدَهُ على نفسِهِ، وحرمةُ المالِ في حقيقتِهِ واحدةٌ.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنّ الشُّحَّ والطَّمَعَ وعدَمَ الإيثارِ هو الذي يدفعُ النفوسَ إلى التجاوزِ على حقوقِ الناسِ بغيرِ حَقٍّ، فالنفوسُ التي ترى حقَّ أخيها كحقِّها في الحُرْمةِ تعظِّمُ مالَ غيرِها كتعظيمِها لمالِ نَفْسِها، ولذا قال: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكُمْ﴾، أيْ: فأنتَ تأكُلُ مالَ نَفْسِك، وهذا كقولِهِ: ﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١]، وقولِهِ: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩]، فحُرْمةُ المالِ بالأخذِ، والعِرْضِ باللَّمْزِ، والنَّفْسِ بالقتلِ: واحدةٌ كحُرْمةِ أنفسِهم.
وقد بيَّن اللهُ في هذه الآيةِ التعدِّيَ على المالِ بالعدوانِ من غيرِ صاحبِهِ بأَكْلِهِ بالباطلِ، سواءٌ بغَصْبٍ أو سَرِقةٍ أو رِبًا أو غَرَرٍ ونحوِها، وأعظَمُ مِن ذلك أن يُؤخَذَ المالُ الحلالُ بصورةٍ تشرِّعُهُ، وتُسقِطُ حقَّ صاحبِه، إمّا لعدمِ بَيِّنَتِهِ فيه بعدَ أخذِه منه، أو لتشريعِ أخْذِهِ وسَلْبِهِ بالباطلِ.
روى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عنِ ابنِ عباسٍ، أنّه قال في هذه الآيةِ: «هذا في الرجلِ يكونُ عليه مالٌ وليس عليه فيه بيِّنةٌ، فيَجْحَدُ المالَ ويُخاصِمُ إلى الحُكّامِ، وهو يَعْرِفُ أنّ الحقَّ عليه، وهو يَعْلَمُ أنّه آثِمٌ آكِلٌ الحرامَ»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٧٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٢١).]].
وبنحوِ هذا ومعناهُ قال مجاهِدٌ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمةُ والحسَنُ وغيرُهم.
وروى ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ: قال: «لا تُخاصِمْ وأنتَ تعلمُ أنّك ظالِمٌ»، أخرَجَهُ سعيدُ بنُ منصورٍ في «تفسيرِه»[[التفسير من «سنن سعيد بن منصور» (٢٨٢) (٢/٧٠٦)، و«تفسير الطبري» (٣/٢٧٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٢١).]].
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على أنّ حُكْمَ الحاكمِ وقضاءَ القاضِي لا يغيِّرُ في الحقِّ الباطِنِ شيئًا، إذا عَلِمَ آخِذُ المالِ أنّه يأخُذُهُ ظُلْمًا، فقضاءُ القاضِي يَفصِلُ في النزاعِ الظاهرِ ويدفعُ الخصوماتِ، ولكنَّه لا يغيِّرُ قضاؤُهُ في الأموالِ مِن الحقِّ الباطنِ شيئًا بإجماعِ العلماءِ، فالقاضِي مجتهِدٌ مأجورٌ، وآخِذُ المالِ ظالمٌ مأزورٌ.
وقولُه تعالى: ﴿وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِن أمْوالِ النّاسِ بِالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، أيْ: وأنتم تعلَمونَ الحقَّ فتكتمونَهُ عن أهلِه، وتستحِلُّونَ أخذَهُ بالقضاءِ والحُكْمِ، لِعَدَمِ بيِّنةِ أهلِهِ عليه، وفي «الصحيحَيْنِ»، عن أمِّ سَلَمَةَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكُونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أنَّهُ صَدَقَ، فَأَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإنَّما هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النّارِ، فَلْيَأْخُذْها أوْ فَلْيَتْرُكْها) [[أخرجه البخاري (٢٤٥٨) (٣/١٣١)، ومسلم (١٧١٣) (٣/١٣٣٧).]].
حكمُ القاضي بخلافِ الحقِّ في الحقوقِ:
وعلى هذا يتَّفِقُ العلماءُ أنّ القاضِيَ إذا قَضى في الأموالِ والدماءِ على خلافِ الحقِّ الباطنِ أنّ قضاءَهُ لا يغيِّرُ من الحقوقِ الباطنةِ شيئًا، وإنّما يَفصِلُ النزاعَ والخصومةَ الظاهرةَ فحَسْبُ، واختلَفُوا في النكاحِ على قولَيْنِ:
الأوَّلُ: أنّ قضاءَهُ في النكاحِ كقضائِه في الأموالِ، لا يغيِّرُ خفاءُ الحقِّ عليه في الظاهرِ مِن الحقِّ الباطنِ، وبهذا قال أكثرُ العلماءِ.
الثاني: أن قضاءَهُ في النكاحِ يَفصِلُ في الحقِّ ظاهرًا وباطِنًا، ولو عَلِمَ الخَصْمانِ أو أحدُهما موضعَ الحقِّ الباطنِ، وأنّه على خلافِ قضائِه، وبهذا قال أبو حَنِيفةَ، وذلك كمَن شَهِدَ على طلاقِهِ شاهدُ زُورٍ، فطلَّقَ القاضِي زوجَتَهُ منه، أنّها تَحِلُّ للزَّوْجِ الجديدِ ولو عَلِمَ شهادةَ الزورِ، قياسًا مِن أبي حنيفةَ على اللِّعانِ، وذلك أنّ القاضيَ يفصِلُ بينَ الزوجَيْنِ، وأحدُ المتلاعِنَيْنِ كاذبٌ، ولا يتمُّ فَصْلُ الزوجةِ عن زوجِها إلاَّ بذلك، ولو عَلِمَ الحاكمُ كَذِبَ أحدِهما، لَأَقامَ عليه الحدَّ ولم يفرِّقْ بينَهما، لكونِهِ قَذْفًا، ولكنَّه فرَّقَ بينَهما مع عِلْمِهِ بالكَذِبِ، وجازَ للزَّوْجةِ أنْ تتزوَّجَ، ولزوجِها الجديدِ أن يَعقِدَ عليها مع عِلْمِهِ بلعانِها.
وفي الآيةِ: تحريمُ دفعِ الرِّشْوةِ للحاكمِ وتحريمُ أخْذِهِ لها، والرِّشْوةُ مِن الكبائرِ، وهي شبيهةٌ بالرِّبا أو أعظَمُ منه، لأنّ الرِّبا فيه فسادُ العامَّةِ فيما بينَهم، والرِّشْوةُ فيها فسادُ العامَّةِ والخاصَّةِ، الحاكمِ والمحكومِ، والرِّبا فيه فسادُ الأموالِ، والرِّشْوةُ فيها فسادُ الأموالِ والسِّياسةِ، وكلَّما علا آخِذُ الرِّشْوةِ وارتفَعَ مَنزِلةً في الناسِ، كانتِ الرِّشْوةُ أعظَمَ فسادًا في الأُمَّةِ.
وإنّ الحاكمَ والقاضِيَ قد يحكُمُ بالخطأِ، لعدمِ ظهورِ حُجَجِ الصوابِ لدَيْهِ، فيُعذَرُ، وقد يحكُمُ بالباطلِ عمدًا مع ظهورِ حُجَجِ الحقِّ عندَهُ، فيَهلِكُ، وحكمُهُ بالباطلِ إمّا لصلتِهِ بالظالمِ الذي يقضِي له، بنَسَبٍ أو حسَبٍ، وإمّا لأخذِه المالَ منه رِشْوةً، وكِلاهما هلاكٌ، والأُولى أعظَمُ مِن الثانيةِ، لأنّه باعَ دِينَهُ ودنياهُ بدُنْيا غيرِه.
وآكِلُ المالِ الحرامِ ـ ولو رُبُعَ درهمٍ ـ فاسِقٌ باتفاقِ العلماءِ، خلافًا للمعتزِلةِ الذينَ لا يفسِّقونَ إلا مَن أكَلَ مِن الحرامِ عشَرَةَ دراهِمَ فما فَوْقُ، وهذا قولُ الجُبّائِيِّ.
وبعضُهم يقولُ: يفسُقُ مَن أكَلَ مِئَتَيْ دِرْهَمٍ فما فوقُ، وهذا قولُ بِشرِ بنِ المُعتَمِرِ.
وبعضُهم يقولُ: يَفسُقُ مَن أخَذَ خمسةَ دراهمَ فما فوقُ، وهو قولُ أبي الهُذَيْلِ العَلاَّف.
{"ayah":"وَلَا تَأۡكُلُوۤا۟ أَمۡوَ ٰلَكُم بَیۡنَكُم بِٱلۡبَـٰطِلِ وَتُدۡلُوا۟ بِهَاۤ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُوا۟ فَرِیقࣰا مِّنۡ أَمۡوَ ٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق